الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

أقلّ فردا ، فيكون أشبه بالنصّ ، وكما إذا كان التخصيص في أحدهما تخصيصا لكثير من الأفراد ، بخلاف الآخر.

بقي في المقام شيء

وهو أنّ ما ذكرنا من حكم التعارض ـ من أنّ النصّ يحكم على الظاهر ، والأظهر على الظاهر ـ لا إشكال في تحصيله في المتعارضين.

وأمّا اذا كان التعارض

______________________________________________________

أي : عموم الرمان وان لوحظ كل افراده حلوا وحامضا ومزّا ، لكنّه (أقلّ فردا) من عموم الحامض (فيكون) عموم يجوز أكل كلّ رمّان من جهة انّ افراده أقل (أشبه بالنصّ) فيقدّم على عموم النهي عن أكل كلّ حامض ، فيحكم بجواز أكل الرمّان الحامض ، لأنّ شمول كلّ رمّان له أقوى من شمول كلّ حامض له ، لأنّه أقل فردا منه ، وإن كان بينهما عموم من وجه في مورد التعارض.

(وكما إذا كان التخصيص في أحدهما تخصيصا لكثير من الأفراد ، بخلاف الآخر) فانّه يقدّم الأقل تخصيصا على الأكثر تخصيصا ، وذلك لأنّ التخصيص خلاف الأصل ، وكلّما كان المخالف للأصل أقل كان أفضل ، إضافة إلى أنّ كثرة التخصيص مستهجن عرفا.

هذا ، وقد (بقي في المقام شيء ، وهو :) ما يسمّى ببحث انقلاب النسبة ، وذلك فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، كما قال المصنّف : (انّ ما ذكرنا من حكم التعارض : من أنّ النصّ يحكم على الظاهر ، والأظهر على الظاهر) فيما إذا كان أحدهما نصّا أو أظهر ، والآخر ظاهرا ، فانّ هذا المعنى (لا إشكال في تحصيله في المتعارضين) إذ لا يتصوّر فيهما انقلاب النسبة ، بينما يتصوّر ذلك بالنسبة إلى التعارض بين أزيد من دليلين ، ولذلك قال : (وأمّا إذا كان التعارض

٢٠١

بين أزيد من دليلين ، فقد يصعب تحصيل ذلك ، إذ قد يختلف حال التعارض بين اثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث ، مثلا : قد يكون النسبة بين الاثنين العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة إلى العموم المطلق

______________________________________________________

بين أزيد من دليلين) كثلاثة وأربعة ـ مثلا ـ (فقد يصعب تحصيل ذلك) أي : يصعب تحصيل النصّ من بينها أو الأظهر ، حتّى يحمل الظاهر منها عليه.

وإنّما يصعب تحصيله (إذ يختلف حال التعارض بين اثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث) فانّ التعارض بين اثنين من الأدلّة الثلاثة يحقّق نوعا من التعارض ، لكن بعد ملاحظة أحدهما مع الدليل الثالث ينقلب نوع التعارض الذي تحقّق أوّلا إلى نوع آخر ممّا يوجب الحيرة وعدم معرفة أنّ أيّهما أظهر وأيّهما ظاهر ، أو أيّهما نصّ وأيّهما ظاهر؟.

(مثلا : قد يكون النسبة بين الاثنين) من الأدلّة المتعارضة (العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة) أي : تنقلب النسبة بعد ملاحظة أحدهما مع الثالث (إلى العموم المطلق) فإذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : يستحبّ إكرام العدول ، كانت النسبة بين الدليلين العموم من وجه ، ومادّة الاجتماع هو : العالم العادل ، حيث أنّ دليل : أكرم العلماء ، يقول بوجوب اكرامه ، ودليل : يستحبّ اكرام العدول ، يقول باستحباب اكرامه ، ولكن إذا قال ثالثا : لا تكرم فسّاق العلماء ، فانّ هذا الدليل الثالث بعد إخراجه من الدليل الأوّل : أكرم العلماء ، ينتج : أكرم العلماء العدول ، فتنقلب نسبته مع الدليل الثاني يستحبّ اكرام العدول من العموم من وجه ، إلى العموم المطلق ، لأنّ العدول أعمّ مطلقا من العلماء العدول.

٢٠٢

أو بالعكس ، أو إلى التباين.

______________________________________________________

وعليه : فانّ الدليلين الأوّلين من حيث انّ تعارضهما كان قبل الانقلاب بالعموم من وجه ، لا رجحان لأحدهما على الآخر ، ومن حيث انّ تعارضهما أصبح بعد الانقلاب بالعموم المطلق ، لزم ترجيح الخاص وهو : أكرم العلماء العدول ، على العام وهو : يستحبّ اكرام العدول ، وبذلك تحصل الحيرة في انّه هل النسبة بين «أكرم» و «يستحبّ» عموم مطلق أو عموم من وجه؟.

