الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

إنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ، نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال ، مبني على استفادته من الأخبار.

______________________________________________________

وعليه : فإن الحكم المجعول على الموضوع بما هو هو من غير أخذ الجهل بالموضوع يسمّى حكما واقعيا.

إذن : فقوله سبحانه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (١) حكم واقعي ، وقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٢) حكم واقعي ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٣) حكم واقعي وهكذا.

وأمّا الحكم الظاهري ، فهو المجعول على الموضوعات من حيث الجهل وعدم العلم بالحكم المجعول لها أوّلا وبالذات مثل : قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك طاهر حتى تعلم» (٤) وقوله عليه‌السلام : «كل شيء حلال حتى تعلم» (٥) ونحوهما.

إذا تبين ذلك نقول : (إنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم) حيث لا نعلم حكم هذا الموضوع فنستصحب الحالة السابقة (نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال ، مبني على استفادته من الأخبار) مثل : «لا تنقض اليقين بالشك» (٦) ونحوه.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٦.

(٢) ـ سورة المائدة : الآية ٦.

(٣) ـ سورة الأنعام : الآية ١١٩.

(٤) ـ مستدرك الوسائل : ج ١ ص ١٩٠ ب ٤ ح ٣١٨ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٨٥ ب ١٢ ح ١١٩.

(٥) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٦) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

٨١

وأمّا بناء على كونه من أحكام العقل ، فهو دليل ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما.

______________________________________________________

وعليه : فانه كما يكون حكم شرب التتن المشكوك الحرمة والحلية هو : الحلية والبراءة ، وحكم صلاة الجمعة المشكوك وجوبها وعدم وجوبها هو : الوجوب والاشتغال ، كذلك يكون حكم الماء الزائل تغيره من قبل نفسه المشكوك بقاء نجاسته هو النجاسة ووجوب الاجتناب للاستصحاب.

وهذا إنّما يتم لو أخذنا الاستصحاب من الأخبار ، فإنها تأمر عند الشك فيما له حالة سابقة بالأخذ بالحالة السابقة.

(وأمّا بناء على كونه) أي : الاستصحاب (من أحكام العقل) وان العقل دال على استصحاب الحالة السابقة (فهو دليل ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما) أي : على قول من يرى حجية القياس وحجية الاستقراء.

وعليه : فانه كما يظن العقل بالحكم الشرعي من القياس أو الاستقراء عند القائلين بهما ، كذلك يظن العقل بالحكم السابق إذا كان متيقنا سابقا مشكوكا لاحقا.

والحاصل : ان الاستصحاب لو استفدناه من الأخبار فهو أصل عملي ، لأن في الأخبار أخذ الشك في موضوعه ، وان استفدناه من غيره ، كبناء العقلاء ونحوه فهو دليل ظني اجتهادي ، لأن موضوعه الحالة السابقة من غير أخذ الشك في الموضوع.

لا يقال : لا بد من الشك في الحكم حتى نستصحب.

لأنّه يقال : الشك في الحكم متحقق في الخبر أيضا ، فإنا إذا لم نشك

٨٢

وحيث أنّ المختار عندنا هو الأوّل ، ذكرناه في الاصول العلميّة المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم ، لكن ظاهر كلمات الأكثر ، كالشيخ ، والسيّدين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وصاحب المعالم ، كونه حكما عقليا ، ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر من الأخبار.

نعم ، ذكر في العدّة ، انتصارا للقائل بحجيته ، ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أنّ الشيطان ينفخ بين أليتي

______________________________________________________

في وجوب الجمعة لم نأخذ بخبر زرارة.

إذن : فلا فرق بين الأصل العملي والدليل الاجتهادي من حيث الشك وإنّما الفرق بينهما هو من حيث ان في الأصل العملي أخذ الجهل في موضوع الحكم فهو يقول : الموضوع المشكوك حلال ، وفي الدليل الاجتهادي أخذ الجهل ظرفا للحكم ، فهو يقول : الموضوع الواقعي في ظرف الجهل بحكمه حلال.

هذا (وحيث انّ المختار عندنا هو الأوّل) أي : استفادة الاستصحاب من الأخبار (ذكرناه في الاصول العمليّة المقررة للموضوعات بوصف كونها) أي : كون تلك الموضوعات (مشكوكة الحكم) فيكون الشك قد أخذ في الموضوع فيكون أصلا عمليا.

