الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وانه جائز في المتعارف وغير جائز فيما لم يكن متعارفا.

مثلا : الرواح والمجيء المتعارف وان تضرر الجار بسبب ضوضائه جائز ، لتعارفه في الضيافات وما أشبه في البيوت ، وكذا لو رفع بناء الدار بحيث منع الشمس عن دار الجار ، فانه وان تضرّر به الجار جائز لتعارف ذلك في أبنية المدن ، وهكذا في غرس الأشجار في البيت أو البستان الموجب لكثرة البعوض ، فاذا فعل ما كان متعارفا لم يكن عليه الضمان وكان جائزا.

امّا إذا فعل ما لم يكن متعارفا مثل : ان ينصب في داره رحى أو ماكنة توجب تصدع دار جاره ، أو يسقي حديقته ماء فيوجب انهدام حائط الجار ، أو ما أشبه ذلك ، فانه غير جائز ، لعدم تعارفه ، فاذا فعل ما لم يكن متعارفا لم يكن جائزا وكان عليه الضمان لصدق لا ضرر.

وعليه : فليس القصد هنا بيان ان الضرر ولا ضرر يدوران مدار الجواز وعدم الجواز ، وإنّما القصد ما ذكرناه : من بيان المتعارف وغير المتعارف.

الثلاثون : كما لا يجوز الاضرار بالمسلم ، كذلك لا يجوز الاضرار بالكافر ، إلّا بقدر إجازة الشارع : من رد الاعتداء ، أو المجابهة في الحرب ، أو ما أشبه ، كل ذلك لاطلاق الأدلة ، بل لا يجوز الاضرار بالحيوان أيضا كما ذكرناه في كتاب النكاح باب النفقات (١).

الواحد والثلاثون : لا يستبعد ضمان الضار ، الزائد على المقرر شرعا من الدية إذا سببت الجناية صرف مال في علاجه بمقدار أزيد من الدية المقررة له.

مثلا : إذا قطع الجاني رجل إنسان ، فديتها خمسمائة دينار ، لكن إذا صرف

__________________

(١) ـ راجع موسوعة الفقه : ج ٦٨ ص ٣٩١ وما بعدها ، للشارح.

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

المجني عليه ستمائة دينار في معالجته ، وجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه ستمائة دينار ، خمسمائة دية الرجل شرعا ، ومائة ضمان الضرر لدليل لا ضرر.

ولو تمكن الجاني من وصل ما قطعه كانت المصارف عليه وان كانت أكثر من الدية ، فاذا تمكن الطب الحديث من وصل الرجل المقطوعة بالجسم ـ مثلا ـ فانه يلزم على الجاني دفع كل مصارفه ، وذلك لأن الدية بدل ، وهذا يتمكن من الأصل بوصلها فيجب عليه.

وهكذا يكون الحال في أمثال هذه الجنايات ، فاذا سبّب ـ مثلا ـ ضعف قلبه وتمكن من تعويض القلب ، أو ابرائه بما يرجع اليه حالته الصحية السابقة ، فأيهما يكون المقدّم؟ لم يستبعد تقدّم الابراء على التعويض ، ويكون مصرف الابراء على الجاني وان أراد المجني عليه التعويض.

الثاني والثلاثون : حيث لم يثبت للضرر حقيقة شرعية فهو أمر عرفي ، ولذلك يختلف الضرر زمانا ومكانا ، ففي زمان يكون الشيء الفلاني ضررا دون زمان آخر ، وفي مكان يكون الشيء الفلاني ضررا دون مكان آخر ، امّا الاختلاف بحسب الاشخاص فلا ، حتى ان الفلس الواحد ضرر وان كان المتضرر في غاية الثروة.

نعم ، الظاهر : انصراف لا ضرر عن مثل قشرة وحبة ، لكن لو تعلق غرض المالك بهما لدواء وما أشبه ، حرم تصرف الغاصب فيهما ووجب عليه بدلهما ، لأن غرض المالك قد تعلق بهما وان لم يكن غرض العقلاء كذلك ، فان المعيار هنا المالك لا العقلاء.

