الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ما كان من قبيل هذا المثال ، فالحقّ مع المنكرين لما ذكروه ، وإن شمل ما كان من قبيل تمثيلهم الآخر ، وهو الشك في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ، قلنا : إنّ اثبات الحكم بعد خروج الخارج ليس من غير دليل ، بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ،

______________________________________________________

(ما كان من قبيل هذا المثال) أي : مثال المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة (فالحقّ مع المنكرين لما ذكروه) من عدم الدليل عليه ، لأنه من الشك في المقتضي ، والشك في المقتضي لا استصحاب فيه.

وإنّما يكون الحق بنظر المصنّف مع المنكرين لأنه لا دليل خاص بنظره على الاستصحاب في الشك في المقتضي ولا دليل عام يشمله.

(وإن شمل) محل كلامهم في الاستصحاب (ما كان من قبيل تمثيلهم الآخر ، وهو الشك في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين) أي : من غير المخرج المعتاد ، وذلك لمرض وما أشبه ، فيشك في إنه مبطل للوضوء أو ليس بمبطل مما يكون الشك في الرافع.

وعليه : فإن كان هذا هو محل كلامهم الذي قال النافون : الاستصحاب ليس بحجة ، وقال المثبتون بأن الاستصحاب حجة (قلنا : إنّ اثبات الحكم بعد خروج الخارج) من غير السبيلين (ليس من غير دليل) كما قاله النافون ، فإن النافين قالوا :

بأنه لا دليل على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع.

(بل الدليل) على صحة الاستصحاب في الشك في الرافع هو (ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة) المتقدمة ، وهي عبارة عمّا يلي :

أولا : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق على هذا الاستصحاب.

ثانيا : استقراء موارد الشك في بقاء الحكم السابق ، المشكوك من جهة الرافع

٣٨١

مضافا الى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج ، لكن عرفت ما فيه من التأمّل.

ثم إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور ب «أنّ قوله : «عمل بغير دليل» ، غير مستقيم ، لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلّا برافع ، فإذا كان التقدير : تقدير عدمه كان بقاء الثابت

______________________________________________________

يفيد القطع بالحكم.

ثالثا : الأخبار المستفيضة الدالة على صحة الاستصحاب على ما مرّ تفصيله.

(مضافا الى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج) وهذا وجه رابع لصحة الاستصحاب في الشك في الرافع حيث قال المحقق :

والظاهر إن مرجع هذا الدليل الى أنه إذا أحرز المقتضي وشك في المانع بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق بنى على عدمه في اللاحق ، وحاصل دليله : إن المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيلزم أن يؤثر المقتضي أثره.

(لكن عرفت ما فيه من التأمّل) لأن وجود المقتضي في السابق لا يدل على وجوده في اللاحق.

(ثم إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور) عن النافين للاستصحاب مطلقا حيث قالوا : (ب «أنّ قوله) أي : المتمسك بالاستصحاب («عمل بغير دليل») فإن النافين للاستصحاب ، قالوا : عدم الدليل على الاستصحاب دليل العدم ، فأجاب عنه المحقق : بأنه (غير مستقيم).

وإنّما قال : إن دليلهم غير مستقيم (لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلّا برافع) فهو إذن عمل بالدليل ، لا أنه عمل بغير دليل.

وعليه : (فإذا كان التقدير : تقدير عدمه) أي : عدم الرافع (كان بقاء الثابت

٣٨٢

راجحا في نظر المجتهد والعمل بالراجح لازم» ، انتهى.

وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع : عدم العلم به ، وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك ، إلّا أن يرجع الى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم.

______________________________________________________

راجحا في نظر المجتهد) والمراد بالثابت : الشيء الذي كان في السابق وشك فيه في اللاحق (و) معلوم : إن (العمل بالراجح لازم» (١) ، انتهى) كلام المحقق.

