نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

الحسن جواز الرؤية في جميع الموجودات على الإطلاق خصوصا إذا قال الرؤية علم مخصوص فالعلم كما يتعلق بهذه الموجودات كذلك الرؤية ولا فرق إلا أن العلم المطلق يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل وهذا العلم لا يتعلق إلا بالموجود فقط فإنه يقتضي تعيين المرئي والتعيين لا يتحقق في العدم وإن سلكنا طريقة العلم فهو أسهل فإن العلم من حيث هو علم نوع واحد وحقيقة واحدة وإذا جوز تعلق العلم به فقد جوز تعلق الرؤية به.

وقد سلك الأستاذ أبو إسحاق طريقة قريبة من هذه فقال : الرؤية معنى لا تؤثر في المرئي ولا تتأثر منه فإن حكمه حكم العلم بخلاف سائر الحواس فإنها تؤثر وتتأثر وإنما يلزم الاستحالة فيه أن لو تأثرت الرؤية من المرئي أو تأثر المرئي من الرؤية وكل ما هذا سبيله فهو جائز التعلق بالقديم والحادث وكل مؤثر ومتأثر فهو مستحيل عندنا كما هو مستحيل عندكم ولا كلفة في هذه الطريقة إلا إثبات معنى في البصر لا يؤثر ولا يتأثر وقد أثبتنا من قبل أن الإدراك البصري لا يستدعي اتصال شعاع بالمرئي ولا انفصال شيء من الرائي وإذا بطل الوجهان انتفى التأثير والتأثر وصار المعنى كالعلم أو هو من جنس العلم وقد تقرر الاتفاق على جواز تعلق العلم به وهذا نهاية ما قيل في إثبات الجواز من جهة العقل.

قال المعتزلة : قد طلبتم للرؤية علة مصححة وتعين لكم الوجود فما أنكرتم أن جواز الرؤية من الأحكام التي لا تعلل فإن من الأحكام ما يعلل كالعالمية والقادرية ومنها ما لا يعلل كالتحيز وقبول العرض وجميع الصفات النفسية أليس تعلق العلم بالمعلومات لا يستدعي مصححا إذ تعلق بالواجب والجائز والمستحيل ولم توجد قضية هي أعم من الأقسام الثلاثة حتى تكون تلك القضية هي المصححة لتعلق العلم بها وكونها معلومة هي نفس تعلق العلم بها فتكون العلة والمعلول واحدا وإذا قررتم أن الرؤية إما علم مخصوص أو معنى في حكم العلم ثم لم تطلبوا مصححا للعلم فلم طلبتم مصححا للرؤية فقولوا تعلقت الرؤية بما تعلق به العلم أو لا علة ولا مصحح.

واعتراض ثان : أن تقسيم الحال إلى قضية الاشتراك والافتراق إنما يصح على مذهب مثبتي الحال وأنتم معاشر الأشعرية قد نفيتم الحال ورددتم قضايا الخصوص والعموم والافتراق والاشتراك إلى محض العبارات فكيف صرتم إلى إلزام أحكام الحال حتى أبطلتم قضية الافتراق وعينتم قضية الاشتراك ، ثم حصرتم ذلك في قضية واحدة وهو الوجود على أن الموجودات إنما تختلف بوجودها عندكم والوجود في الجوهر هو نفس الجوهر وكما يتمايز الجوهر والعرض بالجوهرية والعرضية تمايزا في الوجود وكما تمايز القديم والحادث

٢٠١

في القدم والحدوث تمايزا في الوجود فإن الوجود العام الذي شمل الموجودات حتى يصح أن يكون مصححا وحتى يصح الجمع بين الشاهد والغائب بذلك الجامع.

واعتراض ثالث قد أجملتم القول إجمالا في أن الرؤية تعلقت بالجوهر والعرض أما الجوهر المجرد والجسم المجرد فغير مسلم تعلق الرؤية به إذ قد استحال تجرده عن اللون فلم تتعلق الرؤية به مجردا وأما العرض فليس كل عرض قد تعلقت الرؤية به وإنما يستقيم دليلكم هذا إن لو تعلقت الرؤية بالجوهر والعرض على الإطلاق والتعميم حتى يصح منكم ربط الحكم بجامع بينهما وإذا تعلقت ببعض الأعراض دون البعض فلم يكن الحكم معلقا بالعرض من حيث أنه عرض ولا بالجوهر من حيث أنه جوهر ولا يكون معلقا بما يجمع بينهما وهو الوجود أو الحدوث فلا بد إذا من إثبات التعلق وحصره في شيء دون شيء أو تعميمه بكل شيء وذلك نفس المتنازع فيه.

واعتراض رابع : لم قلتم إن الحدوث لا يكون مصححا وقد عرفتم أن من الأحكام العقلية ما يتعلق بالحدوث دون الوجود وليس لقائل أن يقول إن كونه مسبوقا بعدم ليس بمؤثر فإن معناه أنه وجود على صفة واعتبار وكما أن المرئي أخص من المعلوم والرؤية تتعلق بالمعلوم على صفة الوجود كذلك نقول تتعلق بالوجود على صفة الحدوث وبالحادث على صفة المقابلة أو التكون أو غير ذلك من الصفات والاعتبارات وهذا السر هو أن المنقسم ربما يورد أقساما وينفي بعض الأقسام مفردا وربما يكون الحكم معلقا بمركب من القسمين لا بمفرد منهما فكما يجب نفي الأفراد من حيث هي أفراد فكذلك يجب نفي المركب من حيث هو مركب وهذا مما أغفله المتكلم كثيرا في مجاري تقسيماته وهو واجب الرعاية جدا.

واعتراض خامس قد تحقق أن الرؤية من جملة الحواس الخمس أفتقولون إنها كلها تتعلق بالوجود والمصحح لها الوجود أم الرؤية خاصة تتعلق بكل موجود فإن عممتم الحكم فقد افتتحتم أمرا وهو التزام كونه تعالى مسموعا مشموعا مطعوما ملموسا وذلك شرك عظيم وإن خصصتم الحكم بالرؤية وجب عليكم إظهار دليل التخصيص فإن قلتم الدليل أنه لا يؤثر في المرئي ولا يتأثر منه فقيل هو نفس المتنازع فيه وإن قلتم هو علم أو في حكم العلم إلا أنه يقتضي تعيين المدرك فيقال لكم التعيين قد يكون تعيين العقل ولا شك أن الحس لا يستدعي ذلك التعيين فإن تعيين العقل كتخصيص العام وتفصيل المجمل وتقييد المطلق وتحديد الشيء ولا تختص أمثال هذه التعيينات بالرؤية والحس وإن قلتم التعيين تعيين الحس فهو يستدعي قبول الإشارة إليه وذلك يقتضي حيزا ومكانا وجهة ومقابلة وهو محال.

٢٠٢

قال الأشعرية الجواب عن الاعتراض الأول أن طلب المصحح لم يختص بنا ، فإنكم جعلتم اللون والمتلون مصححا ، وذلك أن الرؤية لما تعلقت ببعض الموجودات وذلك نوعان؛ نوع من الأعراض ونوع من الجواهر فصح كون الجوهر والعرض مرئيا فقلنا ما المصحح لهذه الصحة؟ أهو كون الجوهر جوهرا فلزم أن لا يكون العرض مرئيا أو كون العرض عرضا فلزم أن لا يكون الجوهر مرئيا فلا بد إذا من قضية واحدة جامعة بينهما شاملة لهما حتى تتكون الصحة معللة لها ؛ إذ الصحة حكم هو قضية واحدة فلا يكون مصححها علتان مختلفتان فإن اختلاف العلتين يوجب اختلاف الحكمين في العقليات ولما تعلقت الرؤية بمختلفات وجب علينا طلب العلة التي لأجلها صح تعلقها بها ولا بدّ أن يكون السبب المصحح قضية تجمعهما لا كاللون والمتلون فإنهما قضيتان مختلفتان اختلاف الجنس والجنس والنوع والنوع ومن المحال ربط حكم واحد بعلتين مختلفتين فإن العلة العقلية لا بدّ أن تستقل بإفادة الحكم فإن استقل أحد المختلفين استغنى الحكم عن الثاني فطلبنا العلة لأن الرؤية تعلقت بمختلفين وجعلنا العلة قضية واحدة تشملها لاتحاد الحكم وهو الصحة فصح الطلب وحصل المطلوب.

