الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

وقد يستدلّ على وجوب الترجيح : بأنّه لو لا ذلك لاختلت نظم الاجتهاد.

بل نظام الفقه ، من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ ، والمطلق والمقيّد ، وغيرهما من الظاهر والنصّ ، المتعارضين.

______________________________________________________

الموافق إن كان ، وإلّا فإلى أصل التخيير ، بينما الاصل الثانوي على الطريقية هو : العمل بالراجح فيما إن كان هناك راجح ، وإلّا فالتخيير بين الخبرين ، والرجحان قد يكون بالمزية القطعية ، وهذا لا شكّ في ترجيحه على الآخر ، وقد يكون بالمزية الاحتمالية وهذا لا يوجب الترجيح ، بل يؤخذ فيه باطلاقات التخيير.

هذا (وقد يستدلّ على وجوب الترجيح) لا التخيير (بأنّه لو لا ذلك) الترجيح (ولاختلّت نظم الاجتهاد) فإنّ الاجتهاد عبارة عن معرفة العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، والمنطوق والمفهوم ، وما أشبه ذلك ممّا يؤثر معرفته في معرفة الراجح من المرجوح وتقديم بعضها على بعض ، ومن المعلوم : أنّه لو لا معرفة ذلك لاستلزم الخلل في الاجتهاد حيث أنه يعمل بالخاص مرّة ، وبالعام أخرى ، وبالمطلق تارة ، وبالمقيّد أخرى ، وهكذا من دون نظم وإتزان.

(بل) لاختل (نظام الفقه) حيث يستلزم فقه جديد ، لا هذا الفقه الذي تلقّاه الفقهاء من المعصومين عليهم‌السلام.

وإنّما يستلزم ذلك اختلال الفقه والاجتهاد (من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ ، والمطلق والمقيّد ، وغيرهما من الظاهر والنصّ ، المتعارضين) والظاهر والأظهر ، وإلى غير ذلك ممّا يلزم فيه ترجيح بعض على بعض وتقديم أحدهما على الآخر ، فإذا لم يؤخذ بالترجيح اعتمادا على التخيير فيها ، أدّى ذلك إلى اختلال نظام الاجتهاد ونظام الفقه ، ومعلوم أن اختلال نظامهما هو خلاف السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام فيجب حينئذ الترجيح لا التخيير.

٢١

وفيه : إنّ الظاهر خروج مثل هذه المعارضات عن محلّ النزاع فإنّ الظاهر لا يعدّ معارضا للنصّ ، إمّا لأنّ العمل به لأصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النصّ ، وإمّا لأنّ ذلك لا يعدّ تعارضا في العرف ، ومحلّ النزاع في غير ذلك.

وكيف كان : فقد ظهر ضعف القول المزبور وضعف دليله المذكور له ،

______________________________________________________

(وفيه : إنّ الظاهر خروج مثل هذه المعارضات) الحاصلة بين الخاص والعام ، والمطلق والمقيّد ، والنص والظاهر (عن محلّ النزاع) الذي هو التعارض بين الخبرين (فإنّ الظاهر لا يعدّ معارضا للنصّ) عرفا ، وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : (إمّا لأنّ العمل به) أي : بالظاهر إنّما يكون (لأصالة عدم الصارف) أي : إنّما يعمل بالظاهر لأصالة الحقيقة فيما لم يكن هناك قرينة صارفة عن ظهور الظاهر (المندفعة) هذه الأصالة (بوجود النصّ) فإنّ حجيّة الظواهر تناط بعدم القرينة على الخلاف ، والنص قرينة على الخلاف فلا تعارض بينهما ، وكذلك الحال بين الظاهر والأظهر.

الثاني : (وإمّا لأنّ ذلك) أي : التعارض الذي يبدو للنظر بين النص والظاهر ـ مثلا ـ (لا يعدّ تعارضا في العرف و) ذلك لأنّ العرف يرى الجمع بينهما ، مع أن (محلّ النزاع في غير ذلك) أي : في الذي لا يعدّه العرف تعارضا ، فإنّ بحثنا في باب التعادل والترجيح إنّما هو فيما يراه العرف تعارضا ، كالعموم من وجه في مورد الاجتماع ، كالتباين ، والتضاد ، والتناقض.

