الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

الشك في المصداق الخارجي.

أقوال في الاستصحاب

هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب ، والمتحصّل منها في بادي النظر : أحد عشر قولا :

الأوّل : القول بالحجية مطلقا.

الثاني : عدمها مطلقا.

الثالث : التفصيل بين العدمي والوجودي.

الرابع : التفصيل بين الامور الخارجية ، وبين الحكم الشرعي مطلقا ،

______________________________________________________

الشك في المصداق الخارجي) كالشك مثلا في إن هذه الرطوبة بول أو مذي فإنه يثبّته فيه أيضا.

ثم إن المصنّف قال بعد ذلك : (هذه جملة ما حضرني) الآن (من كلمات الأصحاب) وغير الأصحاب من العامّة الذين نقل المصنّف عنهم (والمتحصّل منها في بادي النظر : أحد عشر قولا) وان كان في بعض الأقوال منها إشكال تعرّض له بعض الشروح والحواشي ، أما الأقوال فهي عبارة عما يلي :

(الأوّل : القول بالحجية مطلقا) بدون أي تفصيل.

(الثاني : عدمها) أي : عدم الحجية (مطلقا) فلا استصحاب إطلاقا.

(الثالث : التفصيل بين العدمي والوجودي) وذلك بأن يجري الاستصحاب في العدمي ولا يجري في الوجودي.

(الرابع : التفصيل بين الامور الخارجية ، وبين الحكم الشرعي مطلقا) يعني : سواء كان الحكم الشرعي ، كليّا كاباحة شرب التتن ، أم جزئيا كاستصحاب طهارة بدن زيد ونجاسة ثوبه ، فإنه يجري الاستصحاب فيه ، دون الامور الخارجية كما

٢٠١

فلا يعتبر في الأوّل.

الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل إلّا في عدم النسخ.

السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ، فلا يعتبر في غير الأوّل.

وهذا هو الذي تقدّم : أنّه ربما يستظهر من كلام المحقق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيد في شرح الوافية.

السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني : نفس الأسباب

______________________________________________________

قال : (فلا يعتبر في الأوّل) وهي : الامور الخارجية مثل : استصحاب حياة زيد ورطوبة يده.

(الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره) فالحكم الشرعي الجزئي ، والموضوع الخارجي يجري الاستصحاب فيهما دون الحكم الشرعي الكلّي كما قال : (فلا يعتبر في الأوّل) وهو الحكم الشرعي الكلّي (إلّا في عدم النسخ) فإن استصحاب عدم النسخ محل وفاق ـ كما تقدّم ـ لكن تقدّم أيضا : ان بعضهم جعل استصحاب عدم النسخ من باب الظهور اللفظي لا من باب الاستصحاب العملي.

(السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره) أي : غير الحكم الجزئي فيشمل الحكم الشرعي الكلّي والامور الخارجية معا (فلا يعتبر في غير الأوّل ، وهذا هو الذي تقدّم : أنّه ربما يستظهر من كلام المحقق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيد في شرح الوافية) لكن بعضهم أنكر صحة النسبة المذكورة.

(السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني : نفس الأسباب

٢٠٢

والشروط والموانع ، والأحكام التكليفيّة التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري في الأوّل دون الثاني.

الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل.

التاسع : التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله ، أو من الخارج استمراره ، فشك في الغاية الرافعة له ،

______________________________________________________

والشروط والموانع) لا المانعيّة والشرطيّة والسببيّة ، فإن الحكم الوضعي ـ مثلا ـ هو السببيّة لا السبب إلّا ان مراد المفصل من الحكم الوضعي هو ما يقوم به الحكم لا الحكم نفسه (والأحكام التكليفيّة التابعة لها) أي : للأحكام الوضعيّة ، فقد تقدّم : ان الأحكام التكليفية تابعة للأحكام الوضعيّة ، فالزوجية ـ مثلا ـ حكم وضعي ، يتبعها حكم تكليفي كوجوب النفقة ، فربما نستصحب بقاء الزوجية ، وربما نستصحب وجوب النفقة.

(وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري) الاستصحاب (في الأوّل دون الثاني) وذلك بأن لا يجري الاستصحاب في نفس الأحكام مطلقا ، سواء كانت تكليفية كالأحكام الخمسة ، أم وضعيّة كالشرطيّة والمانعيّة ونحوها ، وسيأتي نقله عن الفاضل التوني إن شاء الله تعالى.

(الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره) أي : غير الاجماع من الكتاب والسنة (فلا يعتبر في الأوّل) أي : في الحكم الثابت بالاجماع وإنّما يعتبر الاستصحاب في الحكم الثابت من الكتاب والسنة.

(التاسع : التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله ، أو من الخارج استمراره) فإذا ثبت بنفس الدليل أو بقرينة خارجية استمرار المستصحب (فشك في الغاية الرافعة له) بأن كان الشك في الرافع ، بصورة الخمس ، فيجري فيها

٢٠٣

وبين غيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، كما هو ظاهر المعارج.

العاشر : هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية ، كما هو الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجيء من كلامه.

الحادي عشر : زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقي دون المفهومي ، كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقق الخوانساري.

______________________________________________________

الاستصحاب جميعا.

(وبين غيره) وهو الشك في المقتضي فلا يجري فيه الاستصحاب على ما قال : (فيعتبر) الاستصحاب (في الأوّل دون الثاني كما هو ظاهر) ـ كلام المحقق في (المعارج) على ما تقدّم.

(العاشر : هذا التفصيل) المذكور من المحقق (مع اختصاص الشك بوجود الغاية) الرافعة بأن يكون الشك في وجود الرافع فقط دون الصور الأربع الباقية للشك في الرافع ، فإنه لا يجري الاستصحاب فيها ولا في الشك في المقتضي (كما هو الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجيء من كلامه) إن شاء الله تعالى.

(الحادي عشر) : اعتبار الاستصحاب في صورة الشك في وجود الرافع مع (زيادة) صورة أخرى من صور الشك في رافعية الموجود وهي : صورة (الشك في مصداق الغاية) الرافعة للحكم (من جهة الاشتباه المصداقي) كما تقدّم : من مثال تردد الرطوبة بين البول والمذي حيث انه من باب الاشتباه المصداقي (دون المفهومي) على ما تقدّم من مثال الشك في رافعية الخفقة لاحتمال دخولها في مفهوم النوم (كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقق الخوانساري) فإنه سيأتي بيانه

٢٠٤

ثم إنّه لو بنى على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة في الاصول والفروع لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير ، بل يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة. إلّا أنّ صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي.

والأقوى هو القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقق ،

______________________________________________________

مع بيان بقية الأقوال مفصلا إن شاء الله تعالى.

(ثم إنّه لو بنى على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة) أي : مسألة الاستصحاب (في الاصول والفروع) أي : في الكتب الاصولية والكتب الفقهية (لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير) حتى قيل : إن الأقوال تبلغ أكثر من خمسين قولا.

(بل) ربما (يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة) وذلك بأن يقول بقول في مسألة ، ويقول بقول آخر في مسألة أخرى مماثلة (إلّا أنّ صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي) ولذلك نتركه ونكتفي بهذا القليل.

لا يقال : ولا ينبغي أيضا صرف الوقت في جملة من هذه الأقوال.

لأنه يقال : إن هذا الأقوال لجماعة من كبار المحققين ولعله يأتي من يرى رأيهم ، بخلاف سائر الأقوال الضعيفة ، كما انتهج مثل ذلك المتكلمون في اصول الدين حيث تعرّض مشهور المتكلمين لدين موسى وعيسى ونبي المجوس وذكروا تحريفها بعد أنبيائهم ونسخها بالاسلام ولم يتعرّضوا لسائر الأديان مع وجود من يعترف بها كدين بوذا حيث يعتقد به ـ على ما يقال ـ مئات الملايين من الناس في الحال الحاضر.

هذا (والأقوى) عندنا هو القول الأوّل ، وهو ثبوت الاستصحاب مطلقا ، أما المصنّف فالأقوى عنده (هو القول التاسع وهو الذي اختاره المحقق) في المعارج.

٢٠٥

فإنّ المحكي عنه في المعارج أنّه قال :

«إذا ثبت حكم في وقت ، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، هل يحكم ببقائه ما لم يقم دلالة على نفيه؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني الى دلالة؟.

