الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائب عن المقلد في تحصيل مقدمات العمل بالأدلّة الاجتهادية وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ، وإلّا فحكم الله الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد.

______________________________________________________

(نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد) وإنه ـ مثلا ـ يجري في الفروع ولا يجري في اصول الدين (وتعيين مدلوله) أي مدلول الخبر الواحد وان الأمر فيه ـ مثلا ـ ظاهر في الوجوب أو الندب (وتحصيل شروط العمل به) أي : بالخبر مثل اشتراط أن لا يكون صادرا عن تقية ، وأن لا يكون سنده ضعيفا ، وأن لا يكون له معارض أقوى ، وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه المقلد.

إذن : فتشخيص هذا كله ، (مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك) أي : من تشخيص هذه الأمور الثلاثة : المجرى ، والمدلول ، والشرط (وعجز المقلّد عنه).

وعليه فالمقلد لا يتمكن على شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فيتبع فيها المجتهد (فكأنّ المجتهد نائب عن المقلد في تحصيل مقدمات العمل بالأدلّة الاجتهادية وتشخيص مجاري الاصول العمليّة) لأن المجتهد هو الذي يعرف الخبر وشروطه ، ويعرف أين تجري البراءة؟ وأين تجري قاعدة الاشتغال ـ مثلا ـ دون المقلد.

(وإلّا فحكم الله الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد) على حد سواء.

نعم ، هناك بعض أحكام الله سبحانه وتعالى خاصة بالمجتهد كولاية أمور المسلمين ، واجراء الحدود ، والقيام بالجهاد وما أشبه ذلك ، وهذا لا يضر

١٠١

هذا ، وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده ، وجعل قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» دليلا على الدليل ،

______________________________________________________

الاشتراك بالمعنى العام ، كما إن اختصاص بعض المسائل بالنساء كالحيض والنفاس ، واختصاص بعض المسائل بالرجال كالقيمومة ووجوب النفقة ، لا ينافي كون حكم الله سبحانه وتعالى عاما لجميع البشر.

الى هنا تبيّن إن المصنّف قرر في الاستصحاب ما يلي :

أولا : إن مسألة الاستصحاب مسألة فرعية بقوله ففي كونه من المسائل الاصولية غموض.

ثانيا : إن مسألة الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : نعم يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية.

ثالثا : أشكل على كون الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : فإن قلت.

رابعا : دفع الاشكال عن ذلك وأثبت ان الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : «قلت».

ثم إنّ السيد بحر العلوم رحمه‌الله جعل الاستصحاب مسألة اصولية ، لكن من طريق آخر ، واليه أشار المصنّف بقوله :

(هذا ، وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده) أي : في مورد الاستصحاب فأثبت ـ مثلا ـ نجاسة الماء الزائل تغيره من نفسه بدليل الاستصحاب (وجعل قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» (١) دليلا على الدليل).

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

١٠٢

نظير آية النبأ بالنسبة الى خبر الواحد ، حيث قال : «إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء

______________________________________________________

وعليه : فهنا ثلاثة أمور : النجاسة وهي حكم الحالة السابقة للماء ، ودليل إبقاء النجاسة الى الآن وهو الاستصحاب ، ودليل هذا الدليل وهو «لا تنقض اليقين بالشك» فيكون (نظير آية النبأ بالنسبة الى خبر الواحد) حيث فيه ثلاثة أمور.

مثلا : إذا دلّ الخبر على نجاسة العصير العنبي ، وحصل عندنا أمور ثلاثة : النجاسة وهي الحكم الشرعي للعصير العنبي ، ودليل هذا الحكم الشرعي وهو الخبر ، ودليل حجّية هذا الخبر وهو آية النبأ.

وعليه : فلا يكون الاستصحاب عين مفاد أخبار لا تنقض اليقين بالشك حتى يكون كقاعدة لا حرج ـ مثلا ـ قاعدة فقهية مستفادة من السنة ، بل هو عبارة عن إبقاء ما كان ودليل حجيته اخبار : «لا تنقض» ، وكما ان البحث عن حجية الخبر وعدم حجيته مسألة اصولية ، فكذلك يكون البحث عن حجية الاستصحاب وعدم حجيته.

