الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

أنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي ـ بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلا عن اتفاق النافين عليه ، إذ ما من استصحاب وجودي إلّا ويمكن معه فرض استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجودي ، فيسقط فائدة نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية ،

______________________________________________________

إن شاء الله تعالى : (أنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي) وذلك (بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ) هذا التفصيل (وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال) فكيف بالاتفاق عليه كما قال : (فضلا عن اتفاق النافين عليه)؟.

إذن : فالقول في المسألة : إما بالاستصحاب مطلقا وإما بعدم الاستصحاب مطلقا مما يثبت دخول العدمي في محل النزاع ، فلا قول بالتفصيل حتى يكون العدمي على القول به خارجا عن محل النزاع.

وإنّما يشهد كلام الاصوليين والفقهاء بعدم خروج العدميات عن محل النزاع (إذ ما من استصحاب وجودي إلّا ويمكن معه فرض استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به) أي : بالعدم (الظنّ بذلك المستصحب الوجودي) فإنه لو كان الاستصحاب في العدميات حجة بلا خلاف ، لكان البحث في حجية الاستصحاب في الوجوديّات لغوا.

وإنّما يكون البحث فيه لغوا لأنه ما من مورد للاستصحاب الوجودي إلّا ويمكن تبديله بالاستصحاب العدمي (فيسقط فائدة نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية) لأن مهمّة المستصحب ـ بالكسر ـ وصوله الى الحكم بواسطة الاستصحاب وهو إذا استصحب العدم وصل الى الحكم الوجودي ومعه لا حاجة للتكلم في كون الاستصحاب الوجودي حجة أم لا؟.

١٤١

وانتظر لتمام الكلام.

وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات اختلافهم في أنّ النافي يحتاج الى دليل أم لا ،

______________________________________________________

مثلا : إنه يتمكن من أن يستصحب عدم موت زيد لا يجاب نفقة زوجته فلا حاجة له الى استصحاب حياة زيد ، ويتمكن من أن يستصحب عدم نجاسة الماء لاثبات طهارة الثوب المغسول به فلا حاجة له الى استصحاب طهارة الماء ، وهكذا.

وعليه : فمحاولة الاصوليين اثبات حجية الاستصحاب الوجودي وإنه لو لم يكن حجة لم يصلوا الى الحكم المترتب على الاستصحاب الوجودي ، يدل على عدم مسلّمية حجية الاستصحاب العدمي عند الجميع إذ لو كان الاستصحاب العدمي حجة كذلك لم يحتاجوا الى هذه المحاولة ، لأن الاستصحاب العدمي يسدّ مسد الاستصحاب الوجودي على ما بيّناه.

(وانتظر لتمام الكلام) في هذا المجال ، فإن الاستصحاب العدمي هو أيضا كالوجودي على ما عرفت : محل النزاع بين الاصوليين ، وليس كما زعمه بعض : من انه متفق عليه.

(وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات) ودخوله في محل النزاع هو (اختلافهم في أنّ النافي يحتاج الى دليل أم لا).

مثلا : إذا اختلف اثنان في أنه هل وقع النكاح ، أو وقع البيع ، أو وقع الصلح أو ما أشبه أم لا؟ قال بعض : بأن النافي لهذه المعاملات ونحوها لا يحتاج الى الدليل ، لأن أصل العدم كاف لاثبات كلامه ، وقال بعض آخر : بأن أصل العدم لا يكفي لاثبات كلامه ، فاختلافهم في ذلك دليل على أنهم غير متّفقين في العدميّات

١٤٢

فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما ادّعينا.

نعم ، ربّما يظهر من بعضهم : خروج بعض الأقسام من العدميات من محل النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى : بالبراءة الأصلية ، فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ، كالمحقق ، والعلامة ، والفاضل الجواد : الإطباق على العمل عليه ، وكاستصحاب عدم النسخ ، فإن المصرّح به في كلام غير واحد ، كالمحدّث الاسترابادي ، والمحدّث البحراني : عدم الخلاف فيه ،

______________________________________________________

بل مختلفون فيها.

وعليه : فإن أردت الوقوف على ما قلناه (فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما ادّعينا) : من أن الاستصحاب العدمي هو كالوجودي موضع اختلاف بين الاصوليين والفقهاء.