هذا (وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع : عدم العلم به) فإنا لا نعلم بالرافع ، لا أنا نعلم عدم الرافع (وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك) أي : عرفت الاشكال فيه بمجرد ثبوته في الزمان الأوّل وعدم ارتفاعه من دون رافع.

(إلّا أن يرجع) هذا الكلام من المحقق (الى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم).

والحاصل : إن المحقق أجاب عن إن الاستصحاب عمل بغير دليل الذي استدل به النافون ، قائلا : إن الدليل على الاستصحاب هو إن الثابت لا يرتفع إلّا برافع ، ولا رافع ، فأشكل عليه المصنّف بما يلي :

أولا : بأنا لا نعلم بالرافع ، لا أن الرافع غير موجود ، وعدم العلم ليس معناه عدم الوجود.

ثانيا : إن الثابت سابقا لا يثبت لاحقا بمجرد عدم العلم بالرافع ، إلّا أن يكون مراد المحقق : إنّا إذا لم نجد الدليل على الرفع بعد الفحص عن الدليل ، كان عدم وجداننا دليلا على العدم ، وهذا لا يسمى استصحابا.

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ٢٠٩.

٣٨٣

ومنها أنّه لو كان الاستصحاب حجّة ، لوجب فيمن علم زيدا في الدّار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها. وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ، ثم انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه ، وهو باطل.

وقال في محكيّ الذريعة : «قد ثبت في العقول : أنّ من شاهد زيدا في الدّار ثم غاب عنه ، لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدّار إلّا بدليل متجدّد.

______________________________________________________

وإنّما لا يسمى استصحابا ، لأن الاستصحاب ملاكه الحالة السابقة ، وهذا ملاكه : الفحص وعدم الوجدان.

(ومنها) أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا : (أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لوجب فيمن علم زيدا في الدّار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها) ولو بعد عشر سنين ـ مثلا ـ.

(وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ، ثم انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته) كخمسين سنة مثلا (أن يقطع ببقائه ، وهو باطل) فالاستصحاب باطل.

أقول : كأنّ المستدل استدل بالتلازم بين الحجية والقطع ، فقال : إن كل ما كان حجة فهو موجب للقطع ، والاستصحاب حجة فهو موجب للقطع.

وفيه : إنه لا تلازم بين الحجة وبين القطع.

نعم ، التلازم في عكسه ، وهو أنه كل ما كان قطع فهو حجة.

(وقال في محكيّ الذريعة) في تقريب نفي الاستصحاب بهذا الدليل («قد ثبت في العقول : أنّ من شاهد زيدا في الدّار ، ثم غاب عنه ، لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدّار) ولو بعد عشرين سنة (إلّا بدليل متجدّد) يدل على بقائه في الدار هذه المدة.

٣٨٤

ولا يجوز استصحاب الحالة الاولى ، وقد صار كونه في الدّار في الزمان الثاني ـ وقد زالت الرؤية ـ بمنزلة كون عمرو فيها».

وأجاب في المعارج عن ذلك ب «أنّا لا ندّعي القطع ، لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا يكفي في العمل به».

أقول قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية

______________________________________________________

هذا (ولا يجوز استصحاب الحالة الاولى ، وقد صار كونه في الدّار في الزمان الثاني ـ وقد زالت الرؤية ـ بمنزلة كون عمرو فيها» (١)).

وإنّما كان في الزمان الثاني بمنزلة كون عمرو فيها ، لأنه في الزمان الثاني موضوع آخر ، كما إن وجود عمرو فيها موضوع آخر ، فكما لا يصح الانتقال من وجود زيد الى وجود عمرو ، كذلك لا يصح الانتقال من وجود زيد في الزمان السابق الى وجوده في الزمان اللاحق.

(وأجاب في المعارج عن ذلك) : أي : عن هذا الدليل (ب «أنّا لا ندّعي القطع) ببقاء زيد في الدار (لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا) الرجحان (يكفي في العمل به» (٢)) أي : بالاستصحاب.

