نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

كلمات ملتقطة من دعوات زين العابدين رضوان الله عليه يا من لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من جلالك وعزتك أقصى نعت الناعتين يا من قصرت عن رويته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون أنت كما وصفت به نفسك وأنت كما أثنيت على نفسك ضلت فيك الصفات وتقسمت دونك النعوت وحارت في كبريائك لطائف الأوهام والعقول أنت الأول في أزليتك ، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول ، وأنت الآخر في أبديتك وكذلك أنت قائم لا تحول وأنت الظاهر فما احتجبت عن شيء وأنت الباطن ، فما اختفيت في شيء ولا تغيرك الدهور ولا تبليك الأمور ولا يعتورك الزمان ولا يحويك المكان ولا يشغلك شأن عن شأن ، كذلك أنت الله الذي لا إله إلا أنت لك الأسماء الحسنى ، والمثل الأعلى والكلمة العليا أنزلت الكتاب بالحق وأرسلت الرسل بالصدق وختمتهم بآخرهم عصرا وأولهم مأثرة وذكرا محمد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

اللهم اكتب لي هذه الشهادة عندك واجعلها عهدا تؤديه لي يوم القيامة وقد رضيت عني يا أرحم الراحمين (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ، (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨].

٢٨١

الذيل

مسألة في إثبات الجوهر الفرد (١)

الجسم ينتهي بالتجزئة إلى حد لا يقبل الوصف بالتجزي ويسميه المتكلمون جوهرا فردا وصارت الفلاسفة إلى أنه لا ينتهي إلى حد لا يقبل الوصف بالتجزي.

ومدار المسألة على أن الجسم عند المتكلم هو المركب من أجزاء متناهية وما تحصره النهايات والأطراف لا يشتمل على ما لا نهاية له وعند الفيلسوف الأجزاء إنما تحدث بالفعل في الجسم إما رضا وكسرا وإما بانتشاره وإما باختلاف عرضين وإما بالوهم والقوة والجسم مركب من هيولى وصورة لا من أجزاء متحيزة.

ودليل المتكلم في المسألة أن المتناهي أطرافه وأضلاعه يستحيل أن يشتمل على منقسمات بلا نهاية فإن المحصور بالنهايات لا يكون حاصرا بما لا نهايات له وأيضا فإن الاتصال المحسوس في الجسم متناه بالحس والانفصال يستدعي سبق اتصال لا محالة فلو كان الجسم مما ينفصل عن النهاية فليكن فيه الاتصال غير النهاية فإن كان الانفصال بالفعل فيسبقه الاتصال بالفعل وإن كان الانفصال بالقوة والوهم فليكن فيه الاتصال بالقوة والوهم ثم اتصاله متناه قوة وفعلا فانفصاله يجب أن يكون كذلك وأيضا فإن المقدار الذي اشتمل عليه الجسم متناه معدود مقدور فلو نصف الجسم نصفين وكان أحد المقدارين يقبل التجزؤ إلى غير النهاية حتى يصير ذا مقادير بغير نهاية فيلزم أن يكون الأقل هو النصف مثل الأكثر وهو الجملة ويلزم أن يكون فيما لا يتناهى من المقادير تفاوت الأقل والأكثر وكلاهما محال.

فإن قيل ما ذكرتموه صحيح في تقدير أجزاء الجسم بالفعل فإن الجسم المتناهي لا يشتمل على أجزاء بالفعل غير متناهية لكنا نقول هو يشتمل على أجزاء بالقوة غير متناهية فالمحصور في الفعل لا يحصر غير المتناهي بالفعل فلم لا يجوز أن يحصر غير المتناهي بالقوة وفيه النزاع قلنا ما قدرتموه بالقوة أيجوز في العقل أن يخرج إلى الفعل فإن لم يجز ظهرت الاستحالة وبقي الوهم المجرد الذي دل على خلافه برهان العقل وإن جاز خروجه

__________________

(١) انظر : الصواعق المرسلة لابن قيم (٣ / ٩٨٥ ، ٩٨٧) (٤ / ١٣١٥ ، ١٤٣٥) ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (١ / ٢١٢) (٢ / ١٣٨) ، وبيان تلبيس الجهمية له (١ / ٢٨١ ، ٤٩٥ ، ٥١٨).

