الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجّحات المذكورة ما يوجب الظنّ بكذب أحد الخبرين.

ولو فرض شيئا منها كان في نفسه موجبا للظنّ بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجيّة ، ومخرجا للمسألة عن التعارض ،

______________________________________________________

هذا هو معنى الظنّ الشأني فيما لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين المتعارضين (وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين) وذلك على ما ذكرنا : من أنّ الغالب في المتعارضين احتمال صدقهما ، وإنّما خفيت علينا القرائن التي توجب الجمع بينهما (فليس في المرجّحات المذكورة) حين لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين (ما يوجب الظنّ) الفعلي (بكذب أحد الخبرين) وهذا هو معنى الظنّ الشأني.

ثمّ أشار المصنّف إلى الثاني بقوله : (ولو فرض شيئا منها) أي : من المرجّحات المذكورة (كان في نفسه) أي : بغضّ النظر عن العلم الاجمالي الحاصل من التعارض (موجبا للظنّ) الفعلي (بكذب الخبر) كما لو فرضنا انّ موافقة الخبر للعامّة موجب للظنّ الفعلي بكذب هذا الخبر الموافق لهم ، فكون الخبر موافقا للعامة ـ في نفسه وبغضّ النظر عن التعارض ـ يوجب الظنّ الفعلي بكذبه ، فإذا فرض ذلك في خبر ما (كان مسقطا للخبر) أي : لذلك الخبر (عن درجة الحجيّة ، و) سقوطه عن الحجيّة يكون (مخرجا للمسألة عن التعارض) لأنّ التعارض فرع التكافؤ في الحجيّة.

وعليه : فإذا أفادت المرجّحات الظنّ الفعلي بكذب الخبر ـ مثلا ـ سقط ذلك الخبر عن الحجيّة ، وسقوطه ليس من جهة التعارض ، ولذا قيّد المصنّف الكلام بقوله : «في نفسه» بل من جهة نفسه وبغض النظر عن التعارض واذا كان كذلك

٢٦١

فيعدّ ذلك الشيء موهنا لا مرجّحا ، اذ فرق واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

وأمّا ما يرجع إلى المتن

فهو امور :

منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ؛ لأن الركيك أبعد من كلام

______________________________________________________

(فيعدّ ذلك الشيء) الذي كان في وقت مرجّحا (موهنا) الآن ومسقطا للخبر المرجوح عن الحجيّة (لا مرجّحا) للراجح على المرجوح.

وإنّما يعدّ ذلك المرجّح حينئذ موهنا لا مرجّحا (إذ فرق واضح عند التأمّل بين ما يوجب في نفسه) وبغضّ النظر عن العلم الاجمالي الحاصل من التعارض (مرجوحية الخبر) كما ذكرنا في مثال موافقة الخبر للعامّة ، فانّه يوجب الظنّ الفعلي بكذبه ، فيسقط عن الحجيّة وإن لم يكن هنالك معارض له (وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع) أي : عدم الجمع العرفي بين الخبرين المتعارضين ، فانّ الموهن إنّما يوهن الخبر الواحد الذي لا معارض له ، وأمّا المرجّح فهو يوجب طرح المرجوح لمكان التعارض مع الراجح.

إذن : فتحصّل من جوابنا : انّ ما تخيّله السيّد المجاهد من انّ المرجّحات تفيد الظنّ الفعلي بصدق أحد المتعارضين أو كذبه ، فقسّمها من هذا الحيث إلى أقسام ثلاثة : حكم بحجيّة اثنين منها وأشكل في ثالثها ، غير تامّ.

(وأمّا ما يرجع إلى المتن) من المرجّحات (فهو امور) أيضا كالتالي :

(منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره) أي : على غير الفصيح فيما إذا كان أحد الخبرين فصيحا والآخر غير فصيح ، وذلك (لأنّ الركيك أبعد من كلام

٢٦٢

المعصوم عليه‌السلام ، إلّا أن يكون منقولا بالمعنى.

ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة ، خلافا لاخرى.

وفيه تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم ، ولا الأفصح أقرب اليه في مقام بيان الاحكام الشرعيّة.

ومنها : اضطراب المتن ، كما في بعض روايات عمّار.

______________________________________________________

المعصوم عليه‌السلام ، إلّا أن يكون منقولا بالمعنى) فلا يكون حينئذ ترجيح للفصيح على غير الفصيح ، لإمكان أن يكون الإمام قال ذلك الكلام فصيحا ، غير انّ الراوي لمّا نقله بالمعنى صار غير فصيح.

(ومنها : الأفصحيّة) وذلك بأن يقدّم الأفصح على الفصيح (ذكره جماعة ، خلافا لاخرى) أي : لجماعة اخرى حيث لم يذكروا الأفصحيّة.