والحاصل : إن المحقق أجاب عن دليل النافين بدليل مركب من صغرى وكبرى ، فالصغرى : إن وجوده السابق يرجح وجوده اللاحق ، والكبرى : إن الرجحان كاف في الاستصحاب.

(أقول) : إن دليل المعارج ممنوع صغرى وكبرى ، أما صغرى فإنه (قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية) بل حصوله في الجملة.

__________________

(١) ـ الذريعة : ج ٢ ص ٨٣٠.

(٢) ـ معارج الاصول : ص ٢٠٩.

٣٨٥

ومنع حجّيته.

ومنها : أنّه لو كان حجة لزم التناقض ، إذ كما يقال : كان للمصلي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته ، فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم ، فكذا بعد الدخول ، أو يقال الاشتغال بصلاة متيقنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة ، فيستصحب.

______________________________________________________

وأما منع الكبرى فقد أشار اليها بقوله : (ومنع حجّيته) أي حجية مثل هذا الظن على تقدير وجوده.

والحاصل : إنه لا رجحان ، وعلى تقدير الرجحان ، لا يكون مثل هذا الرجحان حجة لا شرعا ولا عقلا.

(ومنها) : أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا (أنّه لو كان) الاستصحاب (حجة لزم التناقض) بين استصحابين متعارضين في كل مورد استصحاب.

وإنّما يلزم منه التناقض في كل مورد (إذ كما يقال : كان للمصلي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته ، فكذا بعد الوجدان) حيث يجد ماء في أثناء الصلاة ، فيستصحب المضي في صلاته ، فإنه (كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم ، فكذا بعد الدخول) في الصلاة.

وعليه : فهذان استصحابان متعارضان أحدهما يقول : امض في صلاتك ، والآخر يقول : بطلت صلاتك ، فلا تمض فيها.

(أو يقال) في تصوير الاستصحاب المعارض للمضي في الصلاة : إن (الاشتغال بصلاة متيقنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة ، فيستصحب) فهنا استصحاب يقول : امض في صلاتك ، واستصحاب يقول : لا تمض فيها ، لأنك

٣٨٦

قال في المعتبر «استصحاب الحال ليس حجة ، لأنّ شرعية الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه. ثم مثل هذا لا يسلم عن المعارض ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام فكذا بعده» ، انتهى.

وأجاب عن ذلك في المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ،

______________________________________________________

مشغول الذمة بصلاة متيقنة الصحة ، والصلاة المتيقنة الصحة هي التي يؤتى بها مع الوضوء.

إذن : فحيث كان القول بحجية الاستصحاب يوجب دائما حصول التناقض بين الاستصحابين ، يكون الاستصحاب باطلا ، لأن ملازم التناقض باطل.

هذا ، وقد (قال في المعتبر) في تقريب تعارض الاستصحابين ، بعد أن قال : («استصحاب الحال ليس حجة ، لأنّ شرعية الصلاة) مع التيمم كان (بشرط عدم الماء) وهذا (لا يستلزم الشرعية معه) أي : مع وجدان الماء ، وليس كلامنا في هذه القطعة من كلام المعتبر ، وإنّما شاهدنا في القطعة الثانية ، حيث ذكر التعارض فقال : (ثم) إنّ (مثل هذا) الاستصحاب (لا يسلم عن المعارض ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام) وذلك فيما إذا أتم الصلاة بالتيمم السابق (فكذا بعده» (١)) أي : بعد الاتمام (انتهى) كلام المعتبر.

(وأجاب عن ذلك) أي : عن اشكال التعارض بين الاستصحابين المحقق نفسه (في المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام) فإنه لا تعارض على نحو الكلية ، وإنّما في بعض الموارد.

__________________

(١) ـ المعتبر : ص ٢٠٩.

٣٨٧

ووجود المعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث يسلم عن المعارض.

أقول : لو بنى على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال ، لا يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ، إذ قلّما ينفك مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه على بقائه ،

______________________________________________________

(و) من المعلوم : إن (وجود المعارض في الأدلة المظنونة) في بعض الموارد (لا يوجب سقوطها) أي : فرط الأدلة في كل مكان حتى (حيث يسلم عن المعارض).

