الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

معلّلا بأنّه لا ريب فيه بالتقريب المتقدّم سابقا ، ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين يظهر لك في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

بقي في هذا المقام امور :

الأوّل :

إنّ الخبر الصادر تقيّة ، يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة ، ويحتمل أن يراد منه تأويل مختف على المخاطب ،

______________________________________________________

«خذ بما اشتهر بين أصحابك» (١) (معلّلا بأنّه لا ريب فيه) وذلك (بالتقريب المتقدّم سابقا) حيث قلنا : بأنّ نفي الريب لا يراد به نفي الريب مطلقا ، وإنّما نفي الريب النسبي ، فكلّ ما كان الريب النسبي فيه أقل من الريب النسبي في الآخر لزم الأخذ بما يكون فيه الريب النسبي أقل.

هذا (ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين) اللذين ذكرهما المصنّف للترجيح بمخالفة العامّة سوف (يظهر لك فيما يأتي) عند بيان الأمر الخامس (إن شاء الله تعالى).

ثمّ انّه قد (بقي في هذا المقام امور) كالتالي :

الأمر (الأوّل : إنّ الخبر الصادر تقيّة) كالخبر القائل ـ مثلا ـ الفقّاع حلال ، فانّه محتمل لأمرين كما يلي :

أوّلا : (يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة) أهمّ ، فلا يكون هذا الخبر صادرا لبيان الحكم الواقعي ، وذلك لأنّ الحكم الواقعي هو حرمة الفقّاع لا حلّيته.

ثانيا : (ويحتمل أن يراد منه تأويل مختف على المخاطب) كما لو أراد خلاف

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

٣٠١

فيكون من قبيل التورية ، وهذا أليق بالإمام عليه‌السلام ، بل هو اللائق ، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية.

الثاني :

إنّ بعض المحدّثين ، كصاحب الحدائق ، وإن لم يشترط

______________________________________________________

الظاهر من الخبر القائل : الفقّاع حلال ، وذلك بأن أراد منه : انّه حلال للمضطر (فيكون من قبيل التورية) ويكون الخبر المذكور صادرا لبيان الحكم الواقعي ، لكن ذلك الحكم الواقعي إنّما يكون في حال دون حال ، كحال الاضطرار ـ مثلا ـ في مثالنا.

(وهذا) أي : الاحتمال الثاني المذكور في توجيه الخبر الصادر تقيّة هو عند المصنّف (أليق بالإمام عليه‌السلام) وذلك لأنّ الإمام عليه‌السلام يكون أبعد عن الكذب حتّى الكذب الجائز شرعا (بل) الاحتمال الثاني (هو اللائق ، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية) وفي هذا إشارة إلى الاختلاف الموجود في انّه هل يجوز الكذب مع التمكّن من التورية ، حتّى يكون الخبر المزبور من الكذب الجائز لمصلحة أهمّ ، أو لا يجوز إلّا إذا لم يتمكّن من التورية ، فيكون الخبر المزبور صادرا على التأويل وخلاف الظاهر؟ وحيث انّ الإمام عليه‌السلام قادر على التورية ، فاللازم أن يحمل كلامه على التورية.

هذا ، ولكن لا يخفى : إنّ الخبر الصادر عن الإمام عليه‌السلام تقيّة ، كالخبر القائل : الفقاع حلال ، جائز حتّى من دون تأويل وتورية ، وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالتقيّة الكلامية فتكون جائزة بلا حاجة إلى تورية سواء كان قادرا عليها أم لا ، ومعه فلم يعلم وجه قول المصنّف بانّ الاحتمال الثاني أليق.

الأمر (الثاني : إنّ بعض المحدّثين ، كصاحب الحدائق) رحمه‌الله (وان لم يشترط

٣٠٢

في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة ، لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ، سليمة عمّا هو صريح في خلاف ما ادّعاه ،

______________________________________________________

في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة) لأنّه قسّم التقيّة إلى ما كان الخبر موافقا للعامّة ، وإلى ما كان من أجل القاء الاختلاف بين الشيعة حتّى لا يعرفوا على طريقة واحدة فيأخذوا ، وذلك (لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه) ومن جملة تلك الأخبار هو الخبر التالي : عن زرارة قال : «سألت عن أبي جعفر عليه‌السلام عن مسألة فأجابني ـ فيها ـ ، ثمّ جاء رجل ـ آخر ـ فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله : رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال : يا زرارة انّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم ...» (١) وهذا ظاهر في انّ أخبار التقيّة لم يكن جهة صدورها خاصّا بموافقة العامّة ، بل قد يكون لأجل القاء الخلاف بين الشيعة حفاظا على حياتهم ، ومعلوم : إنّ ما يصدر لأجل القاء الخلاف قد يكون موافقا للعامّة وقد يكون مخالفا لهم ، وإذا كان مخالفا لهم فلا يكون مرجّحا.