(نعم ، ربّما يظهر من بعضهم : خروج بعض الأقسام من العدميات من محل النزاع) والاتفاق على الاستصحاب فيه (كاستصحاب النفي المسمّى : بالبراءة الأصلية) مثل ما لو شككنا في أنه هل حرم التتن أم لا؟ فنستصحب عدم حرمته قبل الشرع الى ما بعد الشرع.

وكذا لو شككنا في حكم على صغير بلغ ، أو على مجنون أفاق ، فلم نعلم أنه كلّف بالتكليف الفلاني أم لا؟ فنستصحب عدم التكليف حال الصغر وحال الجنون الى ما بعد البلوغ والإفاقة.

وعليه : (فإنّ المصرّح به في كلام جماعة) من الفقهاء (كالمحقق ، والعلامة ، والفاضل الجواد : الإطباق على العمل عليه) أي : على استصحاب النفي فيها.

(وكاستصحاب عدم النسخ) حيث انه متّفق عليه بينهم (فإن المصرّح به في كلام غير واحد كالمحدّث الاسترابادي ، والمحدّث البحراني : عدم الخلاف فيه)

١٤٣

بل مال الأوّل الى كونه من ضروريات الدين ، وألحق الثاني بذلك استصحاب عدم المخصّص والمقيّد.

والتحقيق : إنّ اعتبار الاستصحاب بمعنى : التعويل في تحقق شيء في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه ، مختلف فيه من غير فرق بين الوجودي والعدمي.

نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى يوجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، كقاعدة قبح التكليف من غير بيان ،

______________________________________________________

فإنه ما دام لا نعلم بالنسخ نستصحب عدم النسخ.

(بل مال الأوّل) : وهو الاسترابادي (الى كونه) أي : استصحاب عدم النسخ (من ضروريات الدين).

هذا (وألحق الثاني) : وهو البحراني (بذلك) أي : بأصل عدم النسخ (استصحاب عدم المخصّص والمقيّد) وقال : بأنه من ضروريات الدين ، فإذا لم يظهر مخصص أو مقيد ، نستصحب عدمهما ونتمسك بالعام أو المطلق.

(و) مما ذكرنا من كلماتهم ظهر : أن (التحقيق : أنّ اعتبار الاستصحاب بمعنى : التعويل في تحقق شيء في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه ، مختلف فيه) بين الفقهاء والاصوليين (من غير فرق بين الوجودي والعدمي) فليس الاستصحاب العدمي متفقا عليه.

(نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى) غير الاستصحاب (يوجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة) فذلك ليس من باب الاستصحاب بل من باب قاعدة أخرى (كقاعدة قبح التكليف من غير بيان) حيث إنه من المستقلات العقلية ، وهذا يوافق استصحاب العدم ، لكنه قاعدة أخرى غير الاستصحاب.

١٤٤

أو عدم الدليل دليل العدم ، أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره ، أو عمومه ، أو اطلاقه أو غير ذلك ، وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب.

ثم إنّا لم نجد في أصحابنا من فرّق بين الوجودي والعدمي.

______________________________________________________

(أو عدم الدليل دليل العدم) وهذه أيضا قاعدة عقلائية توافق استصحاب العدم يعمل بها العقلاء تجاه الموالي وذلك في أنه لا حق للمولى إذا لم ينصب دليلا أن يعاقب العبد على عدم عمله بما يريده المولى ، وهي غير الاستصحاب.

(أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره ، أو عمومه ، أو اطلاقه) فإنه إذا كان للدليل ظهور في الاستمرار ، أو العموم ، أو الاطلاق بنى العقلاء على ذلك للظهور العقلائي وإن كان يوافقه استصحاب عدم النسخ ، وعدم التخصيص ، وعدم التقييد (أو غير ذلك) مما له ظهور كارادة الحقيقة فيما إذا لم يكن هناك قرينة منصوبة على خلافه.

(وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب) فإن هذه اصول عقلائية يعمل عليها العقلاء سواء قلنا بحجيّة الاستصحاب أم لم نقل بحجيّته.

