الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

والأظهر ، وإما لأجل مرجّح آخر ، قدّم ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات ، فقد تنقلب النسبة وقد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : «اكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم ، ويستحب إكرام العدول» ، فإنّه إذا خصّ العلماء بعدولهم

______________________________________________________

والأظهر) حيث يقدّم النص والأظهر على الظاهر (وإمّا لأجل مرجّح آخر) غير جهة الدلالة ، كالترجيح باعتبار الصدور أو جهة الصدور ، فانّه إذا كان كذلك (قدّم ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات) لمعرفة هل انّ النسبة هي التباين ، أو العموم المطلق ، أو العموم من وجه؟.

ثمّ انّه إذا قدّم ما حقّه التقديم (فقد) لا تنقلب النسبة بعده ، بل تبقى على ما كانت عليه ، وقد (تنقلب النسبة) عمّا كانت عليه ، كما إذا كانت في السابق على كيفيّة فانقلبت بعد التقديم على كيفيّة اخرى (و) مع انقلاب النسبة : فقد لا يحدث بسبب الانقلاب ترجيح دلالي بعده ، و (قد يحدث الترجيح) الدلالي بعده.

أمّا مثال انقلاب النسبة وحدوث الترجيح الدلالي بعده ، فهو : (كما إذا ورد أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم ، ويستحبّ إكرام العدول) فإنّ نسبة أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم هو : العموم المطلق ، ونسبة أكرم العلماء ، ويستحبّ إكرام العدول ، هو : العموم من وجه ، حيث يكون مورد الافتراق من جانب الأوّل هو : العالم الفاسق ، ومن جانب الثاني هو : العادل غير العالم ، ويجتمعان في العالم العادل ، حيث يقول أكرم : بوجوب اكرامه ، ويقول يستحبّ : باستحباب اكرامه ، فانّ النسبة إذن بين هذه المتعارضات كما عرفت مختلفة وبعد تقديم ما من حقّة التقديم تنقلب النسبة ويحدث الترجيح الدلالي أيضا.

وعليه : (فانّه إذا خصّ العلماء بعدولهم) بسبب دليل لا تكرم فسّاقهم ، تنقلب

٢٤١

يصير أخصّ مطلقا من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم ، والسرّ في ذلك واضح ، إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأسا ، وكلاهما باطل.

______________________________________________________

النسبة بينهما ، يعني : (يصير) العلماء (أخصّ مطلقا من العدول) فيكون كأنّه قال : أكرم العلماء العدول ، ويستحبّ إكرام العدول ، ومن المعلوم : إنّ العدول في يستحبّ اكرام العدول أعمّ مطلقا من العلماء ، فيحدث الترجيح الدلالي بينهما (فيخصّص العدول بغير علمائهم) لأنّ العلماء العدول لما دخلوا في وجوب الاكرام ، بقي لقوله : يستحبّ اكرام العدول بعده ، العدول الذين ليسوا بعلماء فقط.

(والسرّ في ذلك) أي : في تقديم ما من حقّه التقديم ، ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي بعده (واضح ، إذ لو لا الترتيب في العلاج) على النحو الذي ذكرناه (لزم الغاء النصّ) وإبطاله (أو طرح الظاهر المنافي له) أي : للنصّ (رأسا) وذلك لأنّ الظاهر وهو العامّ هنا يبقى لو لا العلاج المذكور بلا مورد ، وبقاؤه بلا مورد في حكم طرحه ، فانّه إذا ورد ـ مثلا ـ أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم فسّاقهم ، وورد : يستحبّ إكرام العدول ، فان أعطينا العلماء العدول ل «يستحبّ» ، وأعطينا العلماء الفسّاق ل «لا تكرم» ، لم يبق فرد لأكرم العلماء (وكلاهما باطل) أمّا بطلان إلغاء النصّ ، فلأنّ النصّ قرينة على طرح الظاهر ، ومعه فلا يعقل طرح النصّ لأجل الظاهر ، وأمّا بطلان طرح الظاهر المنافي للنصّ رأسا ، فلأنّ صدور عامّ لا مورد له قبيح ، ولذلك يلزم تقديم ما من حقّه التقديم ، ثمّ ملاحظة النسبة.

أقول : لا يخفى إنّ ما ذكره المصنّف من وجه التقديم هنا هو وجه اعتباري ، وليس هو من مراعاة الظهور الذي هو المعيار في دلالة الألفاظ ، وذلك لأنّ هذه الجمل الثلاث يتحيّر العرف في انّه ما ذا يفعل بها بعد كونها في مرتبة واحدة

٢٤٢

وقد ينقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة ، كما لو ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويستحب إكرام الشعراء».

فإذا فرضنا أنّ الفساق أكثر فردا من العلماء ، خصّ بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ،

______________________________________________________

من دون رجحان لبعضها على بعض ، ومعه فإذا كانت هناك قرينة تعيّن أحد الأطراف فهو ، وإلّا كان اللازم الرجوع إلى الاصول العملية.