وكيف كان : فانّ صاحب الحدائق لم يشترط في صدور الخبر تقيّة موافقته للعامّة ، وذلك لظاهر الخبر المزبور وغيره من الأخبار التي تصوّرها (سليمة عمّا) أي : عن الخبر المعارض الذي (هو صريح في خلاف ما ادّعاه) فانّ في أخبار العلاج ما هو صريح في اشتراط موافقة العامّة في الصادر تقيّة ، وهو خلاف ما ادّعاه صاحب الحدائق من عدم الاشتراط ، فالأخبار ليست إذن كما تخيّلها دالّة

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٥ ح ٥ ، علل الشرائع : ص ٣٩٥ ح ١٦.

٣٠٣

إلّا أنّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لا يكون إلّا مع موافقة أحدهما ، إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة وإن كانا مخالفين لهم ،

______________________________________________________

على ما ادّعاه سليمة عن المعارض.

وإنّما تصوّر صاحب الحدائق مثل خبر زرارة سليما عن المعارض ، لأنّ ما دلّ على حمل الخبر الموافق للعامّة في المتعارضين على التقيّة ، لا ينافي وجود التقيّة فيما كان الخبران معا مخالفين لهم ، فانّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، فالتقيّة ، كما تكون في الخبر الموافق للعامّة ، فكذلك تكون في الخبر المخالف لهم ، الملقى لأجل اختلاف كلمة الشيعة.

وعليه : فإنّ صاحب الحدائق لم يشترط في التقيّة موافقة الخبر للعامّة فصار محلا للاعتراض عليه بأنّ التقيّة من المرجّحات ، فإذا كان الخبران معا مخالفان للعامّة ، فكيف نحمل أحدهما على التقيّة؟ فأجاب المصنّف بالفرق بين مقام التقيّة ، وبين مقام الترجيح ، فانّ التقيّة تكون في الموافق والمخالف ، بينما الترجيح مختص بالأوّل كما قال : فانّه وان لم يشترط في مقام التقيّة الموافقة (إلّا انّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لا يكون إلّا مع موافقة أحدهما) للعامّة ومخالفة الآخر لهم (إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة) حتّى (وان كانا مخالفين لهم) أي : حتّى وإن كان الخبران المتعارضان مخالفين معا للعامّة.

إذن : فصاحب الحدائق إنّما يحمل الخبر على التقيّة إذا كان أحد المتعارضين موافقا للعامّة ، لا ما إذا كان كلا المتعارضين مخالفين للعامّة ، فانّ في صورة مخالفة الخبرين معا للعامّة يتساويان في احتمال التقيّة ، فلا يعقل حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ، كما لا يعقل حمل أحدهما المردّد على التقيّة.

٣٠٤

فمراد المحدّث المذكور : ليس الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ، كما أورده بعض الأساطين في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ، بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدّمة الاولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار عن الأخبار المكذوبة ، لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة

______________________________________________________

وعليه : (فمراد المحدّث المذكور) وهو صاحب الحدائق من عدم اشتراط موافقة العامّة في الخبر الصادر التقيّة هو : مقام التقيّة ، لا مقام الترجيح ، إذ (ليس) مراده هو (الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح) حتّى يرد عليه الاشكال القائل : بأنّه إذا كان كلا الخبرين مخالفا للعامّة فكيف نحمل أحدهما على التقيّة؟ وذلك (كما أورده) أي : أورد هذا الاشكال عليه (بعض الأساطين) وهو الوحيد البهبهاني (في جملة المطاعن) التي أوردها (على ما ذهب إليه) صاحب الحدائق (من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة) معلّلا صاحب الحدائق ذلك بأنّه قد يكون مخالفا ومع ذلك يكون تقيّة.

وإنّما ذهب صاحب الحدائق إلى هذا القول ، لأنّه أراد بذلك توجيه التعارض الموجود بين كثير من الروايات المنقولة في الكتب الأربعة ، وذلك بعد أن ثبت صدورها وخلوّها عن الكذب. فانّها إذا كانت خالية عن الدسّ والكذب ، فلما ذا إذن هذا التعارض الموجود في كثير منها ، فأجاب عن هذا الاشكال بذلك.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : (بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدّمة الاولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار) الواصلة إلينا في الكتب الأربعة ونحوها (عن الأخبار المكذوبة) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة

٣٠٥

المتأخّرة ، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة ، صحّ لقائل أن يقول : فما بال هذه الأخبار المتعارضة التي لا تكاد تجتمع؟ ، فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ معظم الاختلاف من جهة اختلاف كلمات الأئمة عليهم‌السلام ، مع المخاطبين ، وأنّ الاختلاف انّما هو منهم عليهم‌السلام ، واستشهد على ذلك بأخبار زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ،

______________________________________________________

المتأخّرة) كأزمنة المحمّدين الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة : الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، والفقيه (بعد ان كانت مغشوشة مدسوسة) بعض الأخبار المكذوبة فيها (صحّ لقائل أن يقول) : لو كانت هذه الأخبار منقّحة عن الكذب ـ كما زعمت ـ لزم أن لا يكون بينها هذا التعارض (فما بال هذه الأخبار) التي بأيدينا (المتعارضة التي لا تكاد تجتمع؟).

ثمّ إنّ صاحب الحدائق تصدّى في المقدّمة الثانية للجواب عن هذا الاشكال الذي طرحه في المقدّمة الاولى (فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ) سبب هذا التعارض الذي نراه في كثير من هذه الأخبار ليس هو وجود الأخبار المكذوبة بينها لأنّها منقّحة منها ، بل هو لأنّ (معظم الاختلاف) حاصل (من جهة اختلاف كلمات الأئمّة عليهم‌السلام ، مع المخاطبين ، و) معه فليس أحد الخبرين كذبا والآخر صدقا ، بل كلاهما صادران عن الأئمّة عليهم‌السلام ، غير (انّ الاختلاف) الذي نشاهده بينها (إنّما هو منهم عليهم‌السلام) لأجل إلقاء الخلاف بين شيعتهم على ما عرفت.

(واستشهد) صاحب الحدائق (على ذلك بأخبار) متعدّدة كالتي نقلناها فيما سبق عن زرارة ، وقد (زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة) فيما إذا كان الإمام عليه‌السلام ، أو الراوي ، أو الثالث ، إذا قال الحقّ ، أو عمل به وقع

٣٠٦

كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة كي لا يعرفوا فيؤخذ برقابهم.

وهذا الكلام ضعيف ؛ لأن الغالب اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ، وأمّا الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم فهو وإن أمكن حصوله أحيانا ، لكنّه نادر جدا ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة.

______________________________________________________

في أذاهم (كذلك تحصل بمجرّد القاء الخلاف بين الشيعة كي لا يعرفوا فيؤخذ برقابهم) ومن هذا السؤال والجواب والاستشهاد عليه تبيّن انّ صاحب الحدائق إنّما هو في صدد بيان مقام التقيّة ـ على ما عرفت ـ وليس في صدر بيان مقام الترجيح ، فانّه يرى في مقام الترجيح كالبقيّة وجوب كون أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم.

هذا (و) لكن المصنّف حيث انّه لم يرتض هذا الكلام من الحدائق ـ مع انّه تامّ بنظرنا ـ قال : انّ (هذا الكلام ضعيف ، لأنّ الغالب) إنّما يكون (اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء) ممّا يتطلّب أن يكون الخبر موافقا لهم ، لا ان يكون هناك خبران كلاهما مخالفين لهم (وأمّا الاندفاع) أي : اندفاع الخوف (بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم) أي : مخالفة العامّة (فهو وإن أمكن حصوله أحيانا ، لكنّه نادر جدّا ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة) والمتعارضة.

لكن قد عرفت : إنّ صاحب الحدائق لا يريد حلّ التعارض الموجود بين كثير من الأخبار المختلفة بسبب هذا النوع من التقيّة ، وإنّما يريد أن يقول : انّ اختلاف الأخبار قد يكون لأجل التقيّة ، وقد يكون لأجل القاء الخلاف بين الشيعة ،

٣٠٧

مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه‌السلام ، في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه.

فالذي يقتضيه النظر

______________________________________________________

فانّ تعليل الإمام عليه‌السلام القاء الخلاف بين شيعته للحفاظ على حياتهم هو طريق العقلاء في حفظ حياتهم وحياة أتباعهم ، كما نشاهد مثل ذلك فيما تفعله الأحزاب الحرّة ، المخالفة للحكّام المستبدّين والأنظمة الديكتاتورية في هذا اليوم ، حيث لا يظهرون بمظهر واحد ، ولذا يشتبه الأمر على الحكومة ، فلا تتمكّن من أخذهم واستقصائهم ، وان تمكّنت من بعض فلا تتمكّن من بعض آخر.