والى هذا المعنى أشار السيد (حيث قال : «إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء) كاستصحاب حرمة العنب بالغليان بعد صيرورته زبيبا ، فإن هذا الاستصحاب مخالف لأصل الحل في الأشياء ، مع العلم بأن الحكم الموافق للأصل لا يحتاج الى الاستصحاب ، بل نفس الأصل كاف في اثبات الحليّة ـ مثلا ـ حتى يثبت خلافه.

إذن : فكل شيء لك حلال ـ مثلا ـ يشمل كل شيء يشك في حليته وحرمته بدون حاجة الى استصحاب الحلية ، أمّا الحكم المخالف للأصل ، كاثبات الحرمة لشيء ـ مثلا ـ فإنه يحتاج الى الاستصحاب.

١٠٣

دليل شرعي رافع لحكم الأصل ومخصص لعمومات الحلّ ـ الى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله : ـ وليس عموم قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» بالقياس الى افراد الاستصحاب وجزئيّاته إلّا كعموم آية النبأ بالقياس الى آحاد الأخبار المعتبرة» ، انتهى.

أقول :

______________________________________________________

وعليه : فالاستصحاب فيما يخالف الأصل ، مثل استصحاب حرمة العنب بالغليان بعد أن صار زبيبا ، (دليل شرعي رافع لحكم الأصل) الذي هو الحل (و) هذا الاستصحاب (مخصص لعمومات الحلّ) مثل : «كل شيء لك حلال» (١) و «كل شيء مطلق» (٢) وما أشبه ذلك.

(الى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله : وليس عموم قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» (٣) بالقياس الى افراد الاستصحاب وجزئيّاته) الخارجية ، كاستصحاب طهارة ثوب زيد ، واستصحاب بقاء حدثه ، وما أشبه ذلك (إلّا كعموم آية النبأ بالقياس الى آحاد الأخبار المعتبرة» (٤) ، انتهى) كلامه رفع مقامه.

(أقول) : قياس الاستصحاب بالخبر من السيد غير تام ، لأن العمل

__________________

(١) ـ الكافي ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٤) ـ بحر الفوائد : الفائدة ٣٥ ص ١١٦.

١٠٤

معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ، ليس إلّا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ،

______________________________________________________

بالاستصحاب يستدعي أمرين فقط :

أحدهما : الحكم الشرعي كالحكم بنجاسة الماء النجس سابقا الذي زال تغيره الآن من قبل نفسه.

ثانيهما : الدليل على الاستصحاب كاخبار لا تنقض اليقين بالشك.

أمّا العمل بالخبر فهو يستدعي ثلاثة أمور :

الأوّل : الحكم الشرعي كحرمة الفقاع ـ مثلا ـ.

الثاني : دليل هذا الحكم الشرعي كخبر زرارة ـ مثلا ـ.

الثالث : دليل حجية هذا الخبر كآية النبأ ـ مثلا ـ.

وعليه : فالاستصحاب ليس أمرا آخر غير الحكم الشرعي المستفاد من السنة حتى يكون البحث فيه مسألة اصولية ، بخلاف الخبر فإن حجيته أمر آخر غير الحكم الشرعي ، فيكون البحث فيه عن حجيته وعدم حجيته مسألة اصولية.

والى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : إن (معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر) واستصحاب بقاء الوضوء ، أو بقاء الحدث ، أو بقاء الثوب المتنجس نجسا فيما إذا شككنا في إنه هل طهّرناه أم لا؟ الى غير ذلك من الجزئيات (ليس إلّا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا).

وكذا يكون معنى الاستصحاب بالنسبة الى سائر الأمثلة من الجزئيات الخارجية ، فإنها جزئيات لقوله : «لا تنقض» فلم يكن في الاستصحاب سوى أمرين أشار اليهما بقوله :

١٠٥

وهل هذا إلّا نفس الحكم الشرعي ، وهل الدليل عليه إلّا قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» ، وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات.

______________________________________________________

(وهل هذا إلّا نفس الحكم الشرعي) بالنجاسة؟ (وهل الدليل عليه إلّا قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» (١)؟).