(وكيف كان) : فإنّه سواء تمّ هذا الوجه الذي ذكره المستدل بقوله : «وقد يستدل على وجوب الترجيح» أو لم يتمّ (فقد ظهر ضعف القول المزبور) أي : القول بعدم وجوب الترجيح بين الخبرين المتعارضين (وضعف دليله المذكور له ،

٢٢

وهو عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ.

وأضعف من ذلك ما حكي عن النهاية : «من احتجاجه بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل ، لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين».

______________________________________________________

وهو) أي : الدليل الذي ذكر له : (عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ) فإنّ هذا الدليل ضعيف لوجود دليل الاجماع القولي والعملي عليه ، ومعه فاللّازم أن يقال بالترجيح بقوة الظنّ إذا كان أحدهما أرجح من الآخر ، بواحد من المرجحات غير المنصوصة ، أو حتى المرجحات غير المنصوصة فيما إذا فهمنا الملاك من أخبار العلاج.

(وأضعف من ذلك) أي : من الدليل السابق الذي استدل على وجوب الترجيح : بأنّه لو لا ذلك لاختل نظم الاجتهاد بل نظام الفقه ، هو (ما حكي عن النهاية) للعلامة (من احتجاجه) واستدلاله على عدم الترجيح بين الأخبار المتعارضة حيث قال : (بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام) سواء كانت أخبارا متعارضة ، أم إجماعات منقولة متعارضة ، أو غير ذلك (لوجب) الترجيح (عند تعارض البيّنات) في الموضوعات أيضا ، لأنه حيث كان مناط الترجيح الأقوائية ، فالأقوائية كما توجد بين الأمارات ، كذلك توجد في البيّنات ، ثم قال (والتالي) وهو الترجيح عند تعارض البينات (باطل ، لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين) في الموضوعات ، بل يرجعون في مثل الماليات إلى قاعدة العدل ، وفي مثل النسب إلى القرعة ، فالمقدّم وهو : الترجيح عند تعارض الأمارات في الأحكام باطل مثله.

٢٣

وأجاب عنه في محكيّ النهاية والمنية : بمنع بطلان التالي وأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين ، سلّمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى.

ومرجع الأخير إلى أنّه لو لا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضا ، ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا ،

______________________________________________________

(وأجاب عنه في محكيّ النهاية) للعلامة (والمنية) لعميد الدين (بمنع بطلان التالي) أي : ليس الترجيح في البيّنات باطلا (و) لذا قال جماعة من الفقهاء : (أنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين) كما قال جماعة منهم : بأنّه يقدّم شهادة الأعدل على العادل وإلى غير ذلك ، ثم قال : (سلّمنا) بطلان الترجيح في البيّنات (لكن) لا لفقد المقتضي ، بل لوجود المانع ، فإنّ (عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا) في باب الأخبار المتعارضة (مذهب الجميع (١) ، انتهى) محكيّ كلامهما رفع مقامهما.

(ومرجع) الجواب (الأخير) وهو : «سلّمنا لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب الأكثر» ، مرجعه (إلى أنّه لو لا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضا) أي : أنّ مقتضى القاعدة حسب الجواب هو : وجوب الترجيح في كلا المقامين ، سواء في باب البيّنتين المتعارضتين ، أم في باب الخبرين المتعارضين ، إلّا أنّ الدليل الخارجي الذي هو مخالفة الأكثر منع عن الترجيح في البيّنات ، ولو لا هذا الدليل الخارجي المانع عن الترجيح لقلنا بالترجيح في البينات أيضا لوجود المقتضي فيها.

(ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا) حيث قلنا : بأنّ مقتضى القاعدة هو : تساقط

__________________

(١) ـ النهاية : مخطوط.

٢٤

فإنّا لو بنينا على حجيّة البيّنة من باب الطريقيّة ، فاللّازم مع التعارض التوقف والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول في ذلك المورد من التحالف أو القرعة أو غير ذلك.

ولو بني على حجيّتها من باب السببيّة والموضوعيّة ، فقد ذكرنا أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما

______________________________________________________

الطرق المتعارضة في خصوص مؤدّاها ، سواء كان التعارض في الأخبار ، أو البيّنات ، أو سائر الأمارات ، وذلك لأنه لا مقتضي للترجيح فيها ، لا أن المقتضي موجود وإنّما مخالفة الأكثر مانع عن الترجيح فيها.