(أو بالعكس) بأن كانت النسبة أوّلا عموما مطلقا ، ثمّ تنقلب إلى عموم من وجه ، كما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق الخطباء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، فانّ نسبة أكرم العلماء ، مع لا تكرم فسّاق العلماء ، عموم مطلق ، وأمّا بعد لحاظ خروج فسّاق الخطباء عن العلماء ينقلب إلى العموم من وجه ، فمادّة الافتراق في الأوّل هو العالم العادل ، ومادّة الافتراق في الثاني هو الخطيب الفاسق ، ويتعارضان في الفاسق غير الخطيب ، فهل هنا يؤخذ بالعموم من وجه أو بالعموم المطلق؟ وهذا موجب للتحيّر.

(أو) تنقلب النسبة (إلى التباين) وذلك كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ، ثمّ قال أيضا : لا تكرم عدول العلماء ، فانّ تعارض الأوّل والثالث بالعموم المطلق ، لأنّ العلماء ، أعمّ مطلقا من العدول ، فإذا خصّصنا العلماء بالفسّاق لفرض أكثرية أفراد العلماء من أفراد الفسّاق ، أنتج : أكرم العلماء العدول ، فتنقلب نسبته مع الثالث من العموم المطلق إلى التباين لأنّه يكون حينئذ : أكرم عدول العلماء ، ولا تكرم عدول العلماء ، ممّا يوجب تحيّر الفقيه في انّه بأيّهما يأخذ؟ هل يأخذ بالتباين ، أو بالعموم المطلق؟.

٢٠٣

وقد وقع التوهم في بعض المقامات.

فنقول توضيحا لذلك : إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة إن كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين ، فإن كانت النسبة العموم من وجه ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ، مثل قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع.

______________________________________________________

هذا (وقد وقع التوهّم في بعض المقامات) بين النسبة الاولى والنسبة الثانية ، فبدل الأخذ بالنسبة الاولى أخذ بالنسبة الثانية ، كما سيأتي ذلك من المحقّق النراقي قريبا إن شاء الله تعالى ، وهذا ممّا يدعونا إلى زيادة توضيح لكيفيّة النسبة فيما لو تعارض أكثر من دليلين (فنقول توضيحا لذلك) الذي أجملناه : (إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة) على نوعين : متحدة ، ومختلفة.

أوّلا : أن تكون النسبة متّحدة كما قال : إنّ النسبة بين المتعارضات (إن كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين) بلا تفاوت على ما قد تقدّم بيانه ، وحينئذ (فان كانت النسبة : العموم من وجه ، وجب الرجوع إلى المرجّحات) في مادّة الاجتماع (مثل قوله : يجب اكرام العلماء ، ويحرم اكرام الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع) الذي هو : العالم الفاسق الشاعر ، حيث يجب اكرامه بحسب دليل : أكرم العلماء ، ويحرم اكرامه بحسب دليل : لا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ اكرامه بحسب دليل : أكرم الشعراء ، وهنا إذا كانت قرائن داخلية أو خارجية تقدّم بعضها على بعض ، فالمحكّم هو تلك القرائن ، وإلّا فالتعارض موجب لتساقط كلّ منها في خصوص المؤدّى والرجوع إلى الأصل الموافق ، وذلك على ما تقدّم من المصنّف ، أو موجب لإعمال التراجيح إذا قلنا بأنّ التراجيح جارية في العموم من وجه.

٢٠٤

وإن كانت النسبة عموما مطلقا ، فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خصّص بهما ، مثل : المثال الآتي ، وإن لزم محذور نحو قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام فسّاق العلماء ، وورد : يكره إكرام عدول العلماء ، فإنّ اللّازم من تخصيص العامّ بهما بقاؤه بلا مورد فحكم ذلك كالمتباينين ، لأن مجموع الخاصّين مباين للعامّ.

______________________________________________________

هذا إن كانت النسبة بينها العموم من وجه (وإن كانت النسبة عموما مطلقا) كما في تعارض عام وخاصّين (فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خصّص بهما) لوضوح : إن العام يخصّص بالخاص ، سواء كان خاصّا واحدا أو أكثر من خاصّ واحد ، فيما إذا لم يلزم محذور ، كما سيأتي بيان المحذور في بعض المواضع إن شاء الله تعالى ، وذلك (مثل : المثال الآتي) في قول المصنّف : «فإذا ورد أكرم العلماء ...».

(وإن لزم محذور) وذلك كما إذا خصّصنا العام بهما لم يبق للعام فرد ، أو بقي فرد قليل يستهجن استعمال العموم فيه (نحو قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم اكرام فسّاق العلماء ، وورد) أيضا (يكره إكرام عدول العلماء ، فانّ اللازم من تخصيص العام) الذي هو يجب اكرام العلماء (بهما) أي : بالخاصّين الذين هما : يحرم اكرام الفسّاق من العلماء ، ويكره إكرام عدول العلماء (بقاؤه) أي : بقاء العام (بلا مورد) وذلك لأنّ العلماء ينقسمون إلى : عدول وفسّاق ، والمفروض : انّه يحرم إكرام الفسّاق منهم ، ويكره إكرام عدولهم ، فلا يبقى معه للعام : أكرم العلماء ، مورد ، وهو مستهجن.

وعليه : (فحكم ذلك كالمتباينين ، لأنّ مجموع الخاصّين مباين للعام) فيكون من قبيل ما لو قال : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، حيث يلزم بعد عدم امكان

٢٠٥

وقد توهّم بعض من عاصرناه ، فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الأفراد بإجماع ونحوه مع الخاصّ المطلق الآخر.