٢٨٢

إلى الفعل وقدرنا خروجه إلى الفعل لزم المحال الذي ذكرنا هذا كما يقال ما من جسم إلا ويمكن أن يتصل به جسم آخر بحيث لا يقف الوهم إلى حد ونهاية ثم لا يدل ذلك على أن جسما لا يتناهى متصور الوجود بل الاتصال في الجسم يجوز إلى حد لا ينتهي إلى هذا المحال وهو تصور جسم لا يتناهى وإن بقي الوهم في حال التقدير الوهمي وذلك مما يتمثل في الوهم من خلاء خارج العالم فإنه يتوهم حدا ونهاية للعالم ثم يقدر فضاء وخلاء ينتهي به وإلا فيثبت خلاء فارغا وذلك خلاف العقل وبرهانه.

ويسلك إمام الحرمين في إثبات الجزء الفرد مسلكا آخر فقال نفرض الكلام في كرة حقيقية وبسيط حقيقي ونضرب بالكرة على البسيط أفيلاقيه أم لا؟ فإن لاقاه أفيلاقيه بمنقسم أم لا فإن لاقاه بمنقسم فليست كرة بل هو بسيط وإن لاقاه بغير منقسم فذلك الجوهر الفرد ويمكن أن يطرد هذا البرهان أيضا في البسيط المتناهي بحده فإن الحد خط والخط طول لا عرض له فقد تناهى الجسم فإن كان الحد الذي يتناهى به منقسما لم يكن خطا وأن لم ينقسم عرضا وانقسم طولا فينقسم إلى نقط وهو أمر لا ينقسم وذلك هو الجزء الفرد عند المتكلم وعلى كل حال متناه فإنما يتناهى بأمر لا ينقسم سطحا وخطا ونقطة وإلا لم يكن نهاية.

فإن قيل السطح والخط والنقطة أعراض عندنا فالنقطة عرض للخط والخط عرض في السطح والسطح عرض في الجسم وما كان عرضا لا يقبل الوصف بالتجزئة والجوهر الفرد عندكم حجم له جثة ومساحة فلذلك لزمكم ما لا يلزمنا في أبعاده الثلاثة قلنا هب أنه أعراض قائمة بالجسم أليست هي أعراضا تنقسم بانقسام الجسم فإن النقطة على أصلكم شيء ما لا تنقسم والخط ينقسم طولا ولا ينقسم عرضا والسطح ينقسم عرضا ولا ينقسم عمقا والجسم ينقسم طولا وعرضا وعمقا وكما أن الأعراض تنقسم بانقسام المحل وتتحد باتحاد المحل ويتحد المحل باتحاده وكما أنكم سميتم هذه الأعراض نهايات الجسم كذلك الجوهر عندنا أطراف ونهايات وليست بذي أطراف كما سنبين.

أما شبههم قالوا لو قدرنا جوهرا بين جوهرين أفيلاقي ما على يمينه بعين ما على يساره أم بغيره فإن قلتم بعينه فهو سفسطة فإن قلتم بغيره فقد ثبت التجزؤ في الجوهر الفرد وكذلك لاقى أحدهما بكله أو ببعضه فإن لاقاه بكله وأسره لم يبق للثاني ملاقاة فإن المشغول بكل وأسر كيف يصير مشغولا بغيره وإن لاقاه ببعضه فقد تجزأ وكذلك صوروا جوهرا على متصل جوهرين فإنه يلاقي الجوهرين السفلاوين وإنما يلاقي كل واحد منهما بطرف غير الآخر وإن منع هذا التصوير فصوروا خطا مركبا من ستة أجزاء وخطا يحاذيه من ستة أجزاء وعلى رأس أحد الخطين جوهر وعلى

