الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

بعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر ، كالأعدلية والأوثقيّة ، والمرجّح الخارجي من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما ، البعيد في الآخر.

______________________________________________________

المزيّة (بعد الاحتمال الموجود في ذيها) أي : في الخبر ذي المزيّة (بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في) الخبر (الآخر ، كالأعدلية والأوثقيّة) فان احتمال الكذب في خبر الأعدل أبعد من احتماله في خبر العادل ، وكذلك بالنسبة إلى الأوثق والثقة ، والفرق بينهما واضح ، فانّ الأعدل والعادل من لا يعصي الله سبحانه وتعالى بحيث صارت العدالة له ملكة راسخة ، بينما الأوثق والثقة من يمكن أن يكون فاسد العقيدة أو العمل ، لكنّه ثقة من حيث الصدق في اللهجة واللسان.

(و) كيف كان : فانّ (المرجّح الخارجي من هذا القبيل) أي : من قبيل المرجّح الداخلي في انّه يوجب كون احتمال الخلل في الراجح منتفيا ، أو أبعد بالنسبة إلى احتمال الخلل منه في المرجوح ، فيدخل الخبر الراجح فيما لا ريب نسبي فيه من باب شمول الكلي له ، لا من باب تنقيح المناط.

إذن : فالمرجّح الخارجي رجع إلى المرجّح الداخلي ، ويكون من قبيله ، بلا فرق بينهما إلّا في كون احتمال الخلل في المرجّح الداخلي معلوما تفصيلا ، بينما في المرجّح الخارجي معلوما ذلك إجمالا ، كما قال (غاية الأمر) انّ هناك فرقا بين المرجّح الخارجي كالشهرة والندرة ، الذي كلامنا فيه ، وبين المرجّح الداخلي كالتقيّة واللاتقيّة ، من حيث انّ احتمال الخلل معلوم تفصيلا في المرجّح الداخلي ، بينما احتمال الخلل في المرجّح الخارجي معلوم إجمالا بمعنى : (عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما ، البعيد) ذلك الاحتمال نفسه (في الآخر).

٣٤١

بل ذو المزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار.

ومن هنا يمكن أن يستدلّ على المطلب

______________________________________________________

مثلا : في التقيّة واللاتقيّة المعدودة من المرجّحات الداخلية ، يعلم تفصيلا بأنّ احتمال الخلل القريب في المرجوح ، والبعيد في الراجح ، هو الموافقة واللاموافقة للعامّة ، بينما في مثل الشهرة والندرة ، لا يعلم تفصيلا بأنّ احتمال الخلل القريب في النادر المرجوح ، والبعيد في المشهور الراجح ، هل هو : الأقربيّة وعدم الأقربية إلى الواقع ، أو هو التقيّة وعدم التقيّة ـ مثلا ـ؟ فالخلل في المرجّح الخارجي غير معلوم تفصيلا وإنّما هو معلوم إجمالا ـ على ما عرفت ـ.

الثالث : (بل ذو المزيّة) حتّى وان كانت المزيّة بسبب المرجّح الخارجي فهو (داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار) وذلك كما في مرفوعة زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام حيث جاء فيها : «خذ بما يقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك» (١) ومن المعلوم : إنّ الخبر الراجح وان كان بسبب مرجّح خارجي يكون أوثق في النفس من الخبر المرجوح ، وإذا كان أوثق صار منصوصا عليه لأنّ الأوثقية من المرجّحات المنصوصة ، فالمرجّح الخارجي إذن ليس مرجعه فقط إلى المرجّح الداخلي ، بل مرجعه إلى المرجّحات المنصوصة أيضا.

(ومن هنا) أي : ممّا ذكرنا : من انّ المرجّح الخارجي يرجع إلى المرجّح الداخلي ، بل إلى المنصوص عليه في الأخبار العلاجية ، فيكون الخبر الراجح ذا مزيّة فيدخل في الاوثق المنصوص عليه ، مقابل الخبر المرجوح الفاقد للمزيّة ، فانّ منه (يمكن أن يستدلّ على المطلب) وهو الترجيح بالمرجّحات الخارجية

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

٣٤٢

بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على عدم شمولها للمقام.

من حيث إنّ الظاهر من الاقوى أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو ، لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجيّة.

فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح ، مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه.