والحاصل : إن هذا الدليل يدل على سقوط الاستصحاب في مقام وجود المعارض لا في كل مقام ، فهو إذن أخص من المدّعى ونحن نسلّم سقوط الاستصحاب إذا حصل له معارض ، لكنّا نقول بحجية الاستصحاب إذا لم يحصل له معارض.

(أقول) : إننا إذا سلّمنا جواب المعارج ، لزم سقوط الاستصحاب في كثير من الموارد ، وذلك إنه (لو بنى على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال ، لا يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض) فإن الاستصحاب إذا أردنا أن نثبت به البراءة عن الاشتغال عارضه استصحاب الاشتغال.

نعم ، الاستصحاب إذا أردنا أن نثبت به التكليف لا يكون استصحاب الاشتغال معارضا له.

وإنّما لا يسلم الاستصحاب عن المعارض في الأغلب (إذ قلّما ينفك مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه) أي : ترتب ذلك الأثر الحادث (على بقائه)

٣٨٨

فيقال الأصل عدم ذلك الأثر.

والأولى في الجواب : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظنّ بالبقاء ، فإذا ثبت ظنّ البقاء في شيء ، لزم عقلا ظنّ ارتفاع كل أمر فرض كون بقاء المستصحب رافعا له ، أو جزءا أخيرا له ، فلا يعقل الظنّ ببقائه.

______________________________________________________

أي : على بقاء المستصحب (فيقال) في معارضه : (الأصل عدم ذلك الأثر).

لكن لا يخفى : إن هذين الاستصحابين لا يتعارضان ، لتقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، فإنه إذا صحّ استصحاب المضي في الصلاة في مثال المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة ، لم يبق مجال لاستصحاب الاشتغال ، لأن استصحاب الاشتغال محكوم باستصحاب المضي.

(و) عليه : فإن (الأولى) أولوية لزومية مثل : قوله سبحانه : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (١) أن يقال (في الجواب : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظنّ بالبقاء) بأن كان حجية الاستصحاب مبنيا على الظن ، فيكون أمارة لا أصلا ، ومعلوم : إن هذا الظن الاستصحابي لا يترك ظنا معارضا له لأنّ الظن النوعي لا يعارضه ظن نوعي آخر ، والظن الشخصي لا يعارضه ظن شخصي آخر ، فلا تعارض كما قال :

(فإذا ثبت ظنّ البقاء في شيء ، لزم عقلا ظنّ ارتفاع كل أمر فرض كون بقاء المستصحب رافعا له ، أو جزءا أخيرا له) أي : للرافع ، فيما إذا كان للرافع أجزاء أخيرها بقاء المستصحب (فلا يعقل الظنّ ببقائه) أي : ببقاء ذلك المرفوع.

__________________

(١) ـ سورة القيامة : الآية ٣٤.

٣٨٩

فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماء غسل به ثوب نجس ، أو توضّأ به محدث ، مستلزم عقلا لطهارة ثوبه وبدنه وبراءة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة ، وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد اتمام تلك الصلاة.

وتوهّم إمكان العكس مدفوع بما سيجيء توضيحه : من عدم إمكانه.

______________________________________________________

أمّا مثاله فهو ما أشار إليه بقوله : (فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماء غسل به ثوب نجس ، أو توضّأ به محدث ، مستلزم عقلا لطهارة ثوبه وبدنه) إذ لا يمكن عقلا ظن طهارة الماء ، وظن نجاسة الثوب والبدن.

(و) كذلك الظن ببقاء طهارة ذلك الماء ، مستلزم عقلا (براءة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة) فلا يعارض باستصحاب الاشتغال بالصلاة.

(وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة) في المتيمم الواجد للماء في الأثناء (يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد اتمام تلك الصلاة) فلا يعارض استصحاب وجوب المضي في الصلاة استصحاب الاشتغال.