٢٨٣

ذنب الخط الآخر جوهر وقدرنا تحرك الجوهرين في حالة واحدة على تساوي الحركتين فلا شك أنه يمتاز أحدهما على الثاني ويتحاذيان ويتقابلان على نقطة وليسا متحاذيين إلا على الثالث والرابع فيكون الجوهر المتحرك على متصل الثالث والرابع محاذيا للجوهر الثاني وكذلك ألزمونا جواهر محفوفة جواهر فلا شك أنه يماس كل واحد من الجواهر بغير ما تماس البواقي فتنقسم بستة أجزاء وكذلك النقطة في الدائرة تلاقي أجزاء الدائرة فلو لا أن فيها بالقوة ما في أجزاء الدائرة وإلا لما لاقتها وكذلك لو قدرنا جوهرا متحركا على محيط الدائرة وجوهرا متحركا على مركز الدائرة وبين الجوهرين خط متصل بهما جميعا فإن تحرك الجوهر على المحيط حركة واحدة وقطع حيزا واحدا وتحرك الخط بحركته فيجب أن يتحرك الخط الذي على المركز أقل من تلك المسافة وإنما قلتها أو كثرتها ببعد طول الخط وقصره وذلك هو بعد المسافة بين المحيط والمركز فيؤدي إلى أن ينقطع من المركز أقل من جزء واحد وذلك مثل القول بالتجزؤ ومثل حركة الشمس مع الظل فإن الشمس تتحرك عن فلكها أقداما كثيرة حتى يظهر في الظل قدم واحد فلو قدرنا حركتهما بمقدار جزء واحد فيجب أن يتحرك الظل بمقدار ألف جزء من جزء فيتجزأ الجزء المفروض.

الجواب عن هذه الشبهات من وجهين أحدهما الإلزامات والمعارضات والثاني التحقيق.

أما الأول فنقول بنيتم هذه الإلزامات على قضية مذهبنا لا على مقتضى مذهبكم لأن على مقتضى مذهبكم لا يتصور جوهر فرد وليس هذا التقدير والفرض على مقتضى مذهبنا صحيحا فإن الذي أثبتناه معقول بالدليل غير محسوس ولا موهوم وذلك أنا أقمنا البرهان على أن جسما محدودا متناهيا محصورا لا يشتمل على ما ليس يتمناه وغير محدود ولا محصور فلا يجوز أن يتجزأ أبدا فبقي التجزؤ مدلول دليلنا العقلي ثم يلزم أن يبقى شيء لا ينقسم ولا يتجزأ ونسميه جوهرا فردا هذا كما قررتموه في إثبات الهيولى والصورة جوهرين وحققتم الفصل بين الجوهرين عقلا لا حسا وأحلتم انفصال أحدهما عن الثاني على مقتضى مذهب وجوزتم على مقتضى مذهب فتوجه الإلزام عليكم ونقول الهيولى جوهر قابل للتحيز والتشكل والتحيز والتشكل صورة في الهيولى والجسم مركب منهما وكل واحد منهما على الانفراد لا يقبل الوصف بالتجزي ومجموعهما قابل أفيقبل التجزؤ من حيث الصورة أم من حيث الهيولى.

فإن قبل التجزؤ من حيث الصورة فهو باطل فإن الصورة اتصال والاتصال كيف يكون قابلا للانفصال بل قابل للانفصال أمر آخر وهو الهيولى.