وأما الجواب عن الاعتراض الثاني وهو إلزام الحال على مذهب أبي الحسن ، وإبطال الاشتراك والافتراق على نفي الحال.

قال القاضي أبو بكر الذي ذكرته دليلي وأنا قائل بالحال فسقط الاعتراض.

وقال أبو الحسن : القضايا العقلية والوجوه الاعتبارية لا ينكرها منكر ولسنا ممن لا يجمع بين مختلفين ولا يفرق بين مجتمعين ولا يقول بوجه ووجه وحيث وحيث واعتبار واعتبار فإن الحركة إذا قامت بمحل وصف المحل بكونه متحركا فهي من حيث إنها حركة وباعتبار أنها حركة أوجبت كون المحل متحركا وهي باعتبار أنها كون لها حكم آخر وباعتبار أنها عرض له حكم آخر ولو رفعنا هذه الاعتبارات انحسم باب النظر وانحصر نظر العقل على موجودات معينة وبطلت الاعتبارات بأسرها ولما قطعنا بأن الرؤية تعلقت بجنسي العرض والجوهر عرفنا أن الصحة على قضية واحدة وإنما نعني بالصحة صلاحية كل جنس لتعلق الرؤية فتلك الصلاحية صحتها على نعت واحد وإنما العلة المقتضية لتلك الصلاحية يجب أن تكون على نعت واحد والوجود وإن اختلف بالنسبة إلى المختلفات غير أنه في العقل والتصور معنى واحد يشمل القسمين فصح أن يكون مناطا للحكم وهذا كما قررناه في الجمع بين الشاهد والغائب بالشرط والمشروط والعلة والمعلول والدليل والمدلول والحقيقة والمحقق.

وأما الجواب عن الاعتراض الثالث وهو إجمال القول في تعلق الرؤية بالجوهر

٢٠٣

والعرض قلنا : الإنسان يدرك من نفسه إدراك الحجمية الجوهر وتحيزه وشكله من تدوير وتثليث وتربيع وتخميس إلى غير ذلك من الأشكال ، ولهذا يبصر شخصا من بعد فيدري شخصيته ويشك في لونه وصغره وكبره ، كما ذكرنا أسباب ذلك ثم يدرك بعد شكله ولونه ، فعرف أن الأشكال والألوان غير ، والجسم من حيث هو جسم غير في البصر ، وقد أدركهما البصر جميعا فلا بد من مصحح جامع بينهما وذلك ما عيناه ولذلك قلنا إن اللون والمتلون لن يصلح أن يكون علة لأنه تركيب في العلة ومع كونه تركيبا هو تشكيل فإنهم يقولون المصحح هو اللون أو المتلون فلا العلة المركبة صالحة ولا التشكيل في العلة مستعمل فبطل ما نصبوه علة وصح ما نصبناه.

وقولهم : لم تتعلق الرؤية بجميع الأعراض؟

قلنا : ولو تعلقت حسا بجميع الأعراض ما كنا نحتاج إلى طلب العلة كما لم نحتج إلى طلب العلة لتعلق العلم بالمعلوم إذ تعلق بكل ما يصح أن يعلم معدوما أو موجودا محالا أو ممكنا لكنا نطلب العلة لأنها تعلقت بالبعض وكما تعلقت ببعض الأعراض تعلقت بجميع الأجرام فطلبنا جامعا ولم نظفر بجامع بين الجواهر وبعض الأعراض كما صاروا إليه من اللون والمتلون ، فإن الرؤية تعلقت باللون كما تعلقت بالاجتماع والافتراق والمماسة والمحاذاة وهي أعراض وراء اللون فلم يكن بد من تعميم الحكم في كل عرض لعموم الجامع بين الجنسين ولا إشكال في هذه المسألة سوى هذه المنزلة وهي ورطة العقول فليتحرز فيها تحرز الماشي في الوحول.

وأما الجواب عن الاعتراض الرابع نقول : الحدوث ليس يصلح أن يكون مصححا على المذهبين ، أما على مذهبكم فلأن بعض الأعراض يستحيل رؤيته ، فلو كان الحدوث مصححا لصح تعلق الرؤية بكل محدث وأما على مذهب أبي الحسن ، فلأن الحدوث وجود مسبوق بعدم والعدم لا تأثير له فبقي الوجود مصححا.

وقولهم : معنى قولنا مسبوق بعدم أنه وجود مخصوص لا وجود عام مطلق والوجود المخصوص باعتبار الحدوث علة مصححة.

قيل الخصوص في الوجود يجب أن يكون بصفة وجودية راجعة إلى الوجود حتى يصح مؤثرا في إثبات الحكم وسبق العدم لا يصلح أن يكون مؤثرا في إثبات الصلاحية والصحة للرؤية فبقي الوجود المطلق ونعني بالصفة الوجودية أن يخصص الوجود مثلا بأنه جوهر أو عرض والعرض بأنه كون أو لون فهذه الاعتبارات مما تؤثر فأما العدم السابق ، فلا تأثير له والوجود باعتبار عدم سابق لا يكتسب اعتبارا ووجها إلا احتياجا إلى موجد ، وهو باعتبار هذا لا يصلح أن يكون مصححا للرؤية والإدراك.

٢٠٤

وأما الجواب عن الاعتراض الخامس نقول : الرؤية من جملة الحواس الخمس لكن الحواس مختلفة الحقائق والإدراكات ولكل حاسة خاصية لا يشركها فيها غيرها وليس منها حاسة تتعلق بجنسي الجوهر والعرض على وتيرة واحدة بل كلها تتعلق بأعراض ، ومن شرط تعلقها اتصال جسم بجسم حتى يحصل ذلك الإدراك عن السمع فإنه لا يستدعي اتصال جسم بجسم ضرورة بل هو إدراك محض كالرؤية.

ثم اختلف رأي العقلاء في أن المصحح للسمع ما هو فمنهم من قال هو الوجود كالمصحح للرؤية ، ومنهم من قال المصحح كونه موجودا باعتبار كون المسموع كلاما والكلام قد يكون عبارة لفظية وقد يكون نطقا نفسيا وكلاهما مسموعان ، ونحن كما أثبتناه كلاما في النفس ليس بحرف ولا صوت كذلك نثبت سماعا في النفس ليس بحرف ولا صوت ، ثم ذلك السماع قد يكون بواسطة وحجاب ، وقد يكون بغير واسطة وحجاب (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] ، فالوحي ما يكون بغير واسطة وحجاب كما قال تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نفث في روعي» (١) ، وقد يكون من وراء حجاب كما كان لموسى عليه‌السلام وكلمه ربه ، وقد يكون بواسطة رسول وحجاب كما قال تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] ، وبالجملة نحن نعقل في الشاهد كلاما في النفس ونجده من أنفسنا كما أثبتناه ، ثم يعبر اللسان عنه بالعبارة الدالة عليه ، ثم يسمع السامع فيصل بعد الاستماع إلى النفس فقد وصل الكلام إلى النفس بهذه الوسائط ، فلو قدرنا ارتفاع هذه الوسائط كلها من البين حتى تدرك النفس ما كانت النفس الناطقة المتكلمة مشتملة عليه فتحقق كلام في جانب المتكلم ، وسماع في جانب المستمع ولا حرف ولا صوت ولا لسان ولا صماخ ، فإذا تصور مثل ذلك في الشاهد حمل استماع موسى كلام الله على ذلك وعن هذا قال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي

__________________

(١) صحيح : رواه الشافعي في مسنده (ص ٢٣٣) ، وابن أبي شيبة في المصنف (٧ / ٧٩) ، والبزار في مسنده (٧ / ٣١٥) ، والبيهقي في الشعب (٢ / ٦٧) ، وهنّاد في الزهد (١ / ٢٨١) ، والحاكم (٢ / ٥) ، والطبراني في الكبير (٨ / ١٦٦).