إذن : فلا يحق لأحد أن يقول : أنّ هذه الامور العدميّة متّفق عليها فتكون دليلا على اتّفاقهم على الاستصحاب في الامور العدمية أيضا ، وذلك لما عرفت : من أنّ الاستصحاب شيء ، وهذه الامور العدميّة شيء آخر ، فلا يكون أحدهما دليل على الآخر.

(ثم إنّا لم نجد في أصحابنا من فرّق بين الوجودي والعدمي) ، في باب الاستصحاب ، بل هم بين من أثبته مطلقا أو نفاه مطلقا على ما عرفت.

١٤٥

نعم ، حكى شارح الشرح هذا التفصيل عن الحنفيّة.

الوجه الثاني :

إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيا ، كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر من قبل نفسه ؛

______________________________________________________

(نعم ، حكى شارح الشرح) أي : التفتازاني المتقدم ذكره (هذا التفصيل) بين العدمي والوجودي (عن الحنفيّة) وذلك لا يكون دليلا على أن أصحابنا أيضا يقولون بالتفصيل.

ثم لا يخفى : أنه قد ذكرنا في أوّل المبحث السادس قبل عدة صفحات تقسيم الاستصحاب تارة باعتبار المستصحب ، واخرى باعتبار الدليل ، وثالثة باعتبار الشك المأخوذ فيه ، ومضى أن التقسيم باعتبار المستصحب من وجوه ، تكلمنا عن أولها ، وبقي الكلام في الباقي ، أما الكلام في ثانيها فهو كما يلي :

(الثاني) من تقسيمات الاستصحاب حسب المستصحب هو : (إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيا) كليّا (كالطهارة) عن الحدث ، (المستصحبة بعد خروج المذي) والوذي والودي ، فإن الفقيه يحكم بالطهارة المستصحبة في هذه الامور مطلقا ، وهو حكم كلّي لكل من خرج منه شيء من هذه الامور بعد طهارته.

(و) مثل (النجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر من قبل نفسه) بأن كان الماء قد تنجس بالتغيّر ، ثم زال تغيّره من قبل نفسه حيث نشك في أنه هل بقي على النجاسة أو زالت النجاسة بزوال التغير؟ فإن الاستصحاب يقول ببقاء

١٤٦

وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل عند الشك في حدوث النقل أو في تاريخه.

والظاهر بل صريح جماعة : وقوع الخلاف في كلا القسمين.

نعم ، نسب الى بعض التفصيل بينهما بانكار الأوّل والاعتراف بالثاني ، ونسب الى آخر : العكس

______________________________________________________

النجاسة ، وهو حكم كلّي يستنبطه الفقيه من قاعدة الاستصحاب.

(وقد يكون غيره) أي : غير الحكم الشرعي ، فإن الاستصحاب قد يكون في الأحكام وقد يكون في الموضوعات (كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل) للكلمة ، فإنا نستصحب الوضع الأوّل للكلمة (عند الشك في حدوث النقل أو في تاريخه) أي : تاريخ النقل للكلمة ، فإذا شككنا ـ مثلا ـ في أن صيغة الأمر هل نقلت عن الوجوب الذي هو المعنى الظاهر للصيغة الى الاستحباب في زمان الأئمة عليهم‌السلام أم لا؟ نقول بعدم النقل لاستصحابه.

وكذا إذا علمنا بأنّ كلمة الصلاة نقلت من الدعاء الى الأركان المخصوصة ، لكن نشك في أنّ النقل حصل في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في زمن الإمام الصادق عليه‌السلام نقول : بأنه لم ينقل الى زمان الإمام الصادق عليه‌السلام وهذا هو استصحاب الموضوع وليس استصحابا للحكم.

(والظاهر بل صريح جماعة : وقوع الخلاف في كلا القسمين) من الاستصحاب : الاستصحاب الحكمي والاستصحاب الموضوعي معا.

(نعم ، نسب الى بعض التفصيل بينهما بانكار الأوّل) بأن قال بعدم جريان الاستصحاب في الحكم (والاعتراف بالثاني) بأن قال بجريان الاستصحاب في الموضوع (ونسب الى آخر : العكس) بأن أجرى الاستصحاب في الحكم دون

١٤٧

حكاهما الفاضل القمّي في القوانين.

وفيه نظر ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ، فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة من خرج منه المذي أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه.