٢٨٤

فنقول أو تقوى لك الهيولى على قبول انفصالات بلا نهاية وهل فيها قوة هذا القبول فإن لم تقو فذلك المعني بالجوهر الفرد عندنا وإن قويت على ذلك فيفضي هذا التجزي إلى جواز وجود جسم بسيط ذاهب في الجهات بغير نهاية وقد قام البرهان على استحالته وكل ما ذكرناه في الهيولى وقبولها للصورة فهي الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق تحقق مثله في الجوهر الفرد وقبوله ذلك اتصال واحد واتصال من ست جهات أو ست اتصالات إلا أن المتكلم يقول ذلك بانضمام أمثالها إليها والفيلسوف يقول ذلك بانضمام صورتها إليها ونقول ما فرضتموه علينا من الجواهر الثلاثة إنما هو إلزام على مذهبنا وليس الفرض صحيحا ولا الجوهر على ما قررتموه وهي الجواهر التي نقول فيها إنها لا تتجزأ فإن مدلول دليلنا أن كل ما حصره جسم متناه يجب أن يكون متناهيا وما لا يتناهى لا يحصره ما يتناهى ثم إنا نسمي ما انتهى جزءا فردا اصطلاحا وذلك معقول الدليل وليس بمحسوس ولأن ما يقدره الوهم ودل عليه البرهان هو ذلك الجزء الذي انتهى به فإنا نقول الجوهر الذي بين الجوهرين يلاقي أحدهما بطرف فنقول إن ذلك الطرف متحيز أو غير متحيز فإن كان متحيزا فهو الجوهر الفرد وليس بطرف وقد فرضتم أنه طرف وإن لم يكن متحيزا فذلك عرض قائم بمتحيز هو الجزء الفرد عندنا لا ما قدرتموه فالطرفان جزءان فردان والوسط أيضا فرد فقد اعترفتم بالإلزام الذي تمسكتم به أنه ذو نهايتين ووسط وذلك هو الجزء الثالث عندنا ولا يؤدي إلى التجزي أبدا فإن الطرف لا ينقسم ولو انقسم ما كان طرفا وعلى هذا المساق كل ذي نهاية من جسم وجوهر فإنما ينتهي بحد لا ينقسم والجسم ينتهي ببسيطه وهو السطح وذلك ينقسم طولا وعرضا ولا ينقسم عمقا والسطح ينتهي بخطه وذلك ينقسم طولا ولا ينقسم عرضا والخط ينتهي بنقطته وذلك لا ينقسم لا طولا ولا عرضا ولا عمقا وهو المثال الموازن للجوهر الفرد إلا أن النقطة عندكم موهومة وعندنا الجوهر الفرد موجود والنقطة والخط والسطح عرض عندكم وعندنا جوهر ولا يختلف ذلك بكونه جوهرا وعرضا فإن المقصود إثبات التناهي وقد حصل وكل ما لاقى شيئا فإنما يلاقيه بحد ونهاية وكل حد ونهاية فهو غير منقسم وإلا فلا تحصل الملاقاة والمماسة.

ونقول أيضا رفعا للتقسيم الذي أوردوه علينا أن الوسطاني يلاقي ما على يمينه بعين ما لاقى على يساره ذاتا وجوهرا وبغيره نسبة وإضافة وقد تتكثر نسب الشيء وإضافاته ولا يوجب ذلك تكثر الذات مثل النقطة التي في وسط الدائرة فإنها مع وحدتها تنسب إلى كل جزء من أجزاء الدائرة فإنها مع نسبة غير النسبة التي تليها