(وتوهّم إمكان العكس) بأن يقال : الشك في طهارة الماء الذي غسل فيه الثوب النجس ، مسبّب عن الشك في بقاء نجاسة الثوب ، فإذا أجرينا الاستصحاب في نجاسة الثوب ارتفع الشك في طرف الماء ، وهكذا سائر الأمثلة ، فإن هذا التوهم (مدفوع بما سيجيء توضيحه : من عدم إمكانه).

وإنّما لا يمكن توهم عكسه لأن السبب مقدّم على المسبّب ، لا إن المسبّب مقدّم على السبب ، فاستصحاب طهارة الماء سبب لارتفاع نجاسة الثوب ، لا إن استصحاب نجاسة الثوب سبب لارتفاع طهارة الماء.

والحاصل : إنه كلّما تحقق استصحاب سببي ، واستصحاب مسببي ، قدّم

٣٩٠

وكذا إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد بالنسبة الى الآثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب أو عدمه ، لما ستعرف : من عدم امكان شمول الروايات إلّا للشك السببي ، ومنه يظهر

______________________________________________________

الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، كما سيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى.

(وكذا) لا تعارض بين الاستصحابين السببي والمسببي (إذا قلنا باعتباره) أي : باعتبار الاستصحاب (من باب التعبّد) بأن كان حجية الاستصحاب مبينا على الاخبار ، فيكون أصلا لا أمارة ، وهذا عطف على قوله المتقدّم : إنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظن بالبقاء.

وعليه : فإذا قلنا باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد (بالنسبة الى الآثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب ، أو عدمه) أي : عدم المستصحب بأن كان الأثر مترتبا على العدم مثل : صحة الصوم والحج والاعتكاف ، حيث تترتب صحة هذه الأمور على عدم المفطر ، وعلى تروك الاحرام ، وعلى تروك الاعتكاف.

وإنّما لا تعارض بينهما أيضا إذا قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد (لما ستعرف : من عدم امكان شمول الروايات إلّا للشك السببي) دون الشك المسببي ، فلا تعارض إذن بينهما على المبنيين.

والحاصل : إن الاستصحاب السببي لا يعارض الاستصحاب المسببي ، وإنّما يقدّم على المسببي ، سواء كان الاستصحاب حجة من باب الظن وإنه أمارة ، أم كان حجة من باب الاخبار ، وإنه أصل من الأصول العملية.

(ومنه) : أي : من عدم المعارضة بين الاستصحاب السببي والمسببي (يظهر

٣٩١

حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ ، باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء.

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الاثبات ، لاعتضادها باستصحاب النفي.

والجواب عنه :

أولا : باشتراك هذا الايراد

______________________________________________________

حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ ، باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء) في أثناء الصلاة ، فانه لا يصح القول : بأن الفاقد للماء إذا وجد الماء قبل الصلاة انتقض تيممه ، فكذا إذا وجد الماء في أثناء الصلاة.

وإنّما لا يصح ذلك لأن استصحاب المضي سببي ، واستصحاب الانتقاض مسببي ، والاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب المسببي على ما عرفت.

(ومنها) أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا : (أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الاثبات).

وإنّما كان بينة النفي أولى (لاعتضادها) أي : اعتضاد بيّنة النفي (باستصحاب النفي) فيكون في جانب النفي دليلان : البينة والاستصحاب ، وفي جانب الاثبات دليل واحد : وهو البينة فقط ، والدليلان مقدمان على الدليل الواحد ، مع إن الفقهاء لا يقولون بأرجحية بيّنة النفي ممّا يدل على إنهم لا يعترفون بحجية الاستصحاب.

(والجواب عنه : أولا ، باشتراك هذا الايراد) على كل تقدير ، فإنه سواء قلنا بحجية الاستصحاب أم بنفي حجيته ، فإن النافي لحجية الاستصحاب أيضا يحتاج

٣٩٢

بناء على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب النفي المسمى بالبراءة الأصليّة معتبرا اجماعا.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ اعتبارها ليس لأجل الظنّ ، أو يقال : إنّ الاجماع إنّما هو على البراءة الأصلية في الأحكام الكلّية.