٢٠٥

وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤] ، فالرسالات بواسطة الرسل والكلام من غير واسطة لكنه من وراء حجاب ، وأما في حقنا فكلام الله تعالى مسموع بأسماعنا مقروء بألسنتنا محفوظ في صدورنا وقد تبين الفرق بين القراءة والمقروء في مسألة الكلام (١).

ومما تمسك به الأشعري في جواز رؤية الباري جلّ جلاله سؤال موسى عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، وجواب الرب تعالى : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف: ١٤٣] ، ووجه الاستدلال أن موسى عليه‌السلام هل كان عالما بجواز الرؤية أم كان جاهلا بذلك ، فإن كان جاهلا فهو غير عارف بالله تعالى حق معرفته ، وليس يليق ذلك بجناب النبوة ، وإن كان عالما بالجواز فقد علمه على ما هو به والسؤال بالجائز يكون لا بالمستحيل وجواب الرب تعالى (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] ، يدل على الجواز أيضا فإنه ما قال لست بمرئي لكنه أثبت العجز أو عدم الرؤية من جهة الرائي وعن هذا قال (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] ، إذ الجبل لما لم يكن مطيقا للتجلي مع شدته وصلابته فكيف يكون البصر مطيقا فربط المنع بأمر جائز ومع جوازه أحال المنع على ضعف الآلة لا على منع الاستحالة أليس لو كان السؤال (أَرِنِي أَنْظُرْ) [الأعراف :

١٤٣] ، إلى وجهك أو إلى شخصك وصورتك لم يكن الجواب بقوله : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] بل لست بذي شخص وصورة ووجه ومقابلة فدل أن السؤال كان بأمر جائز فتحقق الجواز ، وإن قيل لن للتأبيد فهو محال من وجهين أحدهما : أن لن للتأكيد لا للتأبيد أليس قال : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [الكهف : ٧٢] ، وهو جائز غير محال والثاني : أنه وإن كان للتأبيد فليس يدل على منع الجواز بل يدل على منع وقوع الجائز وإنما استدللنا بالآية لإثبات الجواز وتأبيد لن لا ينافيه.

فإن قيل سأل الرؤية لقومه لا لنفسه وإنما سألها إلزاما عليهم بقول الله سبحانه : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] ، حيث قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣].

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١٠٠) ، والغنية في أصول الدين للحاكم للنيسابوري (ص ١٤٤).

٢٠٦

قيل هذا ما يخالف الظاهر من كل وجه ومع مخالفته لا يجوز أن يسأل النبي سؤالا محالا لقومه وقرينة المقال تدل على أن السؤال كان مقصورا عليه من كل وجه إذ قال (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] إلى آخر الآية ومنع موسى لا ينتهض إلزاما على القوم بل تقرير الحجة القاطعة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مرئيا يكون إلزاما فكيف نجا موسى على من السؤال بلن تراني ولكن انظر إلى الجبل ولم ينج قومه من السؤال في قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، إلا بالصاعقة المهلكة والعذاب والأليم ، ولما قال قومه : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، لم يلزمهم بالسؤال عن الله تعالى بل أجابهم في الحال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ، إذ كان السؤال محالا ، فكذلك الرؤية لو كانت مستحيلة لأجابهم في الحال ورفع شبههم بالمقال ومثل هذه الحالة لو قدرت المعتزلة ما استجازوا تأخير البيان عن وقت الحاجة ولعدوا سؤال المسئول من مسئول آخر اتهاما آخر على شبهة قد تحققت لهم.

ومما تمسك به قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة: ٢٢ ، ٢٣] ، والنظر إذا تعرى عن الصلات كان بمعنى الانتظار وإذا وصل بلام كان بمعنى الإنعام وإذا وصل بفي كان بمعنى التفكر والاستدلال وإذا وصل بإلى تعين للرؤية ولا يجوز حمله على الثواب فإن نفس رؤية الثواب لا يكون إنعاما وقد أورد النظر في معرض الإنعام واللفظ نص في رؤية البصر بعد ما نفيت عنه التأويلات الفاسدة.

واعلم أن هذه المسألة سمعية ، أما وجوب الرؤية فلا شك في كونها سمعية ، وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلي ما ذكرناه ، وقد وردت عليه تلك الإشكالات ولم تسكن النفس في جوابها كل السكون ولا تحركت الأفكار العقلية إلى التقصي عنها كل الحركة ، فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضا مسألة سمعية ، وأقوى الأدلة السمعية فيها قصة موسى عليه‌السلام مما يعتمد كل الاعتماد عليه.

٢٠٧

القاعدة السابعة عشرة

في التحسين والتقبيح (١)

وبيان أنه لا يجب على الله تعالى شيء من قبيل العقل

ولا يجب على العباد شيء قبل ورود الشرع

مذهب أهل الحق : أن العقل لا يدل على حسن الشيء وقبحه في حكم التكليف من الله شرعا على معنى أن أفعال العباد ليست على صفات نفسية حسنا وقبحا ، بحيث لو أقدم عليها مقدم أو أحجم عنها محجم استوجب على الله ثوابا أو عقابا ، وقد يحسن الشيء شرعا ويقبح مثله المساوي له في جميع الصفات النفسية ، فمعنى الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله ومعنى القبيح ما ورد الشرع بذم فاعله ، وإذا ورد الشرع بحسن وقبح لم يقتض قوله صفة للفعل وليس الفعل على صفة يخبر الشرع عنه بحسن وقبح ولا إذا حكم به ألبسه صفة فيوصف به حقيقة وكما أن العلم لا يكسب المعلوم صفة ولا يكتسب عنه صفة كذلك القول الشرعي والأمر الحكمي لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة ، وليس لمتعلق القول من القول صفة كما ليس لمتعلق العلم من العلم صفة.

وخالفنا في ذلك الثنوية والتناسخية والبراهمة والخوارج والكرامية والمعتزلة فصاروا إلى أن العقل يستدل به حسن الأفعال وقبحها على معنى أنه يجب على الله الثواب والثناء على الفعل الحسن ويجب عليه الملام والعقاب على الفعل القبيح والأفعال على صفة نفسية من الحسن والقبيح ، وإذا ورد الشرع بها كان مخبرا عنها لا مثبتا لها ، ثم من الحسن والقبح ما يدرك عندهم ضرورة كالصدق المفيد والكذب الذي

__________________

(١) انظر : شفاء العليل لابن القيم (ص ١٧) ، والصواعق المرسلة له (٢ / ٤٩٥) (٤ / ١٢٦١ ، ١٤٥٠) ، وغاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٦٥ ، ٢٣٣ ، ٢٤٤ ، ٣٣٠ ، ٣٥٨) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ١٥ ، ٣٢) ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (٢ / ٤١٥) (٣ / ٢٨) (٥ / ١٢٧) ، والعقيدة الأصفهانية (ص ٢٠٣) ، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (ص ٢١٤) ، والمواقف للإيجي (٢ / ١٣١ ، ٢٧٥ ، ٢٨٦ ، ٣٥٩ ، ٤٢٦) ، الغنية في أصول الدين للنيسابوري (ص ١٣٧) ، ومرهم العلل المضلة لليافعي (ص ٤٧ ، ٩٨ ، ٩٩).