فإذا ورد أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد

______________________________________________________

الجمع العرفي بينهما بالتخصيص وما أشبه ذلك ، معالجتهما بالتراجيح المؤدّية إلى تقديم الراجح منهما ، وإذا لم يكن هناك مرجّح لأحدهما فالتخيير بينهما.

وهكذا الحال فيما إذا بقي للعام أفراد قليلة يستهجن استعمال العام فيها ، وذلك كما لو فرضنا انقسام العلماء إلى : فقهاء ، وادباء ، وأطباء ، وكان الأطباء فردين فقط ، فقال : يستحبّ أكرم العلماء ، ويجب اكرام الفقهاء ، ويحرم اكرام الادباء ، فانّه لا يبقى للعامّ : يستحبّ إكرام العلماء ، إلّا فردان هما الطبيبان فقط ، وهذا استعمال مستهجن.

هذا إن لزم من تخصيص العامّ بالخاصّين محذور ، وإن لم يلزم منه محذور لزم تخصيص العام بهما معا على ما تقدّم (و) لكن (قد توهّم بعض من عاصرناه) وهو المحقّق النراقي في كتابه : العوائد بالنسبة إلى تعارض الأدلّة (فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الافراد بإجماع ونحوه) أي : نحو الاجماع من الأدلّة اللبّية ، كما إذا كان المخصّص هو : العقل أو السيرة ـ مثلا ـ فلاحظ ذلك (مع الخاص المطلق الآخر) فانّه خصّص العام أوّلا بالمخصّص اللبّي ، ثمّ لاحظ النسبة بين هذا العام المخصّص ، والخاص الآخر اللفظي ممّا أوجب انقلاب النسبة ، بينما كان عليه تخصيص العام بمجموع الخاصّين معا.

وأمّا مثال ذلك فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : (فإذا ورد أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل) لبّي كالاجماع (على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد

٢٠٦

أيضا : لا تكرم النحويين ، كانت النسبة على هذا بينه وبين العامّ ـ بعد إخراج الفسّاق ـ عموما من وجه.

ولا أظنّ يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيين ، إذ لا وجه لسبق ملاحظة العامّ مع أحدهما على ملاحظته مع الآخر ، وإنّما يتوهّم ذلك في العامّ المخصّص بالاجماع أو العقل ، لزعم أنّ المخصّص المذكور يكون كالمتّصل ،

______________________________________________________

أيضا) دليل لفظي آخر يقول : (لا تكرم النحويين ، كانت النسبة على هذا) أي : على رأي المحقّق النراقي (بينه) أي : بين الخاص اللفظي الذي هو : لا تكرم النحويين (وبين العام) الذي هو : أكرم العلماء (بعد إخراج الفسّاق) من أكرم العلماء (عموما من وجه) أي : يكون هكذا : أكرم العلماء العدول ، ولا تكرم النحويين ، فمادّة الافتراق من جانب أكرم العلماء العدول ، هو : العالم العادل غير النحوي ، ومن جهة لا تكرم النحويين ، هو : النحوي الفاسق ، فيجتمعان في النحوي العادل.

قال المصنّف : (ولا أظنّ) إنّ المحقّق النراقي (يلتزم بذلك) أي : بما يؤدّي إلى انقلاب النسبة (فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيين) لا أن يكون أحدهما دليلا لبّيا والآخر دليلا لفظيا (إذ لا وجه لسبق ملاحظة العام مع أحدهما) أي : مع أحد الخاصّين (على ملاحظته مع) الخاصّ (الآخر ، وإنّما يتوهّم ذلك) الذي يؤدّي إلى انقلاب النسبة (في العام المخصّص بالاجماع أو العقل) ممّا يكون المخصّص دليلا لبّيا فقط.

وإنّما كان توهّمه ذلك في الدليل اللبّي فقط (لزعم أن المخصّص المذكور) وهو الخاص اللبّي (يكون كالمتّصل) أي : كالخاص المتّصل بالعام ، وإذا كان

٢٠٧

فكأن العامّ استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج ، والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين ، لا بين ما وضع اللفظ له ، وإن علم عدم استعماله ، فكأن المراد بالعلماء في المثال المذكور عدولهم ، والنسبة بينه وبين النحويين عموم من وجه.

ويندفع : بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري

______________________________________________________

كذلك (فكأنّ العام) معه قد (استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج) من عمومه ، يعني : بأن استعمل في الباقي فقط ، وذلك لأنّ الخاص المتّصل لا يدع مجالا لأن ينعقد للعام ظهورا لا في الباقي ، بخلاف الخاص المنفصل فانّه ليس كذلك ، وإذا كان الخاص اللبّي كالخاص المتّصل ، فانّه يجعل العام مستعملا في الباقي ، لا في الموضوع له كما قال : (والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين) فلفظ : أكرم العلماء ، يكون قد استعمل في العلماء العدول ، لأنّه هو مراد المتكلّم من الجملتين (لا بين ما وضع اللفظ له) كالعلماء عدولا أو فسّاقا ، حتّى (وإن علم عدم استعماله) أي : عدم استعمال العام فيما وضع له ، وذلك بأن لم يرد المتكلّم من أكرم العلماء إلّا عدولهم.