(لكن ظاهر كلمات الأكثر ، كالشيخ ، والسيّدين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وصاحب المعالم ، كونه حكما عقليا) فيكون الاستصحاب عندهم من الأدلة الاجتهادية (ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر من الأخبار) حيث إن الأخبار ظاهرها : أخذ الشك في الموضوع فيكون الاستصحاب من الاصول العملية.

(نعم ، ذكر في العدّة) للشيخ (انتصارا للقائل بحجيته) أي : حجية الاستصحاب (ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من انّ الشيطان ينفخ بين أليتي

٨٣

المصلّي ، فلا ينصرفنّ أحدكم إلّا بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا».

ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف والمختص بمورد خاص ، ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم.

وأوّل من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي ،

______________________________________________________

المصلّي ، فلا ينصرفنّ أحدكم إلّا بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا» (١)) فانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالبقاء على طهارته السابقة عند الشك في ان الشيء الذي خرج منه هل هو ريح من داخل المعدة ، أو إنه ريح يجذبه الموضع من الخارج ثم يردّه؟.

(ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف) على حجية الاستصحاب (والمختص بمورد خاص) فإنّ الخبر ضعيف سندا لأنه نبوي وضعيف دلالة لأنه لا يدل على قاعدة كلية في المقام (ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم) مما رواه أبو بصير قائلا :

عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن آبائه : ان أمير المؤمنين عليه‌السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب من العلم ، فقال في أحدها : «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه» (٢) فإن هذا الخبر صحيح سندا عام دلالة وهو دال على الاستصحاب.

(وأوّل من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي)

__________________

(١) ـ عدّة الاصول للطوسي : ص ٣٠٤ وقريب منه في الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٦ ح ٣ وتهذيب الاحكام : ج ١ ص ٣٤٧ ب ١٤ ح ٩ والاستبصار : ج ١ ص ٩٠ ب ٥٥ ح ٢.

(٢) ـ الخصال : ص ٦١٩ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٧ ب ١ ح ٦٣٦.

٨٤

فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ، وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم.

نعم ، ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ، حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه «بنقض اليقين باليقين» وهذه العبارة ظاهرة في أنّها مأخوذة من الأخبار.

______________________________________________________

الشيخ عبد الصمد (فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي) وهو كتاب لهذا الشيخ الجليل (وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم) فهم إلى اليوم يتمسكون بالأخبار لحجية الاستصحاب.

(نعم ، ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار) في الاستصحاب (حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه) وذلك خلافا لبعض الفقهاء كيحيى بن سعيد وغيره القائلين بطهارته مستدلين له : بأنه إذا زال تغيره لم يصدق عليه الماء المتغير.

وكيف كان : فإن ابن إدريس عبّر عن استصحاب النجاسة («بنقض اليقين باليقين») وهو ما ورد من قوله : «ولكن انقضه بيقين آخر» (١) بمعنى انه حيث لا يقين لا حق بالطهارة هنا نستصحب النجاسة السابقة.

(وهذه العبارة) من ابن إدريس كما تراها (ظاهرة في أنّها مأخوذة من الأخبار) الواردة في باب الاستصحاب.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٨ ب ١ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٥ ب ١ ح ٦٣١.

٨٥

الثاني :

إنّ عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ، من الأدلة العقلية ، كما فعله غير واحد منهم ، باعتبار أنّه حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي بواسطة خطاب الشارع.

فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم ارتفاعه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ،

______________________________________________________

(الثاني) : قد نقول : إن الاستصحاب حكم شرعي بحت ، لأنه ثابت بالأخبار ، وقد نقول : إن الاستصحاب حكم عقلي ، فإذا قلنا بأنه حكم عقلي ، كان المراد منه : ان العقل بضميمة مقدمة شرعية ـ لا مستقلا ـ ينتهي إلى الاستصحاب ، وسيجيء صورة القياس عند قوله : «فنقول» ، وذلك كما قال :

(إنّ عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ، من الأدلة العقلية ، كما فعله غير واحد منهم) حيث إنهم عدّوا الاستصحاب من الأمارات وذلك (باعتبار أنّه حكم عقلي) غير مستقل (يتوصل به إلى حكم شرعي) توصلا (بواسطة خطاب الشارع) فهنا خطاب شرعي وأمر عقلي ، وضم أحدهما إلى الآخر ينتج الحكم الشرعي.