______________________________________________________

(بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين) فانّ أقوى الدليلين كما يكون بالمرجّح الداخلي يكون بالمرجّح الخارجي أيضا ، فيكون الاجماع المدّعى شاملا للمقام بلا حاجة إلى إرجاع المرجّح الخارجي إلى المرجّح الداخلي ، وذلك حتّى (بناء على عدم شمولها) أي : عدم شمول دعوى الاجماع (للمقام) أي : للمرجّح الخارجي بما هو هو.

وإنّما قال : بناء على عدم شمول دعوى الاجماع للمرجّح الخارجي بما هو ، لأنّه (من حيث انّ الظاهر من الأقوى) أي : من أقوى الدليلين الذي ادّعى الاجماع على وجوب العمل به هو : (أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو) أي : بأن يكون المرجّح مرجّحا داخليا (لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع) حتّى ولو كان المرجّح مرجّحا خارجيا كما لو كان (لموافقة أمارة خارجية) فانّه حتّى بناء على ذلك يمكن الاستدلال به للمقام ، وذلك بحسب التقريب الذي بيّنه المصنّف بقوله التالي (فيقال في تقريب الاستدلال) على شمول الاجماع المدّعى لما نحن فيه من الترجيح بالمرجّحات الخارجية : (انّ الأمارة) الخارجية كالشهرة (موجبة لظنّ خلل) أي : نقص وعيب (في المرجوح ، مفقود) ذلك الخلل والعيب (في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه) وإذا كان أقوى في نفسه

٣٤٣

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، وأمّا الحاصلة من الأمارة الخارجية التي دلّ الدليل على عدم العبرة به من حيث دخوله في ما لا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح ، ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة به في مقام الترجيح ، كمقام الحجّيّة.

______________________________________________________

ولو إجمالا ـ لا تفصيلا على ما ألمعنا إلى جهة الاجمال والتفصيل سابقا ـ فيشمله حينئذ الاجماع المدّعى.

(فإن قلت) في ردّ هذا الاستدلال : (انّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع اعتبار المزيّة الداخلية القائمة بنفس الدليل) لا من خارجه ، فيكون الترجيح بالمرجّح الداخلي فقط (وامّا) المزيّة (الحاصلة من الأمارة الخارجية التي) هي كالشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك ، ممّا (دلّ الدليل على عدم العبرة به) علما بأنّ الدليل إنّما دلّ هنا على عدم العبرة به (من حيث دخوله) أي : دخول مثل الشهرة من الأمارات الخارجية (فيما لا يعلم) وجود دليل عليه يعني : لا فيما يعلم وجود الدليل على عدمه.

وعليه : فإذا كانت الأمارة الخارجية ممّا لا يعلم وجود دليل عليه (فلا اعتبار بكشفها) أي : بكشف تلك الأمارة الخارجية كالشهرة ـ مثلا ـ (عن الخلل في المرجوح ، و) ذلك لأنّ الشارع لم يعتبر مثل هذا المرجّح ، وإذا لم يعتبره مرجّحا فلا يصحّ الترجيح به ، ومعه يكون (لا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة به في مقام الترجيح ، كمقام الحجيّة) فكما انّ القياس الذي قال الشارع بعدم حجيّته لا يكون مرجّحا ، فكذلك الاجماع المنقول الذي لم يقل الشارع بأنّه حجّة لا يكون مرجّحا أيضا ، وحينئذ يكون ما لم يعلم العبرة به ، كما علم عدم العبرة به.

٣٤٤

هذا ، مع أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن الخلل في المرجوح ؛ لأن الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ما له مدخل في الطريقيّة.

ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك ؛ لأن الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع.

______________________________________________________

(هذا) كلّه أوّلا ، وثانيا : (مع انّه لا معنى لكشف الأمارة) الخارجية (عن الخلل في المرجوح ، لأنّ الخلل في الدليل من حيث انّه دليل) إنّما هو بمعنى وجود (قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما) أي : تساوي الخبرين المتعارضين في الظاهر ، فلا قصور في طريقيّة المرجوح ، ومعه فيتساوى المرجوح مع الراجح (في جميع ما له مدخل في الطريقيّة) وإذا كان كذلك فلا وجه لتقديم الراجح بسبب أمارة خارجية على المرجوح ، لأنّ الظنّ بمخالفة مضمون أحد الخبرين للواقع إذا كان حاصلا من أمارة خارجيّة كالشهرة ـ مثلا ـ لا يكون مسقطا له ، وإنّما المسقط له هو أن يكون خلل في سنده أو دلالته أو جهة صدوره.