ومن هذا الجواب الذي دفعنا به إشكال المصنّف على كلام صاحب الحدائق أوّلا ، يظهر التأمّل في إشكال المصنّف عليه ثانيا ، فانّه بعد أن ضعّف كلام صاحب الحدائق قال : (مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه‌السلام ، في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (١)) فانّ ظاهر هذه الرواية ـ بنظر المصنّف ـ هو : حصر طريق التقيّة من العامّة في إظهار الموافقة معهم فقط ، بينما هو ليس كذلك لأنّ ما ذكره الإمام عليه‌السلام في هذه الرواية هو الغالب ، فلا ينافي أن يكون هناك قسم آخر من التقيّة نادر ، كما يرى هذا الجمع بين الطائفتين من أخبار التقيّة كلّ من رآهما وجمع بعضهما مع بعض.

إذن : (فالذي يقتضيه النظر) عند المصنّف في الجواب عن إشكال اختلاف

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٨ ص ٩٨ ب ٣٦ ح ٩ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٣١٨ ب ١٨٣ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٧٩.

٣٠٨

ـ على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريين ، والظنّ بصدور جميعها إلّا قليل في غاية القلّة ، كما يقتضيه الانصاف ممّن اطّلع على كيفية تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب ـ هو أن يقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار ؛ إمّا بقرائن متصلة اختفيت علينا من جهة تقطيع الأخبار

______________________________________________________

الأخبار وتعارضها على تقدير القطع بصدورها ، ليس هو جواب صاحب الحدائق القائل بأنّه من جهة قوله عليه‌السلام : «أنا خالفت بينهم» (١) ، بل الجواب عنه (على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريين) حيث قال : بأنّ الأخبار التي بأيدينا مقطوع بها (والظنّ بصدور جميعها) ظنّا معتبرا (إلّا قليل) منها (في غاية القلّة) أي : إنّ التي لا نظنّ بصدورها قليل جدّا ، وذلك (كما يقتضيه الانصاف ممّن اطّلع على كيفيّة تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب).

وعليه : فانّ الاطلاع على ذلك يوجب الظنّ المعتبر بصدور أغلب الأخبار التي بأيدينا ، وعلى هذا التقدير ، فالذي ينبغي في الجواب عن اختلاف الأخبار (هو أن يقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار) فانّهم عليهم‌السلام كثيرا ما أرادوا خلاف الظاهر ، واختفت القرائن المنصوبة على خلاف تلك الظواهر عنّا ، فانّ إرادتهم خلاف الظاهر كان (إمّا بقرائن متّصلة اختفيت علينا من جهة تقطيع الأخبار) حيث أنّ تقطيع الأخبار أوجب اختفاء القرائن ، وذلك كما في قول الإمام عليه‌السلام : اغتسل للزيارة ، وللجمعة ، وللعيد ـ مثلا ـ فكان حشر الجمعة بين هذه المستحبّات قرينة على انّ غسل الجمعة مستحبّ ، بينما

__________________

(١) ـ عدة الاصول : ج ١ ص ١٣٠.

٣٠٩

أو نقلها بالمعنى ، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة معلومة للمخاطبين ،

______________________________________________________

بعد التقطيع صار : اغتسل للجمعة ، ثمّ اختفت القرينة ممّا سبب ظهوره في الوجوب ، وبذلك صار اغتسل للجمعة بعدها معارضا لقوله عليه‌السلام : ينبغي غسل الجمعة ـ مثلا ـ.

(أو) اختفت علينا تلك القرائن المتّصلة من جهة (نقلها بالمعنى) أي : نقل الأخبار لا باللفظ ، بل بالمعنى ، ومعلوم : إنّ النقل بالمعنى يسبّب خفاء القرائن المحفوفة بالكلام فيما لو كان الكلام ينقل بلفظه ، فانّه يستفاد من نقل الكلام بلفظه معنى لا يستفاد من نقل معناه ، وذلك كما في قوله سبحانه : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١) فانّ نقله بلفظه يفيد السامع بأنّ المراد من : (وَحَرامٌ) يعني : انّه ممتنع ، بينما لو نقل بمعناه فانّه قد لا يفيد السامع هذا المعنى ، كما نرى من نقل البعض له مترجما : بأنّهم إذا لم يرجعوا عاقبناهم ، فانّه بنقله ترجمة الآية قد فوّت على السامع معنى الآية ، لفوات القرائن المحفوفة باللفظ.

(أو) كان إرادة خلاف الظاهر من كلامهم عليهم‌السلام بقرائن (منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة) بانّه كانت تلك القرينة المختفية علينا قرينة حالية (معلومة للمخاطبين) فانّه حيث انتفى الحال انتفت القرينة أيضا ، وذلك كما إذا اعتقد المخاطب ـ مثلا ـ وجوب فعل من الأفعال ، فقال له الإمام عليه‌السلام : اتركه ، فانّ قوله : اتركه ، في هذه الحال قرينة على جواز الترك ، لا على وجوب الترك ، فإذا فاتت هذه القرينة الحالية ووصل بأيدينا : اتركه ، استفدنا منه الحرمة.