إذن : فليس مرادهم من الاستصحاب على هذا القول انه حكم عقلي مستقل عن الشرع ليكون من قبيل حسن الاحسان وقبح الظلم وما أشبه ذلك ، بل مرادهم منه : إنه حكم عقلي غير مستقل عن الشرع فهو بانضمام خطاب شرعي ينتهي إلى حكم شرعي ، وصورة القياس ما ذكره بقوله : (فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني) كنجاسة الماء المتغير (ثبت سابقا) أي : في الزمان السابق حين كان متغيرا (ولم يعلم ارتفاعه) بزوال التغير من نفسه (وكلّ ما كان كذلك فهو باق)

٨٦

فالصغرى شرعية والكبرى عقليّة ظنّية ، فهو والقياس والاستحسان والاستقراء ، نظير المفاهيم والاستلزامات ، من العقليّات غير المستقلة.

______________________________________________________

فالماء المتغير بعد زوال تغيّره باق على نجاسته.

(فالصغرى) وهي قوله : ان الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا (شرعية) فان الشارع يقول بنجاسة الماء المتغير بسبب التغير.

(والكبرى) وهي قوله : وكل ما كان كذلك فهو باق (عقليّة ظنيّة) فإن العقل قد يكون قاطعا وقد يكون ظانا.

وعليه : (فهو) أي : الاستصحاب حينئذ (والقياس والاستحسان والاستقراء) عند من يقول بحجية هذه الثلاثة (نظير المفاهيم) كمفهوم الوصف ، ومفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم العدد (و) نظير (الاستلزامات) العقلية كاستلزام الأمر بالشيء وجوب مقدمته ، وحرمة ضده ، وما أشبه ذلك ، يكون (من العقليّات غير المستقلة) لأنّها لا تنتج إلّا بضميمة مقدمة خارجية شرعية.

مثلا : العقل يرى حرمة الخمر ويظن بأن مناط الحرمة السكر فيقيس عليه النبيذ فيقول بحرمته أيضا لأنه مسكر ، وهذا هو القياس.

ويلاحظ حرمة النظر وسائر الاستمتاعات مع الأجنبية فيستحسن حرمة كل ما يناسب ذلك فيقول بحرمة التكلم معها أيضا ، وهذا هو الاستحسان.

ويرى حرمة بيع العنب ليعمل خمرا ، وحرمة بيع السلاح لأعداء الدين ، وحرمة اعطاء السيف بيد الظالم ، وحرمة إراءة الطريق لمن يريد الزنا وما أشبه ذلك ، فيظن منها تحريم كل مقدمة الحرام فيقول بحرمة السفر لأجل المعصية ، وهذا هو الاستقراء.

ويلاحظ قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء» فيفهم منه من باب

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مفهوم الوصف الانتفاء عند الانتفاء ، فيقول بتنجيس القليل بالملاقاة.

ويلاحظ اشتراط الصلاة بالطهارة ، فيقطع بوجوب ما لا يتم الواجب إلّا به فيقول بوجوب الوضوء.

ويرى قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) فيقطع بأنه لا صيام بعد دخول الليل فيقول بالافطار فيه ، وهكذا.

ومن الواضح : إن هذه الصغريات الشرعية المذكورة ، والكبريات العقلية الظنية أو القطعية التي هي عبارة عن القياس والاستحسان والاستقراء والوصف والشرط والغاية ، ونحوها ، لا توصلنا إلى حكم الشرع عبر النتائج المترتبة عليها وهو واضح ولا كلام فيه.

إنّما الكلام في إنه ان كان المراد من حكم العقل غير المستقل في باب الاستصحاب وغيره هو انضمام حكم العقل إلى مقدمة شرعية ، وكلما ترتبت مقدمتان إحداهما أضعف ، كانت النتيجة تابعة لأضعف المقدمتين دائما ، وهنا حيث انضم الحكم العقلي الى الحكم الشرعي لزم أن تكون النتيجة حكما شرعيا لا حكما عقليا ، لأن العقل أقوى من حكم الشرع فلما ذا سميت حكما عقليا؟.

والجواب : انّ المراد بالحكم العقلي هنا هو : الحكم العقلي غير المستقل ، فلا فرق بين أن نقول : إنه حكم عقلي غير مستقل ، أو حكم شرعي بضميمة الحكم العقلي إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٧.