(وفيه) أي : في كون الأفصحيّة مرجّحا (تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الإمام) عليه‌السلام (ولا الأفصح أقرب إليه) أي : إلى كلام الإمام عليه‌السلام إذا كان (في مقام بيان الأحكام الشرعيّة) وذلك لأنّ الأئمّة عليهم‌السلام فصحاء ويتكلّمون الفصيح ، لا انّهم يتكلّمون الأفصح ، إلّا إذا كانوا في مقام إظهار البلاغة والفصاحة ، والتحدّي والاعجاز ، ونحو ذلك ، ومعه فلا دليل على أنّ الأفصح أقرب وغير الأفصح أبعد ، حتّى تكون الأفصحية من المرجّحات.

(ومنها : اضطراب المتن) وذلك بأن يروي الراوي متن الرواية مختلفا ، فتارة يرويه بشكل ، واخرى بشكل آخر (كما في بعض روايات عمّار) مثل خبر تمييز دم الحيض عن القرحة ، ففي نسخة : انّه إن خرج من جانب الأيمن فحيض ، وفي نسخة اخرى : انّه ان خرج من الأيسر فحيض ، ومن المعلوم : انّ هذا الاختلاف يوجب تشويشا في الرواية ، ممّا لا يمكن أن يؤخذ بها في قبال الرواية التي

٢٦٣

ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر ، وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن ـ بعد أن عدّ هذه منها ـ بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام

______________________________________________________

لا اضطراب في متنها ، سواء كان الاضطراب من الراوي الذي يروي عن الإمام عليه‌السلام ، أو من الراوي الذي يروي بواسطة راو آخر.

(ومرجع الترجيح بهذه) المرجّحات المتنيّة (إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر) وليس مرجعه إلى قوّة الدلالة ، فيكون حينئذ نظير الترجيح بالمرجّحات السندية حيث كان مرجعه ـ على ما عرفت ـ إلى أنّ صدور أحد الخبرين أقرب من صدور الآخر.

هذا ولا يخفى : إنّ تقديم غير المضطرب على المضطرب ، إنّما هو فيما إذا لم يكن الاضطراب بحيث يسقط المضطرب عن الحجيّة ، وإلّا كان المضطرب غير حجّة ، لا انّه مرجوح بالنسبة إلى معارضه ، ففي المثال المتقدّم ـ مثلا ـ لو رجّحنا خبر الطرف الأيسر ، ثمّ صار التعارض بينه وبين ما دلّ على أنّ الحيض لا طرف له إطلاقا ، فانّ ما دلّ على أنّ الحيض لا طرف له يقدّم على الخبر الذي يقول بأنّه الخارج من الطرف الأيسر.

هذا (وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن بعد أن عدّ هذه) المرجّحات المذكورة من الفصاحة والأفصحيّة وعدم اضطراب المتن (منها) أي : من مرجّحات المتن ، علّله بدليل مركّب من صغرى وكبرى ، فالصغرى تقول : (بأنّ مرجع ذلك) الترجيح المتني (إلى الظنّ بالدلالة) أي : الجمع الدلالي (و) كبرى تقول : بأنّ المرجّح الدلالي (هو ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام)

٢٦٤

وليس مبنيّا على حجيّة مطلق الظنّ المختلف فيه.

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن : النقل باللفظ والفصاحة والركاكة ، والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه ، والجزم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام على غيره ،

______________________________________________________

والنتيجة : أنّ الترجيح المتني ممّا لم يختلف فيه أحد.

إذن : فالترجيح المتني ـ بنظر بعض المعاصرين ـ مبني على حجيّة الظنّ بالدلالة المتّفق عليه (وليس مبنيّا على حجيّة مطلق الظنّ) أي : مطلق المرجّحات من الدلالة والسند والمتن (المختلف فيه) يعني : إنّ بعض المعاصرين لمّا رأى أنّ مورد المرجّحات الدلالية هو المتن ، تصوّر أنّ كلّ مرجّح متني هو مرجح دلالي ، والترجيح بالدلالة متّفق عليه ، فهو بنظره مبني على ما هو متّفق عليه ، وليس مبنيّا على مطلق المرجّحات الظنّية حتّى يكون مختلفا فيه ، مع أنّه ليس الأمر كذلك ، إذ ليس كلّ مرجّح متني هو مرجّح دلالي ، بل منه مرجّح لجهة الصدور كموافقة العامّة ومخالفتهم ، ومنه مرجّح للصدور كالفصاحة والأفصحيّة ، ومنه مرجّح للمضمون كالنقل باللفظ والمعنى.