(و) عليه : فانّ (مجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع) حتّى ولو كان ذلك الظنّ آتيا من الشهرة ـ مثلا ـ (لا يوجب خللا في ذلك) التساوي المفروض للخبرين من حيث الطريقيّة ، وذلك (لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع) بل هي منوطة بإفادة الظنّ النوعي ، ومن الواضح : انّ الظنّ النوعي كما يحصل من الراجح ، فكذلك يحصل من المرجوح ، ومعه فلا وجه للترجيح بالمرجّحات الخارجية.

٣٤٥

قلت : أمّا النصّ ، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام : «لأن المجمع عليه لا ريب فيه» وقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» لما نحن فيه ، بل قوله : «فإنّ الرشد فيما خالفهم» ، وكذا التعليل في رواية الأرجائي : «لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه

______________________________________________________

(قلت) في جواب هذا القائل : بأنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع هو :

اعتبار المزيّة الداخلية فقط ، انّه ليس بتامّ ، وذلك لأنّه (أمّا النصّ فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام : لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه) (١) علما بأنّ المراد من المجمع عليه ـ على ما عرفت سابقا ـ هو : الخبر المشهور ، المقابل للشاذّ النادر.

(و) كذا عموم التعليل في (قوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (٢) فانّ التعليل فيهما شامل (لما نحن فيه) من المرجّحات الخارجية ، وذلك على ما عرفت : من إنّ المرجّح الخارجي أيضا يوجب كون الراجح ممّا لا ريب فيه ، بالنسبة إلى المرجوح الذي فيه الريب النسبي.

(بل قوله) عليه‌السلام : (فانّ الرشد فيما خالفهم) (٣) أيضا شامل لما نحن فيه من المرجّحات الخارجية ، إذ لا شكّ في انّ المرجّح الخارجي يوجب في الخبر الراجح رشدا ، هو مفقود في الخبر المرجوح.

(وكذا التعليل في رواية الأرجائي : لم امرتم بالأخذ بخلاف ما عليه

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

(٢) ـ غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٩٤ ح ٤٠ ، المعجم الكبير : ج ٢٢ ص ١٤٧ ح ٣٩٩ ، الغارات : ص ١٣٥ ، كنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥١ ، الذكرى : ص ١٣٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٦ وص ١٧٠ ب ١٢ ح ٣٣٥١٧.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٨ ، ديباجة الكافي.

٣٤٦

العامّة» وارد في المرجّح الخارجي ؛ لأن مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور.

وأمّا معقد الاجماعات ، فالظاهر أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولا ، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع.

______________________________________________________

العامّة؟ (١) إلى آخره ، فانّه (وارد في المرجّح الخارجي) لا المرجّح الداخلي ، وذلك (لأنّ مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور) في كونها مرجّحا خارجيا ، وإنّما تكون مرجّحا خارجيا ، لأنّ المرجّح هنا هو : وجود حكم من العامّة ـ خارجا ـ مخالف للخبر ، وليس هو عنوان المخالفة القائم بنفس الخبر ، وإذا دلّ خبر الأرجائي وغيره على الترجيح بمخالفة العامّة وهو مرجّح خارجي ، تعدّينا منه إلى الترجيح بكلّ ما هو مرجّح خارجي.

هذا بالنسبة إلى النصّ (وأمّا معقد الاجماعات) أي : معقد المدّعى كونه على وجوب العمل بأقوى الدليلين (فالظاهر : إنّ المراد منه) أي : من أقوى الدليلين هو : (الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولا ، ولو) كان التوصّل إلى معرفة هذا المراد من أقوى الدليلين يتمّ (بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا : من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربية إلى الواقع) ومعلوم : انّ أقوى الدليلين أقرب إلى الواقع سواء حصلت القوّة من المرجّح الداخلي أم من المرجّح الخارجي ، فانّ العلماء قد فهموا من الأدلّة هذا الملاك ، وجعلوه مناطا للترجيح ، وفهمهم حيث انّهم من العرف الذين القي إليهم الكلام ، يكون دليلا على ما ذكرناه من كفاية الترجيح بالمرجّحات الخارجية غير المنصوصة أيضا.