بينما ليس الأمر كذلك في الخبر ، فإن الخبر ليس هو نفس الحكم الشرعي ، بل هو طريق الى الحكم الشرعي ، فلا بد من اثبات حجيته بمثل آية النبأ ، فآية النبأ تدل على حجية الخبر الواحد ، والخبر الواحد له جزئيات مثل الإخبار عن وجوب صلاة الجمعة ، والإخبار عن حرمة العصير ، وما أشبه ذلك ، وهذه الجزئيات ليست جزئيات لآية النبأ بل للخبر ، والخبر هو حجة بسبب آية النبأ.

(وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات) في انها قواعد فقهية مستفادة من الآيات والأخبار ، مثل : قاعدة لا حرج ، المستفادة من قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (٢)) ومثل : قاعدة لا ضرر ، المستفادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (٣).

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٢) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٣) ـ معاني الاخبار : ص ٢٨١ ، نهج الحق : ص ٤٨٩ وص ٤٩٥ وص ٥٠٦ ، وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٣٢ ب ١٧ ح ٢٣٠٧٣ وح ٢٣٠٧٤.

١٠٦

وهذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم الظاهري الكلّي.

وأمّا الجاري في الشبهة الموضوعية ، كعدالة زيد ، ونجاسة ثوبه ، وفسق عمرو ، وطهارة بدنه ، فلا إشكال في كونه حكما فرعيا ،

______________________________________________________

لكن لا يخفى : أنه مرّ سابقا : ان الاستصحاب يمكن ادخاله في المسائل الاصولية وذلك بالتقرير الذي ذكره المصنّف لا بالتقرير الذي ذكره السيد بحر العلوم.

(وهذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم الظاهري الكلّي) كنجاسة الماء الزائل تغيره من نفسه ، وطهارة من خرج منه الوذي أو المذي ، أو ما أشبه ذلك.

(وأمّا) الاستصحاب (الجاري في الشبهة الموضوعية كعدالة زيد ، ونجاسة ثوبه ، وفسق عمرو ، وطهارة بدنه) وذلك فيما إذا كان كل من العدالة والفسق ، أو النجاسة والطهارة قد ثبت سابقا ، وشككنا في زواله لاحقا فنستصحب بقائه (فلا إشكال في كونه حكما فرعيا) وذلك لما عرفت : من ان هذه المسائل يشترك فيها المجتهد والمقلد.

وعليه : فالاستصحاب في الشبهة الحكمية مسألة اصولية ، والاستصحاب في الشبهة الموضوعية مسألة فقهية.

هذا ، وقد ذكر الاصوليون الاستصحاب في اصول من جهة الشبهة الحكمية وان كان يعرف منه أيضا الاستصحاب في الشبهة الموضوعية حيث إنه مرتبط

١٠٧

سواء كان التكلم فيه من باب الظن ، أم كان من باب كونها قاعدة تعبديّة مستفادة من الأخبار ، لأنّ التكلّم فيه على الأوّل نظير التكلم في اعتبار سائر الأمارات ، كيد المسلمين ، وسوقهم ، والبيّنة ، والغلبة ، ونحوها ، في الشبهات الخارجية.

وعلى الثاني من باب أصالة الطهارة وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، ونحو ذلك.

______________________________________________________

بالفقه مطلقا أي : (سواء كان التكلم فيه) أي : في الاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية (من باب الظن) بأن قلنا : إن الاستصحاب أمارة لأنها حجة من جهة الظن النوعي (أم كان من باب كونها قاعدة تعبديّة مستفادة من الأخبار) بأن قلنا : ان الاستصحاب أصل عملي لانه حجة تعبديّة من جهة الاخبار.

وإنّما يكون الاستصحاب في الشبهة الموضوعية حكما فرعيا مشتركا بين المجتهد والمقلد على المبنيين (لأنّ التكلّم فيه على الأوّل) أي : بناء على كون الاستصحاب من الأمارات الظنية لا من الاصول العملية ، يكون (نظير التكلم في اعتبار سائر الأمارات) الشرعية (كيد المسلمين ، وسوقهم ، والبيّنة ، والغلبة ، ونحوها) من الأمارات الجارية (في الشبهات الخارجية) الموضوعية ممّا يجريه المجتهد والمقلد معا.