وحكي عن المفيد قدس‌سره : أنّه يحكم ببقائه وهو المختار.

وقال المرتضى قدس‌سره : لا يحكم.

ثم مثّل بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة ،

______________________________________________________

وعليه : (فإنّ المحكي عنه في المعارج أنّه قال : «إذا ثبت حكم في وقت) كما إذا كان حكمه التيمّم عند تعذر الماء فتيمّم وصلّى (ثم جاء وقت آخر) بأن حضر الماء في أثناء صلاته (ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم) فيشك في انتقاض تيمّمه وعدم انتقاضه ، فحينئذ (هل يحكم ببقائه) أي : بقاء الحكم الأوّل وصحة تيمّمه (ما لم يقم دلالة على نفيه) أي : نفي الحكم الأوّل وانتقاض تيمّمه ولو كان في أثناء الصلاة.

(أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني الى دلالة) دليل ، وحيث لم يكن الدليل موجودا نقول ببقاء الحكم الأوّل وصحة تيمّمه؟.

(وحكي عن المفيد قدس‌سره : أنّه يحكم ببقائه وهو المختار) عند المحقق.

(وقال المرتضى قدس‌سره : لا يحكم) ببقائه.

(ثم مثّل) المحقق في المعارج : (بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة) فإنه هل يتمّ صلاته اعتمادا على بقاء الطهارة ، أو تبطل صلاته بسبب حصول الماء في أثنائها؟.

٢٠٦

ثم احتجّ للحجية بوجوه :

منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، ثم ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها ، ثم قال : «والذي نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا ، وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا.

فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده ، كان صحيحا ،

______________________________________________________

(ثم احتجّ للحجية) أي : لحجية الاستصحاب في الصورة المذكورة (بوجوه ، منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود) وفي هذا دلالة على أن كلام المحقق إنّما هو في الشك في الرافع لا الشك في المقتضي (ثم ذكر أدلّة المانعين) عن الاستصحاب (وأجاب عنها ، ثم قال) بعد ذلك ما نصّه : (والذي نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم) الذي نريد استصحابه (فإن كان يقتضيه مطلقا) أي : من غير تقييد مما يفيد استمرار الحكم الى حصول الرافع (وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا) أي : من غير تقييد بزمان أو مكان أو خصوصية.

وعليه : (فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق) وشك في أن هذه الألفاظ توجب الطلاق أم لا؟ كما اختلفوا في أن قول الزوج لزوجته : أنت خليّة أو بريئة أو ما أشبه ذلك يوجب الطلاق أم لا؟.

(فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها) أي : بهذه الألفاظ المختلف فيها (لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده ، كان) استدلاله (صحيحا).

٢٠٧

لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.

«لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق».

«لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت ، فيلزم دوام الحل نظرا الى وقوع المقتضي ، لا الى دوامه ، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع

______________________________________________________

وإنّما يكون صحيحا (لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا) من غير تقييد بزمان أو ما أشبه ذلك (ولا يعلم ان الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء فيثبت الحكم) وهو حلّ الوطي (عملا بالمقتضي) للتحليل.

(لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ولم يثبت أنّه باق») بعد تلك الألفاظ المختلف فيها ، («لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت) فإنه لم يقيّد حلّ الوطي بوقت خاص (فيلزم دوام الحل نظرا الى وقوع المقتضي ، لا الى دوامه) أي : لا الى دوام المقتضي ، فإن دوام الحل لا يتوقف على دوام المقتضي حتى يقال : بأن الدوام غير محرز ، بل يتوقف على وقوع المقتضي للاستمرار ، فإنه بعد وقوع المقتضي للاستمرار ، وهو العقد هنا احتاج الارتفاع الى الاحراز ، لا أن البقاء يحتاج الى الاحراز.

وهذا في الظاهر ، وأمّا في الواقع : فلا إشكال في أن الحكم إنّما يبقى لأجل دوام المقتضي لا بمجرد وقوع المقتضي.

وعليه : فإذا كان الدليل يقتضي الحل غير مقيد بوقت (فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع) وما دام لم يثبت الرافع نستصحب الحل ، فالاستصحاب بهذا الدليل حجة في الشك في الرافع.