٢٨٥

وحيثما وسعنا الدائرة تكثرت نسبها ولا يوجب ذلك تكثرا في ذاتها كذلك القول في الجزء الفرد ينسب إلى جزء على اليمين وجزء على اليسار أو إلى ستة أجزاء محفوفة به ولا يوجب ذلك تكثرا في الذات ونقول قد بينا أن الجسم إنما يقبل التجزؤ بهيولاه لا بصورته فإن قابل الاتصال والانفصال يجب أن يكون غير الاتصال في الانفصال لأن الاتصال يزول بالانفصال ولا يزول القابل بوجود المقبول فنقول أفتقوى تلك الهيولي على قبول صورة الاتصال إلى ما لا يتناهى فإن قويت حصل جسم لا يتناهى وبعد لا يتناهى واتصال لا يتناهى وذلك محال وإن لم تقو على ذلك بل قوتها إلى حد ما تنتهي إليه هو الجزء الفرد الذي لا يتجزأ بقي هاهنا في هذه الصورة وهو الانفصال في جانب الوهم إنه لا يقف حتى يقدر عالما متصلا بعالم آخر إلى ما لا يتناهى فذلك عمل الوهم المخالف لبرهان العقل فلا نقبل ذلك بل نقول ثم إن الوهم إنما يصدق بشرط أن لا يؤدي إلى جسم غير متناه وذلك خلاف العقل ونقول هاهنا إن الوهم إنما يصدق بشرط أن لا يؤدي إلى أجزاء غير متناهية وذلك خلاف العقل وهذا آخر ما ينتهي إليه نظر الناظر في هذه المسألة فإن الخصم ربما يساعد على أن الأجزاء التي هي غير متناهية بالفعل في الجسم غير متصور وإنما يخالف في القوة والوهم وقد ثبت في القوة أن هيولى الجسم قوته لا تقوى على قبول انفصالات بلا نهاية كما لا تقوى على قبول اتصالات بلا نهاية وقد بينا في الوهم أن الوهم لا يقف إلى حد لا يتوهم زيادة على الجسم المحدود كزيادة عالم آخر وزيادة فضاء وخلاء وراء العالم كذلك لا يقف إلى حد لا يتوهم نقصانا على الجسم إلى نقصان آخر حتى يقدر ملاقي الجسم لا يتناهى وبعض الفلاسفة يفطن فيما وراء العالم فلم يثبت خلاء وفضاء بتناهي الأجسام وما يفطن فيما هو داخل العالم فأثبت خلاء وفيضا بلا تناهي الأجزاء ولا خارج من المحيط ولا داخل في المركز والله أعلم.

٢٨٦

٢٨٧
٢٨٨

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

أولا : ترجمة موجزة للمصنف

هو ولي الدين القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر الحضرمي الإشبيلي المالكي المعروف بابن خلدون ولد سنة ٧٧٢ ه بتونس وتوفي سنة ٨٠٨ ه.

تفقه على يد قاضي الجماعة ابن عبد السلام وعبد المهيمن الحضرمي ومحمد بن إبراهيم الأربيلي وغيرهم.

من مصنفاته :

١ ـ التاريخ الكبير في سبعة مجلدات.

٢ ـ مقدمة ابن خلدون.

٣ ـ رحلة ابن خلدون.

٤ ـ لباب المحصل في أصول الدين.

وانظر : شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (٧ / ٧٧).

وكشف الظنون (١ / ٢٧٨ ، ٢٨٦ ، ٨٣٥).

ثانيا : الكتاب :

هو مع صغر حجمه يعتبر من نفائس الكتب في نوعه فابن خلدون كان شيخ المعقول في عصره وقد كتب هذا الكتاب بيده رحمه اللّه والمخطوط من محفوظات مكتبة الإسكوريال بإسبانيا.

كتبه

أبو الحسن / أحمد فريد المزيدي الحسني الشافعي

كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر

القاهرة

٢٨٩
٢٩٠

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

صلى اللّه على سيدنا محمد وآله

مقدمة المصنف

أحمد من تفرد بعظمته وكبريائه وتقدس بصفاته وأسمائه وتنزه عن مشابهة خلقه بقدمه وبقائه أحاط بكل شيء علما فلا يعزب عنه مثقال ذرة في أرضه وسمائه ووسعت قدرته الممكنات فلا تبرح عن إبداعه وإنشائه ودل حدوثها وتخصيصها بوقت الإيجاد على إرادته وقضائه.

وأصلي على أول النفوس القدسية المختصين بتشريفه واعتنائه خصوصا على سيدنا محمد المصطفى خاتم أنبيائه وعلى آله وأصحابه وعترته وأوليائه صلاة دائمة أعدها ليوم لقائه.

وبعد :

فإن العلوم كثيرة والمعارف جمة غزيرة وأشرفها العلم الإلهي الذي فاز عالمه بالسعادة وأعدت له الحسنى وزيادة تفتقر العلوم إليه ولا يفتقر إليها وتعول في مقدماتها عليه ولا يعول عليها.