(وعلى الثاني) : أي : بناء على كون الاستصحاب من باب الاصول العملية ، لا من باب الأمارات يكون الاستصحاب (من باب أصالة الطهارة ، وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، ونحو ذلك) كعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز وغيرها ممّا يشترك فيه المجتهد والمقلد أيضا.

والحاصل : إن الاستصحاب وغيره ممّا يتمسك به في الموضوعات أمارة كان

١٠٨

الرابع :

______________________________________________________

أو أصلا ، لا يتوقف التمسك به على الفحص وما أشبه ، وان يتمكن كل مكلف من اجرائها سواء كان مجتهدا أم مقلدا.

ومنه فتوى المجتهدون في رسائلهم العملية بجواز تمسك المقلدين في الشبهات الموضوعية بالاستصحاب وغيره ، فقالوا : بأنه لو قامت البيّنة ـ مثلا ـ على نجاسة الماء فللمقلد أن يأخذ بها ، وإنه لو كان الماء نجسا سابقا فشك في طهارته ونجاسته لاحقا فللمقلد أن يستصحب ، وهكذا.

بخلاف المسائل الاصولية التي لا حق للمقلد في اجرائها ، لأنها محتاجة الى مقدمات لا يتمكن المقلد من تحصيلها.

(الرابع) : إن قلنا : بأن الاستصحاب حجة من باب الاخبار ، فلا فرق في جريان الاستصحاب ، سواء ظن بالخلاف ، أم ظن بالوفاق ، أم شك فيهما بأن كان متساوي الطرفين ، فلو كان في الصباح متوضئا ـ مثلا ـ ثم ظن في الظهر ببقاء وضوئه ، أو ظن بنقض وضوئه ، أو شك في بقاء وضوئه وعدم بقائه ، فانه في كل هذه الأحوال الثلاث يستصحب بقاء الوضوء.

بخلاف ما إذا قلنا : بأن الاستصحاب حجة من باب بناء العقلاء فإنه لا يجري مع الظن بالخلاف.

إذن : فهناك في جريان الاستصحاب قولان :

الأوّل : ان الاستصحاب يجري مطلقا بلا فرق فيه بين الظن بالوفاق ، أو الظن بالخلاف ، أو الشك فيهما.

الثاني : ان الاستصحاب يجري بشرط أن لا يظن بالخلاف ، فلو ظن بالخلاف لم يجر الاستصحاب.

١٠٩

إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ، على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ، هو : مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة.

وأمّا على القول بكونه من باب الظن فالمعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار إفادة الظنّ في خصوص المقام.

كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كليّة

______________________________________________________

والى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : (إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ، على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري) الثابت بسبب أخبار «لا تنقض اليقين بالشك» (١) ونحوه (هو : مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة) فيستصحب ما لم يعلم بزوال الحالة السابقة ، سواء ظن بالزوال ، أم ظن بعدم الزوال ، أم شك في الزوال وعدمه ، وذلك لما في الاخبار : من إطلاق عدم نقض اليقين السابق إلّا بيقين لا حق على الخلاف ، وما دام لم يحصل اليقين على الخلاف يستصحب اليقين السابق.

(وأمّا على القول بكونه) أي بكون الاستصحاب حجة (من باب الظن) العقلائي ، حيث إن العقل وكذلك العقلاء يحكمون بدوام الحالة السابقة كما قال :

(فالمعهود من طريقة الفقهاء) هو : (عدم اعتبار افادة الظنّ في خصوص المقام) فلا يعتبر الظن الشخصي ببقاء الحالة السابقة ، لأن الاستصحاب حجة من باب الظن النوعي فيجري سواء ظن ظنا شخصيا بالخلاف ، أو ظن بالوفاق ، أم شك في الخلاف والوفاق.

(كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كليّة) فانهم يحكمون ، مثلا :

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

١١٠

مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ظانا ببقاء الحالة السابقة.

ويظهر ذلك لأدنى متتبّع في أحكام العبادات والمعاملات ، والمرافعات ، والسياسات.

______________________________________________________

بأن من تيقّن بالطهارة وشك في الحدث فهو متطهر ، ومن تيقّن بالحدث وشك في الطهارة فهو محدث ، وهكذا (مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها) أي : بهذه الاصول الاستصحابية (ظانا ببقاء الحالة السابقة).