______________________________________________________

الى الجواب عن هذا الاشكال.

وإنّما كان هذا الاشكال مشترك الورود على المثبتين والنافين (بناء على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب النفي المسمى بالبراءة الأصليّة معتبرا اجماعا) أي : عند المثبتين للاستصحاب والنافين له.

وعليه : فيستشكل : بأنه كيف يكون جانب النفي له دليلان : البينة واستصحاب النفي ، وجانب الاثبات له دليل واحد ومع ذلك نرى الفقهاء لا يقولون بتقديم بيّنة النافي؟.

(اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ اعتبارها) أي : اعتبار البراءة الأصلية (ليس لأجل الظنّ) بل من باب التعبد ، فالبيّنتان ظنّان متعارضان ، فلا يقدم أحدهما على الآخر ، بل يتساقطان ، فلا يرد الاشكال حينئذ سواء قلنا بحجية الاستصحاب أم نفينا حجيته على القول بحجيته من باب التعبد.

بخلاف ما إذا قلنا بحجية الاستصحاب لأجل الظن حيث إن كلا من بيّنة النفي والاستصحاب ظن ، فهنا ظنان ، ومقابلهما ظن واحد ، هو الظن الحاصل من بيّنة الاثبات.

(أو يقال : إنّ الاجماع إنّما هو على البراءة الأصلية في الأحكام الكلّية) مثل : ما إذا شككنا في إن التتن حرام أم لا؟ وشككنا في إن دعاء رؤية الهلال واجب

٣٩٣

فلو كان أحد الدليلين معتضدا بالاستصحاب اخذ به ، لا في باب الشك في اشتغال ذمة الناس ، فإنّه من محل الخلاف في باب الاستصحاب.

______________________________________________________

أم لا؟ لا في الأحكام الجزئية.

وعليه : (فلو كان أحد الدليلين معتضدا بالاستصحاب أخذ به) إذا كان من الأحكام الكلية (لا في باب الشك في اشتغال ذمة الناس) الذي هو من الامور الجزئية (فإنّه من محل الخلاف في باب الاستصحاب) فاستصحاب النفي في باب اشتغال ذمة الناس يكون من محل الخلاف الثابت في باب الاستصحاب.

هذا ، وقد أوضح الأوثق جواب المصنّف عن عدم تقديم بينة النفي ، وذلك عند قول المصنّف أولا : باشتراك هذا الايراد ، ثم قوله : اللهم إلّا أن يقال : بما لفظه : «إذ مع فرض تحقق الاجماع على اعتبار أصالة البراءة لا بدّ من تقديم بيّنة النفي على بينة الاثبات ، فلا بدّ من بيان وجه عدم التقديم على القول باعتبار الاستصحاب وعدمه ، فلا اختصاص لهذا الايراد بالأول.

اللهم إلّا أن يقال : إن وجه عدم الاشتراك على تقدير القول باعتبار أصالة البراءة :

من باب التعبّد ، كما إذا قلنا باعتبارها من باب الأخبار ، أو حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، كما هو الحق ، لا من باب الاستصحاب ، وان اعتبار البينة : إمّا من باب الظن النوعي ، أو التعبد.

ومن المعلوم : إن الأمر التعبدي ـ كأصالة البراءة ـ لا يصلح مرجّحا

٣٩٤

وثانيا : بما ذكره جماعة : من أنّ تقديم بيّنة الاثبات لقوّته على بيّنة النفي ، وإن اعتضد بالاستصحاب ،

______________________________________________________

لما هو ـ كالبينة ـ معتبر من باب الظن والطريقية ، ولذا نقول : بكون الاصول مرجعا في تعارض الاخبار لا مرجحا ، ولا لما هو معتبر من باب التعبد ، ولذا لا نقول بالترجيح بكثرة الاصول ، فالايراد مما يختص بمن يرى اعتبار الاصول من باب الظن ، كما هو ظاهر المشهور ، فالقول باعتبار البراءة الأصلية من باب التعبد يدفع اشتراك الايراد» (١).