٢٠٨

لا يفيد فائدة ، ومنها ما يدرك نظرا بأن يعتبر الحسن والقبح في الضروريات ، ثم يرد إليها ما يشاركها في مقتضياتها ثم يرتبون على ما ذكرناه قولهم في الصلاح والأصلح واللطف والثواب والعقاب.

وقد فرق أبو الحسن الأشعري بين حصول معرفة الله تعالى بالعقل وبين وجوبها به فقال : المعارف كلها إنما تحصل بالعقل لكنها تجب بالسمع وإنما دليله في هذه المسألة لنفي الوجوب التكليفي بالعقل لا لنفي حصول العقلي عن العقل.

قال أهل الحق : لو قدرنا إنسانا قد خلق تام الفطرة كامل العقل دفعة واحدة من غير أن يتخلق بأخلاق قوم ولا تأدب بآداب الأبوين ولا تزيّا بزي الشرع ، ولا تعلم من معلم ، ثم عرض عليه أمران أحدهما : أن الاثنين أكثر من الواحد ، والثاني : أن الكذب قبيح بمعنى أنه يستحق من الله تعالى لوما عليه لم يشك أنه لا يتوقف في الأول ، ويتوقف في الثاني ومن حكم بأن الأمرين سيان بالنسبة إلى عقله خرج عن قضايا العقول وعاند عناد الفضول أو لم يتقرر عنده أن الله تعالى لا يتضرر بكذب ، ولا ينتفع بصدق ، فإن القولين في حكم التكليف على وتيرة واحدة ، ولم يمكنه أن يرجح أحدهما على الثاني بمجرد عقله.

والذي يوضحه : أن الصدق والكذب على حقيقة ذاتية لا تتحقق ذاتهما إلا بأن كانت تلك الحقيقة مثلا كما يقال إن الصدق إخبار عن أمر على ما هو به والكذب إخبار عن أمر على خلاف ما هو به ونحن نعلم أن من أدرك هذه الحقيقة عرف التحقق ولم يخطر بباله كونه حسنا أو قبيحا فلم يدخل الحسن والقبيح إذا في صفاتهما الذاتية التي تحققت حقيقتهما ولا لزمتهما في الوهم بالبديهة كما بينا ولا لزمها في الوجود ضرورة فإن من الأخبار الصادقة ما يلام عليها كالدلالة على نبي هرب من ظالم ومن الأخبار التي هي كاذبة ما يثاب عليها مثل إنكار الدلالة عليه فلم يدخل كون الكذب قبيحا في حد الكذب ولا لزمه في الوهم ولا لزمه في الوجود فلا يجوز أن يعد من الصفات الذاتية التي تلزم النفس وجودا وعدما عندهم ولا يجوز أن يعد من الصفات التابعة للحدوث فلا يعقل بالبديهة ولا بالنظر فإن النظري لا بدّ وأن يرد إلى الضروري البديهي ، وإذا لا بديهي فلا مرد له أصلا فلم يبق لهم إلا استرواح إلى عادات الناس من تسمية ما يضرهم قبحا وما ينفعهم حسنا ونحن لا ننكر أمثال تلك الأسامي على أنها تختلف بعادة قوم دون قوم وزمان وزمان ومكان ومكان وإضافة وإضافة ، وما يختلف بتلك النسب ، والإضافات لا حقيقة لها في الذات ، فربما يستحسن قوم ذبح الحيوان وربما يستقبحه قوم وربما يكون بالنسبة إلى قوم وزمان

٢٠٩

ومكان حسنا وربما يكون قبيحا لكنا وضعنا الكلام في حكم التكليف بحيث يجب الحسن فيه وجوبا يثاب عليه قطعا ، ولا يتطرق إليه لوم أصلا ، ومثل هذا لا يمتنع إدراكه عقلا هذه هي طريقة أهل الحق على أحسن ما تقرر ، وأوضح ما تحرر.

وقالت الطوائف المخالفات : نحن نعارض الأمرين اللذين عرضا على العقل الصريح بأمرين آخرين نعرضهما عليه فنقول : العاقل إذا سنحت له حاجة وأمكن قضاؤها بالصدق كما أمكن قضاؤها بالكذب بحيث تساويا في حصول الغرض منهما كل التساوي كان اختياره الصدق أولى من اختياره الكذب فلو لا أن الكذب عنده على صفة يجب الاحتراز عنه وإلا لما رجح الصدق عليه.

قالوا : وهذا الفرض في حق من لم تبلغه الدعوة أو في حق من أنكر الشرائع حتى لا يلزم كون الترجيح بالتكليف وعن هذا صادفنا العقلاء يستحسنون إنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى ويستقبحون الظلم والعدوان.

وأوضح من هذا كله أنا نفرض الكلام في عاقلين قبل ورود الشرع يتنازعان في مسألة تنازع النفي والإثبات ، فلا شك أنهما يقسمان الصدق والكذب ثم ينكر أحدهما على صاحبه قوله إنكار استقباح ويقرر كلامه تقرير استحسان حتى يفضي الأمر بينهما من الإنكار قولا إلى المخاصمة فعلا ، وينسب كل واحد منهما صاحبه إلى الجهل ، ويوجب عليه الاحتراز عنه ويدعوه إلى مقالته ويوجب عليه التسليم ، فلو كان الحسن والقبيح مرفوضا من كل جهة لارتفع التنازع وامتنع الإقرار والإنكار.

وقولكم : مثل هذا في العادة جائز جاز ولكنه في حكم التكليف ممتنع.

قلنا : ليس ذلك مجرد العادة بل هو العقل الصريح القاضي على كل مختلفين في مسألة بالنفي والإثبات وما حسن في العقل حسن في الحكمة الإلهية ، وما حسن في الحكمة وجب وجوب الحكمة لا وجوب التكليف فلا يجب على الله تعالى شيء تكليفا ولكن يجب له من حيث الحكمة تقريرا أو تدبيرا.

قالوا : لو رفعنا الحسن والقبح من الأفعال الإنسانية ورددناهما إلى الأقوال الشرعية بطلت المعاني العقلية التي نستنبطها من الأصول الشرعية حتى لا يمكن أن يقاس فعل على فعل وقول على قول ولا يمكن أن يقال لم ولأنه إذ لا تعليل للذوات ولا صفات للأفعال التي هي عليها حتى يربط بها حكم مختلف فيه ، ويقاس عليها أمر متنازع فيه ، وذلك رفع الشرائع بالكلية من حيث إثباتها ورد الأحكام الدينية من حيث قبولها.

وزادت الفلاسفة على المعتزلة حجة وتقريرا قالوا : قد اشتمل الوجود على خير مطلق وشر مطلق وخير وشر ممتزجين فالخير المطلق مطلوب العقل لذاته والشر

٢١٠

المطلق مرفوض العقل لذاته والممتزج فمن وجه ومن وجه ولا يشك العاقل في أن العلم بجنسه ونوعه خير محمود ومطلوب والجهل لجنسه ونوعه شر مذموم غير مطلوب وكل ما هو مطلوب العقل فهو مستحسن عند العقلاء وكل ما هو مهروب العقل فهو مستقبح عند الجمهور والفطرة السليمة داعية إلى تحصيل المستحسن ورفض المستقبح سواء حمله عليه شارع أو لم يحمله ثم الأخلاق الحميدة والخصال الرشيدة من العفة والجود والشجاعة والنجدة مستحسنات فعلية وأضدادها مستقبحات علمية ، وكمال حال الإنسان أن تستكمل النفس قوتي العلم الحق والعمل الخير تشبيها بالإله تعالى والروحانيات العلوية بحسب الطاقة والشرائع إنما ترد بتمهيد ما تقرر في العقول لا بتغييرها ، لكن العقول الجزئية لما كانت قاصرة عن اكتساب المعقولات بأسرها عاجزة عن الاهتداء إلى المصالح الكلية الشاملة لنوع الإنسان وجب من حيث الحكمة أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يحملهم على الإيمان بالغيب جملة ويهديهم إلى مصالح معاشهم ومعادهم تفصيلا فيكون قد جمع لهم بين خصلتي العلم والعمل على مقتضى العقل وحملهم على التوجه إلى الخير المحض والإعراض عن الشر المحض استبقاء لنوعهم واستدامة لنظام العالم ، ثم ذلك الشارع يجب أن يكون من بينهم مميزا بآيات تدل على أنها من عند ربه راجحا عليهم بعقله الرزين ورأيه المتين ولفظه المبين وحدسه النافذ وبصره الناقد وخلقه الحسن وسمته الأرصن يلين لهم في القول ويشاورهم في الأمر ويكلمهم على مقادير عقولهم ويكلفهم بحسب طاقتهم ووسعهم كما ورد في الكتاب (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].