وعليه : فالاستصحاب العقلي يكون في حجيته كالاستصحاب النقلي فيجري سواء ظن بالوفاق أم ظن بالخلاف أم شك في الأمرين.

(ويظهر ذلك) أي : عدم اعتبارهم الظن بالوفاق (لأدنى متتبّع في أحكام العبادات) كاستصحاب الطهارة وما أشبه ذلك.

(والمعاملات) وهي الأعم من العقود والايقاعات : كاستصحاب بقاء النكاح ، واستصحاب بقاء العدّة ، واستصحاب بقاء الوكالة ، وما أشبه ذلك.

(والمرافعات) كاستصحاب عدم الزوجية ، وعدم الملكية وما أشبه ذلك ، لقولهم ـ مثلا ـ : بأن المنكر من كان قوله موافقا للأصل والأصل : عدم البيع ، وعدم النكاح ، وعدم الطلاق ، وهكذا ، فإذا تنازع شخصان في هذه الأمور فانهم يتمسكون بالاستصحاب من غير فرق بين أن يكون الظن الشخصي في هذه الموارد موافقا للأصل أو مخالفا له.

(والسياسات) كاستصحاب إجراء الحدود على من وجب عليه الحد ، فندم وتاب بعد قيام البيّنة ، فإنهم وان ظنوا بأن الحكم غير باق بسبب ندمه على فعله ، أو ظنوا بأن الشاهد سقط عن عدالته ، أو غير ذلك ، لكنهم لا يعتنون بالظنون الشخصية ويجرون الاستصحاب في كل الموارد المذكورة.

١١١

نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين ، في باب الشك في الحدث بعد الطهارة ، ما يظهر منه : اعتبار الظنّ الشخصي ، حيث قال : «لا يخفى : أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربما يصير الراجح مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ، ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة الى ذلك الوقت ،

______________________________________________________

(نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين في باب الشك في الحدث بعد الطهارة ما يظهر منه : اعتبار الظنّ الشخصي) بحيث إذا ظن على خلاف الحالة السابقة لا يجري الاستصحاب ، فيكون الاستصحاب العقلي حينئذ غير شامل لصورة الظن بالخلاف ، بينما الاستصحاب الشرعي كما عرفت شامل حتى لهذه الصورة.

وإنّما يظهر منه اعتبار ذلك (حيث قال : «لا يخفى : أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى) ذلك الظن (على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان) حتى يكون شكا.

(بل ربّما يصير الراجح مرجوحا) وذلك بأن يظن بخلاف الحالة السابقة (كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه) وعدم صدوره (ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة الى ذلك الوقت) فإنه يظن بخلاف الطهارة السابقة ، فلا يجري الاستصحاب في حقه.

١١٢

والحاصل : أنّ المدار على الظنّ ، فما دام باقيا ، فالعمل عليه وإن ضعف» ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.

ويظهر من شارح الدروس ارتضاؤه ، حيث قال بعد حكاية هذا الكلام : «ولا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ لو أبنى المسألة على أنّ ما يتيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله يحصل الظنّ ببقائه ، والشك في نقيضه لا يعارضه ، إذ الضعيف لا يعارض القوي ،

______________________________________________________

(والحاصل : أنّ المدار على الظنّ ، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف» (١)) أمّا إذا انقلب الظن على الخلاف ، فلا استصحاب (انتهى كلامه. رفع مقامه).

هذا (ويظهر من شارح الدروس) وهو المحقق الخوانساري (ارتضاؤه) لكلام الشيخ البهائي (حيث قال بعد حكاية هذا الكلام) ما يلي :

(«ولا يخفى أنّ هذا) الذي ذكره الشيخ البهائي : من اشتراط الاستصحاب بعدم الظن الشخصي بالخلاف (إنّما يصحّ) بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الأمارة ، وذلك فيما (لو أبنى المسألة على أنّ ما يتيقّن بحصوله في وقت) سابق (ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله) في وقت لا حق (يحصل الظنّ ببقائه) على حالته السابقة.

(و) من المعلوم : إن (الشك في نقيضه) أي : الشك في احتمال ارتفاع تلك الحالة السابقة ما دام لم يصل الى الظن بارتفاعه (لا يعارضه) أي : لا يعارض الظن السابق (إذ الضعيف) من الشك (لا يعارض القوي) من الظن السابق.