وأخرى : يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي الخاصّ في الموضوع الخاصّ ،

______________________________________________________

الموضوع ، وهذان التفصيلان (حكاهما الفاضل القمّي في القوانين (١)).

وعليه : فالأقوال حينئذ أربعة : قولان بالاطلاق وهما : جريان الاستصحاب مطلقا في الحكم والموضوع ، وعدم جريان الاستصحاب مطلقا لا في الحكم ولا في الموضوع ، وقولان بالتفصيل وهما : جريان الاستصحاب في الحكم دون الموضوع ، وجريان الاستصحاب في الموضوع دون الحكم ، لكن سيأتي من المصنّف أن الأقوال بالتفصيل ثلاثة لا اثنان.

(وفيه) أي : فيما نقله الفاضل القمّي من التفصيل ونسبه الى بعض (نظر ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره) أي : غير الحكم الشرعي وهو الموضوع الخارجي.

وعليه : (فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع) لأنّ الأحكام الكلّية إنّما تؤخذ من الشارع فقط (كطهارة من خرج منه المذي) والودي والوذي (أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه) وما أشبه ذلك من الأحكام الكليّة وجوبية كانت أو تحريمية ، تكليفية كانت أو وضعية.

(وأخرى : يراد به ما يعمّ) الحكم الكلّي المذكور و (الحكم الجزئي الخاصّ

__________________

(١) ـ القوانين المحكمة : ص ٢٨٣.

١٤٨

كطهارة هذا الثوب ونجاسته ، فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ، ليس وظيفة الشارع.

نعم ، وظيفته إثبات الطهارة الكلّية لكل شيء شك في ملاقاته للنجس وعدمها.

وعلى الاطلاق الأوّل جرى الاخباريون ، حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى.

______________________________________________________

في الموضوع الخاصّ ، كطهارة هذا الثوب ونجاسته) حيث إن المرجع فيهما العرف (فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ، ليس وظيفة الشارع).

إذن : فالشارع ليس مرجعا لبيان أن ثوب زيد نجس وثوب خالد طاهر من جهة الملاقاة وعدم الملاقاة ، وإنّما الشارع مرجع لبيان الأحكام الكلّية ، أمّا الصغريات الخارجية لتلك الأحكام فمرجعها العرف.

(نعم ، وظيفته) أي : الشارع (إثبات الطهارة الكلّية لكل شيء شك في ملاقاته للنجس وعدمها) فإن الشارع يقول : كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه لاقى النجس ، أمّا أن هذا الثوب لاقى النجس أو لم يلاق النجس فليس من وظيفة الشارع بيانه.

(وعلى الاطلاق الأوّل جرى الاخباريون) أي : أن الاخباريين أنكروا جريان الاستصحاب في أحكام الله ، لكنهم أرادوا من أحكام الله : الحكم الشرعي الكلّي ، لا الأعم منه حتى ليشمل كلامهم الأحكام الشرعيّة الجزئية التي ليست وظيفة الشارع.

وعليه : فالاخباريون ـ كما قال ـ أرادوا الاطلاق الأوّل للحكم الشرعي (حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى) فقالوا مثلا : بعدم

١٤٩

وجعله الاسترابادي من أغلاط من تأخر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية لأجل اشتباه في الامور الخارجية.

وصرّح المحدّث الحرّ العامليّ : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعي ، وإنّما يدل على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته.

______________________________________________________

استصحاب حلّية التتن قبل الشريعة الى ما بعدها ، وبعدم استصحاب صحة ضمان ما لم يجب قبل الشريعة الى ما بعدها وهكذا.

(وجعله) أي : جعل هذا الاستصحاب (الاسترابادي من أغلاط من تأخر عن المفيد) رحمه‌الله (مع اعترافه) أي : الاسترابادي (باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية) شكا (لأجل اشتباه في الامور الخارجية (١)) كما إذا لم نعلم بأنّ الثوب لاقى البول أو لم يلاقه ، أو أن زيدا مات حتى لا تجب نفقة زوجته أو لم يمت؟.

والحاصل : أن المحقق الاسترابادي يفصّل بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية ، حيث لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّية ويجريه في الأحكام الجزئية.