وعليه : (فإنّا لو بنينا على حجّية البيّنة من باب الطريقيّة) لا الموضوعية حيث أنّ المشهور قالوا : بأن البينة حجّة من جهة أنها طريق (فاللازم مع التعارض التوقف والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول في ذلك المورد : من التحالف) أي : بأن يحلف كل واحد من المتخاصمين لتبطل المعاملة ـ مثلا ـ أو لينصّف المال المتنازع عليه (أو القرعة) إمّا مطلقا ، أو في الموارد التي لا يمكن التنصيف فيها كالنسب وما أشبه (أو غير ذلك) كالتصالح القهري بينهما فيما يمكن التصالح ، وذلك على ما ذكر في كتب القضاء من تفصيل ما هو المرجع عند التعارض في البيّنات.

(ولو بني على حجيّتها) أي : حجيّة البيّنة (من باب السببيّة والموضوعيّة) لا الطريقيّة والكاشفيّة ، وو ذلك بأن يكون قيام البينة علّة للحكم (فقد ذكرنا : أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح) من البيّنات بمجرّد الأقربية (في الدخول فيما) أي : في دليل حجية

٢٥

دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبقها ، وتمانعهما مستند إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض ، فجعل أحدهما مانعا دون الآخر ، لا يحتمله العقل.

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية : الرجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير ، أو التوقف والاحتياط

______________________________________________________

البينة الذي (دلّ على كون البيّنة سببا) فإنّ البيّنة على هذا القول ـ تكون ـ سببا لجعل مؤدّاها حكما ظاهريا ، أو سببا (للحكم على طبقها) فالحاكم يحكم على طبق البيّنة ويكون حال المقام حال الغريقين ، حيث أنّ المرجّحات التي لم تصل إلى درجة الأهم والمهمّ ، ممّا يمنع الأهم عن المهم لا توجب سقوط التخيير.

ان قلت : وجود المزيّة في إحدى البيّنتين يخرجهما عن التمانع إلى الترجيح بذي المزية فيجب الترجيح لا التخيير.

قلت : (وتمانعهما) أي : تمانع البيّنتان بناء على السببية (مستند إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض) فإنّ المفروض كون كل من البيّنتين جامعا لشرائط الحجية والسببية ، فيشملهما أدلّة حجية البيّنة ممّا يوجب العمل بكل منهما تعيينا مع الامكان ، فاذا لم يمكن العمل بهما كذلك للتعارض تخيّر المكلّف بين العمل بهذه أو بتلك ، علما بأنّ بعض المرجّحات التي لا تبلغ حدّ المنع عن النقيض ، لا توجب تقديم ذي المرجّح على المرجوح ، وإذا كان كذلك (فجعل أحدهما) وهو الراجح (مانعا دون الآخر ، لا يحتمله العقل) لأنه يراهما متساويان من حيث جواز الأخذ بهذه أو بتلك.

(ثمّ أنّه يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية : الرّجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير ، أو التوقف والاحتياط) فالفقيه بنظر السيد مخيّر بين الأمرين :

٢٦

وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الأخبار : «إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه ، من أنّ الأصل التوقف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بمطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الأفضل والأولى».

______________________________________________________

بين التخيير ، أو التوقف والاحتياط ، ولا يلزم عليه أن يرجّح بعض الأخبار على بعض حتى وإن كان هناك راجح ومرجوح (و) من أجل ذلك (حمل أخبار الترجيح على الاستحباب) لا الوجوب الذي عليه المشهور ، فإنّ المشهور يقولون بوجوب ترجيح الراجح على المرجوح.

وإنّما يظهر من السيد ذلك (حيث قال بعد إيراد الاشكالات على العمل بظاهر الأخبار) العلاجية قال : (إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه : من أنّ الأصل) والقاعدة الكلية في باب الخبرين المتعارضين هو : (التوقف في الفتوى) فلا يفتي الفقيه بهذا ولا بذاك من جهة الفتوى ، ومن جهة العمل ، فكما قال :

(والتخيير في العمل) فإذا ورد ـ مثلا ـ خبران : أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر ، فالمفتي من حيث الفتوى لا يفتي بأحدهما من حيث العمل فهو مخيّر بين أن يصلي الجمعة أو يصلي الظهر.