__________________

(١) ـ علل الشرائع : ص ٥٣١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٦ ب ٩ ح ٣٣٣٥٧.

٣٤٧

كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس ، ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان.

______________________________________________________

ثمّ انّ المصنّف أخذ يبيّن تلك القرينة الظاهرة من العلماء بقوله : (كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربية إلى الواقع ، مثل ما سيجيء) ان شاء الله تعالى (من كلماتهم في الترجيح بالقياس) فانّ بعض العلماء جعل القياس من المرجّحات أيضا ، مستدلا له : بأنّه يوجب قوّة في الخبر الموافق للقياس بما لا يوجد مثله في الخبر الآخر المعارض له.

(ومثل : الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل) حيث انّ الخبرين المتعارضين إذا وافق أحدهما الأصل ، جعل بعض العلماء ذلك الأصل الموافق ، المسمّى بالمقرّر مرجّحا للخبر الذي وافق الأصل ، مستدلا لذلك : (بأنّ الظنّ) النوعي (في الخبر الموافق له) أي : الموافق للأصل (أقوى) من الظنّ النوعي في الخبر غير الموافق للأصل.

(و) مثل الاستدلال من بعض العلماء (على الترجيح بمخالفة الأصل) مستدلا على ذلك (بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان) والذي يحتاج إلى البيان هنا هو المخالف للأصل المسمّى بالناقل ، لا الموافق للأصل المسمّى بالمقرّر ، فإذا تعارض خبران أحدهما يدلّ على إباحة شيء ، والآخر على حرمته ، قدّم هؤلاء الفقهاء الحرمة على الاباحة ، لأنّ الحرمة تأسيس ، بينما الحلّ تأكيد ، ممّا ظاهره انّ في الترجيح بالأصل قولين : قول بأنّ الأصل يوجب أن يكون نفس

٣٤٨

واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ، مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع في ما كان حجّيّتهما من حيث الطريقيّة ، فتأمّل.

______________________________________________________

الخبر الموافق له راجحا ، وقول بأنّ الأصل يوجب أن يكون طرفه الآخر المخالف له راجحا.

(و) مثل (استدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة) أي : الشهرة العملية ، مستدلا لذلك (بأنّ الكثرة أمارة الرجحان) لأنّه يوجب الظنّ النوعي (والعمل بالراجح واجب) على ما عرفت ذلك من الأدلّة.

(وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم) ممّا يدلّ على انّ المرجّحات الخارجية غير المنصوصة أيضا توجب تقديم الراجح على غيره.

هذا (مع انّه يمكن) مضافا إلى ما ذكر من النصّ ومعاقد الاجماع (دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع فيما كان حجّيتهما) أي : حجيّة الخبرين المتعارضين (من حيث الطريقيّة) لا السببيّة ، فانّه إذا قلنا بحجيّة الأخبار من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب السببيّة والموضوعيّة ، أمكن دعوى استقلال العقل بوجوب أخذ أقرب الطريقين إلى الواقع ، إضافة إلى ما مرّ من التمسّك بالنصّ ومعاقد الاجماع ، بل ربّما يؤيّد ذلك دلالة الآيات عليه أيضا ، كقوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (١)؟ ممّا يدلّ على انّ اللازم اتّباع الأحقّ.

(فتأمّل) فانّ حصر اخبار العلاج ، المزايا التي يصحّ الترجيح بها في امور

__________________

(١) ـ سورة يونس : الآية ٣٥.

٣٤٩

بقي في المقام أمران :

أحدهما :

إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص ، كالقياس ، هل هي من المرجّحات أم لا؟ ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه ، وحكي عن المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحا ، قال : «ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك

______________________________________________________

خاصّة ، ثمّ الأمر بعدها بالتخيير ، يدلّ على انّه لا مرجّح غير هذه المرجّحات المنصوصة ، فمع عدمها يكون الأصل هو التخيير ، ومعه فلا وجه لترجيح خبر على خبر بمرجّح غير منصوص.