(ثمّ ذكر) بعض المعاصرين (في مرجّحات المتن : النقل باللفظ) في قبال النقل بالمعنى ، مع انّه مرجّح للمضمون (والفصاحة والركاكة) حيث إنّ الفصيح مقدّم على الركيك ، مع أنّه مرجّح للصدور (والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه) والمسموع مقدّم ، مع انّه مرجّح للصدور (والجزم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام على غيره) بأن يكون أحد الخبرين مسموعا قطعا من المعصوم عليه‌السلام ، لأنّ الراوي كان في زمان المعصوم عليه‌السلام ، وقد تمكّن من الحضور عنده ، وتقديمه على الخبر الآخر الذي يحتمل فيه بأنّ راويه لم يكن في زمان

٢٦٥

وكثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، ونحو ذلك.

وأنت خبير بأنّ مرجع الترجيح بالفصاحة والنقل باللفظ إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الاسلام.

______________________________________________________

المعصوم عليه‌السلام ، بل روى عنه بواسطة ، أو كان في زمان المعصوم عليه‌السلام ، لكنّه لم يتمكّن من الحضور عنده ، مع انّه مرجّح للصدور.

(و) هكذا ذكر بعض المعاصرين (كثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، ونحو ذلك) كالتقييد والاطلاق ـ مثلا ـ حيث يلزم فيها تقديم المنطوق على المفهوم ، والخصوص على العموم ، والتقييد على الاطلاق ، وعدّها مرجّحات متنية مع انّها مرجّحات دلالية.

(وأنت خبير بأنّ) بعض المعاصرين هذا قد جمع بين المرجّحات الدلالية وبين سائر المرجّحات المتنية وعدّها كلّها دلالية ، بينما مرجّحات الدلالة غير مرجّحات المتن ، إذ (مرجع الترجيح بالفصاحة) والأفصحيّة (والنقل باللفظ) والمسموع من الشيخ ، والمقطوع بسماعه عن المعصوم عليه‌السلام هو : (إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه) أي : على الترجيح بهذه الامور (هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور).

وعليه : فاللازم أن يعدّ الترجيح بالفصاحة وما إليها من هذه المرجّحات المتنية راجعا إلى الظنّ بالصدور المختلف فيه (وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الاسلام) فقول المعاصر : بأنّه ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام

٢٦٦

وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ، وقد عدّها من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ، والأولى ما عرفت ، من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة ، بل هي من موارد الجمع المقبول ، فراجع.

______________________________________________________

محلّ نظر ، وذلك لأنّ الذي لم يختلفوا فيه هو : المرجّح الدلالي كما قال : (وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه) بين علماء الاسلام.

هذا هو التوهّم الأوّل ، وهناك توهّم ثان بعكس الأوّل وهو : عدّ المرجّحات الدلالية من مرجّحات المتن ، بمعنى جعل كلّ مرجّح دلاليّ مرجّحا متنيّا بلا تفكيك بينهما كما قال : (وقد عدّها) أي : عدّ المرجّحات الدلالية (من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره) أي : غير صاحب الزبدة مثل صاحب الفصول والمناهج والقوانين ونحوهم ، وهذا التوهّم كالتوهّم الأوّل غير تامّ.

(و) إنّما لم يكن تامّا لأنّه كما قال : بأنّ (الأولى ما عرفت) من انّه لا ينبغي عدّ مطلق المرجّحات المتنيّة من المرجّحات الدلالية على ما توهّمه المعاصر كما لا ينبغي عدّ المرجّحات الدلالية من المرجّحات المتنية على ما توهّمه صاحب الزبدة ، بل يلزم أن لا نعدّ المرجّحات الدلالية من باب المرجّحات رأسا ، وذلك لما سبق : (من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة) لأنّ العرف لا يرى بينهما تعارضا حتّى يعالجها بالترجيح وما أشبه ذلك (بل هي من موارد الجمع المقبول) نظير القرينة وذي القرينة (فراجع) كلامنا السابق في ذلك ، فانّا وان كنّا قد نقلنا سابقا عن القوانين وغيره : من انّهم جعلوا الجمع الدلالي أيضا من المرجّحات ، لكنّه مخدوش فيه كما أشرنا إليه.

٢٦٧

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور :

بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي : من تقيّة ، أو نحوها من المصالح ، وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ، وهي مطابقة ظاهر الخبر

______________________________________________________

(وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور) مقابل الترجيح من حيث الصدور ، ومن حيث المضمون ، فهو : (بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء) من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة (يحتمل من أجله) أي : من أجل ذلك الشيء (أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي : من تقيّة ، أو نحوها من المصالح) فإنّ الحكم الصادر عنهم عليهم‌السلام سواء كان تقيّة أو غير تقيّة فهو حكم الله ، لكن فرق بين أن يكون حكم الله أوّليّا ، أو حكم الله ثانويّا ، فانّ التقيّة حكم الله الثانوي الذي يعمل به الانسان في حال الضرورة ، سواء كانت الضرورة من باب موافقة العامّة ، أم من باب القاء الخلاف بين الشيعة ، لئلّا يعرفوا فيؤخذ برقابهم ، كما ذكر ذلك في بعض الروايات.