(وصرّح المحدّث الحرّ العامليّ : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره) أي : اعتبار الاستصحاب (في نفس الحكم الشرعي) الكلّي (وإنّما يدل على اعتباره) أي : اعتبار الاستصحاب (في موضوعاته ومتعلّقاته) أي : موضوعات الحكم الجزئي ومتعلقات تلك الموضوعات ، فيستصحب حياة زيد

__________________

(١) ـ الفوائد المدنية : ص ١٤١.

١٥٠

والأصل في ذلك عندهم : إنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلّا الاحتياط ، دون البراءة أو الاستصحاب ، فانّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع.

وعلى الاطلاق الثاني جرى بعض آخر.

قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : «وينقسم الاستصحاب الى قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه الى شرعي وغيره

______________________________________________________

كما يستصحب وجوب نفقة زوجته ، فإن النفقة متعلق الموضوع.

هذا (والأصل) أي : المنشأ (في ذلك) أي : في أن اخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتبار الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي الكلّي (عندهم) أي : عند الاخباريين هو : (أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلّا) الى (الاحتياط ، دون البراءة أو الاستصحاب) أي : لا البراءة ولا الاستصحاب (فانّهما) أي : البراءة والاستصحاب (عندهم) أي : عند الاخباريين (مختصّان بالشبهة في الموضوع).

هذا كلّه على الاطلاق الأوّل وهو : اطلاق الحكم الشرعي على الحكم الكلّي فقط.

(وعلى الاطلاق الثاني) : أي : اطلاق الحكم الشرعي على المعنى الأعم الشامل للكلّي والجزئي (جرى بعض آخر) فقد (قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : «وينقسم الاستصحاب الى قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه) الاستصحاب (الى شرعي وغيره) ومراده من الشرعي بقرينة عدم التقييد : الأعم من الحكم الشرعي الكلّي ، كما ان مراده من غيره : الامور الخارجية.

١٥١

ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب أو البدن ، وللثاني برطوبته. ثم قال : ذهب بعضهم الى حجيّة القسمين ، وبعضهم الى حجيّة القسم الأوّل فقط» ، انتهى.

إذا عرفت ما ذكرنا ، ظهر : أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية والامور الخارجيّة قولين متعاكسين ، ليس على ما ينبغي.

لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم

______________________________________________________

هذا (ومثّل للأوّل) وهو ما أشار اليه بقوله : الى شرعي (بنجاسة الثوب أو البدن) فإن نجاسة هذا الثوب أو ذاك البدن الخاص وعدم نجاستهما حكم شرعي.

كما (و) مثّل (للثاني) : وهو ما أشار اليه بقوله : وغيره (برطوبته) فإن الرطوبة أمر خارجيّ وليس حكما شرعيا وإن ترتّب على الرطوبة واللارطوبة الحكم الشرعي ، فإن الثوب إذا كان رطبا ولاقى النجس تنجّس بخلاف ما إذا لم يكن رطبا.

(ثم قال : ذهب بعضهم الى حجيّة القسمين ، وبعضهم الى حجيّة القسم الأوّل فقط» (١) ، انتهى) كلام المحقق الخوانساري رحمة الله عليه.

(إذا عرفت ما ذكرنا) : من أن الحكم الشرعي يراد به تارة الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، وأخرى يراد به ما يعمّ الحكم الكلّي والحكم الجزئي المرتبط بالموضوع الخاص ، إذا عرفت ذلك (ظهر : أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية والامور الخارجيّة قولين متعاكسين) كما نقلناه عن المحقق القمي رحمه‌الله (ليس على ما ينبغي).

وإنّما لا يكون على ما ينبغي (لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم

__________________

(١) ـ مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٧٦.

١٥٢

الكلّي الذي أنكره الاخباريون ، فليس هنا من يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في غيره ، فإنّ ما حكاه المحقق الخوانساري واستظهره السبزواري هو اعتباره في الحكم الشرعي بالاطلاق الثاني الذي هو الأعمّ من الأوّل.