٢٠٨

ـ ثم قال ـ : «فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا اليه ، فليس هذا عملا بغير دليل ، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه» ، انتهى.

ويظهر من صاحب المعالم اختياره ، حيث جعل هذا القول من المحقق نفيا لحجية الاستصحاب ، فيظهر : أنّ الاستصحاب المختلف فيه غيره.

______________________________________________________

(ثم قال) المحقق : («فإن كان الخصم) الذي ينكر الاستصحاب (يعني بالاستصحاب ما أشرنا اليه ، فليس هذا عملا بغير دليل) حيث إن الخصم قال : إن العمل بالاستصحاب هو عمل بغير دليل (وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا) بأن أراد الاستصحاب عند الشك في المقتضي ـ مثلا ـ (فنحن مضربون عنه» (١)) ولا نقول بالاستصحاب فيه (انتهى) كلام المحقق.

(ويظهر من صاحب المعالم اختياره) لقول المحقق (حيث جعل هذا القول من المحقق نفيا لحجية الاستصحاب).

وإنّما يظهر منه ذلك لأن معنى إرجاع إثبات الاستصحاب في الشك في الرافع الى القول بإنكار الاستصحاب هو : قبول المعالم كالمحقق بأن الاستصحاب في الشك في الرافع خارج عن محل النزاع للاتفاق على حجيته.

وعليه : (فيظهر : أنّ الاستصحاب المختلف فيه) بنظر المحقق والمعالم هو : (غيره) أي : غير الشك في الرافع وهو الشك في المقتضي ـ مثلا ـ وقد نفاه المحقق واختار النفي المعالم أيضا حيث جعل قول المحقق هذا نفيا للاستصحاب.

هذا هو ما استدل به المحقق واختاره المعالم بالنسبة الى حجية الاستصحاب في الشك في الرافع.

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ٢٠٦.

٢٠٩

لنا على ذلك وجوه

الأوّل :

ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه :

فمنها : ما عن المبادي ، حيث قال : «الاستصحاب حجّة ، لاجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ، ثم وقع الشك في أنّه طرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بأنّ الاستصحاب حجة ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح» (١) ،

______________________________________________________

(لنا على ذلك) أي : دليلنا على ما ذكره المحقق : من حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في الرافع (وجوه) كالتالي :

(الأوّل : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه) أي : على الاستصحاب في الشك في الرافع.

ولا يخفى ان مثل هذا الاجماع لو تمّ فإنه ليس بحجة ، لأنه اجماع في الاصول لا في الفروع على ما سبق مثله من المصنّف قدس‌سره.

وعلى كل حال : (فمنها : ما عن المبادي حيث قال : «الاستصحاب حجّة ، لاجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ، ثم وقع الشك في أنّه طرأ ما يزيله أم لا) بأن كان الشك في الرافع (وجب الحكم ببقائه) أي : ببقاء ذلك الحكم (على ما كان أولا) وهذا معناه : حجية الاستصحاب في الشك في الرافع.

ثم استدلّ بقوله : (ولو لا القول بأنّ الاستصحاب حجّة ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح») وذلك لأن الحكم في الآن الثاني محتمل

__________________

(١) ـ مبادئ الاصول الى علم الاصول : ص ٢٥٠.

٢١٠

انتهى.

ومراده ، وإن كان الاستدلال به على حجيّة مطلق الاستصحاب ، بناء على ما إدّعاه ، من أنّ الوجه في الاجماع على الاستصحاب مع الشك في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا ، لكنه ممنوع ، لعدم الملازمة ، كما سيجيء.

ونظير هذا ما عن النهاية : «من أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء

______________________________________________________

الوجود ، ومحتمل العدم ، فاللازم : ترجيح أحدهما على الآخر بمرجح ، والمرجح هو الاستصحاب المقتضي لبقاء الحكم (انتهى) كلام المبادي.

(ومراده ، وإن كان الاستدلال به على حجيّة مطلق الاستصحاب) من الشك في المقتضي والشك في الرافع (بناء على ما إدّعاه من) تنقيح المناط ، لأن المناط في كل من الشك في المقتضي والشك في الرافع واحد : (أنّ الوجه في الاجماع على الاستصحاب مع الشك في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا) سواء كان من الشك في المقتضي ، أم الشك في الرافع.