والحاصل : إن المستدل قال : لو كان الاستصحاب حجة لكان بينة النفي أولى.

والجواب : أولا : إن الايراد مشترك الورود بين من يقول بحجية الاستصحاب ، ومن يقول بعدم حجيته ، لأن القائل بعدم حجيته أيضا يعترف بالبراءة الأصلية فيرد عليه : بأنه كيف لا يقدّم بينة النفي المعتضدة بالبراءة على بيّنة الاثبات غير المعتضدة بشيء؟.

إلّا أن يقال بعدم الاشتراك ، لأن من يقول بالبراءة الأصلية يقول : باعتبارها من باب التعبد فلا يراها مساوية للبينة ، أو يقول : بأن البراءة الأصلية لا تأتي في الأحكام الجزئية ، وإنّما تختص بالأحكام الكلية ، بينما الاستصحاب يأتي في المنازعات الجزئية ، فليس الاشكال إذن مشترك الورود.

(و) الجواب (ثانيا : بما ذكره جماعة : من أنّ تقديم بيّنة الاثبات) على بيّنة النفي (لقوّته) أي : لقوة الاثبات (على بيّنة النفي ، وإن اعتضد) النفي (بالاستصحاب).

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، ما أفاده المصنّف بأنّ دليل الثاني يتم مع الشّك في المقتضي.

٣٩٥

إذ ربّ دليل أقوى من دليلين.

نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ، لكن بيّنة النفي لا تكافئ بيّنة الاثبات ، إلّا أن يرجع أيضا الى نوع من الاثبات ، فيتكافئان.

وحينئذ : فالوجه : تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات كالترجيح في الأدلّة منوطا بقوة الظنّ

______________________________________________________

وإنّما يقدّم الاثبات على النفي (إذ ربّ دليل أقوى من دليلين) فيقدّم الدليل الأقوى وإن كان الدليل الأضعف معاضدا بشيء آخر.

وإنّما قالوا بيّنة الاثبات أقوى ، لأنها تدّعي إنها رأت زيدا وهو يشتري الدار من عمرو ـ مثلا ـ وبيّنة النفي لم تر ذلك ، فلعلّه اشتراها حيث لم تره بيّنة النفي ، ولذا قالوا بتقديم الجرح على التعديل ، لأن المعدّل لم ير فسقه ـ مثلا ـ بينما الجارح رأى ذلك.

(نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به) أي : بسبب الأصل ، كما إذا قالت بيّنة الاثبات : إنها رأته يشرب الخمر في الساعة الرابعة ، وفي الدقيقة الأولى منها ، وقالت بيّنة النفي : إنها رأته في تلك الدقيقة وهو لا يشربها.

ولذا قال المصنّف : (لكن بيّنة النفي لا تكافئ بيّنة الاثبات ، إلّا أن يرجح أيضا الى نوع من الاثبات ، فيتكافئان) كما في المثال الذي ذكرناه ، فإن بينة الاثبات رأته يشرب ، وبينة النفي رأته لا يشرب فكل واحد منهما مثبت ، لا إن أحدهما ناف والآخر مثبت.

(وحينئذ) أي : حين كان كلاهما اثباتا (فالوجه : تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات كالترجيح في الأدلّة منوطا بقوة الظنّ) فكما إنه إذا كان خبران

٣٩٦

مطلقا ، أو في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ، كتقديم بيّنة الخارج.

وربّما تمسّكوا بوجوه أخر ، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلّتهم ،

______________________________________________________

أحدهما أقوى ظنا من الآخر قدّم الأقوى ، فكذلك إذا كانت بيّنتان إحداهما أقوى ظنا من الاخرى ، والمراد : ظن العرف من أحدهما يكون أقوى من ظنهم من الآخر.