هذا ، بل لم نستبعد في الفقه كون المنع عن النفع ضررا أيضا ، فاذا حبس

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الظالم إنسانا فلم يقدر على ان يكتسب قوت عائلته ، صدق انه أضره بذلك.

وكذا لو منعه عن بيع داره فتنزلت قيمتها مائة دينار ، صدق عرفا انه أضره بمائة دينار ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

الثالث والثلاثون : لو خيّره الجائر بين ضررين فاختار الضرر الأشد كان على الجائر ضمان الضرر الأخف ، سواء تمّ الضرر بيد الجائر أم بيد المتضرر نفسه.

مثلا : إذا قال له : اكسر آنيتك وقيمتها دينار ، أو ابريقك وقيمته ديناران فاختار كسر الابريق بنفسه أو أعطى ابريقه للجائر فكسره ، فان الزائد كان بارادة المتضرر فيكون كمن أعطى اناءه إلى غيره ليكسره ، ومنه يعرف حال ما لو اجبرت المرأة على اللمس أو الفاحشة فاختارت الفاحشة.

الرابع والثلاثون : لو قال الجائر لزيد بن عمرو : قدم اناءك لأكسره ، فقدم زيد بن خالد اناءه متوهما انه المعنيّ للجائر فكسره ، فهل يضمن الجائر أم لا؟.

احتمالان : من ان المتضرر هو الذي أقدم عليه فصار الكسر باختياره ، فيكون كمن ألقى متاعه في البحر باختياره متوهما ، ومن ان لا ضرر يصدق عليه ، إذ ليس المقام من الاستثناء الذي يكون باقدام الانسان على ضرر نفسه ، فيشمله دليل لا ضرر.

الخامس والثلاثون : لو أجبره الجائر بالقاء آنيته في البحر فألقى إبريقه والابريق أثمن من الآنية ، فالظاهر : ضمان قيمة الآنية لا الابريق ، لأنه لم يجبره على إلقاء الابريق ، وإنّما هو توهم ذلك ، فالزائد يكون عليه لا على الجائر.

السادس والثلاثون : لو قال له الجائر كلاما عاديا ، فزعم انه أجبره على كسر آنيته والحال انه كان غير ذلك فكسر آنيته ، لم يضمن المتكلّم ، لأنّ التوهم سبّب ذلك ، لا ان الجائر أضره.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

السابع والثلاثون : لو قال زيد بن عمرو لشخص : اكسر آنيتك ولم يكن مقتدرا جائرا حتى يلزم نفوذ كلامه لعدم قدرته ، فزعم الشخص ان القائل زيد بن خالد الجائر فكسر الآنية ، لم يضمن أي واحد من الزيدين ، لأنه توهم للاضرار ، وليس إضرارا بنفسه.

الثامن والثلاثون : لو أعطى سيارته بيد من لم يعرف السياقة ، فوطأ بها بضاعة إنسان فسبّب تلفها ، فهل الضامن صاحب السيارة لأنه عرفا السبب ، أو السائق لأنه المباشر؟ قال المشهور في السبب والمباشر : ان الضمان على المباشر وهو هنا : السائق لا على السبب وهو هنا صاحب السيارة ، لكن فيه تأمل.

التاسع والثلاثون : لو انكسر من السيارة شيء حال سيرها مما أدى إلى الاضرار بالآخرين ، فهل يضمن السائق؟ الظاهر : انه ان قصّر في تعاهد سيارته وإصلاحها ضمن ، وإلّا لم يضمن لعدم إسناد الضرر إليه ، لكن المسألة محل تأمل.