(لكنه) أي : لكن الذي ادّعاه المبادي من أن مناط الشك في الرافع موجود في الشك في المقتضي أيضا (ممنوع ، لعدم الملازمة) فإنه لا ملازمة بين حجية الاستصحاب في الشك في الرافع وحجيته في الشك في المقتضي ، وذلك للفرق بينهما (كما سيجيء) الكلام فيه مفصلا إن شاء الله تعالى.

(ونظير هذا ما عن النهاية : من أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم) في أصول الفقه وفروعه (اتفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء) في زمان سابق

٢١١

وشككنا في حدوث المزيل له ، أخذنا بالمتيقن» ، وهو عين الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الثابت على حدوث الحادث.

ومنها : تصريح صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره المحقق أخيرا في المعارج راجع الى قول السيد المرتضى المنكر للاستصحاب ، فإنّ هذا شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن مورد النزاع وكونه موضع وفاق ، إلّا أنّ في صحة هذه الشهادة نظر ، لأنّ ما مثّل في المعارج : من الشك في الرافعيّة من مثال

______________________________________________________

(وشككنا في حدوث المزيل له) بأن كان شكا في الرافع (أخذنا بالمتيقن» ، و) من المعلوم : إن هذا الكلام (هو عين الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الثابت على حدوث الحادث) المزيل لذلك الثابت السابق.

(ومنها : تصريح صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره المحقق أخيرا في المعارج) من اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع (راجع الى قول السيد المرتضى المنكر للاستصحاب).

وإنّما كان هذا التصريح من المعالم والجواد دالا على الاجماع على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع لما ذكره المصنّف بقوله : (فإنّ هذا شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن مورد النزاع وكونه موضع وفاق) فيكون كلامهما دليلا على أن المنكر للاستصحاب والمثبت له متوافقان على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع.

(إلّا أنّ في صحة هذه الشهادة) من المعالم والجواد على خروج ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب في الشك في الرافع عن محل النزاع (نظر).

وإنّما فيه نظر (لأنّ ما مثّل) به (في المعارج : من الشك في الرافعيّة من مثال

٢١٢

النكاح ، هو بعينه ما أنكره الغزالي. ومثّل له بالخارج من غير السبيلين ، فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحققه دائما الى أن يثبت الرافع.

الثاني :

إنّا تتبّعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أوّل الفقه الى آخره موردا إلّا وحكم الشارع فيه بالبقاء ،

______________________________________________________

النكاح ، هو بعينه ما أنكره الغزالي. ومثّل له بالخارج من غير السبيلين) أي : إن ما مثّل به الغزالي لما أنكره من الاستصحاب ، هو نفس ما مثّل به المحقق لما أثبته من الاستصحاب ، إذ كلا المثالين من الشك في الرافع ، فيظهر عدم خروج ما ذكره المحقق عن محل النزاع.

وإنّما يكون ما أثبته المحقق عين ما أنكره الغزالي من الاستصحاب لأنه كما قال : (فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحققه دائما الى أن يثبت الرافع) فالنكاح كالطهارة كلاهما من باب الشك في الرافع ومع ذلك أنكر الغزالي الاستصحاب في الطهارة ، مما يدل على أن الغزالي ينكر الاستصحاب في الشك في الرافع.

وعليه : فقد ظهر : أن شهادة المعالم والجواد على خروج الشك في الرافع عن موضع النزاع غير تام لأنه قد تنازع فيه المحقق والغزالي على ما عرفت.

(الثاني) من وجوه استدلالنا على ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب في الشك في الرافع هو : (إنّا تتبّعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أوّل الفقه الى آخره موردا إلّا وحكم الشارع فيه بالبقاء) وهذا غير الدليل السابق ، فإن الدليل السابق كان هو الاجماع ، وهذا الدليل

٢١٣

إلّا مع أمارة توجب الظنّ بالخلاف ، كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ، فإنّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ـ وإلّا لوجب الحكم بالطهارة ، لقاعدة الطهارة ـ

______________________________________________________

هو الاستقراء القطعي.