__________________

(١) ـ الحبل المتين : ص ٣٧.

١١٣

لكن هذا البناء ضعيف جدا ، بل بناؤها على الروايات مؤيدة بأصالة البراءة في بعض الموارد ، وهي تشمل الشك والظنّ معا ، فاخراج الظنّ منها ممّا لا وجه له أصلا» ، انتهى كلامه.

ويمكن استظهار ذلك من الشهيد قدس‌سره في الذكرى حيث ذكر : «أنّ قولنا : «اليقين لا ينقضه الشك» ، لا يعني به اجتماع اليقين والشك ،

______________________________________________________

ثم قال : (لكن هذا البناء ضعيف جدا ، بل بناؤها) أي : حجية الاستصحاب (على الروايات ، مؤيدة بأصالة البراءة في بعض الموارد) وذلك فيما إذا كان الاستصحاب نافيا للتكليف فإن البراءة هناك أيضا تنفي التكليف.

(وهي) أي : هذه الروايات الدالة على الاستصحاب (تشمل الشك والظّن معا) فالاستصحاب يجري سواء شك في الحال اللاحق ، أم ظن بالخلاف ، أم ظن بالوفاق.

وعليه : (فاخراج الظّن منها) أي : اخراج مورد الظن بالخلاف من الروايات والقول : بأن الروايات لا تدل على حجية الاستصحاب إذا كان المكلّف يظن ظنا شخصيا بالخلاف (ممّا لا وجه له أصلا» (١) ، انتهى كلامه) رفع مقامه.

(ويمكن استظهار ذلك) الذي ذكره الشيخ البهائي واستظهرناه من شارح الدروس (من الشهيد قدس‌سره في الذكرى حيث ذكر : «أنّ قولنا : «اليقين لا ينقضه الشك») في باب الاستصحاب (لا يعني به اجتماع اليقين والشك) في مورد

__________________

(١) ـ مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ١٤٢.

١١٤

بل المراد : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات» ، انتهى كلامه.

ومراده من الشك مجرّد الاحتمال ،

______________________________________________________

واحد ووقت واحد حتى يقال إنه محال (بل المراد : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه) المقرر له شرعا (بالشك في الزمان الثاني).

وإنّما لا يخرج اليقين عن حكمه بالشك (لأصالة بقاء ما كان) على ما كان (فيؤول) الاستصحاب (الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد) وهو الزمان الثاني (فيرجّح الظنّ عليه) أي : على الشك.

(كما هو) أي : ترجيح الظن على الشك (مطّرد في العبادات» (١)) فإن الانسان إذا صلّى وشك في انه صلّى ثلاث ركعات أو أربع ركعات وظن بأحدهما ، قدّم ظنه على الشك وبنى على ظنه (انتهى كلامه).

هذا (ومراده) أي : مراد الشهيد (من الشك) حيث ذكر أنه يجتمع مع الظن فيقدّم الظن عليه ، ليس هو الاحتمال المتساوي الطرفين لوضوح : أن الظن راجح والراجح سواء كان علما أم ظنا لا يجتمع مع المتساوي ، بل مراده : (مجرّد الاحتمال) بأن احتمل في الآن الثاني أن وضوءه السابق ـ مثلا ـ قد انتقض بالحدث.

__________________

(١) ـ ذكرى الشيعة : ص ٩٨.

١١٥

بل ظاهر كلامه أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشك هو الظنّ أيضا ، فتأمّل.

______________________________________________________

(بل ظاهر كلامه) أي : ظاهر كلام الشهيد الذي استعمل لفظ الرواية في كلامه حيث قال : إن قولنا : اليقين لا ينقضه الشك هو : (أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب) وحجيته عنده (من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشك) فيكون هذا دليلا على أنّ مراده من الظن في قوله : اجتماع الظن والشك (هو الظنّ) الشخصي (أيضا).

والحاصل : إن مراد الشهيد من الظن في قوله : «فيؤول الى اجتماع الظن والشك» هو : الظن الشخصي كما يشير اليه قوله : «فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبادات» فإنه إذا اجتمع الظن والوهم في الركعات لا يعتنى بالوهم بل يعمل بالظن.