وإن أريد بالحكم الشرعي الاطلاق الثاني الأعمّ ، فلم يقل أحد باعتباره في غير الحكم الشرعي ، وعدمه في الحكم الشرعي ،

______________________________________________________

الكلّي الذي أنكره الاخباريون ، فليس هنا من يقول) بعكس هذا القول ، لأنه صحيح أنّ الاخباريين أنكروا الاستصحاب في الحكم الكلّي واعتبروه في غيره ، إلّا أنه لا عكس له في الأقوال ، إذ لم يقل أحد (باعتبار الاستصحاب فيه) أي : في الحكم الكلّي فقط (ونفيه) أي : نفي اعتبار الاستصحاب (في غيره) أي : في غير الحكم الكلّي.

وإنّما لم يكن هنا من يقول بالعكس لأنه كما قال : (فإنّ ما حكاه المحقق الخوانساري واستظهره السبزواري) ليس هو اعتبار الاستصحاب في الحكم الكلّي فقط حتى يكون عكسا لقول الاخباريين ، بل (هو اعتباره في الحكم الشرعي بالاطلاق الثاني الذي هو الأعمّ من الأوّل) أي : من الحكم الكلّي والجزئي.

(وإن أريد بالحكم الشرعي الاطلاق الثاني) الذي هو (الأعمّ) من الكلّي والجزئي (فلم يقل أحد باعتباره) أي : باعتبار الاستصحاب (في غير الحكم الشرعي ، وعدمه في الحكم الشرعي).

إذن : فالمحقق الخوانساري وإن نقل عن بعض : القول باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، وإنكاره في الامور الخارجية ، إلا إنّه لا عكس له ،

١٥٣

لأن الاخباريين لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية.

ثم إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ثلاثة :

الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، جزئيا كان : كنجاسة الثوب ، أو كليّا : كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وهو الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري.

الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيا ،

______________________________________________________

إذ لم يوجد أحد من الاخباريين ولا من غيرهم يقول باعتبار الاستصحاب في الامور الخارجيّة وعدم اعتباره في الحكم الشرعي مطلقا.

وإنّما لم يقل به أحد حتى الاخباريين (لأن الاخباريين) أيضا ينكرون الاستصحاب في الحكم الكلّي فقط ، لا في الأحكام الجزئية الخارجيّة فإنهم (لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية) كطهارة ثوب زيد ، ونجاسة بدن عمرو ، وما أشبه ذلك.

(ثم إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم) أي : تقسيم الاستصحاب الى الحكم الشرعي وغيره من الامور الخارجية أن الأقوال بالتفصيل (ثلاثة) لا اثنين ، وذلك على ما يلي :

(الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا جزئيا كان : كنجاسة الثوب ، أو كليّا : كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وهو الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري) في كلامه المتقدم.

(الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيا)

١٥٤

وهو الذي حكاه في الرسالة الاستصحابية عن الاخباريين.

الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الامور الخارجية ، وهو الذي ربما يستظهر ممّا حكاه السيد شارح الوافية عن المحقق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه.

الوجه الثالث :

من حيث إنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيا ، وقد يكون وضعيا شرعيا ، كالأسباب

______________________________________________________

خارجيا ، كنجاسة هذا الثوب وطهارة بدن زيد (وهو الذي حكاه) الوحيد البهبهاني (في الرسالة الاستصحابية عن الاخباريين) على ما تقدّم.

(الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الامور الخارجية ، وهو الذي ربما يستظهر ممّا حكاه السيد شارح الوافية) السيد صدر الدين (عن المحقق الخوانساري في حاشية له) أي : للخوانساري (على قول الشهيد) في اللمعة ، وذلك (في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه) حيث انه يحرم استعمال هذين الماءين في الشرب ونحوه.

(الوجه الثالث) من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب هو : تقسيمه (من حيث أنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيا) وهي الأحكام الخمسة (وقد يكون) حكما (وضعيا شرعيا) وهي التي يصطلح عليها الفقهاء : بالأحكام الوضعية.

أما أمثلة الأحكام الوضعية فهي : (كالأسباب) أي : سببيّة الأسباب للمسبّبات ،

١٥٥

والشروط والموانع.

وقد وقع الخلاف من هذه الجهة : ففصّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره : بالانكار في الأوّل ، دون الثاني.

وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني ، مع أنّه تقسيم لأحد

______________________________________________________

مثل سببيّة عقد البيع لانتقال الملك ، وعقد النكاح لاباحة الوطي ، وما أشبه ذلك.