هذا (وقد ينقلب النسبة فيحدث الترجيح) الدلالي بعد انقلاب النسبة (في المتعارضات) التي كانت قبل ذلك (بنسبة واحدة ، كما لو ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء») فانّ نسبة كلّ منها مع الآخرين هو : العموم من وجه ، كما إنّ النسبة بين العلماء والفسّاق أيضا عموم من وجه ، وكذلك بين العلماء والشعراء ، وهكذا بين الفسّاق والشعراء ، فالنسبة إذن بين الجميع هي نسبة واحدة ، ولكن حيث انّ الكلام الآن في المتعارضات بنسبة مختلفة ، نفرض قلّة أفراد بعضها عن البعض الآخر ، فإذا فرضنا ذلك ، كان الأقل فردا بالنسبة إلى الأكثر فردا بمنزلة الخاص إلى العام ، فتنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، ويكون المثال حينئذ مثالا للمتعارضات بنسبة مختلفة.

وعليه : (فإذا فرضنا أنّ الفسّاق أكثر فردا من العلماء ، خصّ) حرمة إكرام الفسّاق (بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة) أي : عن حرمة الاكرام فيجب اكرامه.

وإنّما يخرج العالم الفاسق عن حرمة الاكرام لأنّه قد مرّ سابقا : إنّ العامّين من وجه ، لو كان أحدهما أكثر أفرادا والآخر أقلّ أفرادا ، أعطينا مادّة الاجتماع للأقل

٢٤٣

ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفساق مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

ثمّ إذا فرض أنّ الفساق بعد إخراج العلماء أقلّ فردا من الشعراء ، خصّ الشعراء به ، فالفاسق الشاعر غير مستحب الاكرام ، فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفساق أقلّ موردا من العلماء ، خصّ دليل العلماء بدليله ، فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحب الاكرام.

______________________________________________________

أفرادا ، لأنّ الأقل أفرادا يكون بمنزلة الخاص المطلق بالنسبة إلى الأكثر أفرادا ، فيلزم تخصيص الأكثر بالأقل ، وأيضا حتّى لا يستلزم التخصيص المستهجن (و) حينئذ (يبقى الفرد الشاعر من العلماء الفسّاق) الذي هو مادّة اجتماع الكل حيث يكون مجمعا للعمومات الثلاثة : عالما فاسقا شاعرا ، يبقى (مردّدا بين الوجوب والاستحباب).

هذا إذا فرض انّ الفسّاق أكثر أفرادا من العلماء ، فإذا فرض انقلاب النسبة بعد تخصيص الفسّاق بالعلماء لصيرورة الفسّاق أقل فردا من الشعراء ، فكما قال : (ثمّ إذا فرض أنّ الفسّاق بعد إخراج العلماء أقل فردا من الشعراء ، خصّ الشعراء به) أي : بحرمة إكرام الفسّاق (فالفاسق الشاعر غير مستحبّ الاكرام) وتبقى مادّة اجتماع الكلّ مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

ثمّ إذا فرض انقلاب النسبة بعد تخصيص الشعراء بالفسّاق ، لصيرورة الشعراء أقل فردا من العلماء ، فهو كما قال المصنّف : (فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفسّاق أقلّ موردا من العلماء ، خصّ دليل العلماء بدليله) أي : بدليل الشعراء (فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحبّ الاكرام).

٢٤٤

وقس على ما ذكرنا ، صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض.

والغرض من إطالة الكلام في ذلك التنبيه على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ؛ لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلّات ، والله مقيل العثرات.

______________________________________________________

أقول : لكنّا ذكرنا سابقا : بأنّ أمثال هذه التعليلات لا توجب الترجيح ولا انقلاب النسبة بين المتعارضات ، وذلك لعدم حصول الظهور منها ، كما أنّه لا وجه لتقديم بعضها على بعض حتّى يوجب انقلاب النسبة ، فإذا لم تكن قرائن توجب الظهور عرفا كان المرجع حينئذ الاصول العمليّة.

هذا (وقس على ما ذكرنا) في بحث انقلاب النسبة في : من لزوم رعاية الترتيب لعلاج المتعارضات في صورة وجود المرجّح من جهة الدلالة (صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض) كما إذا كان المرجّح قوّة سند أحدهما دون الآخر ، أو كان جهة الصدور في أحدهما مشهورا بالتقيّة دون الآخر ، أو ما أشبه ذلك.

(و) كيف كان : فانّ (الغرض من إطالة الكلام في ذلك) الذي مرّ من الترجيح النوعي ، والترجيح الصنفي ، وبحث انقلاب النسبة هو : (التنبيه على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض) بين الروايات ، وذلك (لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلّات) العلميّة من بعض ، كما عرفت في مسألة العارية وانّها هل هي مضمونة في النقدين فقط ، أو في مطلق الذهب والفضّة؟ (والله مقيل العثرات) وغافر الخطيئات والزلّات.