__________________

(١) ـ سورة الانبياء : الآية ٩٥.

٣١٠

أو مقاليّة اختفيت بالانطماس.

وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام ، من تقيّة ، على ما اخترناه : من أنّ التقيّة على وجه التورية أو غير التقيّة من المصالح الأخر.

وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار ، من إظهار إمكان

______________________________________________________

(أو) كان الكلام محفوفا بقرائن (مقالية اختفيت بالانطماس) أي : بسبب انمحاء تلك القرينة المقالية ، كما إذا قال الإمام عليه‌السلام : الشيء الفلاني واجب على اولي الألباب ، فسقط منه : على اولي الألباب ، وبقي : الشيء الفلاني واجب ، ممّا ظاهره حرمة الترك ، بينما إذا كانت قرينة اولي الألباب منضمّة إليه كان معناه : الاستحباب المؤكّد ، أو ما أشبه ذلك.

إذن : فعمدة اختلاف الأخبار وتعارضها ناشئ من إرادة خلاف ظاهر الكلام ، وذلك إمّا مع القرينة وقد اختفت علينا (وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام) أهمّ من نصب القرينة على مراده من الكلام ، وذلك (من تقيّة ، على ما اخترناه : من انّ التقيّة على وجه التورية) أي : من باب إرادة الإمام خلاف الظاهر وإخفاء القرينة ، لا من باب الكذب الجائز لمصلحة (أو غير التقيّة من المصالح الأخر) كما لو أراد المريض التدخين فيقول له : انّه محرّم عليك ، وهو يريد : انّه ما دام ضارّا ، وحيث انّه لم يذكر هذه القرينة لمصلحة يفيد الكلام التحريم المطلق فيتعارض مع دليل الجواز.

(وإلى ما ذكرنا) من انّه كثيرا ما يكون اختلاف الأخبار وتعارضها من جهة إرادة الأئمّة عليهم‌السلام في كلامهم خلاف الظاهر منه ، بقرينة حالية أو مقالية ، متّصلة أو منفصلة ، ثمّ اختفت تلك القرينة علينا ، أو بغير قرينة لمصلحة التقيّة ، أو ما أشبه ذلك (ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار ، من إظهار إمكان

٣١١

الجمع بين متعارضات الأخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد.

وربّما يظهر من الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ،

______________________________________________________

الجمع بين متعارضات الأخبار) فانّ ما فعله الشيخ هناك أراد به رفع ما يتراءى من التناقض بين الأخبار ، وإثبات كونها قابلة للجمع ، وبيان انّ الاختلاف فيها لم يكن ناشئا عن دسّ أخبار مكذوبة بينها ، بل لإرادة خلاف الظاهر منها واختفاء القرينة علينا.

وعليه : فقد جمع الشيخ ـ دفعا للشبهة ـ بين الأخبار المتعارضة (بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره) امّا اخراج أحد المتعارضين فقط عن ظاهره فهو كما في مثال : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، حيث انّ الجمع بينهما يخرج اغتسل فقط عن الوجوب ، وامّا اخراج كلا المتعارضين معا عن ظاهرهما فهو كما في مثال : «ثمن العذرة سحت» (١) ، و «لا بأس ببيع العذرة» (٢) ، حيث انّ الجمع بينهما يخرج كلا المتعارضين معا عن ظاهرهما ، وذلك كما لو حمل الأوّل على العذرة النجسة ، والثاني على العذرة الطاهرة ـ مثلا ـ وحينئذ فقد أخرج الشيخ للجمع بين الأخبار ، أحد الروايتين أو كلتيهما (إلى معنى بعيد) بل ربّما إلى معنى قريب.

هذا (وربّما يظهر من) نفس (الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ) في الاستبصار ، ومعه فلا يستشكل على الشيخ ، بأنّ هذا النحو

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ و ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

٣١٢

تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه‌السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إن لم يظهر فيه قرينة عليها :

فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم : لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل ، فقال عليه‌السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الادراك ، فقيل له عليه‌السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات.

______________________________________________________

من الجمع غير مألوف عرفا ، إذ تلك الأخبار (تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه‌السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام ان لم يظهر فيه) أي : في الكلام (قرينة عليها) أي : على تلك المحامل ، ولكن من المعلوم : انّ هذه المحامل مع بعدها عن ظاهر الكلام متعارفة عند العقلاء إذا وقعوا في التقيّة الشديدة وخافوا على أنفسهم من القتل والتنكيل.