(وهي) أي : المصالح (وان كانت غير محصورة في الواقع) لأنّ المصلحة الثانوية قد تكون لأجل التقيّة ، أو لأجل القاء الخلاف بين الشيعة ، أو لأجل أنّ السائل كان وسواسيّا فأجابه الإمام عليه‌السلام بالحكم الثانوي لرفع وسواسه ، أو لأجل انّه كان مضطرا ، فبيّن له الإمام عليه‌السلام حكما اضطراريّا لدفع اضطراره ، أو لأجل انّه كان من مذهب آخر فأظهر له الإمام عليه‌السلام حكم مذهبه من باب الالزام ، لدليل الزموهم بما التزموا به ، وإلى غير ذلك من المصالح الكثيرة.

(إلّا أنّ الذي بأيدينا) غالبا هو (أمارة التقيّة) فقط (وهي : مطابقة ظاهر الخبر

٢٦٨

لمذهب أهل الخلاف ، فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم احتمالا غير موجود في الخبر الآخر.

قال في العدّة : «إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة ، وترك العمل بما يوافقه» ، انتهى.

وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ : «والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ،

______________________________________________________

لمذهب أهل الخلاف) سواء كان مطابقا لعامة أهل الخلاف ، أو لبعض أهل الخلاف ، ممّن كان الإمام عليه‌السلام يخشى منهم على نفسه ، أو على السائل ، أو على شخص ثالث (فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم) أي : عن أهل الخلاف للأمن من ضررهم (احتمالا غير موجود في الخبر الآخر) المعارض له ، فيؤخذ بذلك الخبر الآخر.

ويدلّ على ما ذكرناه قول جماعة من العلماء بذلك ، فقد (قال) الشيخ (في العدّة : «إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد) وسائر الجهات المرجّحة (عمل بأبعدهما من قول العامّة ، وترك العمل بما يوافقه» (١)) أي : يوافق قول العامّة (انتهى) كلام شيخ الطائفة.

(وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ) الدالّة على الترجيح بمخالفة العامّة ، ولزوم أن يؤخذ بالمخالف ويترك الموافق ، قال : (والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك) أي : احتجاج الشيخ في الترجيح بمخالفة العامّة إنّما هو (برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام) تدلّ على الأخذ بمخالف العامّة ، قال :

__________________

(١) ـ عدّة الاصول : ص ٦٠.

٢٦٩

وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد ، ولا يخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره.

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلّا الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ،

______________________________________________________

(و) لكنّه غير تامّ لما يلي :

أوّلا : إذ (هو إثبات مسألة علميّة) اصوليّة (بخبر الواحد) الظنّي وهو غير صحيح ، كما قال : (ولا يخفى عليك ما فيه) أي : ما في هذا الاثبات ، إذ مسألة حجيّة الخبر المخالف للعامّة في المتعارضين ، هي مسألة اصولية ، وإثباتها يحتاج إلى العلم ، فاثباتها تعبّدا بالخبر الواحد الظنّي غير صحيح ، وهذا بناء على أصل اشتهر عند بعض الفقهاء يقول : بأنّ المسائل الاصولية يجب إثباتها بالأدلّة العلميّة ، ولا يمكن إثباتها بالأدلّة الظنّية كالخبر الواحد.

ثانيا : (مع أنّه قد طعن فيه) أي : في المراد من هذا الخبر الظاهر في الدلالة على الترجيح بمخالفة العامّة (فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره) فكيف يمكن أن نأخذ بأمر طعن فيه فضلاء الشيعة؟ فانّ جماعة منهم قالوا : إنّ الأخذ بالخبر المخالف للعامّة يراد به ما يرتبط بالمسائل العقائدية من التولّي والتبرّي بالنسبة إلى الخلفاء ، لا ما يرتبط بالمسائل الاصولية من إثبات الترجيح بمخالفة العامّة ، علما بأنّ بعض المحشّين قال : إنّ مراد المحقّق من الطعن هنا هو : إنّ حجيّة خبر الواحد مطلقا ، سواء كان في الاصول أم في الفروع مسألة مطعون فيها ، حيث أنّ خبر الواحد عند جماعة ليس بحجّة مطلقا.