قالوا : وقد أخطأت المعتزلة حيث ردوا القبح والحسن إلى الصفات الذاتية للأفعال وكان من حقهم تقرير ذلك في العلم والجهل إذا الأفعال تختلف بالأشخاص والأزمان وسائر الإضافات وليست هي على صفات نفسية لازمة لها لا تفارقها البتة.

وأخطأت الأشعرية : حيث رفعتهما عن العلم الذي ليس في نوعه ذميم وعن الجهل الذي ليس في نوعه حميد إذ السعادة والشقاوة الأبدية مخصوصتان بهما مقصورتان عليهما ، والأفعال معينات أو مانعات بالعرض لا بالذات وتختلف بالنسبة إلى شخص وشخص وزمان وزمان.

ثم زادت الصابئة على الفلاسفة بأن قالوا : كما كانت الموجودات في العالم السفلي مرتبة على تأثير الكواكب والروحانيات التي هي مدبرات للكواكب وفي

٢١١

اتصالاتها نظر نحس وسعد وجب أن يكون في أثرها حسن وقبح في الخلق والأخلاق والعقول الإنسانية متساوية في النوع فوجب أن يدركها كل عقل سليم وطبع قويم ولا تتوقف معرفة المعقولات على من هو مثل ذلك العاقل في النوع (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] ، فنحن لا نحتاج إلى من يعرفنا حسن الأشياء وقبحها وخيرها وشرها ونفعها وضرها وكما كنا نستخرج بالعقول من طبائع الأشياء منافعها ومضارها ، كذلك نستنبط من أفعال نوع الإنسان حسنها وقبحها ، فنلابس ما هو حسن منها بحسب الاستطاعة ، ونجتنب ما قبح منها بحسب الطاقة فلا نحتاج إلى شارع متحكم على عقولنا بما يهتدي ولا يهتدي (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] ، (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤] ، فهذه مقالة القوم ولها شرح ذكرناه في كتابنا الموسوم بالملل والنحل.

وزادت التناسخية على الصابئة بأن قالت : نوع الإنسان لما كان موصوفا بنوع اختيار في أفعاله مخصوصا بنطق وعقل في علومه وأحواله ارتفع عن الدرجة الحيوانية استسخارا لها ، فإن كانت أعماله على مناهج الدرجة الإنسانية ارتفعت إلى الملكية أو إلى النبوة وإن كانت على مناهج الدرجة الحيوانية انخفضت إلى الحيوانية أو إلى أسفل وهو أبدا في أحد أمرين إما فعل الجزاء أو جزاء على فعل كما يقولون كرد وباداشت فما بالنا نقول محتاج في أفعاله وأحواله إلى شخص مثله يقبح ويحسن فلا العقل يحسن ويقبح ولا الشرع لكن حسن أفعاله جزاء على حسن أفعال غيره وقبح أفعاله كذلك وربما يصير حسنها وقبحها صورا حيوانية ، وربما يصير الحسن والقبح في الحيوانية أفعالا إنسانية وليس بعد هذا العالم جزءا يحكم فيه ويحاسب ويثاب ويعاقب (١).

وزادت البراهمة على التناسخية بأن قالوا : نحن لا نحتاج إلى شريعة وشارع أصلا ، فإن ما يأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلو إما أن يكون معقولا أو لا يكون معقولا ، فإن كان معقولا ، فقد استغنى بالعقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يكن معقولا لم يكن مقبولا.

أجاب أهل الحق عن مقالة كل فرقة فقالوا للمعتزلة المعارضة غير صحيحة ، فإن ما ذكرناه من الفرق بين العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، والحكم بأن الكذب قبيح ظاهر لا مراء فيه وما ذكرتموه غير مسلم ، فإنه يستوي عند صاحب الحاجة طرفا

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٢٢٧ ، ٣١٨) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١١ ، ٣٧ ، ٤٣ ، ١٩٩) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٥١٥ ، ٥٢٠).

٢١٢

الصدق والكذب وإن اختار الصدق لم يكن اختياره أمرا ضروريا ولا يقارنه العلم بوجوب اختياره ضرورة ولو استروح إليه فلداع أو اعتياد أو غرض يحمله على ذلك ومن استوى عنده الصدق والكذب في الملام في الحال والعقاب في ثاني الحال لم يرجح أحدهما على الثاني لأمر في ذاته.

وأما استحسان العقلاء إنقاذ الغرقى واستقباحهم للعدوان فلطلب ثناء يتوقع منهم على ذلك الفعل وذم على الفعل الثاني ومثل هذا قد سلمناه ولكنا فرضنا القول في حكم التكليف هل يستحق على الله ثواب وعقاب بعد أن علم أنه لا يلحقه ضرر ولا نفع من فعله.

وأما المتنازعان بالنفي والإثبات في أمر معقول قبل ورود الشرع وإنكار كل واحد منهما على صاحبه فمسلم لكن الكلام وقع في حق الله تعالى هل يجب عليه أن يمدح ويذم ويثيب ويعاقب على ذلك الفعل وذلك غيب عنا فبم يعرف أنه يرضى عن أحدهما ويثيبه على فعله ويسخط على الثاني ويعاقبه على فعله ولم يخبر عنه مخبر صادق ولا دل على رضاه وسخطه فعل ولا أخبر عن محكومه ومعلومه مخبر ولا أمكن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد فإنا نرى كثيرا من الأفعال تقبح منا ولا تقبح منه كإيلام البريء وإهلاك الحرث والنسل إلى غير ذلك وعليه يخرج إنقاذ الغرقى والهلكى فإن نفس الإغراق والإهلاك يحسن منه تعالى ولا يقبح وذلك منا قبيح والإنقاذ إن كان حسنا فالإغراق يجب أن يكون قبيحا فإن قدر في ضمن إهلاكه سر لم نطلع عليه أو غرض لم نوصله إليه إلا به فليقدر في إهلاكنا كذلك والفعل من حيث الصفات النفسية واحد فلم قبح من فاعل وحسن من فاعل.

وأما ما قدروه من تنازع المتنازعين في مسألة عقلية فذلك لعمري من مستحسنات العقول من حيث إن أحدهما علم والثاني جهل لا من حيث إن أحدهما مكتسب له مستوجب على كسبه ثوابا على الله تعالى لأنهما وإن اقتسما صدقا وكذبا وعلما وجهلا لم يستوجبا بشروعهما في النظر ومخاصمتهما على تجاذب الكلام على الله تعالى ثوابا وعقابا ولم يعرف بمجرد المناظرة أن حكم الله في حقهما إذا كان الشروع جائزا أو محرما بل يتعارض الأمر بين الجواز والتحريم فوجه الجواز فيه أنه اشتغال بالنظر والنظر متضمن للعلم والعلم محمود لنفسه وجنسه والطريق المحمود محمود ووجه التحريم فيه إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه واشتغال بالنظر وهو مخاطرة وربما يخطئ وربما يصيب وإن أخطأ فربما يحصل له الجهل والجهل مذموم لجنسه ونفسه فمن هذا الوجه أوجب العقل التوقف ومن ذلك الوجه أوجب الشرع

٢١٣

والأمر فيه متعارض وما يستقبح أحدهما من الثاني ليس استقباحا يتنازع فيه.