مثلا : إذا شككنا في عروض النجاسة فالحكم هو بقاء الطهارة ، وإذا شككنا في عروض الطهارة فالحكم هو بقاء النجاسة ، وإذا شككنا في الحدث الأصغر فالحكم بقاء الوضوء ، وإذا شككنا في الحدث الأكبر فالحكم بقاء الطهارة ، وإذا شككنا في حصول الزواج فالحكم عدمه ، وإذا شككنا في حصول البينونة فالحكم بقاء الزوجية ، وإذا شككنا في انتقال الملك فالحكم بقاء الملكية ، وإذا شككنا في عتق العبد فالحكم بقاء رقّيته ، الى غير ذلك ممّا لا يحصى من أول الفقه الى آخره.

(إلّا مع أمارة توجب الظنّ بالخلاف) فإذا قامت أمارة معتبرة على خلاف الحالة السابقة كانت حاكمة على الاستصحاب ، سواء كان ذلك في الأحكام مثل خبر العادل ، أم في الموضوعات مثل البيّنة ، وذلك (كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء) فإن هذا مثال لما يخالف الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب يقتضي طهارة المحل غير إن الشارع قدّم النجاسة لأمارة توجب الظن بالخلاف.

وعليه : (فإنّ الحكم بها) أي : بالنجاسة (ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة) أي : ليس لعدم حجية الاستصحاب فإن الشارع يرى حجية الاستصحاب (وإلّا) بأن كان مع الغض عن الحالة السابقة (لوجب الحكم بالطهارة ، لقاعدة) أخرى غير الاستصحاب وهي قاعدة (الطهارة) إذ لو لم نقل باعتبار الحالة السابقة ، كان اللازم الحكم بالطهارة لأصل الطهارة.

٢١٤

بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنيّ في المخرج ، فرجّح هذا الظاهر على الأصل ، كما في غسالة الحمام عند بعض ، والبناء على الصحّة المستند الى ظهور فعل المسلم.

______________________________________________________

إذن : فالحكم بالنجاسة هنا : ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة (بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنيّ في المخرج ، فرجّح) الشارع (هذا الظاهر على الأصل) فأسقط الاستصحاب وأصالة الطهارة في المقام ، وحكم بنجاسة الرطوبة المشتبهة بعد البول أو المني إذا غسل المحل من دون استبراء ، لأن المظنون هو كون الخارج بولا أو منيّا ، وذلك لغلبة بقائهما في المجرى.

وإنّما فعل الشارع ذلك تقديما للظاهر على الأصل ، سواء كان الأصل كاشفا كالاستصحاب أم غير كاشف كأصالة الطهارة.

و (كما في غسالة الحمام) فإن غسالة الحمام محكومة بالنجاسة الشرعية أيضا (عند بعض) الفقهاء ، وذلك تقديما للظاهر على الأصل فإن الظاهر : غلبة إرادة المستحمّين إزالة النجاسة والأدران عن أبدانهم عند الاستحمام.

وعليه : فالمياه المجتمعة من غسلهم ، المسمّاة بالغسالة قالوا : بأن الشارع حكم فيها بالنجاسة وذلك لا لأن الشارع لم يعتبر الاستصحاب المقتضي لطهارة تلك المياه ، وإنّما تقديما للظاهر على الأصل.

(و) كما في (البناء على الصحّة ، المستند الى ظهور فعل المسلم) قولا وعملا ، فإن المسلم إذا عقد على امرأة ، وشككنا في صحة اجرائه لصيغة النكاح وعدم صحته حكمنا بصحته ، ورتّبنا عليه أثره من الزوجية وأحكامها مع ان الاستصحاب يقتضي العدم.

وكذا لو عمل عملا إذا رأيناه قد غسّل ميتا وشككنا في صحة تغسيله له

٢١٥

والانصاف : إنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع ، وهو أولى من الاستقراء الذي ذكره غير واحد ، كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض ، أنّه المستند في حجّية شهادة العدلين على الاطلاق.

______________________________________________________

وعدم صحته ، حكمنا بصحته ورتبنا عليه أثره من عدم الاشتغال بتغسيل ذلك الميت مرة ثانية مع ان الاستصحاب يقتضي العدم فيترتب عليه الاشتغال ، غير أن الشارح قدّم ظاهر حال المسلم على الاستصحاب المقتضي للاشتغال.