ثمّ ذكر المصنّف نماذج من تلك المحامل والتأويلات بقوله : (فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم) أجمعين : من انّه (لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل) سؤاله ليعرف ما المراد من الثمانين ، بل اكتفى بذلك وانصرف (فقال عليه‌السلام) لمن كان عنده بعد ان انصرف ذلك السائل : (هذا يظنّ انّه من أهل الادراك) بينما هو لم يفهم كلامي (فقيل له عليه‌السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات؟) الثمانون؟ (فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فانّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات) (١) فإذا ضرب الثمان في العشر صارت النتيجة

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣١٤ ح ١٤ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٦٤ ب ١٣ ح ٧٣٥٥.

٣١٣

ومنها : ما روي من : «أنّ الوتر واجب» ، فلمّا فرغ السائل واستقر ، قال عليه‌السلام : إنّما عنيت وجوبها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

ومنها : تفسير قولهم عليهم‌السلام : «لا يعيد الصلاة فقيه» بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع.

______________________________________________________

ثمانين ، وهذا الجواب لو لا تفسير الإمام عليه‌السلام له كان ظاهرا بحسب السؤال في صلاة الظهر ، فكان لو وصلنا بلا تفسير ، يتعارض مع بقيّة الروايات الواردة في باب القراءة.

(ومنها : ما روي من : «أنّ الوتر واجب» ، فلمّا فرغ السائل واستقرّ) وفي بعض النسخ : «واستفسر» (قال عليه‌السلام : إنّما عنيت وجوبها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) فانّ في هذا التفسير تأويل بعيد عن ظاهر الرواية ، ولكن الإمام عليه‌السلام مع ذلك تكلّم بهذا الكلام لمصلحة.

(ومنها : تفسير قولهم عليهم‌السلام : «لا يعيد الصلاة فقيه») أي : لا يعيدها من كان عالما بمسائل الصلاة وأحكامها ، فانّه كلّي يشمل كلّ شكّ في ركعات الصلاة ، لكن الإمام عليه‌السلام فسّره بعد ذلك (بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع (٢)) مع انّ تفسير ذلك الكلّي بهذا الجزئي وحصره فيمن شكّ بين الثلاث والأربع وانّه يبني على الأربع ، ثمّ بعد الصلاة يأتي بركعة اخرى من باب الاحتياط تأويل بعيد لظاهر الرواية.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٤٢ ب ١٢ ح ٢٨ ، وسائل الشيعة : ج ٤ ص ٦٨ ب ١٦ ح ٤٥٣٣ ، بحار الانوار : ج ١٦ ص ٣٧٧ ح ٨٦ وفي الجميع (بالمعنى).

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٩٣ ب ٢٣ ح ٦١ ، المقنع : ص ٩ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٥ ب ٢١٨ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٥ ب ٩ ح ١٠٤٥٩.

٣١٤

ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم‌السلام : «لا تطوّع في وقت الفريضة» بزمان قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

ويؤيّد ما ذكرنا : من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ،

______________________________________________________

(ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم‌السلام : «لا تطوّع في وقت الفريضة» (١)) الظاهر في حرمة النافلة عند دخول الوقت قبل إتيان الفريضة ، فانّه فسّره (بزمان قول المؤذّن) المعلن عن انعقاد الجماعة : (قد قامت الصلاة) فانّ تفسير وقت الفريضة بهذا المعنى تأويل بعيد عن ما يظهر من الرواية المزبورة القائلة : «لا تطوّع في وقت الفريضة» التي جعلتها بعض النسخ من متن الرسائل.

(إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبع) في الأخبار ، مثل تفسيره عليه‌السلام حرمة عورة المؤمن على المؤمن بإذاعة سرّه ، وهو وان كان تأويل بعيد لظاهر الرواية ، إلّا انّ الإمام عليه‌السلام أراد أن يلفت نظر السامع إلى انّ إذاعة سرّ المؤمن أهمّ حرمة من رؤية عورته الجسدية ، حيث إنّ إذاعة السرّ قد توجب في بعض الأحيان إراقة الدماء ، وهتك الأعراض ، وغصب الأموال ، وغيرها من المحرّمات الشديدة ، وهناك في كتاب : «تعارض الأدلّة» مجموعة من توجيهات اختلاف الأخبار.

(ويؤيّد ما ذكرنا : من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة) الذي ذكره

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٤٧ ب ١٣ ح ١٨ وص ٢٥٠ ب ١٣ ح ٢٨ وج ٣ ص ٢٨٣ ب ١٣ ح ١٦١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢٥٢ ب ١٤٧ ح ٣٢ وص ٢٥٥ ب ١٤٧ ح ٤١ ، وسائل الشيعة : ج ٤ ص ٢٢٨ ب ٣٥ ح ٤٩٩٢ و ٤٩٩٣.