٨٨

الثالث :

إنّ مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقليّة مسألة اصولية يبحث فيها عن كون الشيء دليلا على الحكم الشرعي ،

______________________________________________________

(الثالث) : اختلفوا في أن الاستصحاب هل هو من المسائل الاصولية أو الفقهية؟.

قال بعض : بأنه من المسائل الاصولية.

وقال بعض آخر : بأنه من المسائل الفقهية.

وفصّل ثالث بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، فقال : البحث عن الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية من مسائل الاصول ، والجاري في الشبهات الموضوعية من مسائل الفقه.

وفصّل رابع بين الاستصحاب المنتهى اعتباره الى العقل : فمن الاصول ، والمنتهى اعتباره الى النقل : فمن الفقه.

وفصّل خامس بين الاستصحاب بمعنى المحل ، فمن الاصول ، والاستصحاب بمعنى الحال فمن الفقه.

والى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : (إنّ مسألة) حجية (الاستصحاب على القول بكونه) أي : الاستصحاب (من الأحكام العقليّة) بعد ما عرفت معنى كونه من الأحكام العقلية (مسألة اصولية يبحث فيها عن كون الشيء) أي : الاستصحاب (دليلا على الحكم الشرعي) فيكون صورة القياس فيه هكذا :

الاستصحاب العقلي يبحث فيه عن كون الشيء دليلا على الحكم الشرعي ، وكل ما بحث فيه عن الدليل على الحكم الشرعي فهو مسألة اصولية ، لأنّ الأصول

٨٩

نظير حجيّة القياس والاستقراء.

نعم ، يشكل ذلك بما ذكره المحقق القمي قدس‌سره في القوانين ، وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلا ، لا عن دليلية الدليل.

______________________________________________________

يبحث عن أدلة الأحكام.

وعليه : فيكون بحث الاستصحاب (نظير) البحث عن (حجّية القياس والاستقراء) عند من يقول بحجيتهما ، ففي القياس ـ مثلا ـ نقول : البحث عن حجية القياس بحث عن الدليل على الحكم الشرعي ، وكل ما كان البحث فيه عن الدليل على الحكم الشرعي فهو مسألة اصولية.

وهكذا نقول بالنسبة الى الاستقراء.

(نعم ، يشكل ذلك) أي : كون الاستصحاب مسألة اصولية (بما ذكره المحقق القمي قدس‌سره في القوانين وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلا).

مثلا : نبحث عن الكتاب بعد تسليم كونه دليلا ، ونبحث عن السنة بعد تسليم كونها دليلا ، فإنه بعد تسليم ذلك خارجا ، نبحث في علم الاصول عن مطلقات الكتاب ـ مثلا ـ بأنه هل يؤخذ باطلاقها لأنها في مقام الاطلاق ، أو لا يؤخذ باطلاقها لأنها في مقام الاجمال؟ ونبحث عن تعارض الروايتين ـ مثلا ـ في السنة بأنه هل يؤخذ بهذه أو بتلك؟.

(لا) البحث (عن دليلية الدليل) فإنه إذا كان البحث عن دليلية الكتاب وانه دليل أو ليس بدليل ، أو عن السنة : إنها دليل أو ليست بدليل ، لم يكن ذلك من مسائل الاصول ، لأن موضوع الاصول : الأدلة بما هي حجة ، وليست الأدلة

٩٠

وعلى ما ذكره قدس‌سره ، فيكون مسألة الاستصحاب كمسائل حجيّة الأدلّة الظنّية : كظاهر الكتاب ، وخبر الواحد ، ونحوهما ، من المبادي التصديقيّة للمسائل الاصولية ،

______________________________________________________

بما هي هي حتى يكون البحث عن دليليتها بحثا عن العوارض.

ومن المعلوم : ان مسائل كل علم هي التي يبحث فيها عن عوارض موضوع ذلك العلم ، فلا يكون إذن البحث عن دليلية الأدلة داخلا في البحث عن المسائل ، بل يكون داخلا في البحث عن المبادئ.

(وعلى ما ذكره) صاحب القوانين (قدس‌سره فيكون مسألة الاستصحاب كمسائل حجيّة الأدلّة الظنيّة : كظاهر الكتاب ، وخبر الواحد ، ونحوهما) من الاجماع المنقول ، والشهرة ، وغير ذلك (من المبادي التصديقيّة للمسائل الاصولية).