لا جرم كان الأولى صرف عنان العناية إليه وإرسال سهم القريحة عليه وكانت له مدة ـ منذ ركدت ريحه وخبت مصابيحه ـ فلا تجد إلا طالب علم ينيله رئاسة دنياه ولا يشتغل بأخراه ولا بأولاه إلى أن طلع الآن بسمائه شمس نور آفاقه ومد على الخافقين رواقه وهو سيدنا ومولانا الإمام الكبير العالم العلامة فخر الدنيا والدين حجة الإسلام والمسلمين غياث النفوس أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم الأبلي رضي اللّه عن مقامه وأوزعني شكر أنعامه شيخ الجلالة وإمامها ومبدأ المعارف وختامها ألقت العلوم زمامها بيده وملكته ما ضاهى به كثيرا ممن قبله ومل كته ما لا ينبغي لأحد من بعده فهي جارية على وفق مراده سائغة له حالتي إصداره وإيراده.

فاقتطفنا من يانع أزهاره واغترفنا من معين أنهاره وأفاض علينا سيب علومه وحلانا بمنثور دره ومنظومه إلى أن قرأنا بين يديه كتاب المحصّل الذي صنفه الإمام

٢٩١

الكبير فخر الدين بن الخطيب (١) فوجدناه كتابا احتوى على مذهب كل فريق وأخذ في تحقيقه كل مسلك وطريق إلا أن فيه إسهابا لا تميل همم أهل العصر إليه وإطنابا لا تعوّل قرائحهم عليه فرأيت ـ بعون اللّه تعالى ـ أن أحذف من ألفاظه ما يستغنى عنه وأترك منها ما لا بدّ منه وأضيف كل جواب إلى سؤاله وأنسج في جميعها على منواله.

فاختصرته وهذبته وحذو ترتيبه رتبته وأضفت إليه ما أمكن من كلام الإمام الكبير نصير الدين الطوسي (٢) وقليلا من بنيات فكري وعبرت عنهما ب «ولقائل أن يقول»: وسميته لباب المحصل فجاء بحمد اللّه رائق اللفظ والمعنى مشيد القواعد والمبنى واللّه أسأل أن يعصمني من الخطأ فيما كتبته والخلل فيما نويته.

ورتبته على أركان : الركن الأول في المقدمات الأولى في البديهيات.

__________________

(١) هو فخر الدين محمد بن عمر الرازي ٦٠٦ ه ، صاحب المحصل وعشرات الكتب في كثير من العلوم.

(٢) كتاب الطوسي هو «تلخيص المحصل» وشرحه أبو حامد أحمد بن علي بن الشبلي وشرح المحصل عصام الدين إبراهيم بن عربشاه الأسفراييني المتوفى سنة ٩٤٥ ه وتعليقه عز الدين عبد الحميد ، واختصره علاء الدين علي بن عثمان المارديني المتوفى سنة ٧٥٠ ه وشرحه العلامة علي بن عمر الكاتبي القزويني المنطقي المتوفى سنة ٦٧٥ ه وانظر : كشف الظنون لحاجي خليفة (٢ / ١٦١٤).

٢٩٢

الركن الأول في المقدمات

المقدمة الأولى في البديهيات (١)

إدراك الحقيقة من حيث هي هي لا مع اعتبار حكم تصور ومعه تصديق ولا شيء من التصورات بمكتسب لوجهين :

الوجه الأول : أن المطلوب إن كان مشعورا به امتنع طلبه لحصوله وإلا الذهول عنه وإن كان من وجه دون وجه امتنع لحصول أحدهما الذهول عن الآخر.

ولقائل أن يقول : ليس المطلوب الوجه.

الوجه الثاني : تعريف الماهية بنفسها وإلا تقدم العلم بها على العلم بها لأن المعرّف قبل المعرّف ؛ ولا بالخارج لجواز اشتراك المختلفات في لازم فيتوقف على معرفة اختصاصه بها دون غيرها فيلزم تصورها وهو دور وتصور غيرها ولا يتناهى.