(و) كشرطية (الشروط) مثل : شرطية الصلاة بالطهارة والقبلة.

(و) كمانعية (الموانع) مثل : مانعية الحدث عن الصلاة.

وبكلمة واحدة : إن كل ما لم يكن حكما تكليفيا من الأحكام الخمسة ، فهو حكم وضعي.

ثم إنّهم اختلفوا في تعداد الأحكام الوضعية فقيل : أنها ثلاثة وهي : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وقيل : إنها خمسة باضافة العلّية والعلاميّة ، وقيل : إنها تسعة باضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة.

لكن من الواضح : أن هذه الأعداد لا تفيد كل الأحكام الوضعية ، وإنّما الأحكام الوضعية هي ما عدا الأحكام التكليفيّة الخمسة فقد عرفت : إن كل ما لم يكن حكما تكليفيا كان حكما وضعيا ، حتى إن بعضهم ذكر شمول الأحكام الوضعية لمثل : القضاء والولاية والقيمومة وما أشبه ذلك.

(وقد وقع الخلاف من هذه الجهة) أي : من جهة كون المستصحب حكما تكليفيا أو حكما وضعيا (ففصّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره : بالانكار في الأوّل ، دون الثاني) فإن الفاضل التوني وهو صاحب الوافية يرى أن الأحكام التكليفية لا تستصحب ، بل تستصحب الأحكام الوضعية فقط.

(وإنّما لم ندرج هذا التقسيم) الثالث (في التقسيم الثاني مع أنّه تقسيم لأحد

١٥٦

قسميه ، لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ، إلّا أنّ آخر كلامه ظاهر في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ،

______________________________________________________

قسميه) أي : لأحد قسمي الثاني ، فإن التقسيم الثاني عبارة عن : تقسيم المستصحب الى الحكم الشرعي وغيره ، وهذا التقسيم الثالث الذي هو عبارة عن تقسيم المستصحب الى الحكم التكليفي والوضعي تقسيم للحكم الشرعي أيضا.

وعليه : فاللازم على ذلك إدراج هذا التقسيم في التقسيم الثاني وذلك بأن يقال في التقسيم الثاني : أن الاستصحاب قد يكون في الحكم الشرعي وقد يكون في غير الحكم الشرعي ، وما كان في الحكم الشرعي فقد يكون في الامور التكليفيّة وقد يكون في الامور الوضعية.

وإنّما لم ندرج التقسيم الثالث في التقسيم الثاني مع إنه أحد قسمي التقسيم الثاني (لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور) أي : صاحب الوافية (وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي) بجريان الاستصحاب في الوضعي دون التكليفي. (إلّا أنّ آخر كلامه ظاهر في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة) فلم يعلم منه التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي بل يظهر من آخر كلامه التفصيل بين الحكم وغيره.

والحاصل : إن هذا المفصّل لا يرى الاستصحاب في الكمّ الشرعي مطلقا لا التكليفي ولا الوضعي ، وإنّما يرى الاستصحاب في الأسباب والشروط والموانع مع العلم بأن الحكم الوضعي عبارة عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، لا السبب والشرط والمانع.

١٥٧

وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال.

وأمّا بالاعتبار الثاني فمن وجوه أيضا :

أحدها : من حيث الدليل المثبت للمستصحب ، إمّا أن يكون هو الاجماع ، وإمّا أن يكون غيره ،

______________________________________________________

ومن الواضح : الفرق بين ذات الشرط كالوضوء ، وبين الشرطيّة وهي التلوّن بالشرط كالصلاة مشترطة بالوضوء ، وهكذا في السبب والمانع فقد نقول ـ مثلا ـ : بأن الرطوبة تستصحب ، وقد نقول : بأن سببيّة الرطوبة لمنع الاحراق بالنار تستصحب.

وعليه : فالسبب والشرط والمانع ذوات ، بخلاف السببيّة والشرطيّة والمانعيّة فإنها أوصاف (وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال) إن شاء الله تعالى.