وقولهم : ما يحسن من العقل يحسن من حيث الحكمة فيجب على الله حكمة لا تكليفا.

قلنا : ما المعني بقولكم يجب على الله تعالى من حيث الحكمة؟ وما معنى الحكيم والحكمة؟ فإن عندنا وقوع الفعل على حسب العلم حكمة سواء كان فيه مصلحة وغرض أو لم يكن بل لا حامل للمبدع الأول على ما يفعله فلو كان فالحامل فوقه والداعي أعلى منه بل فعله وصنعه على هيئة يحصل منها نظام الموجودات بأسرها من غير أن يكون له حامل من خارج وغرض وداع من الغير والحكيم من فعل فعلا على مقتضى علمه والحسن الإحكام في الفعل من آثار العلم وأما الغير إذا فعلا مستحسنا عنده من غير إذن المالك فليس من الحكمة وجوب المجازاة على ذلك الفعل خصوصا والمالك لم ينتفع بذلك المستحسن ولا اكتسب زينة وجمالا والحال عنده إن فعل وإن لم يفعل على وتيرة واحدة. وبقى أن يقال إذا لم يرجع إلى المالك نفع ولا ضرر فربما يرجع إلى الفاعل في الحال مشقة وكلفة مع جواز أن يخطئ فيعاقب في ثاني الحال حساب وكتاب مع جواز أن يثاب على الصواب فأي عقل يخاطر هذه المخاطرة ويقتحم هذا الاقتحام وإن رجعوا إلى عادات الناس في شكر المنعم والثناء على المحسن والتعبد للمالك والعباد للملوك أنها من مستحسنات العقول.

والجواب عنه من وجهين أحدهما أن العادة لا تكون دليلا عقليا يلزم الحكم به ضرورة بل العادات متعارضة والشكر والكفر سيان في حق من لا ينتفع بشكر ولا يتضرر بكفر والثاني أن الشكر على النعمة لا يستوجب بسببه نعمة أخرى بل هو قضاء لواجب ثبت عليه إذا أدى ما وجب عليه لم يستوجب بذلك زيادة نعمة فلا يجب على الله تعالى ثواب بسبب شكر النعمة ولهذا نقول من أنفق جميع عمره في شكر سلامة عضو واحد كان يعد مقصرا فإذا قابل قليل شكره بكثير نعم الله تعالى كيف يكون يعد موفرا وكيف يستحق على المنعم زيادة نعمه وكذلك حكم جميع العبادات في مقابلة النعم المسابقة قليل في كثير ولا يستوجب بسببها ثواب.

ثم نقول الواجب في حق الله تعالى غير معقول على الإطلاق والاستحقاق للرب على العبد غير مستحيل حمله فإنه ما من وقت من الأوقات إلا ويتقلب العبد في نعم كثيرة من نعم الله تعالى ابتداء بأجزل المواهب وأفضل العطايا من حسن الصورة وكمال الخلقة وقوام البنية وإعداد الآلة وإتمام الأداة وتعديل القناة نعم وما متعه به من أرواح الحياة وفضله به من حياة الأرواح وما كرمه به من قبول العلم وآدابه وهدايته

٢١٤

إلى معرفته التي هي أسنى جوائزه وحبائه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] ، فلا ابتداء الإنعام واجب عليه فعلا ولا إذا قابل نعمة بشكر يسير كان الثواب واجبا عليه لأنه يعد مقصرا في أداء شكر ما أنعم عليه فكيف يستحق نعمة أخرى فمن هذا الوجه لا يثبت قط استحقاق العبد ولا يتحقق قط وجوبه على الرب ثم إن سلم تسليم جدل أنه يستحسن من حيث العادة الشكر على النعم فكذلك يستحسن من حيث العادة أن يتقابل العوضان ويتماثل الأمران قدرا وزمانا ولا يتصور أن يقع التقابل والتماثل بين أكثر كثير النعيم وبين أقل قليلها ولا يتحقق التعاوض بين سرمدي الوجود دواما وبين ما لا يثبت له وجود إلا لحظة أو خطرة أو لفظة كما يقتضي العقل إيجاب الشيء في مقابلة شيء مكافأة وجزاء كذلك يقتضي اعتبار قدر الشيء في مقابلة قدر وبالاتفاق لم يعتبر القدر فيجب أن لا يعتبر الأصل فإن كنا نستفيد الوجوب من العقل ونعتبر العقل بالعادة فهذا هو قضية العقل والعادة صدقا فكيف يثبت مثله استحقاق العبد وجوبا على الله تعالى.

وأما الوجوب على العبد والاستحقاق لله تعالى فليس من قضايا العقل والعادة أيضا فإنه إذا لم يتضرر بمعصية ولا ينتفع بطاعة ولم تتوقف قدرته في الإيجاد على فعل واحد وحال يصدر من الغير فيستعين به بل كما أنعم ابتداء قدر على الإنعام دواما كيف يوجب على العبد عبادة شاقة في الحال لارتقاب ثواب في ثاني الحال أليس لو رمي إليه زمام الاختيار حتى يفعل ما يشاء جريا على نسق طبيعته المائلة إلى لذيذ الشهوات ثم أجزل في العطاء من غير حساب كان ذلك أروح للعبد وما كان قبيحا عند العقلاء.

ثم نقول من رأس مواجب العقول في أصل التكليف متعارضة الأصول فإنا نطالب الخصم بإظهار وجه الحسن في أصل التكليف والإيجاب عقلا أو شرعا وقد علم أن لا يرجع إلى المكلف خير وشر ونفع وضر وزين وشين وحمد وذم وجمال ونكال وإن كانت ترجع هذه المعاني إلى المكلف لكن المكلف قادر على إسباغ النعم عليهم من غير سبق التكليف فتعارض الأمران أحدهما أن يكلفهم فيأمرهم وينهاهم حتى يطاع ويعصى ثم يثيب ويعاقب على فعلهم والثاني أن لا يكلفهم بأمر ونهي إذ لا يتزين منهم بطاعة ولا يتشين منهم بمعصية ولا يثيب ثوابا على فعل ولا يعاقب عقابا على فعل بل ينعم دواما كما أنعم ابتداء أليس العقل الصريح يتحير في هذين المتعارضين ولا يهتدي إلى اختيار أحدهما حقا وقطعا فكيف يعرفنا وجوبا على نفسه بالمعرفة وعلى قالبه بالطاعة أم كيف يعرفنا وجوبا على الفاطر الباري تعالى بالثواب