هذا (إن لم يحصل من دليل آخر) للفقيه كموافقة المشهور ـ مثلا ـ (العلم بمطابقة أحد الخبرين للواقع) فإذا علم بمطابقة أحد الخبرين للواقع لزم الأخذ بذلك الخبر الذي علم بمطابقته للواقع ثم قال (وأنّ الترجيح) بين الأخبار بسبب المرجّحات المذكورة في الروايات (هو الفضل والأولى (١)) لا أن الترجيح بها يكون معيّنا.

__________________

(١) ـ شرح الوافية : مخطوط

٢٧

ولا يخفى بعده عن مدلول أخبار الترجيح ، وكيف يحمل الأمر بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصا مع التعليل بأنّ الرشد في خلافهم ، وأنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه ، وكذا الأمر بطرح الشاذّ النادر ،

______________________________________________________

(ولا يخفى بعده) أي : بعد الاستحباب الذي ذكره السيد الصدر (عن مدلول أخبار الترجيح) الظاهر الدلالة في الوجوب ، فلا يمكن أن تحمل أخبار الترجيح على الاستحباب (وكيف يحمل الأمر بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب؟) مع أن الظاهر من عبارة هذه الروايات هو أن مخالف العامة موافق للواقع ، وموافق العامة مخالف للواقع (خصوصا مع التعليل) المذكور في تلك الروايات عند ذكر العامة (بأن الرشد في خلافهم (١) ، وأنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه) فإنّ أمثال هذه العبارات في الروايات العلاجية ، نص في أنّ الموافق للعامة باطل ، وانّ المخالف لهم حق ، وهل بعد ذلك يخيّر الإمام بين الأخذ بالحق وبالباطل؟.

(وكذا الأمر) الوارد في روايات العلاج (بطرح الشاذّ النادر (٢)) أي : ما كان في قبال المشهور يلزم طرحه ، كما أنّه يلزم الأخذ بالمشهور ، ومن المعلوم : أنّ العرف يستفيد من مثل هذه العبارات : أنّ الشاذ باطل وأنه لا يطابق الواقع ، وأنّ المشهور حق وأنّه المطابق للواقع ، خصوصا مع قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٤.

(٢) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

٢٨

وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين ، مع أنّ في سياق تلك الاخبار موافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، ولا يمكن حمله على الاستحباب ،

______________________________________________________

لا ريب فيه» (١) ، فهل يمكن مع ذلك التخيير بين ما لا ريب فيه وما فيه الريب؟.

(و) كذا الأمر الوارد في روايات العلاج (بعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين) في قبال الأخذ بالأعدل والأفقه.

هذا أوّلا : حيث أنّ ظاهر هذه الروايات هو : وجوب الترجيح لا استحبابه ، لعلّ الروايات أحد الخبرين المتعارضين حقا ، والآخر باطلا ، ولا يمكن التخيير بين الحق والباطل.

(مع أنّ) هنا دليلا ثانيا على عدم كون الترجيح من باب الاستحباب بل من باب الوجوب وهو : أن (في سياق تلك الأخبار) العلاجية (موافقة الكتاب والسنّة) المقطوع بها (ومخالفتهما) فقد قال عليه‌السلام : «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة» (٢) والمراد بالسنة : السنة المعلومة الواردة عن النبي والائمة عليهم‌السلام فإذا كان هناك خبران : أحدهما موافق للكتاب والسنة والآخر مخالف للكتاب والسنة ؛ فإنّه يؤخذ بالموافق ويترك المخالف.

(و) إن قلت : أنّ الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة (لا يمكن حمله على الاستحباب) إذ كيف يمكن أن يقال : أنّ موافق الكتاب والسنّة يستحب الأخذ

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٢٩

فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك ، فتأمّل.

وكيف كان : فلا شكّ أنّ التفصّي من الاشكالات الداعية له إلى ذلك أهون من هذا الحمل ، لما عرفت من عدم جواز حمله

______________________________________________________

به في قبال الخبر المخالف للكتاب والسنّة؟ وأنّه يتخير بينهما؟ ولذلك نقول بوجوب الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة المعلومة الواردة عنهم عليهم‌السلام ونحمل غير ذلك من سائر المرجّحات على الاستحباب.