(بقى في المقام) أي : مقام المرجّحات الخارجية (أمران) كالتالي :

(أحدهما : إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص ـ كالقياس ـ هل هي من المرجّحات أم لا؟) فإذا كان هناك خبران متساويان من جميع الحيثيّات ، إلّا انّ أحدهما يوافق القياس ، والآخر يخالف القياس ، فهل نقول بلزوم الأخذ بموافق القياس أم لا ، بل اللازم القول بالتخيير بينهما؟.

(ظاهر المعظم : العدم) فانّ القياس لا يكون مرجّحا (كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلالية في الفقه) حيث انّا لم نجد في الفقهاء من الشيخ الطوسي إلى صاحب الجواهر أحدا يرجّح بعض الأخبار على بعضها بسبب القياس.

هذا (و) لكن (حكي عن المحقّق في المعارج عن بعض : القول بكون القياس مرجّحا) لخبر على خبر آخر ، فانّ المحقّق (قال : ذهب ذاهب إلى انّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك) أي :

٣٥٠

وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين.

فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل باحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل ،

______________________________________________________

توافق القياس مع الخبر (وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر) الموافق للقياس على الخبر الذي لا يوافق القياس.

(ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين) إذ من المعلوم : انّ الحقّ واحد غير متعدّد وان كان الباطل كثيرا متعدّدا ، ومعه (فلا يمكن العمل بهما) أي : بالخبرين معا لتعارضهما (ولا طرحهما) معا ، لأنّ دليل الحجيّة يشمل أحدهما (فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير : تقدير التعارض) لفرض انّ الخبرين متعارضان (فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح) داخلي أو خارجي (والقياس يصلح ان يكون مرجّحا لحصول الظنّ به) ظنّا نوعيا (فتعيّن العمل بما طابقه) أي : طابق القياس من الخبرين ، لأنّ الظنّ النوعي فيه أقوى من الظنّ النوعي في الخبر المرجوح الذي لا يوافق القياس.

(لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة) فكيف تجعلون مع ذلك القياس مرجّحا؟.

(لأنّا نقول) : انّ طرح القياس والردع عنه في الشريعة إنّما هو (بمعنى : انّه ليس بدليل) مستقل ، كالكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، كما يجعله العامّة دليلا

٣٥١

لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا ، كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر» ، انتهى.

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين.

______________________________________________________

مستقلا (لا بمعنى : انّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين) على الآخر.

(و) عليه : فانّ (هذا) الذي جوّزناه من الترجيح بالقياس إنّما هو (لأنّ فائدة كونه) أي : القياس (مرجّحا ، كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح) المعارض للخبر المطابق للقياس بمعنى : كون القياس رافعا للمانع لا انّه مقتض للحكم ، ومعه (فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به) أي : بالخبر السليم نتيجة ، وذلك مشمول لأدلّة حجيّة الخبر (لا بذلك القياس) حتّى يكون من إدخال القياس في الشريعة.

(وفيه نظر (١)) لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى : من انّ هذا نوع من إدخال القياس في الشريعة ، وذلك لأنّ الشارع قال بعد تساوي الخبرين من جميع الجهات : «إذن : فتخيّر» (٢) بينما أنتم تريدون ترجيح خبر على خبر بسبب القياس (انتهى) كلام المعارج.

(ومال إلى ذلك) أي : إلى كلام المعارج (بعض سادة مشايخنا المعاصرين) ويقصد من بعض السادة : السيّد محمّد المجاهد صاحب المناهل والمفاتيح ، كما ويقصد بمشايخه المعاصرين : شريف العلماء ، فانّ السيّد المجاهد الذي

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ١٨٦.

(٢) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

٣٥٢

والحق خلافه ؛ لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض ، والرجوع معه إلى الاصول ، وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله

______________________________________________________

هو استاذ استاذه مال إلى كلام المعارج ، لكن المصنّف حيث لم يرتض ذلك قال : (والحق خلافه) فانّه لا يكون القياس مرجّحا.