لا يقال : إذن فالاستقراء غير تام ، لأن الشارع لم يحكم ببقاء الحالة السابقة المسمّى بالاستصحاب في موارد متعددة : كحكمه بنجاسة البلل إذا لم يستبرئ ، مع إن الاستصحاب يقتضي طهارة المحل ، وكحكمه بنجاسة غسالة الحمام مع ان الأصل يقتضي الطهارة ، وكحكمه بالبناء على الصحة مع ان الأصل يقتضي الفساد.

لأنّه يقال : ان الشارع قدّم أمارة الغلبة ، في هذه الموارد الثلاثة ، وهي أمارة موجبة للظن بالخلاف فليست هذه الموارد من باب طرح الاستصحاب بدون دليل حتى يخدش الاستقراء ، بل هي من طرح الاستصحاب بدليل ، فلا يستشكل بها على الاستقراء الذي ذكرناه.

(والانصاف : أنّ هذا الاستقراء) الذي ذكرناه : من بقاء الحكم السابق إذا شك في ارتفاعه ، استقراء من أول الفقه الى آخره (يكاد يفيد القطع) على حجية الاستصحاب عند الشارع.

(وهو) أي : هذا الاستقراء الدالّ على الاستصحاب (أولى من الاستقراء) الدالّ على البيّنة (الذي ذكره غير واحد ، كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض) حيث قالوا : (أنّه) أي : الاستقراء هو (المستند في حجيّة شهادة العدلين على الاطلاق) أي : في مطلق الموضوعات.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : إن الاستدلال هنا على حجية الاستصحاب بالاستقراء ، أولى من الاستدلال هناك على حجية البيّنة بالاستقراء كما فعله جماعة من الفقهاء حيث استدلوا به على حجية شهادة العدلين في مطلق الموضوعات من أول الفقه الى آخر الفقه عدا ما خرج بالدليل كالزنا حيث يحتاج الى أربعة شهود ، وكالوصية حيث يقبل فيها شهادة امرأة واحدة بالنسبة الى الربع ـ مثلا ـ فقالوا :

إنّا تتبعنا موارد الشك في الموضوعات فوجدنا إنه كلما كان هناك اشتباه في الموضوع حكم الشارع فيه باعتبار شهادة العدلين مما يظهر منه أن شهادة العدلين حجة عند الشارع مطلقا.

هذا إضافة الى ما ورد من قوله عليه‌السلام : «والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البيّنة» (١) وذلك بناء على ظهور البيّنة في البيّنة الشرعية التي هي شهادة العدلين ، لا البيّنة اللغوية التي وردت في القرآن الحكيم ، حيث قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢) الى غير ذلك.

وإنّما قلنا : بأن الاستقراء هنا أولى بالحجية من الاستقراء هناك في البيّنة الذي ذكره غير واحد ، لأن موارد الاستقراء هنا في باب الاستصحاب أكثر من موارد الاستقراء هناك في باب الشهادة ، فإذا كان باب الشهادة ينفع فيه الاستقراء كان نفع الاستقراء في باب حجية الاستصحاب بطريق أولى.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٢) ـ سورة البيّنة : الآية ١.

٢١٧

الثالث : الأخبار المستفيضة

منها : صحيحة زرارة ، ولا يضرّها الاضمار

«قال : قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟.

قال : يا زرارة!ّ قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن

______________________________________________________

(الثالث) من وجوه استدلالنا على ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في الرافع : (الأخبار المستفيضة) الواردة في الفقه والتي (منها : صحيحة زرارة ، ولا يضرّها الاضمار) ومعنى الاضمار هو : عدم تعيين المروي عنه ، فإن عدم التعيين لا يضر هنا بالصحيحة ، لأنّ مثل زرارة لا يروي عن غير الإمام عليه‌السلام.

وعليه : فإن زرارة («قال : قلت له : الرّجل ينام) ومراده انه يشرف على النوم وذلك من قبيل قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) (١) فإن الانسان لا يرد في الماء وإنّما يشرف على الماء ، فإذا هاجمه النوم (وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟).