وعليه : (فكأن المراد بالعلماء في المثال المذكور) الذي قال : أكرم العلماء ، وقد دلّ الاجماع على : عدم إكرام الفسّاق ، هو : إرادة إكرام (عدولهم) فقط (والنسبة بينه) أي : بين العلماء العدول (وبين النحويين عموم من وجه) وإذا كان كذلك فيكون التعارض بينهما من باب العموم من وجه ، حيث يلزم الرجوع إلى علاج التعارض في مادّة اجتماعه.

(ويندفع) هذا التوهّم (بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري

٢٠٨

الدليلين ، وظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد ، وكيف كان ، فلا بدّ من إحرازه حين التعارض وقبل علاجه ، إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ، لا إلى إحراز المقتضي.

والعامّ المذكور بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقلي إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل ، فالدليل المذكور ، والمخصّص اللفظي

______________________________________________________

الدليلين ، و) ذلك بأن كان لهما ظهوران متعارضان ، بلا فرق بين أن يكون تعارضهما بسبب الوضع ، أو بسبب الاستعمال ، إذ (ظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه) مثل ظهور : إكرام العلماء ، في العموم ، سواء كانوا عدولا أم فسّاقا (وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد) مثل ظهور : أكرم العلماء إلّا الفسّاق ، في إرادة المتكلّم اكرام العلماء العدول فقط.

(وكيف كان) : فانّه سواء كان الظهور بسبب الوضع أم بسبب القرينة (فلا بدّ من إحرازه) أي : إحراز ذلك الظهور (حين التعارض وقبل علاجه) أي : قبل علاج التعارض بالترجيح لوضوح : إنّ العلاج فرع الظاهرين المتعارضين ، كما قال : (إذ العلاج راجع إلى دفع المانع) عن الظهور (لا إلى إحراز المقتضي) للظهور يعني : إنّ علاج المتعارضين ليس سببا لإحراز الظهور ، بل هو سبب لدفع مانع التعارض عن الظهور المحرز.

هذا (والعامّ المذكور) في مثال : أكرم العلماء (بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقلي) أي : اللبّي الذي يقول : يحرم إكرام الفسّاق من العلماء (إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه) أي : وضع أكرم العلماء (للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل) اللبّي (فالدليل) اللبّي (المذكور ، و) كذلك (المخصّص اللفظي)

٢٠٩

سواء في المانعيّة عن ظهوره في العموم ، فيرفع اليد عن الموضوع له بهما ، وإن لوحظ بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص بذلك الدليل ، فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما خرج بذلك الدليل إلّا بعد إثبات كونه تمام المراد ، وهو غير معلوم إلّا بعد نفي احتمال مخصّص آخر ، ولو بأصالة عدمه ، وإلّا فهو مجمل مردّد بين تمام المراد

______________________________________________________

المذكور بعده ، يكونان (سواء في المانعيّة عن ظهوره) أي : عن ظهور : أكرم العلماء (في العموم) وذلك لأنّهما في مرتبة واحدة بالنسبة إلى أكرم العلماء ، ومعه (فيرفع اليد عن الموضوع له) وهو عموم : أكرم العلماء (بهما) أي : بالمخصّصين : اللفظي واللبّي معا ، حيث انّه لا أولوية لتقديم اللبّي على اللفظي.

هذا ، إن لوحظ العام بالنسبة إلى وضعه (وإن لوحظ) العامّ (بالنسبة إلى المراد منه) أي : من أكرم العلماء (بعد التخصيص بذلك الدليل) اللبّي القائل بحرمة اكرام فسّاق العلماء (فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما) أي : الفاسق الذي (خرج بذلك الدليل) اللبّي ، لأنّ المراد شيء ، والظهور شيء آخر ، فإذا انثلم عموم أكرم العلماء بالدليل اللبّي لم يبق ظهور لأكرم العلماء في اكرام العلماء العدول (إلّا بعد إثبات كونه) أي : إكرام العلماء العدول هو (تمام المراد) من أكرم العلماء (وهو غير معلوم إلّا بعد نفي احتمال مخصّص آخر ، ولو) كان نفي احتمال وجود مخصّص آخر (بأصالة عدمه) أي : عدم المخصّص الآخر ، فالمخصّص اللبّي وأصالة العدم مجموعا يفيدان : إنّ المراد من أكرم العلماء هو : إكرام العلماء العدول.

(وإلّا) بأن لم ننف احتمال وجود مخصّص آخر بأصالة العدم ونحوها (فهو) أي : العام الذي قد خصّص باللبّي حينئذ (مجمل مردّد بين تمام المراد)

٢١٠

وبعضه : لأنّ الدليل المذكور قرينة صارفة عن العموم لا معيّنة لتمام الباقي.

وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام ، غير جارية مع وجود

______________________________________________________

وهو اكرام تمام العلماء العدول حتّى النحويين ـ مثلا ـ وذلك لأنّه لمّا انثلم عموم أكرم العلماء بالمخصّص اللبّي ، لم يبق له ظهور ، فيكون مجملا لتردّده بين تمام المراد وهو : وجوب إكرام العلماء العدول حتّى النحويين منهم (و) بين (بعضه) أي : بعض المراد ، وهو : وجوب إكرام العلماء العدول ، دون النحويين ، وذلك لاحتمال أن يكون هناك للعامّ المنثلم : أكرم العلماء ، مخصّص آخر غير المخصّص اللبّي ، كما لو احتملنا بأنّه لا يريد إكرام العلماء العدول الذين يصرفون عمرهم في النحو ـ مثلا ـ حتّى تكون النتيجة : أكرم العلماء العدول غير النحويّين فإنّ هذا الاحتمال موجود هنا ، فيلزم نفيه ولو بأصالة العدم.

وإنّما يلزم أن ننفي بأصالة العدم احتمال مخصّص آخر غير المخصّص اللبّي الذي تمّ انثلام عموم أكرم العلماء به (لأنّ الدليل المذكور) وهو : المخصّص اللبّي إنّما هو (قرينة صارفة عن العموم) أي : صارفة لعموم أكرم العلماء عن أن يشمل الفسّاق أيضا (لا معيّنة لتمام الباقي) بأن يكون قرينة على نفي وجود مخصّص آخر ، حتّى يتعيّن إرادة تمام الباقي وهو : إكرام العلماء العدول مطلقا ، سواء كانوا نحويّين أم غير نحويّين.

إن قلت : احتمال وجود مخصّص آخر بعد المخصّص اللبّي منفيّ باجراء أصالة العدم ، فيتعيّن تمام الباقي.

قلت : (وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام ، غير جارية مع وجود

٢١١

المخصّص اللفظي ، فلا ظهور له في تمام الباقي حتى يكون النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي العموم من وجه.

وبعبارة أوضح : تعارض العلماء بعد إخراج فسّاقهم مع النحويين ، إن كان قبل علاج دليل النحويين ورفع مانعيّته ، فلا ظهور له حتى يلاحظ النسبة بين ظاهرين ،

______________________________________________________

المخصّص اللفظي) المذكور بعده ، وهو الدليل الثالث القائل : لا تكرم النحويّين كما في مثال المصنّف.

والحاصل : إنّ ظهور العامّ في الباقي موقوف على أمرين : على الدليل اللبّي وهو كما في مثال المصنّف : الاجماع القائم على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وعلى الدليل اللفظي وهو بحسب مثال المصنّف : لا تكرم النحويّين ، وكلاهما في مرتبة واحدة ، فلا وجه لتقديم الدليل اللبّي على الدليل اللفظي ، وتخصيص العام : أكرم العلماء به فقط ، وعلى فرض تخصّصه به فقط (فلا ظهور له) أي : للعام : أكرم العلماء (في تمام الباقي) من العلماء العدول مطلقا نحويّين وغير نحويّين (حتّى يكون) أي : حتى يتمّ انعقاد (النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي) المؤدّي إلى انقلابها من العموم المطلق إلى (العموم من وجه).

(وبعبارة أوضح) في بيان أنّ المخصّص اللبّي واللفظي في مرتبة واحدة نقول : إنّ (تعارض العلماء بعد إخراج فسّاقهم) بالمخصّص اللبّي (مع النحويين) الذي هو المخصّص اللفظي وفي عرض المخصّص اللبّي (إن كان قبل علاج دليل النحويين ورفع مانعيّته) أي : مانعيّة دليل النحويين عن ظهور العام : أكرم العلماء ، في عمومه (فلا ظهور له) أي : لا ظهور للعامّ : أكرم العلماء حينئذ (حتّى يلاحظ النسبة بين ظاهرين) أي : ظاهر : أكرم العلماء ، وظاهر

٢١٢

لأن ظهوره يتوقف على علاجه ورفع تخصيصه ب «أكرم النحويين» ، وإن كان بعد علاجه ودفعه ، فلا دافع له ، بل هو كالدليل الخارجي المذكور دافع من مقتضى وضع العموم.

نعم ، لو كان المخصّص متّصلا بالعامّ من قبيل الصفة ، أو الشرط ، أو بدل البعض ، كما في «أكرم العلماء العدول ، أو إن كانوا

______________________________________________________

لا تكرم النحويين ، وذلك (لأنّ ظهوره) أي : ظهور العلماء بعد تخصيصه بالفسّاق من العلماء (يتوقّف على علاجه ورفع تخصيصه بأكرم النحويين) أيضا ، فاللازم أن نعالج العام : أكرم العلماء بعد معالجته بدليل : لا تكرم فسّاق العلماء ، بدليل لا تكرم النحويين أيضا ، حتّى ينعقد للعامّ : أكرم العلماء ، ظهور بعد انثلام ظهوره سبب المخصّص الأوّل.