وإنّما لا يكون القياس مرجّحا (لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس) أي : إسقاط ذلك الخبر المرجوح بسبب القياس الموافق للراجح هو (عمل به) أي : عمل بالقياس (حقيقة) لأنّ القياس حينئذ يقلب التخيير بين الخبرين إلى تعيين أحد الخبرين ، فيكون حينئذ (كرفع) القياس (العمل بالخبر السليم عن المعارض ، والرجوع معه) أي : مع وجود ذلك الخبر الذي لا معارض له (إلى الاصول) العمليّة لفرض سقوط الخبر بمخالفة القياس ، وكما انّ طرح الخبر الذي لا معارض له بسبب مخالفته للقياس يكون طرحا للخبر بلا سبب شرعي ، فكذلك طرح الخبر المخالف للقياس في مورد تعارض الخبرين يكون طرحا للخبر بلا سبب شرعي.

إن قلت : هناك فرق بين طرح الخبر المخالف للقياس في مورد انفراد الخبر وعدم التعارض ، وبين طرح الخبر المخالف للقياس في مورد تعارض الخبرين.

قلت : (وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل) وجوبا تعيينيا (بالخبر السليم عن المعارض) إذا كان ذلك الخبر مخالفا للقياس (وجعله) أي : جعل

٣٥٣

كالمعدوم حتى يرجع إلى الأصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر للتكافؤ لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتى يتعيّن العمل بالخبر الآخر.

ثمّ إنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا ، ولذا استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ، ولم نجد منهم موضعا يرجّحونه به ، ولو لا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاصول

______________________________________________________

الخبر المخالف للقياس (كالمعدوم حتّى) كأن لم يكن خبر رأسا ، وإذا لم يكن في مورد خبر ، يلزم أن (يرجع إلى الأصل) فانّه لا فرق بينه (وبين رفعه) أي : رفع القياس (لجواز العمل بالخبر) المخالف للقياس جوازا تخييريّا (للتكافؤ لخبر آخر) موافق للقياس (وجعله) أي : جعل ذلك الخبر المخالف للقياس (كالمعدوم حتّى يتعيّن العمل بالخبر الآخر) الموافق للقياس ، فانّه لا فرق بينهما من حيث انّهما معا إدخال للقياس في الدين.

والحاصل : انّ القياس ، كما لا يسقط الخبر المنفرد الذي لا معارض له ، فكذلك لا يسقط الخبر الذي له معارض.

(ثمّ) انّه لو سلّمنا انّ الترجيح بسبب القياس ليس عملا بالقياس ، بل هو عمل بالخبر الراجح ، إلّا (انّ الممنوع) في الشريعة بحسب الأدلّة ، ليس هو خصوص العمل بالقياس ، بل (هو الاعتناء بالقياس مطلقا) سواء جعل مستندا ، أو مرجّحا ، أو موهنا.

(ولذا) أي : لأجل ما قلناه : من انّ القياس ممنوع في الشريعة مطلقا (استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح) كما ذكرناه سابقا (ولم نجد منهم موضعا يرجّحونه) أي : يرجّحون الخبر (به) أي : بالقياس (ولو لا ذلك) الهجر المطلق (لوجب تدوين شروط القياس في الاصول) كما التزموا

٣٥٤

ليرجّح به في الفروع.

الثاني :

في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة إلى المرجّحات السابقة.

فنقول أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات.

نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة.

فهو يسقطه عن الحجّيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين.

______________________________________________________

بتدوين شروط سائر المرجّحات (ليرجّح به) أي : بالقياس (في الفروع) كما يرجّحون فيه بسائر المرجّحات ، وذلك على غرار ما فعله العامّة بالنسبة إلى القياس.

(الثاني : في مرتبة هذا المرجّح) الخارجي (بالنسبة إلى المرجّحات السابقة) من المرجّح الدلالي ، والمرجّح الصدوري ، والمرجّح من جهة الصدور (فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة) كالجمع بين العامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والظاهر والأظهر ، أو الظاهر والنصّ (فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات) السندية وجهة الصدور وغيرهما.

(نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة) كما إذا كان هناك عام وخاص ، أو مطلق ومقيّد ، فالخاص الذي هو أرجح دلالة يخصّص العامّ ، وكذلك المقيّد يقيّد المطلق ، لكن لو كان المشهور قد عملوا بالعام والمطلق من غير اعتناء بالخاص والمقيّد ، ممّا يرى الفقيه انّ عملهم موهن لهذا الخاص والمقيّد (فهو) أي : هذا المرجّح الخارجي حينئذ (يسقطه) أي : يسقط الأرجح دلالة (عن الحجيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين).