٢١٥

والعقاب خصوصا على أصل المعتزلة فإن التكليف والأمر والإيجاب من الله تعالى مجاز في العقل إذ لا يرجع إلى ذاته صفة يكون بها آمرا مكلفا بل هو عالم قادر فاعل للأمر كما هو فاعل الخلق والعقل إنما يعرفه على هذه الصفة ويستحيل أن يعرفه أنه يقتضي ويطلب منه شيئا ويأمر وينهى بشيء فغاية العقل أن يعرفه على صفة يستحيل عليه الاتصاف بالأمر والنهي فكيف يعرفه على صفة يريد منه طاعة يستحق عليها ثوابا ولا يريد منه معصية يستحق عليها عقابا ولا طاعة ولا معصية إذ لا أمر ولا نهي إذ لم يبعث بعد نبيا فيخلق لأجله كلاما في شجرة فيسمعه ولو خلق لنفسه كلاما فهو مسموع كل الحد ولا له في ذاته كلام يمكن أن يستدل عليه كسائر صفات ذاته بل أمره ونهيه من صفات فعله بشرط أن لا يدل أمره المفعول المصنوع على صفة في ذاته فهو مدلول أمره ونهيه إذ خلق في شجرة افعل لا تفعل لا يدل ذلك على صفة غير كونه عالما قادرا فليعرف من ذلك أن من نفى الأمر الأزلي لم يمكنه إثبات التكليف على العبد ولا أمكنه إثبات حكم في أفعال العباد من حسن أو قبح ويؤدي ذلك إلى نفي الأحكام الشرعية المستندة إلى قول من ثبت صدقه بالمعجزة فضلا عن العقلية المتعارضة المستندة إلى عادات الناس المختلفة بالإضافة والنسب وكثيرا ما نقول من نفى قول الله فقد نفى الفعل فصار من أوحش الجبرية أعني أثبت جبرا على الله تعالى وجبرا على العبد من نفى إكساب العباد فقد نفى قول الله صار من أوحش القدرية أعنى قدرا على الله وقدرا على العبد والقدرية جبرية من حيث نفي الكلام والقول والأمر والجبرية قدرية من حيث نفي الفعل والكسب والمأمور به فليتنبه لهذه الدقيقة.

وأما ما ذكروه من جواز التنازع بين مختلفين في مسألة عقلية وإنكار أحدهما على صاحبه واستقباح مذهبه مسلم ولكن النزاع في أمر وراءه وهو أنه هل يجب على المتنازعين الشروع في تلك المسألة وجوبا يستحق به ثوابا وإذا حصل على علم فهل يستحق به ثواب الأبد وإذا حصل على جهل فهل يصير به مستحقا لعقاب الأبد فما دليلكم على نفس المتنازع وقد عرفتم أن الأمر فيه غيب والإذن فيه من المالك غير موجود وفي التصرف خطر ومن المعلوم أن من خاض لجة البحر ليطلب درة وهو غير حاذق الصنعة كان على خطر الهلاك وربما يصير ملوما من جهة مالكه إن كان عبدا أو مغرما من جهة صاحب المال إن كان شريكا ثم الاستقباح والاستحسان والإنكار والإقرار متعارضان عند الخصمين فإن كل واحد منهما يستحسن ما يستقبحه صاحبه بناء على إنكاره وقل ما يتفق ارتفاع النزاع بينهما إلا بقاض يكون حكمه في الأمر وراء حكمهما وعقله أرجح من عقلهما يتحاكمان إليه وذلك هو الذي ينفي الحسن

٢١٦

والقبح من حيث العادة ويثبت الحسن والقبح من حيث التكليف.

وأما ما ذكروه من رفع المعاني المعقولة في مجاري الحركات التكليفية والأحكام الشرعية فذلك لعمري مشكل في المسألة.

والجواب عنه من وجهين أحدهما أن نقول ما من معنى يستنبط من فعل وقول لربط حكم إلا ومن حيث العقل يعارضه معنى آخر يساويه في الدرجة أو يفضل عليه في المرتبة فيتحير العقل في الاختيار إلى أن يرد شرع يختار أحدهما اعتبارا فحينئذ يجب على العاقل اعتباره واختياره.

ونضرب له مثلا فنقول إذا قتل إنسان إنسانا مثله فيعرض للعقل الصريح هاهنا آراء مختلفة كلها متعارضة أحدها أن يقتل به قصاصا ردعا للعاتي من كل مجترئ وفيه استبقاء نوع الإنسان وتشف للغيظ من كل قريب وفيه استطابة نفس الإنسان ويعارضه معنى آخر وهو أنه إتلاف في مقابلة إتلاف وعدوان بإزاء عدوان ولا يحيا الأول بقتل الثاني وإن كان في الردع إبقاء بالتوقع والتوهم ففي القصاص إهلاك الشخص بناجز الحال والتحقيق وربما يعارضه معنى ثالث وراءهما فيفكر العقل أيراعي شرائط أخرى سوى مجرد الإنسانية من العقل والبلوغ والعلم والجهل أم من الدين والطاعة أم من النسب والجوهر ، فيتحير العقل كل التحير فلا بد إذا من شارع يقرر من المعاني ما وجب على العبد وحيا وتنزيلا وأنها كلها رجعت إلى استنباط عقلك ووضع ذهنك من غير أن كان الفعل مشتملا عليها فإنها لو كانت صفات نفسية لاشتملت حركة واحدة على صفات متناقضة وأحوال متنافرة ، وليس معنى قولنا : إن العقل يستنبط منها أنها كانت موجودة في الشيء يستخرجها العقل بل العقل تردد بين إضافات الأحوال بعضها إلى بعض ونسب الأشخاص والحركات نوعا إلى نوع وشخصا إلى شخص فطري مثله من تلك المعاني ما حكيناه وأحصيناه وربما يبلغ إلى ما لا يحصى فعرف بذلك أن المعاني لم ترجع إلى الذوات بل إلى مجرد الخواطر الطارئة على العقل وهي متعارضة.

والجواب الثاني : أن نقول لو كان الحسن والقبح والحلال والحرام والوجوب والندب والإباحة والحظر والكراهة والطهارة والنجاسة راجعة إلى صفات نفسية للأعيان أو الأفعال لما تصور أن يرد الشرع بتحسين شيء وآخر بتقبيحه ولما تصور نسخ الشرائع حتى يتبدل حظر بإباحة وحرام بحلال وتخير بوجوب ولما كان اختلفت الحركات بالنسبة إلى الأوقات تحريما وتحليلا أليس الحكم في نكاح الأخت للأب والأم في شرع أبينا آدم عليه‌السلام بخلاف الحكم في الجمع بين الأختين المتباعدتين

٢١٧

في شرع نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف حل ذلك على اتحاد اللحمة ، وحرم هذا على تباعد اللحمة ونحن فربما نتجوز فنضيف الحرام والحلال إلى الأعيان فنقول الخمر حرام والكلب نجس والماء طاهر وهذا يحرم لعينه ، وهذا يحرم لغيره وهذا نجس العين وهذا نجس بعارض وكل ذلك يجوز في العبادة وإلا فهي كلها أحكام شرعية نزلت منزلة صفات عقلية وأضيفت إلى الأعيان والأفعال إضافة حكمية والحسن والقبح في الصدق والكذب كالحلال والحرام في الزنا والنكاح وكالجواز والحظر في البيع والربا.

وقد تمسك الأستاذ أبو إسحاق بطريق لا بأس به فقال : صحة كون الضدين مرادا على البدل يوجب التوقف مثاله من خاف التلف من شيئين على البدل ولم يكن له دليل يدل على أحدهما بالتعيين يوجب التوقف في الأمرين.

وقال أيضا : العقل يقضي بأن من له الإيجاب ، والإيجاب حقه فصاحب الحق له أن يطلب ، وله أن لا يطلب سيما إذا كان مستغنيا عن المطالبة به وعن تحصيله له وقبل الرسالة لا سبيل إلى معرفة مطالبته للعبد بحقه ، فإنه ربما يطالب وربما يتفضل بالإسقاط فيتوقف العقل في ذلك وهذا كله من قبيل تعارض الأدلة في العقل لكن الخصم يعتذر عن هذا ويقول أحد الطريقين آمن على الحقيقة ، والثاني مخوف والأخذ بالآمن أولى ، فإنه إن أخذ بأنه ربما يطالبه بحقه فإذا أدى حقه أمن من المعاقبة وإن أخذ بأنه ربما يتفضل خاف لأنه ربما لا يتفضل فإنما يستقيم أن لو كان التعارض متساوي الطرفين من كل وجه فيتوقف العقل ضرورة.