هذا إن كان التعارض قبل علاج دليل النحويّين ودفع مانعيّته (وإن كان بعد علاجه ودفعه ، فلا دافع له) أي : لدليل النحويين (بل هو) أي : دليل النحويين (كالدليل الخارجيّ المذكور) وهو الدليل اللبّي القائل بعدم إكرام الفسّاق من العلماء ، في أنّه (دافع من مقتضى وضع العموم) فكما إنّ المخصّص اللبّي يدفع العامّ عمّا وضع له من العموم ، فكذلك المخصّص اللفظي ، ممّا يكشف عن انّ رتبة المخصّص اللبّي ، والمخصّص اللفظي ، مع العام نسبة واحدة ، وإذا كان المخصّصان في مرتبة واحدة ، فلما ذا تقدّمون الدليل اللبّي حتّى تنقلب نسبة العام مع الدليل اللفظي انقلابا من العموم المطلق إلى العموم من وجه؟.

(نعم ، لو كان المخصّص متّصلا بالعام من قبيل الصفة ، أو الشرط ، أو بدل البعض) أو من قبيل الاستثناء ، ـ مثلا ـ (كما في أكرم العلماء العدول ، أو إن كانوا

٢١٣

عدولا ، أو عدولهم» صحّت ملاحظة النسبة بين هذا التركيب الظاهر في تمام الباقي ، وبين المخصّص اللفظي المذكور ، وإن قلنا بكون العامّ المخصّص بالمتّصل مجازا ، إلّا أنّه يصير حينئذ من قبيل «أسد يرمي» ، فلو ورد مخصّص منفصل آخر كان مانعا لهذا الظهور.

وهذا بخلاف العامّ المخصّص المنفصل ، فإنّه

______________________________________________________

عدولا ، أو عدولهم) أو إلّا فسّاقهم ، أو ما أشبه ذلك (صحّت ملاحظة النسبة بين هذا التركيب) أكرم العلماء العدول ـ مثلا ـ (الظاهر في تمام الباقي ، وبين المخصّص اللفظي المذكور) الذي هو لا تكرم النحويين ، وذلك لأنّه ليس هنا ثلاثة أدلّة : عام ومخصّصان ، بل دليلان فقط : عام هو : أكرم العلماء العدول ، ومخصّص هو : لا تكرم النحويين ، فتصبح ملاحظة النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي حتّى (وإن قلنا بكون العام المخصّص بالمتّصل مجازا ، إلّا انّه يصير حينئذ) أي : حين يكون مجازا (من قبيل «أسد يرمي»).

وإنّما يكون من هذا القبيل ، لأنّ لفظ الأسد مع كونه مجازا مستعملا في الرجل الشجاع في هذا التركيب ، لكنّه ظاهر في الرجل الشجاع في هذا الكلام بقرينة يرمي المتّصل به ، وهكذا يكون حكم العام المخصّص بالمتّصل ، ومعه (فلو ورد مخصّص منفصل آخر) غير المخصّص المتّصل به (كان) ذلك المخصّص المنفصل (مانعا لهذا الظهور) أي : لظهور العامّ المخصّص بالمتّصل ، فيلزم معالجته بملاحظة النسبة بينه وبين المخصّص المنفصل.

(وهذا بخلاف العامّ المخصّص بالمنفصل) كالدليل اللبّي فيما نحن فيه (فانّه

٢١٤

لا يحكم ـ بمجرّد وجدان مخصّص منفصل ـ بظهوره في تمام الباقي ، إلّا بعد إحراز عدم مخصّص آخر ، فالعامّ المخصّص بالمنفصل لا ظهور له في المراد منه ، بل هو قبل إحراز جميع المخصّصات مجمل مردّد بين تمام الباقي وبعضه ، وبعده يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص.

______________________________________________________

لا يحكم ـ بمجرّد وجدان) الدليل اللبّي الذي هو (مخصّص منفصل ـ بظهوره) أي : بظهور العام بعد تخصيصه به (في تمام الباقي ، إلّا بعد إحراز عدم مخصّص آخر) غير اللبّي ، مثل دليل : لا تكرم النحويين فيما نحن فيه ، ولذا لم ينعقد الظهور لهذا العام المخصّص بالمنفصل إلّا بعد مجيء المخصّص الآخر ، فإذا جاء فلا يلاحظ النسبة بين ظهور هذا العام المخصّص بالمنفصل ، وبين المخصّص الآخر ، بل المخصّص الآخر حاله حال المخصّص اللبّي في كون كليهما في مرتبة واحدة ، فإذا اخرجا عن العام معا انعقد للعام ظهور حينئذ.

وعليه : (فالعامّ المخصّص بالمنفصل) اللبّي كما فيما نحن فيه (لا ظهور له في المراد منه) أي : في المراد من هذا العام بعد انثلام عمومه بالمخصّص اللبّي المنفصل (بل هو) أي : هذا العام (قبل إحراز جميع المخصّصات) اللبّية واللفظية (مجمل) لأنّه لا ظهور له بعد انثلام عمومه بالمخصّص اللبّي المنفصل ، فهو بعده (مردّد بين تمام الباقي) من العلماء العدول نحويّا كانوا أم غير نحويّين (و) بين (بعضه) أي : بعض الباقي ، وذلك بأن يخرج النحويون أيضا كما خرج الفسّاق بسبب الدليل اللبّي (و) لكن (بعده) أي : بعد إحراز جميع المخصّصات (يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص) اللبّي واللفظي معا.