وهذا إشارة الى ما بحث في المنطق : من إن لكل علم موضوعا : وهو الجامع لموضوعات المسائل ، ومسائل : وهي عوارض موضوع العلم ، ومبادئ تصديقية : وهي الأدلة التي تسبب تصديقنا بأن المسألة الفلانية كذا ، ومبادئ تصورية : وهي تصور مفردات ما يدور في ذلك العلم.

مثلا : موضوع علم النحو : الكلمة لأنها جامعة بين موضوعات : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف اليه مجرور ، فإن الفاعل والمفعول والمضاف اليه كلها كلمات.

ومسائل علم النحو : هي هذه المسائل التي عرفتها ، إذ كل هذه المسائل تتكلم عن أحوال الكلمة.

والمبادي التصديقية لعلم النحو : هي ما توجب تصديقنا بالمسائل مثل تصديقنا بأن العرب تستعمل الفاعل مرفوعا فالفاعل مرفوع ، وتستعمل المفعول

٩١

وحيث لم يتبيّن في علم آخر احتيج الى بيانها في نفس العلم ، كأكثر المبادي التصوريّة.

______________________________________________________

منصوبا فالمفعول منصوب وهكذا.

والمبادي التصورية : هي ما توجب معرفة معنى الفاعل ، ومعنى المفعول ، ومعنى الحال ، ومعنى التمييز ، ومعنى المرفوع ، ومعنى المنصوب ومعنى المجرور ، وغير ذلك.

ومن المعلوم : إن كلا من المبادي التصورية والمبادي التصديقية لا يكون من مسائل العلم ، وحجية الاستصحاب وعدم حجيته من المبادي التصديقية ، فلا تكون من مسائل العلم.

هذا (و) لكن حجية الاستصحاب وعدم حجيته (حيث لم يتبيّن في علم آخر) كتبيّن حجيّة الكتاب وحجيّة السنة في علم الكلام (احتيج الى بيانها في نفس العلم) أي نفس علم الاصول (كأكثر المبادي التصوريّة) المرتبطة بالمباحث الاصولية مثل : قولنا المقدمة ما هي؟ والشرط ما هو؟ والغاية ما هي؟ والوصف ما هو؟ وغير ذلك من المفردات التي ترتبط بالمباحث الاصولية.

والحاصل : إن صاحب القوانين قال : إن الأدلة الأربعة بما هي أدلة موضوع علم الاصول ، فيكون كل بحث عن كون الشيء الفلاني دليلا أو ليس بدليل خارجا عن علم الاصول ، فلا يكون البحث في ان الاستصحاب حجة أو ليس بحجة من مسائل علم الاصول ، وإنّما يكون من المبادي التصديقيّة.

ثم إنه حيث استلزم كلام القوانين خروج بحث الاستصحاب ونحوه عن مسائل علم الاصول لانه جعل الأدلة بما هي أدلة : موضوع علم الاصول ـ على ما عرفت ـ أراد صاحب الفصول التخلص من هذا الاشكال فقال : موضوع علم

٩٢

نعم ، ذكر بعضهم «أنّ موضوع الاصول ذوات الأدلة ، من حيث يبحث عن دليليّتها أو عمّا يعرض لها بعد الدليليّة».

ولعلّه موافق لتعريف الاصول : ب «أنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها».

______________________________________________________

الاصول هي الأدلة بذواتها ، لا بما إنها أدلة ، فمسألة الاستصحاب داخلة في مسائل علم الاصول ، إذ يبحث في هذه المسألة عن ان الاستصحاب دليل أو ليس بدليل.

هذا ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب إمّا عقلي فداخل في العقل ، وإمّا شرعي فداخل في السنة ، والعقل والسنة بالاضافة إلى الكتاب والاجماع موضوع علم الاصول ، لأن موضوعه هي الأدلة الأربعة.

والى هذا أشار المصنّف بقوله : (نعم ، ذكر بعضهم) وهو صاحب الفصول : («أنّ موضوع الاصول ذوات الأدلة من حيث يبحث عن دليليّتها) أي : عن إنها دليل أو ليست بدليل (أو) يبحث (عمّا يعرض لها بعد الدليليّة» (١)) والفراغ منه فالبحث عن ان خبر الواحد دليل أو ليس بدليل يكون من مباحث علم الاصول ، كما ان البحث بعد ثبوت دليلية الخبر الواحد عن تعارض الخبرين يكون أيضا من موضوع علم الاصول.