وقال الأستاذ : الشكر يتعب الشاكر ولا ينتفع المشكور فلا فائدة في فعله لاستواء فعله وتركه.

قال الخصم : الشكر ينفع الشاكر ولا يضر المشكور فوجب فعله لترجيح نفعه على ضره.

قال الأستاذ ربما يضر الشاكر لأنه قابل كثير نعم الله تعالى بقليل شكره ولا شك أن من أنعم على إنسان بكثير من النعم خطيره وحقيره فأخذ الحقير يشكر عليه عد من السفه ووجب اللوم عليه وضرب له حديث الرغيف المعروف.

قال الخصم : ليس الشاكر من يقتصر على بعض النعم أو على الحقير منها بل الشاكر من يستوعب بشكره جميع النعم ثم ربما يخص بعضها بالذكر تنبيها على الباقي.

قال الأستاذ : التعرض لمقابلة النعم بالشكر كفر فإنه رأى المقابلة جزءا وكفاء وقط لا يكافئ نعم الله التي لا تحصى بالشكر فإنه إن أوقع شكره في مقابلة نعمه على أنه يكافئه لئلا يكون تحت منه فهو كفران محض ، وإن كان على أنه ينفعه كما انتفع به

٢١٨

فهو كفران صريح ، فلا النعمة تقبل المقابلة ولا المعاوضة ولا المنعم يقبل النفع والضر ، وكيف يحسن الشكر والشكر إنما ينفع الشاكر أن لو حصل على رضى المشكور وإذنه فإذا لم يعرف رضاه وإذنه إلا بالسمع فلا يحسن الشكر إلا بالشرع ولكن لما تربى الإنسان على مناهج الشرع ورأى أهل الدين يستحسنون الشكر ، وقرأ آيات تحسين الشكر ظن أن مجرد العقل يقضي بذلك.

أما الجواب عن مقالة الفلاسفة قولهم : إن الوجود قد اشتمل على خير محض وشر محض وخير وشر ممتزجين فهو كلام من لم يتحقق الخير والشر ما هو؟ فما المعنى بالخير أولا؟ فإن الخير يطلق على كل موجود عندكم وعلى هذا الشر يطلق على كل معدوم وعلى هذا لم يستمر قولكم الوجود يشتمل على خير مطلق فكأنكم قلتم اشتمل الوجود على الوجود وهو تكرار غير مفيد ولم يستتب قولكم وعلى شر مطلق فإن الشر المطلق هو المعدوم والوجود كيف يشتمل على العدم فلم يصح التقسيم رأسا على أنا إنما فرضنا المسألة في الحركات التي ورد عليها التكليف فإن الخير والشر فيها هو المقصود بالحسن والقبح وقد ساعدتمونا على أن حكمها في الأفعال غير معلوم بالضرورة ولا العقل يهتدي إليه بالنظر لأن ذلك يختلف بالإضافات والأزمان فبقي قولكم العلم من حيث هو علم محمود وكل محمود مطلوب لذاته والجهل بالعكس من ذلك فهو مسلم ، ولكن الطالب إذا حصل له المطلوب فهل يستوجب على الله ثوابا أم لا وإن لم يحصل بل حصل ضده هل يستوجب عقابا أم لا لأن التنازع إنما وقع من حيث التكليف لا من حيث ذات الشيء وصورته (١).

قالوا : معنى الجزاء عندنا ترتب سعادة وشقاوة أبدية على نفس عالمة أو جاهلة كترتب صحة وسلامة في البدن على شرب دواء وذلك حاصل له بالضرورة وكترتب مرض وألم في البدن على شرب سم وذلك حاصل له بالضرورة أيضا.

قيل : إذا كان سعادة النفس مترتبة على حصول قوى العلم والعمل وخروجهما من القوة إلى فعل يحتاج إلى معاناة أمور شديدة ومقاساة أحوال عسيرة من تحصيل المقدمات والوقوف على كيفية تأديها بالطلب أو المطلوب ، ولم تكن الفطرة الإنسانية بمجردها كافية في التحصيل وتعارض الأمر عند العقل يوقف العاقل لئلا يقع في طريق يفضي به إلى الجهالة الموجبة للشقاوة فإن التوقف أولى من اقتحام الخطر في المهالك ،

__________________

(١) انظر : غاية المرام (ص ٢١٣) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١٨١ ، ١٨٢) ، وإيثار الحق على الخلق لمحمد القاسمي (ص ٢٣١) ، ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٢١٩

وأيضا فإن عندكم مخرج العقل من القوة إلى الفعل يجب أن يكون عقلا بالفعل فإن العقل بالقوة لا يخرج العقل بالقوة فإنه بعد محتاج إلى مخرج ، وليس هذا بذاته يخرج ذاته من القوة إلى الفعل ، وكما أن الممكن بذاته لا يترجح أحد طرفي إمكانه على الثاني إلا بمرجح كذلك ما هو بالقوة فلا يخرج من القوة إلى الفعل إلا بمخرج وكما أن المرجح على الحقيقة ما انتفى عنه وجوه الإمكان كذلك المخرج على الحقيقة ما انتفى عنه وجه القوة كالمرجح لجانب الوجود على العدم في الممكنات هو واجب الوجود بذاته والمخرج من القوة إلى الفعل هو العقل الفعال فقد اعترفتم بأن لا خالق إلا الله ولا هادي إلى المعارف ولا موجب للتكاليف المستدعية للجزاء إلا هو بتوسط العقل الأول الفعال والعقول الجزئية بحكم مناسبتها العقل الأول ربما تشتمل منها صور المعارف فيعرف الأوائل فطرة وبديهة ثم يرد إليها الثواني والثوالث نظرا وتفكرا حتى يخرج إلى الفعل ، وهذا على طريق الجواز والإمكان لا على طريق الوجوب والضرورة لكن لا يعرف إيجابه وتكليفه على العموم إذ ليس لكل واحد من نوع الإنسان استعداد الاستمداد منه من كل وجه بل واحد بعد واحد ، فذلك هو النبي عندنا فلا تعرف المعارف إلا بالعقل ولا تجب المعارف إلا بالسمع فلزمكم من حكم قاعدتكم هذه ما أثبتناه وهو لازم ضرورة.

وأما الجواب عن مقالة الصابئة نقول أنتم منازعون في إثبات تأثيرات الكواكب في الأجسام السفلية كل المنازعة ولنسلم لكم ذلك تسليم المساهلة فالسعد والنحس لم يؤثر إلا في الحسن والقبح من حيث الخلقة وذلك غير متنازع فيه وإنما النزاع بيننا في الحسن والقبح من حيث الأمر ولا شك أن الله تعالى حكم في أفعال العباد بافعل ولا تفعل وعلى ذلك الحكم جزئ في الدار الآخرة.

فنقول ذلك الحكم غير معلوم ضرورة ولا استدلالا من حيث العقل فوجب التوقف إلى أن يرد به سمع وما قالوه من نفي النبوة في الصورة البشرية فتقرر الحجة عليه في إثبات النبوات وأما المنافع والمضار في الأشياء وكونها معلومة بالعقل فغير مسلم على الإطلاق فإن طريقتها عند القوم وعند الطبيعيين والأطباء هو التجربة والتجربة ما لم تتكرر لم تفد العلم والتكرار فيه غير ممكن لاختلاف طبائع الأشياء بالنسبة إلى مزاج ومزاج وهواء وهواء وتربة وتربة وقط لا تحصل التجربة في شيء واحد باعتبار واحد وأيضا فإن الخواص التي هي وراء كيفيات الأشياء وطبائعها ربما تخالف ما يحصل بالتجربة من الطبائع والخواص عندهم من فيض النفس الكلية على ماهيات الأشياء وربما تحصل آثار كثيرة من مجرد عدد يتركب من أعداد مخصوصة

٢٢٠