ولقائل أن يقول : إنما يتوقف على الاختصاص فقط بتصور ـ هكذا ـ الغير مجملا فتصور أنواعه وأجناسه الشاملة المتناهية.

ولا بمجموع الأجزاء لأنه الأول.

ولقائل أن يقول : فات الجزء الصوري.

ولا ببعضها وإلا فيعرف نفسه لأنه بعد تعريفه وغيره وقد بطل.

ولقائل أن يقول : بعد معرفته فقط.

ولا بما يتركب منهما لأنه يبطل بما مرّ.

قيل : نجد النفس طالبة لتصور الملك الروح ـ قلنا : تفسير اللفظ أو طلب البرهان على وجودهما وهو تصديق.

وقد بان أن التصور إما بديهي أو حسي أو وجداني أو ما يركبه العقل أو الخيال منها والاستقراء يحققه.

والقائلون باكتسابه قالوا : ليس كله كذلك وإلا لدار أو تسلسل بل ما يتوقف عليه تصديق بديهي بديهي وغيره محتمل.

ولقائل أن يقول : إنما لزم ذلك حيث جعل التصور جزء التصديق.

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٢٧٠) ، والمواقف للإيجي (١ / ٨١ ، ٩١) (٢ / ٨٣ ، ٩٣) ، والإشارات والتنبيهات لابن سينا (١ / ١١٣).

٢٩٣

واتفقوا على أن الكاسب ليس المكتسب ، بل إما مجموع أجزائه وهو الحد التام أو بعضها المساوي وهو الناقص ، أو الخارج فقط وهو الرسم الناقص ، أو مع الداخل وهو التام.

تذنيبات :

البسيط لا يعرف ، والمركب يعرف ، فإن تركب عنهما غيرهما عرف بهما ، وإلا فلا ؛ والمراد التعريف الحدي.

يحترز عن التعريف بالمثل والأخفى والعين ، وما لا يعرف إلا به ، بمرتبة أو بمراتب.

يقدم الأعم لأنه أعرف.

وأما التصديقات فليس كلها بديهيا ، وهو بديهي ، ولا نظريا ، وإلا لدار أو تسلسل ، والبديهي منها إما وجدانيات ، وليست مشتركة ، فنفعها قليل ، أو بديهيات ، أو حسيات ؛ وقد اختلف فيها :

فجمهور العقلاء أثبتوهما وقوم الأول فقط وقوم الثاني فقط ؛ وقوم نفوهما.

أما نفاة الثاني فقالوا :

حكمه غير مقبول ، لأنه يغلط في الجزئيات ، فإن البصر يدرك الصغير كبيرا ، والواحد كثيرا ، والمتحرك ساكنا ، وبالعكس فيها ؛ والمعدوم موجودا ، والمتحرك إلى جهة متحركا إلى ضدها والمستقيم متنكسا والوجه طويلا وعريضا.

ولقائل أن يقول : كل غلط ذهني سببه بين في موضعه وأيضا يجزم ببقاء ما ليس بباق كاللون عند أصحابنا فلعل كذا الجسم.

ولقائل أن يقول : غلط ذهني لأن البقاء وجود الجوهر في الزمان الثاني والحس لا يستحضرهما.

وأيضا يحكم في حالتي النوم والشرسام والبرسام بثبوت ما ليس بثابت فكذا في اليقظة والصحة.

لا يقال : السبب منتف : لأنّا نقول : هو واحد ونفي كلها بعد الحصر لا يدركه الحس.

ولقائل أن يقول : إنما تخيلا شيئا غفلا معه عن الإحساس.

وأيضا نرى ما ليس بملون ملونا ، كالثلج والزجاج المدقوق لأن أجزاءهما شفافة وليس في الزجاج مزاج ليبوسته وصلابته ولقائل أن يقول : الأجزاء الشفافة ينعكس الشعاع من بعضها إلى سطوح بعض بالاجتماع ، فيحدث البياض ، لأنا نقول :

٢٩٤

هذا بيان علة رؤيته ملونا ، فلا يقدح في الغرض.