(ولعلّه) أي : لعلّ الذي ذكره صاحب الفصول (موافق لتعريف الاصول : ب «أنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها» (٢)) التفصيلية ، فكل شيء له مدخلية قريبة من الاستنباط سواء كان البحث عن أصل الحجية أم البحث عن عوارض الحجية بعد ثبوت أصل الحجية يكون من مسائل

__________________

(١) ـ الفصول الغروية : ص ١١.

(٢) ـ القوانين المحكمة : ص ٣.

٩٣

أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ، ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموض ، لأنّ الاستصحاب حينئذ قاعدة مستفادة من السنّة ، وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة ، بل هو نظير سائر

______________________________________________________

علم الاصول.

هذا كله بناء على كون مسألة حجية الاستصحاب من باب الحكم العقلي.

و (أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة) المقررة للشاك تعبدا بسبب الأخبار (ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموض) لأنها حينئذ أشبه بالقواعد الفقهية مثل : قاعدة لا ضرر ، وقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، وقاعدة الميسور لا يترك بالمعسور ، وما أشبه ذلك.

وإنّما لا يكون الاستصحاب مسألة اصولية (لأنّ الاستصحاب حينئذ) أي : حين كونه أصلا عمليا (قاعدة مستفادة من السنّة) حيث ورد في السنة : «لا تنقض اليقين أبدا بالشك» (١) (وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة) إذ أحوال السنة شيئان فقط :

الأوّل : هل السنة حجة أو ليست بحجة؟.

الثاني : هل الشيء الفلاني سنة أو ليس بسنة؟.

ومن المعلوم : ان الاستصحاب لا يتكلم فيه عن أحد الشيئين ، وإنّما يتكلم فيه عن مفاد السنة أي مفاد : «لا تنقض اليقين بالشك» مثل : التكلم عن مفاد قاعدة الميسور ، وقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، وما أشبههما من القواعد الكثيرة كما قال : (بل هو) أي : التكلم في الاستصحاب تكلم في مفاد السنة (نظير سائر

__________________

(١) ـ كصحيحة زرارة الاولى ، انظر تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٨ ب ١ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٥ ب ١ ح ٦٣١.

٩٤

القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ، والمسألة الاصولية هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» ، وهي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر ، وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه.

فهذه القاعدة كقاعدة البراءة

______________________________________________________

القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة) فليس هو إذن مسألة اصولية.

هذا (والمسألة الاصولية هي التي بمعونتها) أي بمعونة تلك المسألة (يستنبط هذه القاعدة) أي : قاعدة الاستصحاب (من قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» (١)) فقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» بضميمة المسألة الاصولية يستفاد منه الاستصحاب.

(و) لا يخفى : ان المسألة الاصولية هنا المنضمة الى : «لا تنقض» (هي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر) كحجية خبر الثقة التي تذكر في الاصول ، إذ في الاصول يذكر هل ان خبر الثقة حجة أم لا؟ (وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه) أي : في الخبر ، فإنه يبحث في الاصول هل إن ظواهر الألفاظ حجة أو ليست بحجة؟.

وعليه : فإذا ثبت في الاصول حجية خبر الثقة من جانب ، وحجية ظواهر الألفاظ من جانب آخر ، فهاتان المسألتان الاصوليتان تنضمان الى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» فيستفاد من هذا المجموع : الاستصحاب الذي هو إبقاء ما كان على ما كان.

إذن : (فهذه القاعدة) أي : قاعدة الاستصحاب تكون (كقاعدة البراءة

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

٩٥

والاشتغال ، نظير قاعدة نفي الضرر والحرج ، من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف.

نعم ، يندرج تحت هذه القاعدة

______________________________________________________

والاشتغال) فإن كل هذه القواعد الثلاث قواعد فقهية ، فهي (نظير قاعدة نفي الضرر والحرج من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف) فإنه إذا كان شيئا عارضا لفعل المكلّف كان مسألة شرعية.

مثلا : الوجوب العارض للصلاة ، والحرمة العارضة للخمر ، مسألة فقهية ، والاستصحاب من هذا القبيل ، فإنه ـ مثلا ـ يستصحب الطهارة فيما إذا شك في الحديث وكان سابقا متطهرا ، ومن المعلوم : إن الطهارة عارضة على فعل المكلّف.

هذا كله في المسألة الفقهية.