٢١٥

أمّا المخصّص بالمتصل ، فلمّا كان ظهوره مستندا إلى وضع الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة أو بوضع لفظ القرينة ، بناء على كون لفظ العامّ مجازا ، صحّ اتصاف الكلام بالظهور ، لاحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب أو لفظ القرينة.

______________________________________________________

هذا هو بالنسبة إلى المخصّص بالمنفصل ، و (أمّا المخصّص بالمتّصل) كما ذكرنا في مثل : أكرم العلماء العدول ، أو ان كانوا عدولا ، أو غير ذلك من أمثلة المخصّصات المتّصلة (فلمّا كان ظهوره مستندا إلى وضع الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة) فإنّ جماعة قالوا : بأنّ ذا القرينة والقرينة معا لهما وضع تركيبي في المراد ، فرأيت أسدا يرمي ـ مثلا ـ له وضع تركيبي في الرجل الشجاع ، وهكذا غيره من الأمثلة (أو) كان ظهوره مستندا إلى القرينة المتّصلة يعني : (بوضع لفظ القرينة ، بناء على كون لفظ العام مجازا) حيث قال جماعة آخرون : بأنّه لا وضع تركيبي لأسد يرمي في الرجل الشجاع ، وإنّما يفهم الرجل الشجاع منه بسبب تعدّد الدالّ والمدلول.

وبالجملة : فانّ المخصّص بالمتّصل لما كان له ظهور في الباقي على التقديرين المذكورين (صحّ اتّصاف الكلام بالظهور) في الباقي ، ومعه فيلاحظ النسبة بينه وبين الخاص الآخر ، فإذا قال ـ مثلا ـ : أكرم العلماء العدول ، ثمّ قال : ولا تكرم النحويين ، يلاحظ النسبة بين العلماء العدول ، وبين النحويين ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه.

وإنّما قال : يصحّ اتّصاف الكلام بالظهور في الباقي ، ولم يقل : نصّا في الباقي (لاحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب) أي : الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة (أو) خلاف وضع (لفظ القرينة) بناء على كونه مجازا ، فانّه

٢١٦

والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المتصل ؛ لأن مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي ، ولذا يفيد الحصر ، فإذا قال : «لا تكرم العلماء إلّا العدول» ثمّ قال : «أكرم النحويين» ، فالنسبة عموم من وجه ؛ لأن إخراج غير العادل من النحويين مخالف لظاهر الكلام الأوّل ،

______________________________________________________

كما يحتمل أن يكون قوله : لا تكرم النحويّين ، مخصّصا للعلماء ، فكذلك يحتمل حمله على فسّاق النحويين ، فقد عرفت نزاعهما في مادّة الاجتماع الذي هو : العالم النحوي الفاسق.

هذا (والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المتّصل) لا المنفصل ، فإذا قال ـ مثلا ـ : أكرم العلماء إلّا الفسّاق ، كان بمنزلة أن يقول : أكرم العلماء العدول ، وذلك (لأنّ مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي) الذي هو العلماء العدول على ما في المثال (ولذا) أي : لأجل ظهور مجموع الكلام في تمام الباقي نراه (يفيد الحصر) أي : يفيد حصر الحكم في تمام الباقي مثل وجوب الاكرام لغير الفاسق من العلماء في مثالنا.

وعليه : (فإذا قال : «لا تكرم العلماء إلّا العدول» ، ثمّ قال : «أكرم النحويين» ، فالنسبة) بينهما (عموم من وجه) وذلك لأنّه يكون بمنزلة قوله : أكرم العلماء العدول ، وأكرم النحويين ، ففي العالم النحوي الفاسق ، يقول الدليل الأوّل : لا تكرمه لفسقه ، ويقول الدليل الثاني : أكرمه لنحوه ، وهذا التعارض كاشف عن نسبة العموم من وجه ، وذلك (لأنّ إخراج غير العادل) أي : الفاسق (من النحويين) والحكم بوجوب إكرامه (مخالف لظاهر الكلام الأوّل) الذي قال : لا تكرم العلماء إلّا العدول ، وهذه المخالفة لا تكون لو كانت النسبة بينهما عموما مطلقا ، لأنّ الخاص يكون قرينة على المراد من العام بلا مخالفة؟.

٢١٧

ومن هنا يصحّ أنّ يقال : النسبة بين قوله : «ليس في العاريّة ضمان إلّا الدينار أو الدرهم» ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة : عموم من وجه ، كما قوّاه غير واحد من متأخّري المتأخّرين.

______________________________________________________

(ومن هنا) أي : من جهة إنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المخصّص المتّصل ، وليس من قبيل المنفصل ، والمستثنى منه يكون ظاهرا في تمام الباقي (يصحّ أن يقال : النسبة بين قوله : «ليس في العارية ضمان إلّا الدينار أو الدرهم» (١) ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة (٢) : عموم من وجه ، كما قوّاه غير واحد) من الفقهاء أمثال المحقّق السبزواري ، وصاحب الرياض ، ومن إليهما (من متأخّري المتأخّرين).

هذا ، ولا يخفى : إنّ في المقام خمس طوائف من الروايات :

الاولى : روايات تنفي الضمان مطلقا ، مثل الرواية الصحيحة : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (٣).

الثانية : روايات تستثني صورة اشتراط الضمان.