ثمّ قال المحقّق : (فان احتجّ) الشيخ الطوسي لمذهبه الذي ذهب إليه من ترجيح مخالف التقيّة على موافقها (بأنّ الأبعد) عن التقيّة (لا يحتمل) فيه (إلّا الفتوى) بالحقّ (والموافق للعامّة يحتمل التقيّة) فيه ، وحيث كان كذلك

٢٧٠

فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلّا الفتوى ؛ لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام ، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام ، وإن كنّا لا نعلم ذلك.

فإن قال : إنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث ،

______________________________________________________

(فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل) التقيّة فيه.

إذا احتجّ الشيخ بذلك (قلنا : لا نسلم أنّه لا يحتمل) في الخبر الأبعد عن التقيّة (إلّا الفتوى) بالحقّ ، وذلك (لأنّه كما جاز الفتوى) فيه بالحقّ (لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام) أي : بأن أفتى الإمام عليه‌السلام فيه بالحقّ وأراد منه ظاهر ما قاله (كذلك يجوز الفتوى) فيه (بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك) أي : لا نعلم تلك المصلحة التي أرادها الإمام عليه‌السلام من الافتاء بما لم يرد ظاهره ، وإنّما أراد تأويله.

والحاصل : إنّ الشيخ قال : الموافق للتقيّة يحتمل فيه التقيّة ، ونحن نقول : المخالف للتقيّة يحتمل فيه التأويل ، فيتعارض الاحتمالان ويتساقطان ، فإذا تساقط الاحتمالان كان الخبران متساويين ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فلو قال الإمام عليه عليه‌السلام ـ مثلا ـ مرّة : المغرب هو : سقوط القرص ، وقال اخرى : المغرب هو : ذهاب الحمرة ، فكما نحتمل في الأوّل التقيّة نحتمل في الثاني استحباب التأخير إلى ذهاب الحمرة.

(فإن قال) شيخ الطائفة : في جواب ما احتملناه من التأويل (انّ ذلك) الذي احتملتموه من التأويل هو خلاف الظاهر ، لأنّه (يسدّ باب العمل بالحديث) لأنّا نحتمل في كلّ حديث انّه اريد به التأويل لا ظاهره فيكون مجملا ولا يمكن العمل به.

٢٧١

قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع عن العمل لا مطلقا ، فلا يلزم سد باب العمل ، انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : توضيح المرام في هذا المقام : أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه :

أحدها : مجرّد التعبّد ،

______________________________________________________

(قلنا : إنّما نصير إلى ذلك) الذي قلناه : من احتمال إرادة خلاف الظاهر في الخبر الأبعد عن التقيّة (على تقدير التعارض) بين الخبرين (وحصول مانع يمنع عن العمل) به (لا مطلقا) في كلّ حديث ، ومعه (فلا يلزم سدّ باب العمل (١)) إذ لا كلام لأحد في العمل بظاهر الخبر الذي لا معارض له (انتهى كلامه) أي : كلام المحقّق (رفع مقامه) ممّا يظهر منه : إنّ التقيّة وعدم التقيّة ليست من المرجّحات حتّى نرجّح بها الخبر الذي لا يوافق التقيّة على الذي وافقها.

(أقول) : إشكال المحقّق على الشيخ غير وارد ، لأنّ احتمال التقيّة في الموافق للعامّة ليس معارضا باحتمال التأويل في المخالف للعامّة ، و (توضيح المرام في هذا المقام) هو : (أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه) أربعة ، والاشارة إلى الفرق بين هذه الوجوه يأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، والوجوه الأربعة هي كالتالي :

(أحدها : مجرّد التعبّد) بدون قصد مطابقة الواقع وعدم مطابقة الواقع ، وذلك بمعنى : إنّ الشارع أراد ترجيح الخبر المخالف للعامّة تعبّدا فقط ، بلا ان يلاحظ أقربيّته إلى الحقّ ، أو عدم احتمال التقيّة فيه ، ومعه فيكون مخالفة العامة مرجّحا تعبّديا ، ويكون نظير : منع الشارع عن تقليد المجتهد الفاسق جوارحيا وجوانحيا ،

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ١٥٦.

٢٧٢

كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ قدس‌سرهما.

الثاني : كون الرشد في خلافهم ، كما صرّح به في غير واحد من الأخبار المتقدّمة ، ورواية علي بن أسباط ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر ،

______________________________________________________

وان كان مساويا للمجتهد العادل من حيث الاجتهاد وصدق لهجة ولسانا ، وذلك لأنّ الشارع أراد سدّ باب الفسقة تعبّدا ، لا من جهة مطابقا الواقع وعدم مطابقة الواقع.