٢٤٥

مرجّحات الرواية من الجهات الأخر

وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة على غيرها ، فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الأخر ، فنقول ومن الله التوفيق للاهتداء : قد عرفت : «أنّ الترجيح : إمّا من حيث الصدور ، بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ، بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره وصدور غيره لحكمنا بصدوره ، ومورد هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي ، وقد يكون في المتن ، ككونه أفصح.

______________________________________________________

هذا (وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة) في الرتبة (على غيرها) أي : على المرجّحات من حيث الصدور والسند (فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الأخر ، فنقول ومن الله التوفيق للاهتداء) إلى سواء الطريق : (قد عرفت : أنّ الترجيح) غير الدلالي يتمّ عبر حيثيّات ثلاث :

أوّلا : (إمّا من حيث الصدور) لكن لا بمعنى أنّ الراجح صادق والمرجوح كاذب ، لأنّه لو كان من هذا الباب لم يكن المرجوح حجّة ، بل (بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره) المعارض له (بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره) أي : صدور هذا الراجح (وصدور غيره) المعارض له (لحكمنا بصدوره) أي : صدور هذا الراجح وعدم صدور معارضه (ومورد هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي) فانّ سند هذا الراجح مقدّم على سند المرجوح (وقد يكون في المتن ، ككونه أفصح) وذلك لما ذكرناه سابقا : من أنّ كلام الأئمّة عليه‌السلام أفصح الكلام وأبلغه.

٢٤٦

وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ، فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع ، فيكون أحدهما بحسب المرجّح اقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع.

وإمّا أن يكون من حيث المضمون ، بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع.

______________________________________________________

ثانيا : (وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور) أي : انّه لما ذا صدر من الإمام عليه‌السلام هذا الكلام (فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي) كما هو الأصل (وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة) والتقيّة قد تكون بالنسبة إلى نفس الإمام عليه‌السلام ، أو السامع ، أو الثالث الذي يأخذ الخبر عن الراوي (أو غيرها) أي : غير التقيّة (من مصالح إظهار خلاف الواقع) مثل ما جاء عن الإمام عليه‌السلام في جواب من سأله عن انّه رأى أصحاب الإمام يختلفون؟ فقال عليه‌السلام : «أنا خالفت بينهم» (١) ، والسبب في ذلك هو : أنّ لا يعرف الشيعة على وتيرة واحدة ، فيكونوا مورد مؤاخذة سلاطين الجور (فيكون أحدهما بحسب المرجّح) المذكور والذي مورده المتن فقط (أقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع) بخلاف الخبر المعارض له الذي هو أبعد عن بيان الحكم الواقعي.

ثالثا : (وإمّا أن يكون من حيث المضمون) علما بأنّ المضمون غير المتن ، لأنّ المصنّف قد مثّل للمتن بالأفصحيّة ، فالمراد بالمضمون المعنى ، وذلك (بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر) أي : في نظر الفقيه (إلى الواقع) ولذا إذا كان أحد الخبرين أفصح ، والخبر الآخر أقرب مضمونا إلى الواقع ، يحصل

__________________

(١) ـ عدة الاصول : ج ١ ص ١٣٠.

٢٤٧

وأمّا تقسيم الاصوليين المرجّحات إلى السنديّة والمتنيّة ، فهو باعتبار مورد المرجّح ، لا باعتبار مورد الرجحان.

ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة : مثل الفصيح والأفصح والنقل باللفظ والمعنى ،

______________________________________________________

التعارض بين الرجحان في هذا والرجحان في ذاك.

(وأمّا تقسيم الاصوليين المرجّحات) الدلالية وغير الدلالية (إلى السنديّة والمتنيّة) فقط ، دون سائر أقسام المرجّحات التي ذكرناها (فهو باعتبار مورد المرجّح) علما بأنّ مورد المرجّح ومحلّه هو : إمّا السند ، وإمّا المتن ، ولا ثالث ، فإذا كان هو السند دخل فيه العدالة وغيرها ممّا يرتبط بالسند ، وإذا كان هو المتن دخل فيه الأفصحية وغيرها ممّا يرتبط بالمتن.

إذن : فالتقسيم الثنائي هو باعتبار مورد المرجّح ومحلّه (لا باعتبار مورد الرجحان) ومحلّه ، فانّ المورد الذي ينزل فيه الرجحان هو : إمّا متن أو سند ولا ثالث ، بينما المورد الذي يخرج منه الرّجحان ليصل إلى المتن أو إلى السند هو : أعمّ من المتن والسند ، إذ قد يكون الرجحان بسبب الكتاب أو السنّة أو الشهرة أو الاجماع أو ما أشبه ذلك ، وهذه كلّها خارجة عن السند والمتن ، فالاصوليون إذن لاحظوا مورد المرجّح ، والمصنّف لاحظ مورد الرجحان.

(ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة : مثل الفصيح والأفصح) فانّ مورد هذين من حيث المرجّح هو : المتن بينما موردهما من حيث الرّجحان هو : الصدور ، والاصوليون بالاعتبار عدّوهما من المرجّحات المتنيّة.

(و) هكذا (النقل باللفظ والمعنى) فانّ موردهما من حيث المرجّح هو : المتن ، لكن من حيث الرجحان هو : المضمون.

٢٤٨

بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك.

ونحن نذكر إن شاء الله تعالى نبذا من القسمين ؛ لأن استيفاء الجميع تطويل لا حاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط : كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه‌السلام ، لبيان الحكم الواقعي.

أمّا الترجيح بالسند ، فبأمور :

منها : كون أحد الراويين عدلا ، والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزا عن الكذب.

______________________________________________________

(بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك) من الاطلاق والتقييد ـ مثلا ـ في المرجّحات المتنية مع انّها من المرجّحات الدلالية وخارجة عن التعارض لكونها من موارد الجمع العرفي ، فهي إذن باعتبار المرجّح موردها هو : المتن ، وباعتبار الرّجحان موردها هو : الدلالة.

(ونحن نذكر إن شاء الله تعالى نبذا) أي : شيئا يسيرا (من القسمين) أي : من المرجّحات السندية والمتنية حتّى تكون انموذجا لسائر أشباههما ، وذلك (لأنّ استيفاء الجميع تطويل لا حاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط : كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه‌السلام لبيان الحكم الواقعي) من معارضه ، سواء كانت الأقربية من حيث الصدور ، أو من حيث المضمون ، أو من حيث جهة الصدور ، ككون الحكم تقيّة ، أو ليس تقيّة ـ مثلا ـ.

(أمّا الترجيح بالسند ، فبأمور) كالتالي :

(منها : كون أحد الراويين عدلا ، والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه) ثقة بمعنى كونه (متحرّزا عن الكذب) فقد قال الإمام عليه‌السلام : «لا عذر

٢٤٩

ومنها : كونه أعدل ، وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ عليها ، وإمّا بذكر فضائل فيه لم يذكر في الآخر.

ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط.

______________________________________________________

لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (١) بل قال بعضهم : بل مفهوم آية النبأ هو أيضا الوثاقة لأنّ قوله سبحانه : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) (٢) يراد به الفاسق الكلامي ، لأنّه المناسب للخبر ، وأمّا الفاسق الجوارحي الذي هو ثقة في كلامه ، فلا يتعلّل ترك خبره بقوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) (٣) ولذا فلو كان كلّ من الخبرين مقبولا ، لكن كان راوي أحدهما عدلا والآخر ثقة ، فالعدل مقدّم على الثقة.

(ومنها : كونه أعدل) والآخر عادل (وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ) من علماء الرجال (عليها) أي : على الأعدليّة ، كما لو قالوا : بأنّ فلانا أعدل من فلان (وإمّا بذكر فضائل فيه لم يذكر في الآخر) كما لو قالوا في زيد ـ مثلا ـ : انّه عدل ورع تقي يجتنب الشبهات ، ولم يقولوا في الآخر بمثل ذلك ، ولا يخفى انّ الاستقامة التي هي أصل العدالة قد تكون بلا ميل أصلا وهذا هو الأعدل ، وقد تكون مع شيء يسير من الميل وهذا هو العادل.

(ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما) والمراد بأصدقيّة الراوي ـ مع إنّ كلا الراويين صادقان ـ هو : أن يكون خبره أقرب إلى مطابقة الواقع من خبر الآخر (ويدخل في ذلك) أي : في الأصدق (كونه أضبط) لوضوح انّ الأضبط أقرب

__________________

(١) ـ رجال الكشي : ص ٥٣٦ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٣٨ ب ٢ ح ٦١ وج ٢٧ ص ١٥٠ ب ١١ ح ٣٣٤٥٥ ، بحار الانوار : ج ٥٠ ص ٣١٨ ب ٤ ح ١٥.

(٢) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

(٣) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٢٥٠

وفي حكم الترجيح بهذه الامور : أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر ، وأقرب إلى الواقع من جهة تعدّد المزكّي أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر ، ويلحق بذلك التباس اسم المزكّى بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به.

______________________________________________________

إلى الصدق من غير الأضبط.

(وفي حكم الترجيح بهذه الامور) المذكورة (أن يكون طريق ثبوت مناط القبول) من العدالة والوثاقة وغير ذلك (في أحدهما أوضح من الآخر ، وأقرب إلى الواقع) فانّ مناط القبول من العدالة والوثاقة والصداقة وما أشبه ذلك قد يعلم الانسان بها في الراوي ، وقد يصل الانسان إليها عن طريق معتبر ، كاخبار علماء الرجال ، وحيث انّ الطريق بالنسبة إلى أحد الخبرين يكون أرجح من طريق الخبر الآخر ، يكون الخبر نفسه أرجح من الخبر الآخر أيضا.