الأربعون : لو أجبره الجائر على الزنا بامرأة خاصة ، رفع الجبر الأحكام التكليفية : من الحرمة والعقاب الاخروي والعقاب الدنيوي كالحد وما أشبه ، امّا الأحكام الوضعية كالولد ، والجنابة ، ونجاسة الموضع ، وما أشبه ذلك ، فهي مترتبة.

نعم ، ورد في الأحاديث لا يحرّم الحرام الحلال على تفصيل مذكور في الفقه ، فلا نعيد الكلام حوله ، وإنّما الكلام هنا هو : ان دليل لا ضرر ونحوه هل يوجب ضمان المهر لها لو لم تكن بغيّة أم لا؟.

احتمالان : من انه ضرر عرضي وان لم يكن ضررا نفسيا أو ماليا ، ولا ضرر يشمل الثلاثة : العرضي ، والنفسي ، والمالي ، فدليل لا ضرر إذن يوجب ضمان المهر كما يوجب ضمان الغرم أيضا لو كانت باكرة فافتضها.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن انه ربّما يقال : بأن هذا لا يسمى ضررا ، فدليل لا ضرر لا يوجب ضمانا إذن ، وإنّما ضمان المهر من باب أدلته الخاصّة ، وقد تقدّم : ان قرار المهر يكون على من أجبره.

هذا ، ولو أجبره على الزنا بامرأة غير معينة من بين عدّة ، لم يجز له الزنا بالبكر لو كان فيهن غير بكر ، لأنه بالاضافة إلى الزنا جناية ، وكلما دار أمر الحرام بين الأشد والأخف قدّم الأخف.

وكذا لم يجز له الزنا بالشابة منهن لو كان فيهن عجوز ، لأن اللازم ترك الألذ ، وذلك لأنه ليس بمجبور فيه ، وإنّما الاجبار بالجامع الذي يحصل بالأقل وهو في المثال : الزنا بالعجوز ، فان اختار الشابة لم يبعد تعزيره لاختياره الزائد.

وكذا لو أكرهه بالزنا دقيقة فبقي بقدر دقيقتين ، فانه لم يستبعد هنا الحد أيضا.

وكذا لو كان الأوّل زنا والآخر عقدا ، أو الأوّل عقدا والآخر زنا أو كان الزنا في الوسط دون الطرفين ، أو في الطرفين دون الوسط ، فانه لو كان مخيرا بينها لم يجز اختيار الحرام منها ، فاذا اختار الحرام لم يبعد الحد أيضا.

ومثل : اختيار الألذ ما إذا خيّره الجائر بين شرب خمر يدوم سكره ساعة وبين فرد آخر يدوم ساعتين ، أو غرق في البحر عجوز وشابة ، أو رجل وامرأة ، فأنقذ الأجل تشهيا ولأجل الملامسة ، فانه يعزّر حيث ان الوجوب يتمركز على ما لا لذة فيه أو فيه لذة أقل ، إلى غيرها من الأمثلة.

ولا يخفى : ان هذه المسائل خارجة عن صلب الرسالة ، وإنّما ذكرناها بالمناسبة استطرادا.

الواحد والأربعون : لو باع القصاب لحما مسموما ، فأكله المشتري فتمرض

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أو مات ـ مثلا ـ سواء علم بالمسمومية أم جهلها أم شك بها ، وذلك لاستناد الفعل اليه.

نعم ، مع علم الآكل أو احتماله للتسمم احتمالا عقلائيا لم يكن على القصاب الضمان ، لأنه لم يضره وإنّما أضر الآكل نفسه بأكله ما يعمل أو يحتمل احتمالا عقلائيا ضرره ، وكذلك حال ما إذا قدم الطعام المسموم إلى الضيف ـ مثلا ـ فانه يأتي فيه بحث علم القصاب أو جهله وشكه ، وعلم الآكل أو جهله وشكه.