٣١٥

ما ورد مستفيضا من عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتى إذا قال للنهار إنّه ليل ، وللّيل إنّه نهار ، معلّلا ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له فينكره ، فيكفر من حيث لا يشعر ، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه‌السلام مفسدة ، فضلا عن كفر الرادّ.

______________________________________________________

صاحب الحدائق ، بل لإرادة خلاف الظاهر منها هو : (ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال) الخبر (للنهار : انّه ليل ، وللّيل : إنّه نهار) فاللازم ـ بحسب سيرة العقلاء الجارية على التدقيق في كلام العظماء حتّى يظهر لهم المراد ـ ان لا يردّ ، وإنّما يلتمس له التأويل بعد حجيّة سنده ، أو يرجع في معناه إليهم ان لم يفهم المراد منه ، لا ان ينكره (معلّلا ذلك) أي : عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره : (بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له) أي : لذلك المحمل (فينكره ، فيكفر من حيث لا يشعر) ومن المعلوم : إنّ الانكار إنّما يوجب الكفر فيما إذا كان الخبر في اصول الدين أو كان يرجع إليه بنحو من الأنحاء.

وعليه : (فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة) أي : لو كان التنافي من جهة صدور تلك الأخبار (تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه‌السلام مفسدة ، فضلا عن كفر الرادّ) أي : إنّ جواب صاحب الحدائق لو كان تامّا ، بأن كان تعارض الأخبار بسبب التقيّة ، لم يستلزم ردّها مفسدة فكيف بالكفر؟ وذلك لأنّ الخبر الصادر تقيّة في حكم عدم الصدور ، ممّا لم يكن بأس في ردّه وطرحه ، فتكون الروايات الموجبة كفر من ردّها مؤيّدة لتماميّة جوابنا.

٣١٦

الثالث :

إنّ التقيّة قد تكون من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامّة في الأخبار ، واخرى من حيث أخبارهم التي رووها ، وهو المصرّح به في بعض الأخبار ، لكنّ الظاهر أنّ ذلك

______________________________________________________

الأمر (الثالث : إنّ التقيّة) تكون على أقسام تالية :

أوّلا : (قد تكون) التقيّة (من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامّة في الأخبار) العلاجية ، التي أمرت بطرح ما وافق العامّة من الخبرين المتعارضين ، كما انّه ورد في بعض الروايات : انّ الإمام عليه‌السلام لم يكن يتمكّن لشدّة التقيّة ، من الفتوى علنا على خلاف ابن أبي ليلى ، الذي كان قاضيا في المدينة من قبيل الخليفة ، حتّى نقل عنه عليه‌السلام انّه قال : امّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع من ردّه (١).

(واخرى) : قد تكون التقيّة (من حيث أخبارهم التي رووها) لوضوح : انّ فتاواهم لم تكن مستندة إلى رواياتهم ، فربّما كانت فتوى بدون رواية ، وربّما كانت رواية بدون فتوى ، وقد يجتمعان (وهو المصرّح به في بعض الأخبار) العلاجية ، مثل ما تقدّم عن محمّد بن عبد الله قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه» (٢).

(لكن الظاهر أنّ ذلك) أي : الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا : «واخرى :

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٦١ ح ١٦ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٢٢٨ ب ٢ ح ٥٥٣٩ ، تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٢٣٦ ب ٤ ح ١٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٤٢٨ ب ٩٢ ح ٤٤٨٨٦.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٩ ب ٩ ح ٣٣٣٦٧ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٣٥ ب ٢٩ ح ١٩.

٣١٧

محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى.

وثالثة من حيث عملهم ، ويشير اليه قوله عليه‌السلام ، في المقبولة المتقدّمة : «ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم».

ورابعة : بكونه أشبه بقواعدهم واصول دينهم

______________________________________________________

من حيث أخبارهم التي رووها» (محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى) إذ لو كان هناك خبر متروك ولم يكن مستندا للفتوى ، لم يكن الإمام عليه‌السلام يتّقي منه بما هو خبر غير مفتى به.

(وثالثة) : قد تكون التقيّة (من حيث عملهم) فانّه ربّما لم يكن هناك خبر ولا فتوى ، وإنّما كان عمل الخلفاء وأتباعهم على شيء ، بحيث انّه إذا قال الإمام عليه‌السلام على خلاف ذلك الشيء كان سببا لأذاه أو أذى الشيعة (ويشير إليه قوله عليه‌السلام ، في المقبولة المتقدّمة) المرويّة عن عمر بن حنظلة : (ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم (١)) فمجرّد العمل منهم على شيء ولو لم تكن رواية أو فتوى يوجب تقيّة الإمام عليه‌السلام ، وقد ذكرنا معنى قوله عليه‌السلام : أميل في شرح رواية ابن حنظلة.