وإنّما يسقط هذا المرجّح الخارجي الأرجح دلالة كالخاص والمقيّد

٣٥٥

ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور والمعتضد بالامور الخارجيّة الأخر على الخاصّ.

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهر مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجي ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛

______________________________________________________

عن الحجيّة لأنّ الخاص والمقيّد الذي لم يعمل بهما المشهور لا يكون معارضا للعامّ والمطلق الذي عمل بهما المشهور ، فالعام والمطلق حجّة والخاص والمقيّد ليس بحجّة.

(ومن هنا) أي : من انّ المرجّح الخارجي ربّما يكون موهنا للأرجح دلالة ومسقطا له عن الحجيّة (قد يقدّم العام المشهور والمعتضد بالامور الخارجية الأخر على الخاص) ولذا أخذ المشهور بعموم : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) (١) وطرحوا الخاص الذي يدلّ على جواز التمتّع بأمة المرأة من دون إذن سيّدتها.

(وأمّا) مرتبة المرجّح الخارجي الذي نحن فيه مع (الترجيح من حيث السند) الذي هو مرجّح صدوري داخلي ، وذلك كما لو كان سند أحدهما أرجح من سند الآخر ، ولكن كان المرجوح سندا أوفق للشهرة (فظاهر مقبولة ابن حنظلة (٢) تقديمه على المرجّح الخارجي) أي : تقديم الأرجح صدورا على الأوفق للشهرة ، حيث انّ المقبولة قدّمت الترجيح بصفات الراوي التي هي من المرجّحات الداخلية ، على الترجيح بالشهرة التي هي من المرجّحات الخارجية.

(لكن الظاهر) من القواعد (انّ الأمر بالعكس) أي : تقديم المرجّح

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٢٥.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٣٥٦

لأن رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل اقرب إلى الصدق من غيره.

بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدّق الأعدل وكذّب العادل ، فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة ، وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ،

______________________________________________________

الخارجي على المرجّح السندي ، وذلك (لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع) ممّا يظهر منه انّ ملاك الترجيح هو : الأقربية إلى الواقع ، ومعه فكلّما وجد هذا الملاك في أحد المتعارضين رجّح به.

وعليه : فإذا كان الملاك هو الأقرب إلى الصدق والواقع (فانّ الأعدل أقرب إلى الصدق من غيره) أي : من غير الأعدل وهو : العادل هنا لكن لا فعلا ، بل شأنا (بمعنى : انّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون) ظنّا نوعيا (صدّق الأعدل وكذّب العادل) وعلى هذا الملاك (فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع) ظنّا نوعيا ـ فعلا ـ لوجود المرجّح الخارجي كالشهرة (وخبر الأعدل مظنون المخالفة) للواقع (فلا وجه لترجيحه بالأعدلية) بل يؤخذ بالأشهر العادل لأنّه مظنون فعلا ، ويترك النادر الأعدل لأنّه مظنون شأنا ، والفعلي أقرب للواقع من الشأني.

(وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة) الذي هو ترجيح بجهة الصدور فانّ الترجيح به كالترجيح الصدوري إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع قربا شأنيا لا فعليّا ، فإذا فرض وجود الظنّ النوعي الفعلي على انّ الخبر الموافق للعامّة مطابق للواقع بسبب المرجّح الخارجي ، كان المظنون بالفعل أقرب إلى الواقع

٣٥٧

بناء على أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة.

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلا بالاعتبار ، ولو خلّي المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين.

والثاني : ما لا يكون كذلك.

______________________________________________________

من المظنون شأنا ، ومعه فلا وجه لترجيح الخبر المخالف للعامّة بسبب المخالفة لهم لأنّه مظنون المخالفة للواقع.

وعليه : فكما يقدّم المرجّح الخارجي على المرجّح الصدوري ، فكذلك يقدّم المرجّح الخارجي على المرجّح باعتبار جهة الصدور ، وذلك (بناء على انّ الوجه فيه) أي : في الترجيح بمخالفة العامّة (هو نفي احتمال التقيّة) وامّا بناء على انّ الوجه فيه هو كون الخبر المخالف أقرب إلى الواقع ، فهو أيضا من المرجّحات الخارجية حيث تتساوى مرتبتهما ، وحينئذ يكون ترجيح أحدهما منوطا بنظر الفقيه ، فهو الذي يرى تقديم أحدهما على الآخر ، كما هو الحكم في كلّ ما دار بين فردين من صنف من أصناف المرجّحات ، وذلك على ما ألمعنا إليه فيما سبق.