الثاني والأربعون : لو ظن ان ضرر الضار قليل وكان كثيرا في الواقع ، أو العكس ، فالمعيار في الكائن لا فيما زعمه ، وكذلك إذا تصور انه يتمرض به فقتله ، أو بالعكس ، أو يصيبه مرض اليرقان فأصابه الاستسقاء ـ مثلا ـ فان الاعتبار في كل ذلك بما حدث لا بما زعم.

الثالث والأربعون : هل الضرر بسمعة الانسان الموجب للخسارة المالية ، والموجب للضرر الجسدي بأن يسبّب مرضه ـ مثلا ـ يعدّ ضرر بحيث يلزم تداركه أم لا؟ لا يبعد ذلك لصدق الضرر.

الرابع والأربعون : لو اختلفا في أصل الاضرار : كان الأصل العدم ، ولو اختلفا في قدره كان الأصل مع الأقل ، ولو اختلفا في انه هل أضره في شاته أو في إبله؟ كانت قاعدة العدل محكمة فيما إذا لم يثبت كلام أحد الطرفين.

كما إنه ليس المقام من البراءة عن الزائد لو كانت قيمة الشاة عشرة والابل عشرين ، لأن المعيار في النزاع هو المصب لا المآل على ما ذكرناه في الفقه ، ولو اختلف المقوّمون أخذ بالوسط.

ولو اختلفا في انه أتلف ثلجه في الشتاء حيث لا قيمة له ، أو في الصيف حيث يكون له قيمة ، احتاج مدعي القيمة إلى الاثبات.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا لو اختلفا في انه أتلف كلبه حيث لا قيمة ، أو شاته حيث القيمة ، فان على مدعي القيمة إثبات ذلك.

ولو اختلفا اجتهادا أو تقليدا ، أو كان أحدهما مجتهدا والآخر مقلدا ، رجعا إلى ثالث ليفصل بينهما وكان حكمه نافذا عليهما ، سواء وافق حكمه أحدهما أم خالف كليهما ، كما قرر في كتاب القضاء (١).

الخامس والأربعون : لو أخذ الضار من المتضرر البراءة عن الضرر لم يكن عليه شيء ، لأن المتضرر يكون حينئذ هو الذي أقدم على ضرر نفسه ، كما ذكروا ذلك في الطبيب الآخذ بالبراءة ، وذلك للقاعدة وللنصوص الخاصة في مورد الطبيب.

ومثله : ما إذا كان الطعام محتمل المسمومية ، فقدّمه صاحبه للزبون وقال : أنا بريء من ضرره ، فقبله الزبون مع انه يحتمل مسموميته وأكله فتضرر به.

نعم ، إذا كان الاحتمال عقلائيا ، لم يستبعد حرمة تقديمه للزبون ، لأنه من التعاون على الاثم إذا كان مسموما واقعا ، لا ما إذا لم يكن فانه ليس بأزيد من التجري حينئذ.

ومثله : ما إذا أعطاه أحد الطعامين المشتبهين بكون أحدهما مسموما ، فانّه لو صادف المسموم ، فقد أضرّه بما يلزمه التدارك ، وإلّا كان تجريا.

هذا والمسائل في باب الضرّ كثيرة جدا نكتفي منها بهذا القدر ، وقد ذكرنا بعضها في كتاب الغصب (٢) ، وبعضها في بعض المواضع الأخر من الفقه والله المستعان.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

__________________

(١) ـ للتفصيل راجع موسوعة الفقه ج ٨٤ ـ ٨٥ كتاب القضاء للشارح.

(٢) ـ راجع موسوعة الفقه ج ٧٨ للشارح.

٦٧
٦٨

الوصائل

الى

الرسائل

تتمّة المقصد الثالث

بحث الاستصحاب

٦٩
٧٠

المقام الثاني

في

الاستصحاب

وهو لغة : أخذ الشيء مصاحبا ،

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على خير خلقه محمّد وآله الطّاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين ... وبعد :

المقام الثاني في الاستصحاب

تقدّم في أول أصل البراءة : أنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين :

المقام الأوّل : في حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الأصول الثلاثة : من البراءة ، والاحتياط ، والتخيير.