(كما هو) أي : التعبّد بترجيح الخبر المخالف للعامّة (ظاهر كثير من أخباره) أي : أخبار ترجيح المخالف للعامّة ، فانّ تلك الأخبار لم تتعرّض لبيان علّته وانّه هل هو لأقربيّته إلى الواقع أو لشيء آخر؟ فيظهر انّه مجرّد تعبّد.

هذا (ويظهر من المحقّق استظهاره) أي : استظهار التعبّد (من الشيخ قدس‌سرهما) أيضا حيث نقل المحقّق عن الشيخ قوله : «والظاهر انّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ...» ومن المعلوم : إنّ الرواية توجب التعبّد لا الأقربية والأبعدية عن الحقّ والواقع.

الوجه (الثاني : كون الرشد في خلافهم) أي : في خلاف العامّة ، فيكون وجه الترجيح لمخالفة العامّة هو : كون المخالف أقرب إلى الواقع (كما صرّح به) أي : بكون الرشد بمخالفتهم (في غير واحد من الأخبار) العلاجيّة (المتقدّمة ، و) قد صرّح به أيضا في (رواية علي بن أسباط) فانّها وان لم تكن من روايات العلاج إلّا انّها ترشد إلى هذه الجهة التي نحن بصددها.

(قال) أي : علي بن أسباط : (قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر) أي : يحدث

٢٧٣

لا أجد بدّا من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، فقال : ايت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه.

وأصرح من ذلك كلّه خبر أبي اسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إن عليّا صلوات الله عليه لم يكن يدين

______________________________________________________

لي حادث جديد احتاج إلى حكمه بحيث (لا أجد بدّا من معرفته) لابتلائي به في عملي (وليس في البلد الذي أنا فيه أحد استفتيه من مواليك) الرواة فما ذا أصنع؟.

(فقال : ايت فقيه البلد) وكان فقيه البلد في تلك الأيّام من علماء العامّة (واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فانّ الحقّ فيه (١)) أي : في خلاف ما أفتى به فقيه البلد ، وذلك فيما لو تردّد السائل بين أمرين ، لا أكثر من أمرين ، كالشكّ في انّ أرث الامّ ـ مثلا ـ هل هو السدس أو الثلث؟ فإذا أتاه وسأله عنه فأفتاه بالسدس ، عمل بالثلث ، وإذا أفتاه بالثلث ، عمل بالسدس ، وهكذا غيرها من المسائل التي لها وجهان وقد تردّد السائل بين ذينك الوجهين.

(وأصرح من ذلك كلّه) في الدلالة على كون الحقّ في خلافهم ، وإنّ كلامهم مخالف للواقع ، فخلافهم مطابق للواقع ممّا يشمل صورة التعارض أيضا (خبر أبي إسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليا صلوات الله عليه لم يكن يدين

__________________

(١) ـ عيون اخبار الرضا : ج ١ ص ٢٧٥ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٥ ب ٩ ح ٣٣٣٥٦ ، علل الشرائع : ص ٥٣١ ح ٤ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٢٩٤ ب ٢٢ ح ٢٧ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٣٣ ب ٢٩ ح ١٤.

٢٧٤

الله بشيء إلّا خالف عليه العامّة ، إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه ، صلوات الله عليه ، عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ، ليلبسوا على الناس.

الثالث : حسن مجرّد المخالفة لهم ، فمرجع هذا المرجّح ليس الأقربيّة إلى الواقع ، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ،

______________________________________________________

الله بشيء) من الأحكام (إلّا خالف عليه العامّة ، إرادة لإبطال أمره) وان لا يكون له رأي يعرف بين الآراء (وكانوا يسألونه صلوات الله عليه عن الشيء الذي لا يعلمونه) أي : عن حكم المسألة التي لا يعلمون حكمها (فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم) وعملوا بذلك الضدّ (ليلبسوا) الحقّ بالباطل (على الناس) (١).

ولا يخفى : إنّ مثل هذا شايع في الحكومات المتناحرة ، والحكّام الغاصبين ، والخلفاء الجائرين ، حتّى ورد انّ بني العباس لمّا جاءوا إلى الحكم غيّروا كلّ شيء كان في عهد بني اميّة ، من أحكام وقوانين ، وبقايا وآثار ، حتّى انّ علامات الفراسخ التي نصبها بنو اميّة في الطريق ، قلعوها عن مواضعها وجعلوها في أماكن أخر وبأشكال أخر ، فلا تعجب في أن يكون اولئك الذين عارضوا عليا عليه‌السلام في الحكم ، وغصبوا حقّه في الخلافة ، أن يعارضوه في كلّ شيء.