(وأمّا القسم الثاني) : من المرجّح الخارجي (وهو : ما كان مستقلا بالاعتبار ، ولو خلّي المورد عن الخبرين) أي : بأن يكون هو بنفسه حجّة وان لم يكن هناك خبر أصلا (فقد أشرنا إلى انّها على قسمين) أيضا كالتالي :

(الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين) فيفيد الظنّ النوعي بكون الخبر المعتضد مضمونه بذلك المرجّح الخارجي هو أقرب إلى الواقع.

(والثاني : ما لا يكون كذلك) أي : بأن لا يكون المرجّح معاضدا لمضمون

٣٥٨

فمن الأوّل :

الكتاب والسنة : والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين :

أحدهما : إنّ الكتاب دليل مستقل ، فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر.

ثانيهما : إنّ الخبر المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض ، فما ظنّك به معه» ، انتهى.

______________________________________________________

أحد الخبرين ، بل يكون مؤيّدا له تأييدا تعبّديا ، مثل : تأييد الأصل لأحد الخبرين ، فانّه إذا كان الأصل موافقا لأحد الخبرين ، فليس معناه : انّ مضمون ذلك الخبر أقرب إلى الواقع ، بل لو قلنا بأنّ الأصل يؤيّده كان معناه : انّه يؤيّده تأييدا تعبّديا.

(فمن الأوّل : الكتاب والسنّة) الثابتة ، سواء كانت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو سنّة الأئمّة من أهل بيته عليهم‌السلام الثابتة (والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، و) قد ذكرنا سابقا جملة من تلك الأخبار المرجّحة بموافقتهما ، علما بأنّه قد (استدلّ في المعارج على ذلك) أي : على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة (بوجهين) كما يلي :

(أحدهما : انّ الكتاب دليل مستقل) في نفسه (فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر) الذي يوافق الكتاب.

(ثانيهما : انّ الخبر المنافي) للكتاب أو السنّة (لا يعمل به لو انفرد عن المعارض ، فما ظنّك به) أي : بالخبر المنافي للكتاب أو السنّة (معه) (١) أي : مع وجود المعارض؟ (انتهى) كلام المعارج.

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ١٤٥.

٣٥٩

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيته مع معارضته بظاهر الكتاب ، أم قلنا بعدم حجّيّته ، فلا يتوهّم التنافي بين دليليه.

ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لأحد المتعارضين.

______________________________________________________

لا يقال : انّ الدليل الأوّل من دليلي المعارج يقتضي أن يكون الخبر المخالف للكتاب أو السنّة حجّة في نفسه لكن قد عارضه الخبر الموافق ، فيكون الكتاب أو السنّة حينئذ مرجّحا للموافق على المخالف ، بينما دليله الثاني يقتضي أن يكون الخبر المخالف ليس بحجّة أصلا ، وذلك يوجب تنافيا بين دليليه.

لأنّه يقال : (وغرضه) أي : غرض المعارج من الدليلين انّه على تقديرين بمعنى : (الاستدلال على طرح الخبر المنافي) للكتاب أو السنّة (سواء قلنا بحجيّته مع معارضته بظاهر الكتاب) أو السنّة ، كما هو مقتضى دليله الأوّل (أم قلنا بعدم حجيّته) لمعارضته الكتاب أو السنّة ، كما هو مقتضى دليله الثاني (فلا يتوهّم التنافي بين دليليه).

ولكن لا يخفى : إنّ الخبر المنافي للكتاب إذا لم يحتمل تأويل فيه لم يكن حجّة أصلا ، لأنّه يكون حينئذ من الزخرف والباطل وممّا يجب ضربه على الحائط.

(ثمّ انّ توضيح الأمر في هذا المقام) أي : مقام منافاة الخبر للكتاب أو السنّة (يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنّة المطابق لأحد المتعارضين) حتّى يعرف انّ أيّ الأخبار مناف لظاهرهما ، وأيّ الأخبار ليس مناف لظاهرهما؟

٣٦٠