المقام الثاني : في حكم الشك في الحكم الواقعي بملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الاستصحاب.

(وهو) أي : الاستصحاب (لغة : أخذ الشيء مصاحبا) ، لكن الظاهر : أنّ الاستصحاب لغة هو : «طلب الصحبة» ، إذ الأصل في الاستفعال ذلك ، يقال : «استخراج» بمعنى : «طلب الخروج».

ومنه قوله سبحانه : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) (١) وذلك من باب تهيئة مقدمات الاجابة فهو طلب أيضا ، فكأنّ الانسان يطلب الاجابة من نفسه بتوفير مقدمات

__________________

(١) ـ سورة الشورى : الآية ٤٧.

٧١

ومنه : استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة ، وعند الاصوليّين عرّف بتعاريف ، أسدّها وأخصرها : «إبقاء ما كان».

______________________________________________________

الاجابة في نفسه.

ومنه : ما جاء في خطبة الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام حيث قال في وصف جده صلوات الله وسلامه عليه : «وأول من أجاب واستجاب لله ربّ العالمين» (١).

ولهذا قال في القاموس : «استصحبه» أي : دعاه الى الصحبة ، ولازمه (٢) ، فالمعنى الذي ذكره المصنّف لعلّه يكون من باب الملازمة للمعنى اللغوي.

(ومنه) أي : من الاستصحاب بالمعنى اللغوي على رأي المصنّف قول الفقهاء في عداد المبطلات للصلاة : (استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة) فإنّ معناه : أخذ أجزاء ما لا يؤكل لحمه مصاحبا.

(و) أمّا اصطلاحا : فانه (عند الاصوليّين عرّف بتعاريف) مختلفة ذكر بعضهم انها دون العشرين ، وقد ذكر المصنّف جملة منها (أسدّها) من حيث السلامة عن الاشكالات الواردة (وأخصرها) من حيث اللفظ هو : («ابقاء ما كان»).

والمراد : ابقاء المكلّف ما كان على حالته السابقة.

وربّما قيل : بأنّ الأخصر من هذا التعريف هو : «الابقاء» فقط لأنّ «ما كان» يفهم من الابقاء.

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٤٥ ص ١٣٨ ب ٣٩ ح ١.

(٢) ـ قاموس المحيط : ص ١٣٤ (صحب).

٧٢

والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء. ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيته للحكم ، فعلّة الابقاء هو أنّه كان ، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله.

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه

______________________________________________________

(والمراد بالإبقاء) حينئذ هو : (الحكم بالبقاء) فانّه ليس ابقاء خارجيا وإنّما حكم بالبقاء ، كالحكم ببقاء الوضوء ، أو ببقاء الحدث ، أو ببقاء الزوجيّة ، أو ما أشبه ذلك ، فالمكلّف المستصحب ـ بالكسر ـ يأخذ الحكم السابق مصاحبا الى الحالة اللاحقة.

هذا (ودخل الوصف) وهو قوله : «كان» لانّ الكلمة وصف (في الموضوع) وهو «ما» في قوله : «ما كان» (مشعر بعلّيته) أي : علّية الوصف (للحكم) الذي هو الابقاء (فعلّة الابقاء هو أنّه كان) فكأنّه قيل : أبق الحالة السابقة لأنّه كان سابقا.

وعليه (فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله) فانّ الشيء قد يبقى لبقاء علّته كبقاء نجاسة الماء المغيّر لبقاء تغيّره ، لأنّ النجاسة معلولة للتغيّر ، فاذا بقي التغيّر بقيت النجاسة.

وقد يبقى لبقاء دليله كبقاء حكم الحلّية للحليب الحلال اذا صار جبنا أو أقطا أو زبدا أو ما أشبه ذلك ، وكبقاء حكم الحرمة للحليب الحرام عند صيرورته جبنا أو أقطا أو زبدا أو ما أشبه ذلك.