الثالثة : روايات تستثني الذهب والفضّة ، مثل الموثّقة : «العارية ليس على مستعيرها ضمان إلّا ما كان من ذهب أو فضّة فانّهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا» (٤).

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ١٢٦ ب ٨٣ ح ٨ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٨٣ ب ٢٢ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٩٧ ب ٣ ح ٢٤٢٣٨ وح ٢٤٢٣٦.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٧٦ ب ٢٢ ح ٣٤.

(٣) ـ تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٨٢ ب ٢٢ ح ١١٧ ، الاستبصار : ج ٣ ص ١٢٤ ب ٨٣ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٩٣ ب ١ ح ٢٤٢٢٨.

(٤) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٠٢ ب ٢ ح ٤٠٨٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٨٣ ب ٢٢ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٩٧ ب ٣ ح ٢٤٢٣٩.

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الرابعة : روايات تستثني الدنانير فقط ، مثل الرواية الصحيحة : «لا يضمن العارية ، إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمانا ، إلّا الدنانير فانّها مضمونة ، وإن لم يشترط فيها ضمانا» (١).

الخامسة : روايات تستثني الدراهم فقط ، مثل : الحسن كالصحيح : «ليس على صاحب العارية ضمان ، إلّا أن يشترط صاحبها ، إلّا الدراهم ، فانّها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط» (٢).

هذا ، وحيث انّه لا كلام في الاشتراط وعدم الاشتراط ، وذلك لأنّ الاشتراط يوجب الضمان قطعا ، كما انّه لا كلام في أنّ النقدين لهما حكم واحد ، فروايتاهما كرواية واحدة ، ولذا يكون الكلام في ثلاث طوائف من هذه الأخبار فقط ، علما بأنّ المقطوع به هو : عدم الضمان في الأشياء مطلقا إلّا في الدرهم والدينار ، وإنّ المختلف فيه هو : الذهب والفضّة كالحلي ، فهل فيهما ضمان كما ذهب إليه المحقّق والشهيد الثانيان ، أو ليس فيهما ضمان كما ذهب إليه المشهور؟ فمن قال : فيهما ضمان ، فقد جمع بين روايات النقدين وروايات الذهبين ، واستثنى الجميع من العام الذي يقول بعدم الضمان في العارية ، فتكون النتيجة : انّه لا ضمان في العارية إلّا إذا كان ذهبا أو فضّة سواء كان مسكوكا أو لا ، ومن قال : لا ضمان في الذهبين ، فقد خصّص بروايات النقدين روايات الذهبين ، لأنّ بينهما عموما

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ١٢٦ ب ٨٣ ح ٨ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٩٦ ب ٣ ح ٢٤٢٣٦ كتاب العارية.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٨٤ ب ٢٢ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٩٧ ب ٣ ح ٢٤٢٣٨ كتاب العارية.

٢١٩

فيرجّح الأوّل ؛ لأن دلالته بالعموم ، ودلالة الثاني بالاطلاق ، أو يرجع إلى نفي الضمان ، خلافا لما ذكره بعضهم ،

______________________________________________________

مطلقا واستثنى النقدين من الدليل العام الذي يقول بعدم الضمان في العارية ، فتكون النتيجة : انّه لا ضمان في العارية إلّا في النقدين فقط.

ومجمل الكلام في هذا الاختلاف هو : إنّ روايات النقدين والذهبين هل تقيّد إحداهما الاخرى أم لا؟ لكن المصنّف وجماعة جعلوا النسبة بينهما العموم من وجه ، فقالوا : إنّ الشارع قال مرّة : ليس في العارية ضمان إلّا الدينار والدرهم ، ومعناه : انّه ليس في غير النقدين ضمان ، وقال مرّة اخرى : في الذهب والفضّة ضمان ، ومعناه : إنّ الذهب والفضّة يضمنان ، فمادّتا الافتراق هما : النقدان فانّ فيهما الضمان ، والكتاب ـ مثلا ـ فانّه لا ضمان فيه ، ومادّة الاجتماع هو : غير المسكوك من الذهبين ، فالدليل الأوّل يقول بعدم ضمانه ، والثاني يقول بضمانه (فيرجّح الأوّل) أي : قوله : ليس في العارية ضمان إلّا الدينار والدرهم (لأنّ دلالته بالعموم ، ودلالة الثاني) أي : قوله : في الذهب والفضّة ضمان (بالاطلاق) وقد سبق : انّه إذا تعارض العموم والاطلاق في مادّة الاجتماع ، فانّه يقدّم العموم على الاطلاق.

(أو) يقال في وجه ترجيح الدليل الأوّل القائل بعدم الضمان إلّا في النقدين على الثاني القائل بالضمان في الذهبين : إنّهما لمّا تعارضا في الذهبين غير المسكوكين تساقطا في خصوص مؤدّاهما ، وبعده (يرجع إلى) عمومات (نفي الضمان) وهذا هو المشهور بين الأصحاب ، فيكون الضمان خاصّا بالنقدين ، ولا ضمان في الذهبين غير المسكوكين كالحلي وما أشبه ذلك.

(خلافا لما ذكره بعضهم) وهو المحقّق الثاني المشهور بالكركي :

٢٢٠