ثمّ إنّ أرجحية الطريق ربّما يكون (من جهة تعدّد المزكّي) كما لو زكّى أحد الراويين الذين كلاهما حجّة مزكّيان ـ مثلا ـ وزكّى الراوي الآخر شخص واحد إذا قلنا بكفاية الشخص الواحد ، أو زكّى أحدهما نفران وزكّى الآخر ثلاثة أشخاص (أو) يكون أرجحيّة الطريق من جهة (رجحان أحد المزكّيين على الآخر) كما لو كان المزكّي لأحدهما النجاشي ، ومزكّي الآخر ابن الغضائري ، والنجاشي أضبط من ابن الغضائري ـ مثلا ـ.

(ويلحق بذلك التباس اسم المزكّى) أي : الراوي الذي زكّاه علماء الرجال (بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به) فأبو بصير ـ مثلا ـ مشترك بين من هو ثقة ، وبين من هو غير ثقة ، فإذا لم نعلم بأنّ أبا بصير الذي جاء في سند هذه الرواية هو الثقة أو غير الثقة ، ولم يكن هناك ما يميّز أحدهما عن الآخر

٢٥١

ومنها : علو الاسناد ؛ لأنه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ ، وقد يعارض في بعض الموارد بندرة ذلك واستبعاد الاسناد لتباعد أزمنة الرواة ، فيكون مظنّة الارسال

______________________________________________________

تمييزا قويّا حتّى نعرف انّه الثقة ، وإنّما نحتمل لقرائن ضعيفة أنّه الثقة ، ففي هذه الصورة يقدّم الخبر المعارض على هذا الخبر الذي فيه أبو بصير المشترك ، لرجحان ذاك على هذا.

(ومنها : علوّ الاسناد) وهو الخبر الذي يكون الوسائط فيه بين المعصوم وبين المنقول إليه قليلة ، مقابل الخبر الآخر المعارض له الذي يكون الوسائط فيه بين الإمام وبين المنقول إليه كثيرة ، ومن الواضح : إنّ الخبر الواصل بواسطة راويين أرجح من الخبر الواصل بواسطة خمسة رواة ، وذلك (لأنّه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ) وحتّى إذا لم نحتمل الكذب ، فانّ احتمال طروّ الخلل : من الاشتباه والغفلة والسهو والنسيان يكون في الخبر ذي الوسائط الكثيرة أكثر.

هذا (وقد يعارض) علوّ الأسناد (في بعض الموارد) بأحد أمرين : (بندرة ذلك) في رواياتنا ، فانّ أغلب رواياتنا كثيرة الوسائط (واستبعاد الاسناد لتباعد أزمنة الرواة) فإذا كان هناك روايتان ـ مثلا ـ رواهما شيخ الطائفة عن الإمام العسكري عليه‌السلام ، وكانت الوسائط في إحداهما اثنين ، وفي الاخرى خمسة ، فانّ استبعاد أن يكون الواسطة بين الشيخ والإمام العسكري عليه‌السلام اثنين فقط ، يوجب احتمال الارسال في هذه الرواية دون رواية الخمسة ، فتكون رواية الخمسة مع كثرة الوسائط فيها أقرب إلى الواقع من رواية الاثنين.

وعليه : (فيكون) في رواية الاثنين (مظنّة الارسال) لاحتمال سقوط بعض الرواة بين الشيخ وبين الإمام العسكري عليه‌السلام من سند الرواية ، ومعه يتعارض جهة

٢٥٢

والحوالة على نظر المجتهد.

ومنها : أن يرسل أحد الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ، فإنّ المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسل له معارضا بجرح جارح ،

______________________________________________________

علو الأسناد مع جهة الظنّ بالارسال ، وفي الحقيقة يكون من تعارض المرجّحات حيث يكون هنا مرجّح وهناك مرجّح آخر (و) في مثل هذه الامور تكون (الحوالة على نظر المجتهد) فانّ ترجيح علو السند على احتمال الارسال ، أو العكس ، موكول إلى نظر المجتهد ، فهو الذي يرى تقديم هذا المرجّح على ذاك ، أو ذاك على هذا؟ وكذلك في كلّ مرجّحين متعارضين ، كما إذا كان أحدهما أعدل والآخر أفصح.