ومن الواضح : أنّ بقاء الحكم لاجل وجود علّته أو وجود دليله لا يسمّى استصحابا بالمعنى الذي ذكرناه ، نعم ، إذا كان البقاء لمجرد أنّه كان سابقا فهذا هو الاستصحاب.

(وإلى ما ذكرنا) في تعريف الاستصحاب : من أنّه إبقاء ما كان (يرجع تعريفه)

٧٣

في الزبدة : ب «أنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأول».

بل نسبه شارح الدروس الى القوم ، فقال : «إنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحاب اثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه».

______________________________________________________

أي : تعريف الشيخ البهائي رحمه‌الله للاستصحاب (في) كتابه (الزبدة : «بأنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأول» (١)).

وإنّما يرجع هذا التعريف الى التعريف السابق ، لأن هذا التعريف هو توضيح لذلك التعريف السابق.

(بل نسبه) أي : نسب هذا التعريف (شارح الدروس) وهو المحقق الخوانساري رحمه‌الله (الى القوم ، فقال : «إنّ القوم ذكروا : إنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه» (٢)) والزمان هنا من باب الأبدية في الزمانيّات ، وإلّا فالمهمّ هو السّبق واللحوق.

هذا ، ولا يخفى : أن الاصوليين قد عرّفوا الاستصحاب بتعاريف تنتهي جميعها الى طوائف ثلاث :

الاولى : تعريفه بالحال ، وهذا ما عرّفه به شارح الدروس حيث قد نسبه الى القوم.

الثانية : تعريفه بالمحل ، كما صرح به المحقق القمي وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

الثالثة : تعريفه بكليهما وهو ظاهر شارح المختصر وصاحب الوافية.

__________________

(١) ـ زبدة الأحكام : ص ٧٢.

(٢) ـ مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٧٦.

٧٤

وأزيف التعاريف تعريفه ب «أنّه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق» ، إذ لا يخفى : أنّ كون حكم أو وصف كذلك هو محقّق مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه.

ولذا صرّح في المعالم كما عن غاية المأمول ب «أنّ استصحاب الحال ، محلّه أن يثبت حكم في وقت ، ثم يجيء وقت آخر ، ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ،

______________________________________________________

والى الثانية وضعفها أشار المصنّف حيث قال : (وأزيف التعاريف) وأردئها : (تعريفه) بما في القوانين (ب «أنّه كون حكم) كالوجوب والحرمة ونحوهما (أو وصف) كالحياة والزمان وما أشبه (يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق» (١)).

وإنّما قال بأنه أزيف التعاريف (إذ لا يخفى : أنّ كون حكم أو وصف كذلك) أي : يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق (هو محقّق مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه) فان كون الشيء متيقّنا ثم مشكوكا يوجب كون هذا الشيء مجرى الاستصحاب ، لا ان هذا الكون بنفسه هو الاستصحاب كما ذكره القوانين.

(ولذا) أي : لأجل ان ما ذكره القوانين هو المحل لا الحال ، والاستصحاب هو الحال (صرّح في المعالم كما عن غاية المأمول) للشهيد الثاني : (ب «أنّ استصحاب الحال ، محلّه أن يثبت حكم في وقت ثم يجيء وقت آخر ، ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم) كما انه لا يقوم دليل على بقاء ذلك الحكم.

__________________

(١) ـ القوانين المحكمة : ٢٧٥.

٧٥

فهل يحكم ببقائه على ما كان ، وهو الاستصحاب؟» ، انتهى.

ويمكن توجيه التعريف المذكور : بأنّ المحدود هو الاستصحاب المعدود من الأدلة ، «وليس الدليل إلّا ما أفاد العلم أو الظن بالحكم» والمفيد للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلّا كونه يقينيّ الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلّا بما ذكره قدس‌سره.