أما المسألة الاصولية : فهي التي تنضمّ الى الكتاب أو الخبر ـ مثلا ـ فيستفاد منه ضمّهما معا ، كما لو ضمّ الى المسألة الاصولية الخبر فإنه يستفاد منهما معا الحكم الشرعي.

مثلا : حجية خبر الواحد ليس بنفسه عارضا على فعل المكلّف ، وإنّما حجية الخبر بضميمة قول زرارة : «الفقاع حرام» (١) يستفاد منه وجوب الاجتناب عن الفقاع ووجوب الاجتناب مسألة فقهية ، لأن الوجوب يعرض على فعل المكلّف.

(نعم) بعض المسائل الاصولية كأصالة العدم يندرج أحيانا تحت هذه القاعدة الفقهية وهي الاستصحاب ، فإنه (يندرج تحت هذه القاعدة) التي هي

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٦ ص ٤٢٤ ح ١٤ ، الاستبصار : ج ٤ ص ٩٥ ب ٦٠ ح ٢ ، تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ١٢٤ ب ٤ ح ٢٧١.

٩٦

مسألة اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الاصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج ، كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج.

______________________________________________________

الاستصحاب (مسألة اصوليّة يجري فيها الاستصحاب).

مثلا : اصالة عدم التخصيص ، واصالة عدم النسخ ، واصالة عدم النقل ، وما أشبه ذلك ، نستصحبها مع إنّها مسائل اصولية ، فتندرج تحت الاستصحاب (كما تندرج المسألة الاصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج) مع العلم بأن نفي الحرج قاعدة فقهية.

أما مثال المسألة الاصولية المندرجة تحت قاعدة لا حرج فهو ما أشار اليه المصنّف ، بقوله : (كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه ، بنفي الحرج) فإذا وجدنا خبرا يدل على طهارة العصير ـ مثلا ـ : ثم لم نعلم هل له معارض أم لا؟ فانه يجب الفحص عنه ، إمّا مقدار الفحص فهل هو حتى نقطع بأنه لا معارض له ، أو يكفي أن نظن بأنه لا معارض له فنقول :

قاعدة الحرج هنا تنفي وجوب الفحص الى حد القطع بعدم المعارض ، وذلك لأن القطع بعدم المعارض يحتاج ـ مثلا ـ الى مطالعة مائة كتاب وهو حرج ، بينما الظن بعدم المعارض يحتاج الى مطالعة خمسين كتابا ولا حرج فيه ، فنكتفي بالظن بعدم المعارض المحتاج الى مطالعة خمسين كتابا ، وحينئذ فقد أثبتنا بقاعدة لا حرج مسألة اصولية وهي : كفاية الفحص الى حد الظن.

الى هنا أثبت المصنّف ان الاستصحاب قاعدة فقهية لا اصولية ، ثم شرع الآن في بيان ان الاستصحاب مسألة اصولية لا فقهية فقال :

٩٧

نعم ، يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية : بأنّ اجرائها في موردها أعني : صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مختص بالمجتهد وليس وظيفة للمقلّد ، فهي ممّا يحتاج اليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا من خواص المسألة الاصولية ، فانّ المسائل الاصولية لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة اختصّ التكلّم فيها بالمستنبط ، ولا حظّ لغيره فيها.

______________________________________________________

(نعم ، يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية ب) سبب (أنّ اجرائها) أي : اجراء قاعدة الاستصحاب (في موردها أعني : صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مختصّ بالمجتهد) فقط.

مثلا : الماء النجس بالتغير إذا زال تغيره من نفسه يشك في بقاء نجاسته ، فإذا اريد استصحاب نجاسته ، فإن الاستصحاب لا يجري إلّا بعد عدم وجود دليل على الطهارة ، وعدم وجود ما يدل على الطهارة يحتاج الى الفحص واليأس عنه (و) من المعلوم : ان الفحص واليأس (ليس وظيفة للمقلّد) لأنه غير قادر على ذلك ، فيكون خاصا بالمجتهد والشيء الخاص بالمجتهد مسألة اصولية كما قال :

(فهي ممّا يحتاج اليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا) أي : اختصاص الشيء باحتياج المجتهد اليه دون المقلد (من خواص المسألة الاصولية).

وإنّما كان ذلك من خواص المسألة الاصولية لأنه كما قال : (فإنّ المسائل الاصولية لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة ، اختصّ التكلّم فيها بالمستنبط) الذي هو المجتهد (ولا حظّ لغيره) أي : لغير المجتهد الذي هو المقلد (فيها) أي : في تلك المسائل الاصولية.