قلت : (فلو حمل غيره) أي : غير موافق للكتاب والسنّة من سائر المرجّحات (عليه) أي : على الاستحباب ، وحملنا موافقة الكتاب والسنة على الوجوب (لزم التفكيك) بين المرجّحات المتحدة من حيث السياق الواردة في أخبار العلاج ، فإنّه كيف يمكن أن يقال في الخبر الذي يأمر في سياق واحد الترجيح موافق الكتاب والسنّة ، وغير ذلك من سائر المرجّحات ، بالتفكيك بين فقراته مع اتحاد سياقه ، وذلك بحمل فقرة منه على الوجوب وفقرة منه على الاستحباب؟.

(فتأمّل) ولعله إشارة إلى أنّه بعد الاضطراب الموجود في المرجّحات الواردة في الأخبار ، لا بدّ من حمل الترجيح بها على الاستحباب ، إلّا فيما إذا علم بأنّ الترجيح واجب ، مثل : موافقة الكتاب والسنة المعلومة ، ومخالفة العامة فيما إذا كانت المخالفة قطعية ، وذلك كما إذا كانت طريقة العامة على الأخذ بشيء معيّن من طرفي الروايات المتعارضة.

(وكيف كان : فلا شكّ أنّ التفصّي) والتخلّص (من الاشكالات الداعية له) أي : للسيد الصدر (إلى ذلك) أي : الى حمل الترجيح في الأخبار العلاجية على الاستحباب (أهون من هذا الحمل) أي : من الحمل على الاستحباب ، وذلك (لما عرفت : من عدم جواز حمله) أي : عدم جواز حمل الترجيح في أخبار

٣٠

على الاستحباب.

ثمّ لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأوّل أقوى وجب التوقف ، فيجب العمل بالترجيح ، لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّدا بين التخيير والتعيين ، وجب التزام ما احتمل تعيينه.

______________________________________________________

العلاج (على الاستحباب) بل اللازم القول بوجوب الترجيع ودفع تلك الاشكالات الداعية للسيد الصدر إلى القول من أجلها بالاستحباب.

(ثمّ) ان قلت : أن السيد الصدر إنّما حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، لأنه رأى الأمر دائر بين تقييد أخبار التخيير بعدم وجود مرجّع في أحدهما ، وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فاختار الثاني.

قلت : (لو سلّمنا دوران الأمر بين) حمل أخبار الترجيح على الوجوب ، كما اختاره المشهور ليتمّ (تقييد أخبار التخيير) بما لم يكن مرجّح هناك في أحد الخبرين المتعارضين (وبين) الأخذ بإطلاق أخبار التخيير ، سواء كان هناك في أحدهما مرجح أو لم يكن ، ليتمّ (حمل أخبار الترجيح على الاستحباب) كما اختاره السيد الصدر ، فإذا سلّمنا ذلك (فلو لم يكن الأوّل) يعني : تقييد أخبار التخيير ، لشيوع التقييد في الأخبار (أقوى وجب التوقف) لا اختيار الثاني وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب الذي فعله السيد الصدر.

وعليه : فإذا قلنا بأنّه يجب التوقف هنا (فيجب العمل بالترجيح) من باب الاحتياط ، وذلك (لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّدا بين التخيير والتعيين ، وجب التزام ما احتمل تعيينه) لأنّا إذا عملنا بالمرجّحات كان كافيا قطعا ، سواء كان حكم المتعارضين في الواقع هو التخيير

٣١

المقام الثاني :

في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين

وهي أخبار :

الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم الى عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ،

______________________________________________________

أو الترجيح ، بينما لو عملنا بالتخيير لم نعلم بكفايته قطعا ، والعقل إذا تردّد بين الكافي قطعا ، وبين غير الكافي على بعض الاحتمالات ، يرى تقديم الكافي قطعا على غيره.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وقد كان في وجوب الترجيح بالمزية الموجودة في أحد الخبرين المتعارضين.

(المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين وهي أخبار) متعدّدة تدعى بالأخبار العلاجية وهي كما يلي :

(الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة) وهم الشيخ الكليني ، والشيخ الصدوق ، والشيخ الطوسي قدس‌سرهم (باسنادهم إلى عمر بن حنظلة) علما بأن وجود الخبر في الكافي أو في الفقيه كاف في حجيته ، لضمان صاحبهما ذلك في أوّل الكتاب حتى وإن كان الراوي مجهولا أو غير ثقة ، وذلك على تفصيل ذكرناه في الرّجال.

(قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث) ومن الواضح ، أن ذكر الرجلين من باب المثال ، وإلّا فلو كان التنازع بين رجل وامرأة ، أو امرأة وامرأة ، أو كان بين رجلين من غير أصحابنا ، حيث أن الجميع مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول ، كان كذلك أيضا ، علما بأنّ

٣٢

فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟.

قال عليه‌السلام : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى الطّاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر الله أن يكفر به ،

______________________________________________________

المنازعة قد تكون من الشبهة الموضوعية كما لو قال أحدهما بالنسبة إلى الدّين ـ مثلا ـ اقترضت مائة دينار ، وقال الآخر : بل ألف درهم ، مع فرض التفاوت بينهما في القوة الشرائية ، وقد تكون في الشبهة الحكمية كما لو قال الولد الاكبر بالنسبة إلى الميراث ـ مثلا ـ أن له حبوة الخاتم لأنّه هو الأكبر ، وقال سائر الورثة : ليس له الحبوة من جهة أنّ أصابعه مقطوعة وهو إنّما يرث الحبوة فيما إذا لم تكن أصابعه مقطوعة.

ثمّ قال : (فتحا كما إلى السلطان) من سلاطين الجور (أو إلى القضاة) المنصوبين بأمر ذلك الجائر (أيحلّ ذلك) الترافع إلى هذا السلطان أو إلى هؤلاء القضاة؟.

(قال عليه‌السلام : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى الطّاغوت) إشارة إلى نهي الله تعالى عنه في كتابه الكريم حيث يذمّ تعالى الذين يزعمون الايمان ويتحاكمون إلى غير الله ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (١) ، ثم قال عليه‌السلام : (وما يحكم له) ذلك السلطان الجائر ، أو قاضي السوء ، من المال ، أو الحق (فإنّما يأخذه سحتا) أي : حراما حتى (وإن كان حقّه ثابتا) واقعا ، وذلك (لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر الله أن يكفر به) أي : أن يجحد بالطاغوت ويبرئ منه ، ومعنى الجحود به والتبرّي منه : انكاره وعدم

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٦٠.

٣٣

قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا

______________________________________________________

مراجعته في شيء من أمور الدين والدنيا من قضاء وحكم وغير ذلك ، كما ان معناه عدم إعانته والركون إليه.

ثم قال عليه‌السلام : (قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)) ولعل مراد الإمام عليه‌السلام من قوله : «قال الله تعالى ...» نقل الآية بالمعنى (١) ، أو نقل كلام الله سبحانه في حديث قدسي ، لا نقل الآية بالنصّ ، فإنه عليه‌السلام استدل بذلك على أن التحاكم إلى غير الله ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام تحاكم إلى الطاغوت ، وأنّ ما يأخذه بحكم الطاغوت هو سحت.

قال الراوي (قلت : فكيف يصنعان) هذان المتنازعان؟.

(قال : ينظران الى من كان منكم) أي : يتحاكمان إلى رجل من الشيعة (ممّن قد روى حديثنا) بأن يكون مجتهدا لا مقلدا (ونظر في حلالنا وحرامنا) بأن يكون له قوة الاستنباط الفعلي (وعرف أحكامنا) بأن يكون له فعليّة المعرفة بالحكم ، فإنّه قد يكون المجتهد مستنبطا فعليا له قوة الاستنباط ، لكنّه لا يستحضر المسألة التي ترافع فيها المنازعان إليه ، فإذا وجدا من هو جامع لهذه الشرائط (فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما) وهذا يدل على أنّ اختيار القاضي في الرجوع إليه يكون بيد المترافعين.

ثم قال عليه‌السلام (فإذا حكم بحكمنا) فإنّ القاضي قد يقول : إني أرى أن تتصالحوا

__________________

(١) ـ وهي الآية ٦٠ من سورة النساء : (أَنْ يَتَحاكَمُوا)

٣٤

فلم يقبل منه ، فإنّما بحكم الله استخف وعلينا قد ردّ ، والراد علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله.

قلت : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا في ما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟.

______________________________________________________

فيما بينكم ـ مثلا ـ.