ومن المعلوم أن الظن المعتبر في العبادات هو الظن الشخصي لا الظن النوعي كما أشير اليه في الفقه.

(فتأمّل) ولعله إشارة الى احتمال أن يكون مراد الشهيد في الظن : هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، إذ لا يستظهر من عبارة الشهيد إرادة الظن الشخصي ليوافق الشيخ البهائي.

وعلى أيّ حال : فالذي ينبغي أن يقال : إن الظن الشخصي بالخلاف لا يضر الاستصحاب سواء قلنا بأنه حجة من باب الاخبار أم من باب بناء العقلاء ، إذ كل من الاخبار أو بناء العقلاء مطلق يشمل الظن الشخصي بالخلاف ، كما يشمل الشك والظن الشخصي بالوفاق.

١١٦

الخامس :

______________________________________________________

(الخامس) في بيان ما يتوقف به الاستصحاب ، فإن للاستصحاب ركنين هما : اليقين والشك ، ولهما شروط خاصة بهما ، بتوفرها يتحقق الاستصحاب المصطلح ، ويحترز عن مثل قاعدة اليقين ، والاستصحاب القهقري.

أما شروط اليقين في الاستصحاب فهي : سبقه على الشك ، وإحراز وجوده ولو بعد زمان وجوده ، وذلك كما إذا لم يلتفت اليه زمان وجوده ، بل التفت اليه بعد ذلك ، وبعبارة أخرى : لا يشترط في إحراز اليقين الفعلية.

وأما شروط الشك في الاستصحاب : فهي : لحوقه على اليقين ، والالتفات اليه زمان وجوده فلا يكفي احراز وجود الشك بعد زمان وجوده ، وبعبارة أخرى : يشترط في إحراز الشك الفعلية.

ومن بيان شروط اليقين والشك ، المقوّمان للاستصحاب ، ظهر حال أمور ثلاثة :

الأوّل : الاستصحاب وهو كما عرفت : عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق في بقاء ذلك اليقين السابق.

الثاني : قاعدة اليقين وهو على ما يأتي : عبارة من اليقين السابق والشك في نفس ذلك اليقين السابق ويسمّى بالشك الساري أيضا ، لأن الشك يسري الى اليقين ويزلزله في موضعه ، وذلك كما إذا تيقن يوم الجمعة بأن زيدا عادل ، ثم شك يوم السبت في منشأ يقينه وانه هل كان عن مدرك صحيح أم لا بحيث يتزلزل يقينه في موضعه؟.

الثالث : الاستصحاب القهقري : وهو عبارة عن اليقين اللاحق والشك السابق :

١١٧

إنّ المستفاد ، من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء الى مجرد الوجود السابق ، أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين :

أحدهما : وجود الشيء في زمان سواء علم به في زمان وجوده أم لا.

______________________________________________________

كما إذا تيقن بالطهارة عصرا وشك في إنه هل كان في الظهر متطهّرا أم لا؟ فيستصحب طهارته من العصر الى الظهر فيقول : كنت متطهرا في الظهر أيضا.

هذا ، والأخبار إنّما تدل على حجية الأوّل وهو الاستصحاب المصطلح فقط ، لا الثاني وهو قاعدة اليقين ، ولا الثالث وهو الاستصحاب القهقري.

إذا تبيّن ذلك نرجع الى أصل المطلب وهو بيان شروط اليقين والشك ، المقومان للاستصحاب والمخرجان لغيره فنقول : أما اليقين : وهو المقوّم الأوّل للاستصحاب والذي من خلاله يشير المصنّف الى قاعدة اليقين ، فلا يشترط فيه بعد احراز وجوده السابق : فعليته. فلا يلزم أن يكون اليقين السابق موجودا في الزمان السابق حتى يجري فيه الاستصحاب.

مثلا : قد يتيقّن الانسان بالطهارة صباحا ثم يشك في بقائها ظهرا ، وقد يتيقّن ظهرا انه كان في الصباح متطهّرا ويشك الآن في بقائها ، فإن هذا أيضا من الاستصحاب مع إنه لا يقين عند الصباح ، وإنّما اليقين هو في وقت الظهر ، لكن متعلق اليقين هو وقت الصباح.