إذن : فالاستصحاب لا يجري في مورده إلّا بعد الفحص واليأس عن وجود دليل

٩٨

فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ، لأجل أنّ موضوعها وهو : الشك في الحكم الشرعي وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه ، لا يتشخّص إلّا للمجتهد ، وإلّا فمضمونه ، وهو العمل على طبق الحالة السابقة ، وترتيب آثارها مشترك بين المجتهد والمقلّد.

______________________________________________________

في ذلك المورد ، والفحص عن الدليل مختص بالمجتهد ، فالاستصحاب مختص بالمجتهد ، وما يختص بالمجتهد فهو مسألة اصولية.

(فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد) لا تجعل الاستصحاب مسألة اصولية ، لأنه قد يكون الاختصاص به (لأجل أنّ موضوعها وهو : الشك في الحكم الشرعي) الكلي ناشئا من تعارض الدليلين ، أو إجماله ، أو فقده (و) من المعلوم : ان الاطمينان الى (عدم قيام الدليل الاجتهادي) المعتبر بعد الفحص (عليه) أي : على ذلك الحكم الشرعي مما (لا يتشخّص إلّا للمجتهد) فقط.

(وإلّا) بأن لم نلاحظ في الاستصحاب هذه الجهة الخاصة بالمجتهد بل نلاحظ مدلوله ومضمونه (فمضمونه) أي : مضمون الاستصحاب (وهو العمل على طبق الحالة السابقة ، وترتيب آثارها) أي : آثار الحالة السابقة ليس مختصا بالمجتهد ، بل هو (مشترك بين المجتهد والمقلّد) فيجريه المجتهد في الحكم الكلي ، والمقلد في الأحكام الجزئية.

إذن : فالاستصحاب هو كسائر المسائل الفرعية يشترك فيه المقلد والمجتهد ، فهو مسألة فقهية لا اصولية.

وإن شئت قلت : إن المسألة الاصولية كما قال بعض : هي التي تكون النتيجة فيها دائما حكما كليا لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين ، بينما النتيجة في القاعدة الفقهية قد تكون كالمسألة الاصولية ، وقد لا تكون كذلك ، بل تتعلق بعمل آحاد المكلفين.

٩٩

قلت : جميع المسائل الاصولية كذلك ، لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد.

______________________________________________________

مثلا : حجية خبر الواحد لا تتعلق بعمل آحاد المكلفين وإنّما تختص بالمجتهد الذي يبحث عن ان الخبر حجة أو ليس بحجة ، أما قاعدة لا حرج ـ مثلا ـ فهي كما تشمل المجتهد ، تتعلق بعمل آحاد المكلفين في مثل الوضوء الحرجي لزيد ، والغسل الحرجي لعمرو ، أيضا ، والاستصحاب من قبيل قاعدة لا حرج ، لا من قبيل حجية خبر الواحد ، فهو إذن مسألة فقهية لا اصولية.

إن قلت ذلك (قلت : جميع المسائل الاصولية كذلك ، لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد) بل إن كلا من المجتهد والمقلد يعمل بالخبر الواحد ويرتب عليه آثار الصدق.

أمّا المجتهد فواضح ، وأمّا المقلد فلأن معاصري الأئمة عليهم‌السلام كانوا من أهل اللسان وكانوا يعملون بالروايات حسب ما يسمعونها عنهم عليهم‌السلام مباشرة أو عن الرواة كزرارة ومحمد بن مسلم ، فإذا كان ميزان كون المسألة الاصولية أن لا يتمكن المقلد من العمل بها ، لزم خروج الخبر الواحد وجملة من المسائل الاصولية عن كونها مسألة اصولية.

وعليه : فليس الاستصحاب مسألة فقهية ـ كما يتوهم ـ بحجة ان المقلد أحيانا يعمل بالاستصحاب أيضا ، فإنه وان كان يعمل بالاستصحاب كل من المجتهد والمقلد إلّا ان المقلد لا يتمكن من العمل بالاستصحاب في كل مكان ، كما إن الأمر كذلك بالنسبة الى الخبر الواحد ، فإن كلا من المجتهد والمقلد يعمل بالخبر الواحد ، لكن المقلد لا يتمكن من العمل بالخبر الواحد في كل مكان كما قال :

١٠٠