من دون أن يحكم بينهما بحكم خاص مستنبط من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، ففي مثل هذا للمترافعين رفضه أو قبوله ، ولكنّ ليس كذلك لو حكم بينهما بحكم مستنبط شرعي فإنه إذا حكم بينهما بحكم الشرع (فلم يقبل منه ، فإنّما بحكم الله استخفّ ، وعلينا قد ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله) فإنّ الردّ عليه إنّما يكون على حدّ الشرك بالله ، لأنه يطلب بذلك حكما من غير حكم الله ، كالمشرك الذي يزعم أنّ له الهين ، يرجع إلى هذا تارة ، وإلى ذاك اخرى.

قال الراوي (قلت : فإنّ كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا) أي : المترافعان (أن يكونا) أي : الحاكمان (الناظرين في حقهما) وهذا يدلّ على جواز الرجوع إلى القضاة المتعدّدين في قضية واحدة وفي عرض واحد ، فإذا كان القضاة ثلاثة أو ما أشبه ، فالحكم يكون لأكثرهم ، من باب أدلة الشورى ، وذلك على ما ذكرناه في كتاب القضاء ، وغيره ، فإذا نظر الحاكمان في أمرهما (فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم) فهذا يستند إلى حديث مروي عنكم ، وذلك يستند إلى حديث آخر ، مروي عنكم أيضا ، ولكن كانا من الأحاديث المتعارضة.

٣٥

قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قلت : فإنهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟.

قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وانّما الأمور ثلاثة ،

______________________________________________________

(قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث وأورعهما) عن المحارم ، علما بأن الفقاهة في الفهم ، والصدق في الكلام ، والعدالة في كل الشئون ، والورع شيء فوق العدالة وأما بالنسبة إلى الآخر فإنّه قال عليه‌السلام (ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) ممّن ليس فيه هذه المزايا.

قال الراوي (قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر) بشيء من هذه الصفات والمزايا المذكورة.

(قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك) المورد المتنازع فيه (الذي حكما به) طبق المروي عنّا (المجمع عليه بين أصحابك) أي : المشهور بين الأصحاب كما سيأتي إنشاء الله تعالى أنه بمعنى الشهرة لا الاجماع ، فإذا كان أحدهما مجمعا عليه (فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) فإنّ الإمام عليه‌السلام رجّح أوّلا أحد القاضيين على القاضي الآخر بالصفات المذكورة ، ثم رجّح رواية أحدهما على الرواية الاخرى بقوله : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا» ، ثم استدل للزوم ترجيح خبر على خبر بقوله : (وإنّما الامور ثلاثة) على النحو التالي :

٣٦

أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.

قال قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم؟.

______________________________________________________

الأوّل : (أمر بيّن رشده) كالمجمع عليه (فيتّبع) ويعمل به.

الثاني : (وأمر بيّن غيّه) كالذي نعلم أنّه ليس بحكمهم عليهم‌السلام (فيجتنب).

الثالث : (وأمر مشكل) كالشاذ ، لاحتمالنا أنه حكمهم عليهم‌السلام لكنّ المشهور على خلافة ، فإنّ مثل هذا (يردّ حكمه إلى الله) يعني : يجب أن يفحص عنه ، في القرآن والسنة المتواترة ، ليعلم منهما أن هذا الأمر المشكل أيّ جانب منه صحيح ، وأيّ جانب منه غير صحيح؟.

ثم استدل عليه‌السلام لما ذكره بقوله (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم).

ولا يخفى : أنّ المراد بالحلال البيّن أحكام ثلاثة هي : الاستحباب والكراهة والاباحة ، والمراد بالحرام البيّن حكمان : الوجوب والتحريم ، وإنّما كان الوجوب داخلا في الحرام البيّن ، لأنّ ترك الواجب حرام بيّن ، والأحكام الوضعية داخلة في الأحكام التكليفية على ما ذكره المصنّف وتقدّم الكلام فيه ، فالحديث إذن شامل لكل الأحكام الوضعية والتكليفية.

(قال) الراوي : (قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم)

٣٧

قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامّة.

قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا ،

______________________________________________________

بأن كان كل واحد من الخبرين في كل الكتب الأربعة فرضا فما ذا يصنع المتنازعان؟.

(قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة).