______________________________________________________

وحينئذ : (فهل يحكم ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب؟» (١) ، انتهى) تصريح المعالم.

(ويمكن توجيه التعريف المذكور) في القوانين : (بأنّ المحدود) أي : المعرّف بالفتح ـ بهذا التعريف الذي ذكره القوانين (هو الاستصحاب المعدود من الأدلّة) عند القدماء ، فإن الاستصحاب عندهم من أدلة الأحكام لا من الاصول العملية كما هو عند المتأخرين (وليس الدليل إلّا ما أفاد العلم أو الظنّ بالحكم) إما ظنا خاصا أو ظنا عاما للانسداد (والمفيد للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلّا) المحل وهو : (كونه يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق).

وعلى هذا : (فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلّا بما ذكره قدس‌سره).

والحاصل : إن المعرّف ـ بالفتح ـ هو الاستصحاب المعدود من أدلة الأحكام الذي هو الاستصحاب الحكمي المبني على الظن وليس الدليل عندهم إلّا ما أفاد

__________________

(١) ـ معالم الدين : ص ٢٣١.

٧٦

لكن فيه : أنّ الاستصحاب ـ كما صرّح به هو قدس‌سره في أوّل كتابه : «إن اخذ من العقل كان داخلا في دليل العقل ، وإن اخذ من الأخبار فيدخل في السنّة».

وعلى كلّ تقدير فلا يستقيم تعريفه بما ذكره ، لأنّ دليل العقل هو حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي.

______________________________________________________

العلم أو الظن بالحكم ، ولا يوجب الظن بالحكم إلّا كونه متيقن الحصول في الآن السابق ، ولذا يلزم من أن يعرّف الاستصحاب بالمحل لا الحال.

(لكن فيه) أي : في التوجيه المذكور لتعريف القوانين : إن الدليل الموجب للظن بالحكم هو : كون الشيء يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ، والاستصحاب أمر مغاير لهذا التعريف سواء جعلناه داخلا في الدليل العقلي أم داخلا في السنة ، وذلك كما قال :

(أنّ الاستصحاب كما صرّح به هو قدس‌سره في أوّل كتابه) أي : القوانين : («إن اخذ من العقل) حيث يظن العقل ببقاء ما كان سابقا إذا شك في بقائه وعدم بقائه (كان داخلا في دليل العقل) حيث إن من أدلة الأحكام العقل.

(وإن اخذ من الأخبار) مثل قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» (١) (فيدخل في السنّة» (٢)) فان أدلة الأحكام كما ذكروا : الكتاب والسنة والاجماع والعقل.

(وعلى كلّ تقدير) سواء تقدير كونه من العقل أم من السنة (فلا يستقيم تعريفه بما ذكره) القوانين.

وإنّما لا يستقيم (لأنّ دليل العقل هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ)

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٢) ـ القوانين المحكمة : ج ٢ ص ١٣.

٧٧

وليس هنا إلّا حكم العقل ببقاء ما كان ، والمأخوذ من السنّة ليس إلّا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، فكون الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين.

نعم ، ذكر شارح المختصر : «أنّ معنى استصحاب الحال إنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو

______________________________________________________

إذ ليس الكلام في الاصول عن المستقلات العقلية ، وإنّما الكلام في الأحكام العقلية الملازمة للأحكام الشرعية بمقتضى : كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، (وليس هنا) في مورد الشك في البقاء (إلّا حكم العقل ببقاء ما كان) وهو الحال لا المحل.

هذا (والمأخوذ من السنّة ليس إلّا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان) وهو الحال أيضا لا المحل.

إذن : (فكون الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه) لاحقا (لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين) أي : إن تعريف المحقق القمي للاستصحاب لا ينطبق لا على تعريف الاستصحاب المأخوذ من العقل ، ولا على المأخوذ من السنّة ، وذلك لأن كلا التعريفين لاستصحاب الحال ، لا المحل الذي ذكره القوانين.