(ورابعة) : قد تكون التقيّة (بكونه) أي : كون أحد الخبرين المتعارضين (أشبه بقواعدهم) الاصولية مثل : قاعدة القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك (واصول دينهم) أي : أشبه باصول دينهم ، ومن اصول دينهم بالنسبة إلى الله تعالى هو : الجبر والتفويض ، والتجسيم والتشبيه ، تعالى الله عنها علوّا كبيرا ، وبالنسبة إلى المعصومين هو : تجويز السهو والخطأ عليهم ،

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٣١٨

وفروعه ، كما يدلّ عليه الخبر المتقدّم.

وعرفت سابقا قوّة احتمال التفرّع على قواعدهم الفاسدة.

ويخرج الخبر حينئذ عن الحجّية ولو مع عدم المعارض ، كما يدلّ عليه عموم الموصول.

______________________________________________________

مع أنّ القرآن صرّح بعصمتهم حيث يقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) (وفروعه) أي : أشبه بفروع دينهم المبتنية على قواعدهم الباطلة ، فانّه إذا كان هناك خبران دلّ أحدهما ـ مثلا ـ على حرمة ذبيحة أهل الكتاب والآخر على حليته ، فانّه يلزم الأخذ بالحرمة ، لأنّ الحلية أشبه بفروع دين العامّة.

(كما يدلّ عليه) أي : على هذا القسم الرابع من أقسام التقيّة (الخبر المتقدّم) وهو قوله عليه‌السلام : «ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة» (٢) (وعرفت سابقا :

قوّة احتمال) كون الشباهة في الخبر بمعنى : (التفرّع على قواعدهم الفاسدة) لا مجرّد الشباهة ، لكنّا ذكرنا هناك أنّ من المحتمل كفاية مجرّد الشباهة أيضا ، إذ يكفي في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر مجرّد شباهة أحدهما بالعامّة.

(و) كيف كان : فانّه (يخرج الخبر حينئذ) أي : حين كان متفرّعا على قواعد العامّة (عن الحجيّة ولو مع عدم المعارض) وذلك (كما يدلّ عليه عموم الموصول) في قوله عليه‌السلام : «ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة»

__________________

(١) ـ سورة الاحزاب : الآية ٢٣.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٨ ص ٩٨ ب ٣٦ ح ٩ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٣١٨ ب ١٨٣ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٧٩.

٣١٩

الرابع :

إنّ ظاهر الأخبار كون المرجّح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور أو معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفي ، فلو وافق بعضهم بلا مخالفة الباقين ، فالترجيح به مستندة إلى الكليّة المستفادة من الأخبار من الترجيح بكلّ مزيّة.

وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة :

______________________________________________________

فانّ لفظة : «ما» شاملة لصورة وجود الخبر المعارض ، وعدم وجود الخبر المعارض ، وذلك لأنّ تفرّع الخبر على قواعد العامّة في نفسه يوهن الخبر حتّى وان لم يكن له معارض.

الأمر (الرابع : إنّ ظاهر الأخبار) العلاجية الآمرة بأخذ الخبر المخالف للعامّة ، وترك ما وافقهم (كون المرجّح) في الأخذ والترك هو : (موافقة جميع) العامّة (الموجودين في زمان الصدور) أي : في زمان صدور الرواية (أو معظمهم) أي : معظم العامّة (على وجه يصدق الاستغراق العرفي) فاللازم أن يكون الخبر المتروك موافقا لجميع العامّة أو لمعظمهم ، والخبر المأخوذ به مخالفا لجميعهم أو لمعظمهم أيضا.

وعليه : (فلو وافق بعضهم بلا مخالفة الباقين) بأن كان الباقون ساكتين عن الفتوى ـ مثلا ـ في تلك المسألة (فالترجيح به) أي : بسبب مخالفة بعض العامّة (مستندة إلى الكليّة المستفادة من الأخبار) العلاجية المتقدّمة (من الترجيح بكلّ مزيّة) لا أنّ الترجيح يكون بمخالفة العامّة ، لفرض أنّ هذا الخبر ليس مخالفا لكلّ العامّة ، بل إنّما هو مخالف لبعضهم ، وأمّا بعضهم الآخر فهم ساكتون عن حكم المسألة ـ مثلا ـ فيكون من باب الترجيح بكلّ مزيّة.

هذا (وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة) المرويّة عن عمر بن حنظلة

٣٢٠