ولا يخفى : أنّ العامّة في تلك العصور كانوا يعتمدون الكذب الصريح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى عليّ عليه‌السلام وعلى غيرهما ، كما لا يخفى على من راجع التاريخ ، حتى أن البخاري جمع كتابه من بين ستمائة ألف حديث تقريبا ، ولم يدرجها جميعا في كتابه ، لأنه لم يعتمد عليها ، بالإضافة إلى أنهم كانوا يأخذون بالقياس والرأي والاستحسان وما أشبه ذلك ، ممّا كان يجعل فقههم غالبا على خلاف الواقع ، ولذا جعل الأئمة عليهم‌السلام الرشد في خلافهم.

قال الراوي (قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه) أي : الحكم الذي حكم به كل منهما ، بأن كان (من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا) فهل نأخذ بالموافق أو بالمخالف؟ ومعنى أنهما عرفا حكمه من الكتاب والسنة هو أن يدّعي كل واحد من الفقيهين : إنّ ما يحكم به يوافق الكتاب ، كما نجد مثل ذلك في باب المعاطاة ـ مثلا ـ حيث أن بعض الفقهاء يقولون : أن (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) يشمل المعاطاة ، وبعض الفقهاء ،

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ١.

٣٨

بأيّ الخبرين يؤخذ؟.

قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقها الخبران جميعا؟.

قال : ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك ، فارجه حتى تلقى إمامك ،

______________________________________________________

يقولون : أنه لا يشمل المعاطاة ، وهكذا غيره ، ففي مثل ذلك (بأيّ الخبرين يؤخذ) حينئذ.

(قال : ما خالف العامّة ففيه الرّشاد) ومعناه : أنّه خذ بما خالف العامة.

قال الراوي : (فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقها) أي : وافق العامة (الخبران جميعا) وذلك بأن يكون بين العامة خلاف ـ مثلا ـ كأن يقول جماعة منهم : صلاة الجمعة واجبة ، ويقول آخرون : صلاة الجمعة مستحبة ، فهل نأخذ بالوجوب أو بالاستحباب مع أنّ كل واحد من العملين يوافق جماعة من العامة؟.

(قال : ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم) أي : سلاطينهم (وقضاتهم ، فيترك) ما هم إليه أميل (ويؤخذ بالآخر) فإذا كان أحد الخبرين موافقا لميل السلطان الجائر ، ولميل المنصوب بأمر الجائر من الولاة والقضاة السّوء ، والآخر أبعد من ميلهم ، فيؤخذ بالأبعد من ميلهم.

قال الراوي (قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا) بأن كان ميلهم مع كل منهما.

(قال : إذا كان ذلك ، فأرجه) أي : أخّر أمرك ، ولا تحكم طبق أحد الخبرين ، ولا بأحد قولي القاضيين (حتى تلقى إمامك) فتسأله عن الحكم ، ثم علّل عليه‌السلام

٣٩

فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الاشكال ، بل الاشكالات ،

______________________________________________________

هذا الارجاء والتوقف بقوله (فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام) والدخول بلا رويّة (في الهلكات) (١) فإنّ الانسان إذا أخذ بشيء من دون دليل شرعي عليه ، فقد عرّض نفسه للهلاك ، انتهت الرواية.

قال المصنّف (وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الاشكال ، بل الاشكالات) المتعدّدة وليس إشكالا واحدا ، وذلك على ما يلي :

الاشكال الأوّل : إنّ ظاهر الرواية هو : التحكيم ومراجعة الخصمين إلى القاضي لفصل الخصومة بينهما ، وليس في استعلام حكم المسألة ، ويرد عليه حينئذ خمسة أمور كما سيأتي ، من المصنّف بيانها إن شاء الله تعالى.

الاشكال الثاني : إنّ ظاهر الرواية هو : تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة وهذا خلاف السيرة المستمرة بين الفقهاء ، حيث أنّهم يقدّمون الترجيح بالشهرة على الترجيح بذي الصفات ، فإذا كانت إحدى الروايتين مشهورة ، والاخرى غير مشهورة يأخذون بالمشهورة ، وإن كان الراوي للمشهورة أقل صفة من صفات الراوي للرواية غير المشهورة.

الاشكال الثالث : إنّ ظاهر الرواية هو : انّ مجموع الصفات من الأعدلية ، والأفقهية ، والأصدقية ، والأورعية المذكورة في الرواية مرجّح واحد ، فيلزم اجتماعها حتى يرجّح به ، مع أن الفقهاء اجمعوا على كفاية كل واحد من تلك الصفات في الترجيح به من دون لزوم اجتماعها.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٤٠