(ومنها : أن يرسل أحد الراويين) روايته ولا يذكر الواسطة فيها بينه وبين الإمام عليه‌السلام يعني : (فيحذف الواسطة) بينما (ويسند الآخر روايته) وذلك كما لو قال ابن أبي عمير : سمعت عمّن سمع الصادق عليه‌السلام ، وقال محمّد بن مسلم : سمعت فضيل انّه سمع الصادق عليه‌السلام (فانّ) الخبر المسند أرجح من الخبر المرسل ، لأنّ الراوي (المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسل) الذي أرسل الخبر (له) أي : لذلك الراوي المحذوف في غير محلّه ، بأن كان توثيقه له (معارضا بجرح جارح) وحيث انّه محذوف يخفى علينا ذلك.

مثلا : ابن أبي عمير قد يروي الرواية عن زيد ، ثمّ لم يذكر اسم زيد ، وإنّما يرسل الرواية عنه اعتمادا منه عليه لأنّه يرى زيدا ثقة ، لكن قد نراه نحن مجروحا لو كان قد ذكر اسمه ، بينما ليست الرواية الثانية التي ذكر فيها اسم الواسطة كذلك ، لأنّا نعرف الاسم فنعرف انّه ممدوح وليس بمجروح ، ولذا تكون الرواية المسندة

٢٥٣

وهذا الاحتمال منفي في الآخر ، وهذا إذا كان المرسل ممّن تقبل مراسيله ، وإلّا فلا يعارض المسند رأسا ، وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ، ولم يعلم وجهه.

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا وراوي الاخرى واحدا ، أو يكون رواة إحداهما أكثر ،

______________________________________________________

أقوى من الرواية المرسلة كما قال : (وهذا الاحتمال) أي : احتمال أن يكون الواسطة مجروحا بجرح جارح (منفي في الآخر ، و) ذلك لذكر اسم الوسائط فيه ، ونحن نفحص عنهم فلم نجدهم ـ مثلا ـ مجروحين.

(هذا إذا كان المرسل) الذي أرسل الخبر (ممّن تقبل مراسيله) وذلك بأن نعلم انّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة ، كما ذكروا ذلك بالنسبة إلى ابن أبي عمير (وإلّا فلا يعارض) الخبر المرسل بالخبر (المسند رأسا) لأنّ الخبر المرسل في نفسه غير معتبر ، وغير المعتبر لا يكافئ المعتبر حتّى يعارضه ، فلا يقع إذن التعارض بين الروايتين ، بل يلزم الأخذ بالمسند وترك المرسل ، فإذا تبيّن ذلك قلنا : (وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند) عنده ، لأنّه يرى أنّ كليهما حجّة ، والمعيار في الأخذ بالخبر الحجيّة (ولم يعلم وجهه) لأنّا قد ذكرنا : أنّ المسند أقرب إلى الواقع من المرسل.

(ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا) كما لو روى الرواية مرّة زرارة واخرى محمّد بن مسلم (وو راوي الاخرى واحدا) فقط كما لو روى الرواية زرارة فقط (أو يكون رواة إحداهما أكثر) من الاخرى ، كما لو روى إحدى الروايتين ثلاثة : زرارة ومحمّد بن مسلم وفضيل ، بينما روى الرواية الثانية اثنان : زرارة وفضيل فقط ، والفرق بين القسمين هو : أنّ الأوّل في التعدّد والوحدة ،

٢٥٤

فإن المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح.

وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح قياسا على الشهادة والفتوى ، ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ، وهو ضعيف.

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر ،

______________________________________________________

والثاني في الكثرة والقلّة.

وكيف كان : (فانّ المتعدّد يرجّح على الواحد) لفرض أنّ في جانب روايتان ـ مثلا ـ وفي جانب آخر رواية واحدة فقط (والأكثر) رواة يرجّح أيضا (على الأقل) رواة لفرض انّ إحدى الروايات رواها ثلاثة رواة ، بينما الرواية الثانية رواها اثنان من الرواة فقط (كما هو واضح) فانّ العرف يرون مثل هذا الترجيح.

(وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح) بالسببين المذكورين وهما : التعدّد والوحدة ، والكثرة والقلّة ، وذلك (قياسا على الشهادة والفتوى) فانّهم قالوا : كما إنّ شهادة الأربع لا تقدّم على شهادة الاثنين ، وفتوى المجتهدين لا تقدّم على فتوى المجتهد الواحد ، فكذلك في باب الرواية.

(و) لكن يرد عليه : إنّ (لازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا) فيما إذا جرى القياس المذكور فيها ، فانّه يشملها جميعا (وهو ضعيف) لأنّ العرف يرون الاقوائية في المتعدّد راويا ، أو الأكثر رواة ، وأمّا الشهادة والفتوى ، فان قلنا بعدم الترجيح فيهما بسبب التعدّد أو الكثرة ـ مع احتمال الترجيح فيهما بسببهما ـ فلأنّ عدم الترجيح فيهما بسببهما إنّما هو لأجل دليل خارجي كالاجماع ونحوه.

(ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر) أي : بأن يكون تحمّل أحدهما الرواية بكيفيّة هي أعلى من كيفية تحمّل الراوي

٢٥٥

كأن يكون أحدهما بقراءته على الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه.

وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل.

هذه نبذة من المرجّحات السندية التي توجب القوّة من حيث الصدور ، وعرفت أنّ معنى القوّة كون أحدهما أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح

______________________________________________________

الآخر ، وذلك (كأن يكون أحدهما) أي : أحد التحمّلين (بقراءته) أي : بقراءة الراوي الرواية (على الشيخ) أي : على استاذه (والآخر بقراءة الشيخ عليه) فانّ من المعلوم : انّ قراءة الشيخ على الراوي ، أوثق من قراءة الراوي على الشيخ ، لأنّ القاري يكون التفاته أكثر من التفات السامع ، إذ يحتمل أن يكون السامع قد ذهل في موضع ، أو غفل عنه ، بخلاف القارئ ، فانّ هذا الاحتمال فيه ضعيف جدّا.

(وهكذا غيرهما) أي : غير القراءة على الشيخ ، وقراءة الشيخ على الراوي (من أنحاء التحمّل) وذلك كما لو كان أحدهما قد تحمّل الرواية بالاجازة ، والآخر قد تحمّل الرواية بالوجادة ـ مثلا ـ وغير ذلك.

(هذه نبذة من المرجّحات السندية التي توجب القوّة من حيث الصدور) أي : لا من حيث جهة الصدور ، ولا من حيث المضمون ، (وعرفت أنّ معنى القوّة) من حيث الصدور هو : (كون أحدهما) أي : أحد الخبرين (أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر) وذلك بأن يرى العرف الذي يلقى إليه الكلام مزيّة لهذا الخبر على الخبر المعارض له (بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح

٢٥٦

وأقوى من مطابقة الآخر وإلّا فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ، من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما.

وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما ، بناء على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما لعدم الشاهد ،

______________________________________________________

وأقوى من مطابقة الآخر) الذي هو أقرب إلى الكذب ، فمعنى الأقوائية إذن الشأنية لا الفعليّة.

(وإلّا) بأن كان معنى الأقوائية : الفعليّة لا الشأنية ، يعني : بأن يحصل من المرجّح الظنّ الفعلي بصدق الراجح وكذب المرجوح ، فانّه إذا كان بهذا المعنى ورد عليه قوله : (فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح) وإنّما لا يوجبه (من جهة احتمال صدق كلا الخبرين) إذ من المحتمل أن يكون كلا الخبرين صادقين ، لكن أحدهما أقرب للواقع من الآخر ، وهذا هو معنى الظنّ الشأني الحاصل من المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين ، ولذلك قال : (فانّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما) حتّى يكون من اشتباه الحجّة باللاحجّة ، إذ لو علم كذب أحدهما لخرج من تعارض الحجّتين ، ولزم اتّباع الظنّ الفعلي القائم على صدق الآخر.

إن قلت : إن كان الغالب هو : احتمالنا صدق كليهما ، فكيف نأخذ بالراجح فقط ونطرح المرجوح منهما؟ مع انّ الطرح مساو لكونه كاذبا.

قلت : (وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما ، بناء على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما) عندنا (لعدم الشاهد) على الجمع من قرينة حالية أو مقالية تدلّ على انّه لما ذا صدر هذان الخبران المتعارضان عن الإمام عليه‌السلام؟ أو تدلّ على كيفيّة

٢٥٧

فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا ، فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر.

والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر ، من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ

______________________________________________________

الجمع بينهما (فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا) أي : يصير هذان الخبران المتعارضان في حكم الخبرين المعلوم كذب أحدهما ـ فرضا ـ (فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر).

والحاصل : إنّ احتمال الصدق وعدم التعارض في الواقع ، موجود في كلا المتعارضين كما لو ورد ـ مثلا ـ في رواية : السمك فيه الرّبا ، وورد في رواية اخرى : السمك لا ربا فيه ، فانّه يحتمل أن يكون قوله : السمك فيه الربا ، قد صدر باعتبار أنّ مدينة الراوي كان يباع السمك فيه بالوزن ـ مثلا ـ ويكون قوله : السمك لا ربا فيه ، قد صدر باعتبار أنّ مدينة الراوي كان يباع السمك فيه بالعدد ، وحيث أنّه لا ربا في المعدود ، فلا ربا فيه ، إلّا انّه لما لم نتمكّن نحن من الجمع بينهما لفقد مثل هذه القرائن الدالّة على كيفيّة الجمع بين الروايتين ، ننزّلهما منزلة ما لو علم بكذب أحدهما في انّه يلزم أن نأخذ بالأقرب في نظرنا إلى الواقع ونطرح الآخر.