وعليه : فإذا كان مناط الترجيح في تعارض البينات كما في الأدلة : قوة الظن ، فالوجه : تقديم بينة النفي ، لقوة الظن فيها باعتضادها بالبراءة إمّا (مطلقا) أي : حتى في الموارد المنصوصة على الخلاف.

(أو) الوجه تقديم بينة النفي (في غير الموارد المنصوصة على الخلاف) أي : على خلاف تقديم الأقوى ظنا (كتقديم بيّنة الخارج) مع إن قوة الظن إنّما هو في طرف بينة الداخل ، لكن الشارع قدّم بالنص الخاص بيّنة الخارج.

مثلا : إذا كان زيد ساكنا في الدار ، وعمرو خارجا عن الدار وتنازعا ، نعم أتى كل واحد منهما بينة على إن الدار له ، فإن الشارع قضى ببينة الخارج وأمر باعطاء الدار له ، مع إن الداخل بينته معاضدة بيده ، فالظن بالنسبة الى الداخل أقوى لكن الشارع قدّم الخارج ، فإن هذا من الموارد المنصوصة على الخلاف.

هذا (وربّما تمسّكوا) أي : النافون لحجية الاستصحاب مطلقا (بوجوه أخر) غير الوجوه التي ذكرناها (يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا) من الاشكالات (في ما ذكرنا من أدلّتهم) وذلك لأن تلك الوجوه الأخر توافق هذه الوجه

٣٩٧

هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين والنافين مطلقا.

______________________________________________________

التي ذكرناها في خصوصيات الاستدلال وكيفيتها.

(هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين) مطلقا (والنافين مطلقا) وقد عرفت : إن المصنّف يرى التفصيل بين المقتضي والرافع ، ونحن نرى الاطلاق في حجية الاستصحاب ، من غير فرق بين أن يكون الشك في المقتضي أو في الرافع.

انتهى الجزء الحادي عشر

ويليه الجزء الثاني عشر

في حجج المفصّلين

وله الحمد

٣٩٨

المحتويات

تتمّة قاعدة لا ضرر............................................................ ٥

رسالة الشارح في قاعدة لا ضرر............................................. ٤١

بحث الاستصحاب........................................................ ٦٩

المقام الثاني في الاستصحاب................................................. ٧١

بقي الكلام في أمور

الأمر الأوّل............................................................... ٨٠

الأمر الثاني............................................................... ٨٦

الأمر الثالث.............................................................. ٨٩

الأمر الرابع.............................................................. ١٠٩

الأمر الخامس............................................................ ١١٧

الأمر السادس........................................................... ١٢٤

أقسام الاستصحاب

أقسام الاستصحاب باعتبار المستصحب......................................... ١٢٥

الوجه الأوّل............................................................. ١٢٥

الوجه الثاني............................................................. ١٤٦

الوجه الثالث............................................................ ١٥٥

أقسام الاستصحاب باعتبار الدليل الدال عليه.................................... ١٥٨

أقسام الاستصحاب باعتبار الشّك في البقاء...................................... ١٨٢

٣٩٩

الوجه الأوّل............................................................. ١٨٢

الوجه الثاني............................................................. ١٩١

الوجه الثالث............................................................ ١٩٥

أقوال في الاستصحاب......................................................... ٢٠١

أدلّة حجيّة الاستصحاب بالنسبة الى الشّك في الرافع.............................. ٢١٠

الوجه الأوّل : الاجماع.................................................... ٢١٠

الوجه الثاني : حكم الشارع بالبقاء......................................... ٢١٣

الوجه الثالث : الأخبار المستفيضة......................................... ٢١٨

أدلّة بقيّة الأقوال

أدلّة حجّية القول الأوّل ـ المثبتين مطلقا ـ..................................... ٣٢٥

أدلّة حجيّة القول الثاني ـ النافين مطلقا ـ..................................... ٣٧٤

المحتويات..................................................................... ٣٩٩

٤٠٠