الوجه (الثالث : حسن مجرّد المخالفة لهم) أي : للعامّة ، وذلك للتحرّز ـ مثلا ـ من الذوبان فيهم ، والانخراط في سلكهم ، ومعه (فمرجع هذا المرجّح) وهو مخالفة العامة على الوجه الثالث (ليس الأقربية إلى الواقع ، بل هو) مرجّح خارجي (نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب) في كلام بعضهم ، وذلك فيما

__________________

(١) ـ علل الشرائع : ص ٥٣١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٦ ب ٩ ح ٣٣٣٥٧.

٢٧٥

ودليل الحكم الأسهل على غيره.

ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات ، مثل قوله عليه‌السلام في مرسلة داود بن الحصين : إنّ من وافقنا ، خالف عدوّنا ، ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل ، فليس منّا ولا نحن منه ، ورواية الحسين بن خالد : شيعتنا المسلّمون لأمرنا ،

______________________________________________________

إذا دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، فانّهم يرجّحون الحرمة على الوجوب ، لكن لا لجهة كونه أقرب إلى الواقع ، بل لجهة اخرى ، مثل : إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، أو غير ذلك.

(و) نظير ترجيح (دليل الحكم الأسهل على غيره) أي : غير الأسهل ، فانّه إذا كان هناك حكمان ، أحدهما أسهل من الآخر ، فانّه يؤخذ بالأسهل ، لكن لا لجهة انّه أقرب إلى الواقع ، بل لقوله سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) ولقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢) وإلى غير ذلك.

(و) هذا الاحتمال الذي ادّعيناه في الوجه الثالث وان لم يكن به تصريح في أخبار العلاج ، إلّا انّه (يشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات) الواردة في باب التولّي والتبرّي ممّا يشمل المتعارضين أيضا (مثل قوله عليه‌السلام في مرسلة داود بن الحصين : انّ من وافقنا ، خالف عدوّنا) فانّ ظاهره المخالفة لهم في كلّ شيء (ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل ، فليس منّا ولا نحن منه) (٣) يعني : إنّ بيننا وبينه بعدا شاسعا.

(و) يشهد له أيضا (رواية الحسين بن خالد : شيعتنا المسلّمون لأمرنا ،

__________________

(١) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٣) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٩ ب ٩ ح ٣٣٣٦٦.

٢٧٦

الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا ، فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خالفوهم ما استطعتم.

الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة ، ويدّل عليه قوله عليه‌السلام في رواية : ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه ، بناء على أنّ المحكي

______________________________________________________

الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا) أي : في كلّ شيء (فمن لم يكن كذلك) أي : ليست فيه هذه الصفات الثلاث (فليس منّا) (١) انتهت هذه الرواية.

وعلى هذا : (فيكون حالهم) أي : حال أعداء الأئمّة الناصبين لهم (حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خالفوهم ما استطعتم (٢)) فانّه ليس لأجل الأقربية إلى الواقع ، وإنّما لأجل عدم المشابهة بهم ـ مثلا ـ.

الوجه (الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة) دون المخالف ، فيكون المعيار هو الطريقيّة لا التعبّدية (و) هذا الوجه وان كان كالوجه الثالث في عدم تصريح أخبار العلاج به ، إلّا انّه (يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية : ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (٣)) فانّ المراد بالناس هنا هم العامّة ، لأنّهم محلّ الابتلاء في أمثال هذه الأخبار كما هو واضح.

لكن دلالة هذا الخبر على الوجه الرابع إنّما هو (بناء على أنّ المحكي

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٧ ب ٩ ح ٣٣٣٥٨ ، بحار الانوار : ج ٦٨ ص ١٦٧ ب ١٩ ح ٢٤.

(٢) ـ السنن الكبرى : ج ٢ ص ٦٠٥ ، المعجم الكبير : ج ٧ ص ٢٩٠ ، وفيه (صلوا في نعالكم ، خالفوا اليهود).

(٣) ـ تهذيب الاحكام : ج ٨ ص ٩٨ ب ٣٦ ح ٣ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٣١٨ ب ١٨٣ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٧٩.

٢٧٧

عنه عليه‌السلام ، مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ، وأنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وأنّ القضيّة غالبيّة ، لكذب الدائمة.

______________________________________________________

عنه عليه‌السلام مع عدالة الحاكي كالمسموع منه) أي : كالمسموع من الإمام عليه‌السلام ، إذ لا خصوصية للسماع من الإمام ، لأنّ ملاك السماع من الإمام موجود أيضا في الرواية المحكيّة عن الإمام بواسطة زرارة ـ مثلا ـ أو بواسطة محمّد بن مسلم ، ومن إلى ذلك من الثقاة العدول.

(و) بناء على (أنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين) ومعالجتهما ، حتّى لا يدّعى بأنّ المراد من الشباهة بقول الناس هنا ، هو التفرّع على قواعد العامّة من القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك.