هذا (والغرض من إطالة الكلام هنا) عن كون المرجّحات توجب الظنّ الشأني بأقربيّة الراجح إلى الواقع ، لا الظنّ الفعلي هو : (أنّ بعضهم) وهو السيّد محمّد المجاهد في كتابه مفاتيح الاصول (تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر ، من حيث السند) كالأعدليّة (أو المتن) كالأفصحيّة ، تفيد الظنّ الفعلي ـ لا الظنّ الشأني ـ ولذلك قسّمها إلى أقسام ، فقال : (بعضها يفيد الظنّ

٢٥٨

القوي ، وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ، وبعضها لا يفيد الظنّ أصلا ، فحكم بحجيّة الأوّلين واستشكل في الثالث ، من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ، ومن إطلاق أدلّه التخيير ، قوّى ذلك

______________________________________________________

القوي) بمطابقة الراجح للواقع (وبعضها يفيد الظنّ الضعيف) بالمطابقة (وبعضها لا يفيد الظنّ أصلا) وعدم حصول الظنّ هو أيضا حالة تقع في النفس من جهة ملابسات ومزايا ، وخصوصيات وقرائن تفسد تلك الحالة وتكون النسبة بينها وبين المرجّحات في الأخبار والآثار ، عموم من وجه ، فلا تلازم بينهما.

وكيف كان : فإنّ السيّد المجاهد لمّا تخيّل أنّ المرجّحات تفيد الظنّ الفعلي بصدق أحد المتعارضين أو كذبه قسّمها من هذا الحيث إلى أقسام ثلاثة (فحكم بحجيّة الأوّلين) وهما : ما يوجب ظنّا قويّا ، أو يوجب ظنّا ضعيفا (واستشكل في) مرجّحية (الثالث) الذي لا يفيد الظنّ أصلا.

وإنّما استشكل في الثالث (من حيث انّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح) وإن لم يفد الظنّ أصلا ، وذلك جواز الأخذ به متيقّن ، فيكون فيه الكفاية قطعا ، سواء كان تخييرا أو تعيينا ، وهذا هو وجه جواز الأخذ به.

(ومن إطلاق أدلّة التخيير) فانّ أدلّة التخيير يشمل إطلاقها مثل هذا المرجّح الذي لا يفيد الظنّ أصلا ، لأنّ المتيقّن من عدم شمول أدلّة التخيير له هو : ما إذا كان المرجّح مفيدا للظنّ ، والمفروض أنّ هذا المرجّح لا يفيد الظنّ ، فيشمله إطلاقها ، فلا يكون هذا المرجّح مقيدا لإطلاق أدلّة التخيير ، وهذا هو وجه عدم جواز الأخذ به.

وعليه : فإذا تعارضت هاتان الحيثيّتان : حيثيّة احتياط الأخذ بالراجح ، وحيثيّة إطلاق أدلّة التخيير ، تساقطتا ، وإذا تساقطتا لم يبق هناك دليل على الترجيح بهذا المرجّح ، ولذا نرى السيّد المجاهد (قوّى ذلك) أي : قوّى إطلاق أدلّة التخيير

٢٥٩

بناء على أنّه لا دليل على الترجيح بالامور التعبّديّة في مقابل إطلاقات التخيير.

وأنت خبير بأنّ جميع المرجّحات المذكورة مفيدة للظنّ الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ،

______________________________________________________

(بناء على انّه لا دليل على الترجيح بالامور التعبّدية) التي لا تفيد الظنّ (في مقابل إطلاقات التخيير) فانّ إطلاقات أدلّة التخيير بنظره هي المحكّمة ، إلّا إذا كانت هناك مرجّحات مفيدة للظنّ ، سواء كانت مفيدة للظنّ القوي ، أم للظنّ الضعيف ، وهذا الكلام منه صريح في انّه يرى المناط في اعتبار المرجّحات هو : إفادتها الظنّ الفعلي بصدق الراجح من المتعارضين وكذب المرجوح منها.

(وأنت خبير بأنّ) هذا الكلام من السيّد المجاهد محلّ تأمّل ، وذلك لما يلي :

أوّلا : إنّ هذه المرجّحات التي يعالج بها تعارض الأخبار لا تفيد الظنّ الفعلي ، بل الشأني فقط.

ثانيا : ولو فرضنا انّها تفيد الظنّ الفعلي ، لم تفد الترجيح حينئذ ، فتسقط عن كونها مرجّحات.

أشار المصنّف إلى الأوّل بقوله : انّ (جميع المرجّحات المذكورة) في الروايات أو المستنبطة منها بالملاك سواء كانت مرجّحات سندية أم متنية (مفيدة للظنّ الشأني) النوعي ، وذلك (بالمعنى الذي ذكرنا ، و) ليست مفيدة للظنّ الفعلي الشخصي كما تخيّله السيّد المجاهد ، ومعنى الظنّ الشأني (هو : انّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح) سندا أو دلالة (أرجح من صدقه) كما انّ احتمال صدق الراجح أرجح من كذبه.

٢٦٠