ثم إن المصنّف لما انتهى من تقسيم الاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب ، شرع في تقسيمه باعتبار الدليل الدالّ عليه فقال :

(وأمّا) تقسيم الاستصحاب (بالاعتبار الثاني) أي : باعتبار دليل الاستصحاب (فمن وجوه أيضا) ذكر المصنّف ثلاثة منها :

(أحدها : من حيث الدليل المثبت) بصيغة اسم الفاعل (للمستصحب إمّا أن يكون هو الاجماع) كما إذا قام الاجماع على تنجّس الكرّ بالتغيّر ، ثم زال التغيّر فشككنا في بقاء النجاسة وعدم بقائها.

(وإمّا أن يكون) الدليل المثبت للاستصحاب (غيره) أي : غير الاجماع من الكتاب والسنة.

١٥٨

وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل.

وربما يظهر من صاحب الحدائق فيما حكي عنه في الدّرر النجفيّة : أنّ محل النزاع في الاستصحاب منحصر في استصحاب حال الاجماع.

الثاني : من حيث انّه قد يثبت بالدليل الشرعي ، وقد يثبت بالدليل العقلي ،

______________________________________________________

(وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل) وهو ما كان دليله الاجماع ، دون الثاني وهو ما كان دليله الكتاب أو السنة.

(وربما يظهر من صاحب الحدائق فيما حكي عنه في الدّرر النجفيّة : أنّ محل النزاع في الاستصحاب منحصر في استصحاب حال الاجماع) بينما قد عرفت فيما سبق : أن الاخباريين لا يجرون الاستصحاب في ما ثبت بالكتاب والسنّة ، وذلك باعتبار أنه حكم كلّي ، والحكم الكلّي عندهم يلزم فيه العمل بالاحتياط.

هذا (وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلة الأقوال إن شاء الله) تعالى ، ولذا لم نفصّل الكلام فيه الآن.

(الثاني : من حيث انّه) أي : المستصحب (قد يثبت بالدليل الشرعي) كما إذا قام الدليل على تنجّس ماء الكرّ عند تغيّره بالنجاسة ، فإذا زال التغيّر من نفسه وشككنا في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر وعدم بقائها ، استصحبنا بقاء النجاسة.

(وقد يثبت) المستصحب (بالدليل العقلي) كما إذا حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير بغير إذنه قبحا مانعا من النقيض ، فإنه يحرم شرعا أيضا ، وذلك للتلازم بين الدليل العقلي والدليل الشرعي حسب قاعدة : «كلما حكم به العقل حكم به الشرع» فإذا شككنا في حصول الاذن وعدمه استصحبنا بقاء الحكم العقلي فيبقى الحكم الشرعي أيضا.

١٥٩

ولم أجد من فصّل بينهما ، إلّا أنّ في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ، وهو : الحكم العقلي المتوصّل به الى حكم شرعي ، تأمّلا ، نظرا الى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي ،

______________________________________________________

إذن : في المستصحب قد يثبت بدليل عقلي أو شرعي (ولم أجد من فصّل بينهما) بأن قال بحجية الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي وعدم حجية الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي ، ولا من قال بعكس ذلك.

هذا (إلّا أنّ في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم) الشرعي (بالدليل العقلي وهو : الحكم العقلي المتوصّل به الى حكم شرعي) كما تقدّم مثاله (تأمّلا).

وإنّما فيه تأمل وذلك (نظرا الى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة) واضحة الموضوع بجميع قيوده لدى العقل (مفصّلة من حيث) لحاظ المصالح والمفاسد التي هي (مناط الحكم الشرعي) فإنّ مناط الأحكام الذي هو عبارة عن جهات المصلحة والمفسدة في الشيء لا بد وأن يكون عند العقل واضحا بجميع جهاته حتى يحكم العقل به ، وإلّا لم يحكم العقل به.

وعليه : فالعقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلّا بعد أن يدرك موضوعه بجميع قيوده بأن يلاحظ جميع ما له دخل في ذلك الشيء : من وجود المقتضي للحسن أو القبح ، وعدم المانع عنه ، فإذا توفّر كل ذلك حكم عليه.

مثلا : إذا رأى العقل أنّ التصرف في ملك الغير مقتض للقبح ، ورأى إذن المالك مانعا عنه ، فإنه يحكم حينئذ بقبح التصرف في ملك الغير من غير إذن ،

١٦٠