(و) إن قلت : انّه من الواضح عدم كليّة ما ذكر في هذه الرواية خارجا ، وذلك لوضوح انّه ليس كلّ ما يوافق العامّة من المتعارضين في الخارج صدر من باب التقيّة فيتنافى مع ظهور الرواية الظاهر في الكليّة.

قلت : (أنّ القضيّة غالبيّة ، لكذب الدائمة) فانّ أكثر القضايا العرفيّة محمولة على الغالب دون الدائم ، حتّى اشتهر بينهم انّ القضايا العرفية من باب المقتضيات لا العلل التامّة ، ومعه فلا تنافي.

وكيف كان : فقد ظهر ممّا تقدّم : انّ الفرق بين الوجوه الأربعة هو على ما يلي :

أوّلا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الأوّل من باب التعبّد ، لا من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لكن هذا الأخذ لا يكون في كلّ مخالف للعامّة ، بل في خصوص الخبرين اللذين يكون أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم.

ثانيا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الثاني من باب الطريقيّة

٢٧٨

أمّا الوجه الأوّل : فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعي ،

______________________________________________________

والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد ، لكن هذا الأخذ ليس في خصوص الخبرين المتعارضين ، بل يعمّ كلّ شيء حتّى لو لم يكن خبر أصلا.

ثالثا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الثالث من باب التعبّد كالوجه الأوّل لا من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع كالوجه الثاني ، لكن هذا الأخذ هنا ليس كالوجه الأوّل خاصا بالخبرين المتعارضين بل يعمّ كلّ شيء حتّى وان لم يكن خبر أصلا ، فإذا سلك المخالفون مسلكا في أي شيء كان ، لزم مخالفتهم فيه ، وحينئذ يكون الوجه الثالث أعمّ من الوجه الأوّل.

رابعا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الرابع كالوجه الثاني من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد كالوجه الأوّل والثالث ، لكن هذا الأخذ هنا ليس كالوجه الثاني يعمّ كلّ شيء ، بل هو خاص بالخبرين المتعارضين ، لأنّا بنينا على كون الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وحينئذ يكون الوجه الرابع أخصّ من الوجه الثاني.

ثمّ انّ تقرير الحصر في الوجوه الأربعة يكون على النحو التالي : الأخذ بمخالف العامّة إمّا تعبّدي أو طريقي ، وكلّ واحد منهما ، امّا أعمّ من مورد الخبرين ، أو خاص بمورد الخبرين ، فالوجوه أربعة.

إذن : فترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة ـ حسب توضيح المصنّف ـ يكون بأحد هذه الوجوه الأربعة فلننظر أيّها يكون المتعيّن هنا؟.

(أمّا الوجه الأوّل : فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعي) أي : انّ اعتبار الأخبار إنّما هو من باب الطريقيّة والكشف

٢٧٩

ينافي التعليل المذكور في الاخبار المستفيضة المتقدّمة.

ومنه يظهر : ضعف الوجه الثالث مضافا إلى صريح رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم ، فإنهم ليسوا

______________________________________________________

عن الواقع ، فاللازم معه أن يكون كلّ ما يدور حول الخبر ، حتّى الترجيح بين الخبرين ملحوظا فيه الطريقيّة والأقربيّة إلى الواقع أيضا ، بينما مجرّد التعبّد ، أو حسن المخالفة ، لا كشف فيه ، وحينئذ فالوجه الأوّل مع بعده (ينافي التعليل المذكور في الأخبار المستفيضة المتقدّمة) أيضا ، فانّ أكثر الأخبار علّلت مخالفة العامّة بكون الرشد في خلافهم ، ممّا يكون معناه : الطريقيّة والكشف عن الواقع ، فنحمل الأخبار الخالية عن هذا التعليل عليها ، وبذلك يتبيّن : انّه لا يلاحظ التعبّد في الأخذ بمخالف العامّة وإنّما الطريقيّة والكشف عن الواقع.

(ومنه يظهر : ضعف الوجه الثالث) أيضا ، لأنّك قد عرفت انّ الوجه الثالث هو أيضا كالوجه الأوّل مبني على التعبّد في مخالفة العامّة ، فيكون الاشكالان الواردان من المصنّف على الوجه الأوّل بقوله : «فمع بعده» وقوله : «ينافي التعليل» واردين أيضا على الوجه الثالث.

(مضافا إلى) إشكال ثالث يرد على هذين الوجهين : الأوّل والثالث ، وهو : (صريح رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام) الدالّة على انّ الأخذ بمخالفة العامّة إنّما هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد ، فانّه (قال : ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه) أي : من العقائد والأحكام (ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه) أي : من عقائدكم وأحكامكم (فخالفوهم ، فانّهم ليسوا

٢٨٠