يقال : خفق برأسه إذا انحنى عن وضعه الطبيعي من غير اختيار بسبب شدة نعاسه ، وقد كان شبهة السائل هو دخول النعاس في مفهوم النوم ، فسأل هل هذا نوم حتى يكون ناقضا للوضوء ، أو ليس بنوم حتى لا يكون ناقضا.

(قال : يا زرارة!ّ قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن

__________________

(١) ـ سورة القصص : الآية ٢٣.

٢١٨

فقد وجب الوضوء.

قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟.

قال عليه‌السلام : لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك بأمر بيّن ، وإلّا ، فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر».

______________________________________________________

فقد وجب الوضوء) فان النوم لا يكون إلّا بنوم القلب ، ونوم القلب لا يكون إلّا بنوم العين والأذن معا ، فلا يفيد نوم العين وحدها أو نوم الاذن وحدها.

قال زرارة : (قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟) أراد زرارة أن يتخذ هذا أمارة على نوم القلب فسأل : هل يكون مثل هذا نوما؟.

(قال عليه‌السلام : لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك بأمر بيّن) أي :

يحصل له من جهة النوم أمر واضح ، بأنه قد نام ، وإلّا فتحرك الشيء وعدم تحرّكه لا يكون علامة للنوم وعدمه كما قال عليه‌السلام : (وإلّا ، فإنّه) كان (على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر» (١)) وذلك بأن يتيقن بالنوم كما كان قد تيقن بالوضوء ، فإذا تيقن بالنوم نقض وضوءه.

ولا يخفى : إن في الرواية ثلاثة احتمالات ، والاستدلال بهذه الرواية على حجية الاستصحاب إنّما يتمّ على الاحتمال الأوّل الذي سيذكره المصنّف بقوله :

«وتقرير الاستدلال ...» لا على الاحتمالين الآخرين الذين سيذكرهما بعد ذلك بقوله : «ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ...» وقوله : «مع احتمال أن لا يكون قوله عليه‌السلام : فإنه على يقين علّة قائمة مقام الجزاء ...».

ثم على الاحتمال الأوّل في الرواية يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم

__________________

(١) ـ تهذيب الأحكام : ج ١ ص ٨ ب ١ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢٤٥ ب ١ ح ٦٣١.

٢١٩

وتقرير الاستدلال : أنّ جواب الشرط في قوله عليه‌السلام : «وإلّا فإنّه على يقين» محذوف قامت العلّة مقامه ، لدلالته عليه ،

______________________________________________________

لا يجب عليه الوضوء ، لأنه كان على يقين ، وكلما كان على يقين وشك ، فلا ينقض اليقين بالشك ، فاللام في اليقين للجنس وكبراه كليّة فيدل على حجية الاستصحاب مطلقا.

وعلى الاحتمال الثاني يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم لا يجب عليه الوضوء ، لأنه كان على يقين الوضوء ، ولا ينقض يقين الوضوء بالشك ، واللام حينئذ ليس للجنس لأنّ الأقرب أن يكون اللام للعهد فيختص الاستصحاب بالوضوء فلا يكون دليلا على حجية الاستصحاب مطلقا.

وعلى الاحتمال الثالث يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم ، فحيث إنه كان على يقين الوضوء فلا ينقضه بالشك فيه فيكون هذا الاحتمال كالاحتمال الثاني مختصا بالوضوء لأن اللام فيه ليس للجنس فيختص الاستصحاب بالوضوء ، فلا يكون دليلا على حجية الاستصحاب مطلقا.

إذن : فالذي يدل على حجية الاستصحاب مطلقا هو الاحتمال الأوّل من الاستدلال (وتقرير الاستدلال) يكون كما قال :

(أنّ جواب الشرط في قوله عليه‌السلام : «وإلّا فإنّه على يقين» ، محذوف) وتقديره : إن لم يستيقن انه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، فقوله عليه‌السلام : فلا يجب عليه الوضوء هو الجواب وقد (قامت العلّة) وهي صغرى وكبرى ، فقوله عليه‌السلام «فإنه على يقين من وضوئه» صغرى «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» كبرى (مقامه) أي : مقام الجواب (لدلالته) أي : لدلالة هذه العلّة (عليه) أي : على الجواب.

٢٢٠