والى ما بيّناه أشار المصنّف وقال : (إنّ المستفاد من تعريفنا السابق) للاستصحاب : بأنه إبقاء ما كان (الظاهر في استناد الحكم بالبقاء الى مجرد الوجود السابق) أي : إبقاء ما كان لمجرد انه كان سواء علمنا به زمان وجوده أم لا؟ فإنه يستفاد من ذلك : (أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين) كالتالي :

(أحدهما : وجود الشيء في زمان سواء علم به في زمان وجوده أم لا) وهذا

١١٨

نعم ، لا بدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم ، أو الظنّ المعتبر.

وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ، فلا يتحقق معه الاستصحاب الاصطلاحيّ ، وإن توهّم بعضهم جريان عموم «لا تنقض» فيه كما سننبه عليه.

______________________________________________________

كما قلنا إشارة الى أنه لا يشترط فعلية اليقين بعد احرازه بمعنى أنه لا يلزم في اليقين أن يكون موجودا في الظرف السابق ، وإنّما يصح أن يكون اليقين الآن لكن متعلقه الظرف السابق.

(نعم ، لا بدّ من إحراز ذلك) اليقين الذي يكون متعلقه الزمان السابق (حين إرادة الحكم بالبقاء) احرازا أما (بالعلم ، أو الظنّ المعتبر) أي : بأن يعلم في الظهر علما وجدانيا أو يظن ظنا معتبرا بسبب البيّنة مثلا بأنه كان في الصباح متطهرا.

ثم منه أشار المصنّف الى قاعدة اليقين بقوله : (وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر) بأن سرى الشك الى اليقين السابق وزلزله في موضعه مما سمّيناه بقاعدة اليقين (فلا يتحقق معه الاستصحاب الاصطلاحيّ) بل يطلق عليه : قاعدة اليقين.

ولا يخفى أن الفرق بين قاعدة اليقين ، وبين الاستصحاب هو : أن في قاعدة اليقين الشك سار ، وفي الاستصحاب الشك طار.

هذا (وإن توهّم بعضهم جريان عموم «لا تنقض» فيه) أي في الشك الساري أيضا (كما سننبه عليه) إن شاء الله تعالى في محله ونقول : بأن أخبار الاستصحاب لا يمكن أن تشمل قاعدة اليقين وحدها : ولا أن تشمل الاستصحاب وقاعدة اليقين كليهما ، إذ لا جامع بين الاستصحاب وبين القاعدة.

١١٩

والثاني : الشك في وجوده في زمان لا حق عليه ، فلو شك في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقري مجازا.

ثم المعتبر هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات اليه ، أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شك فيه على فرض الالتفات.

______________________________________________________

(و) إما الشك : وهو المقوّم الثاني للاستصحاب ، فيشترط فيه بعد تحققه في زمان لا حق على اليقين : فعليته أيضا ، أشار المصنّف الى اشتراط كونه لا حقا لليقين لا سابقا عليه بقوله :

(الثاني) من الأمرين المقومين للاستصحاب والذي من خلاله يشير المصنّف الى الاستصحاب القهقري هو أن يكون (الشك في وجوده في زمان لا حق عليه) أي : على ذلك الزمان السابق (فلو شك في زمان سابق عليه) أي : على الزمان اللاحق (فلا استصحاب) لأن ظاهر أدلة الاستصحاب : أن اليقين سابق والشك لاحق ، لا أن اليقين لا حق والشك سابق ثم يسري اليقين اللاحق الى زمان الشك السابق ونقول : أن حال الشك السابق محكوم بحال اليقين اللاحق.

هذا (وقد يطلق عليه) أي : على ما كان شكّه سابقا ويقينه لا حقا : (الاستصحاب القهقري) وذلك (مجازا) لأنه ليس من الاستصحاب في شيء ، فإن الاستصحاب عبارة عن طلب صحبة السابق الى اللاحق لا طلب صحبة اللاحق الى السابق.

(ثم) أشار المصنّف الى اشتراط كون الشك فعليا لا تقديريا بقوله : إن (المعتبر هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات اليه) أي : الى الشيء وذلك بأن يشك في الشيء بالفعل لا بالفرض فيستصحب الحالة السابقة (أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شك فيه على فرض الالتفات) اليه.

١٢٠