(نعم) هنا تعريف ثالث ينطبق على الاستصحاب بالوجهين كليهما : الحال والمحل معا ، فقد (ذكر) العضدي (شارح المختصر) لابن الحاجب قائلا :

(«أنّ معنى استصحاب الحال) وقد كان هذا اصطلاحا عند القدماء ، حيث يسمون الاستصحاب باستصحاب الحال يعني استصحاب الحالة السابقة هو : (أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو

٧٨

مظنون البقاء».

فإن كان الحدّ هو خصوص الصغرى انطبق على التعريف المذكور ، وإن جعل خصوص الكبرى انطبق على تعاريف المشهور ، وكأنّ صاحب الوافية استظهر منه : كون التعريف مجموع المقدمتين ، فوافقه في ذلك ، فقال : «الاستصحاب هو التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال

______________________________________________________

مظنون البقاء» (١)) فإن هذا التعريف كما ترى قد أخذ الحال والمحل كليهما في تعريف.

وعليه : (فإن كان الحدّ هو خصوص الصغرى) أي : قوله : إن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه (انطبق على التعريف المذكور) في القوانين.

(وإن جعل خصوص الكبرى) أي : قوله : وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء (انطبق على تعاريف المشهور) لأن قوله : «وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء» مرجعه إلى أن العقل يظن ببقاء الشيء الكذائي وهو الاستصحاب الذي ذكرناه بقولنا : إبقاء ما كان.

هذا (وكأنّ صاحب الوافية) وهو الفاضل التوني قد (استظهر منه : كون التعريف مجموع المقدمتين) كبرى وصغرى (فوافقه في ذلك ، فقال : «الاستصحاب هو التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت) كوجوب الصوم وقت النهار ، فيما إذا شك في ان الليل دخل أو لم يدخل ، فانه يستصحب بقاء وجوب الصوم (أو حال) كنجاسة الماء حال التغير فيما إذا شك في ان النجاسة زالت بزوال التغير أو لم تزل ، فانه يستصحب بقاء النجاسة كما قال :

__________________

(١) ـ شرح مختصر الأصول : ج ٢ ص ٢٨٤.

٧٩

على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال ، فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق» ، انتهى. ولا ثمرة مهمّة في ذلك.

بقي الكلام في أمور

الأوّل :

______________________________________________________

فيبني (على بقائه فيما بعد ذلك الوقت) أي : عند الشك في إنه هل دخل الليل أم لا؟ (أو في غير تلك الحال) أي : عند الشك بعد زوال تغيّر الماء من نفسه بأنّه هل طهر أم لا؟ (فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق» (١) ، انتهى) كلام صاحب الوافية.

(ولا) يخفى عدم وجود (ثمرة مهمّة في ذلك) فإنه سواء علمنا بأن الاستصحاب عندهم هو الحال فقط ، أو المحل فقط ، أو المحل والحال معا ، أم لم نعلم بذلك ، فقد تبيّن حسب القاعدة : إن الاستصحاب هو الحال.

(بقي الكلام في أمور) ترتبط ببعض خصوصيات الاستصحاب وهي :

(الأوّل) : هل الاستصحاب من الأدلة الاجتهادية أو من الاصول العملية؟.

وبعبارة أخرى : هل الاستصحاب من الأحكام الظاهرية أو الأحكام الواقعية؟.

والمراد بالحكم الواقعي : هو الحكم المجعول للموضوعات بالملاحظة الأوّلية ، بمعنى : إنه لم يلاحظ في موضوع الحكم الجهل بحكمه الأوّلي المجعول له ، من غير فرق بين سائر الاعتبارات والأوصاف كالحضر والسفر ، والصحة والمرض ، ووجدان الماء وفقدانه ، والاختيار والاضطرار ، وغير ذلك.

__________________

(١) ـ الوافية : مخطوط.

٨٠