ولا يدرك الكليات ، بل الكل والجزء المشاهدين ، لا أن الكل أعظم ، ولو أدرك جميع الموجود من الكليات ، لكن لا تستعمل إلا حقيقية فلا بد من مدرك لها ومميز خطأه عن صوابه.

ولقائل أن يقول : ليس هو إلا العقل ، وغلطه مذكور في موضعه.

وأما نفاة الأول ، فقالوا : هو فرع المحسوسات لأن من فقد حسا فقد علما والأصل أوقى وأيضا فيدل على ضعفه وجوه براهين.

البرهان الأول : إن المعولين عليه ذكروا له أمثلة أربعة : النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، والكل أعظم من الجزء ، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ، والجسم الواحد في زمان واحد لا يكون في مكانين.

والثانية متوقفة على الأولى لأن الكل لو لم يكن زائدا على جزئه كان وجود الجزء الآخر وعدمه سواء.

ولقائل أن يقول : كون الكل الجزء وزيادة عين المطلوب. والثالثة كذلك لأنهما لو لم يتساويا لخالف الشيء نفسه لمساواته مختلفين.

ولقائل أن يقول : ليست أجلى من قضيتها.

والرابعة كذلك ، لأنه لو كان في مكانين لما تميز عن جسمين كذلك ، فوجود أحدهما مثل عدمه.

ولا يقال : العاقل يدركها دون هذه الحجة ، لأنا نقول : معناها مقرر وإن لم يعبر عنها.

ولقائل أن يقول : ليست أجلى من قضيتها.

والرابعة كذلك ، لأنه لو كان في مكانين لما تميز عن جسمين كذلك ، فوجود أحدهما مثل عدمه.

لا يقال : العاقل يدركها دون هذه الحجة ، لأنا نقول : معناها مقرر وإن لم يعبر عنها.

ولقائل أن يقول : لو توقفت لما كانت بديهية.

وقد لاح أنها أجلى البديهيات ولذلك تسمى أول الأوائل.

ثم أنها غير يقينية لوجوه :

إنها متوقفة على تصور العدم ، وليس بثابت ، والمتصور متميز لا يقال في الذهن لأنا نقول : فيكون قسما من مطلق الثابت وهو قسيمه.

ولقائل أن يقول : الكلام وقع في العدم المضاف ، ولا امتناع في كون القسم

٢٩٥

قسيما باعتبار ، ولا يقال : لو لم يكن متصورا امتنع الحكم بعدم تصوره لأنا نقول : فيتعارض دليلان قاطعان على مدلول.

ولقائل أن يقول : أقطعني وظهر فيه بأظهر.

إن هذا الحكم يستدعي امتيازه عن الوجود ، فله هوية ويمكن رفعها وإلا انتفى الوجود وهو رفع خاص ، فيكون داخلا تحت العدم المطلق ، فيكون قسيم العدم قسما منه ، هذا خلف.

لو سلمنا الامتياز لكن الإثبات والنفي قد يكون المراد منهما : ثبوت الشيء في نفسه أو عدمه في نفسه ، كقولنا السواد إما أن يكون موجودا وإما أن لا يكون موجودا وقد يكون المراد منهما : ثبوت الشيء لشيء آخر وعدمه عنه كقولنا : الجسم إما أن يكون أسود وإما أن لا يكون لكن لاحق في مراد كل واحد منهما ، فأول الأوائل باطل أيضا. هذه وجوه عدم الحق في مراد كل واحد منهما : فأول الأوائل باطلاً أيضاً.

هذه وجوه عدم الحق في مراد كل واحد منهما :

أما المعنى الأول فلأنا إذا قلنا السواد موجود ، فإما أن يكون كونه سوادا هو نفس كونه موجودا ، أو مغايرا له ؛ والأول باطل لأن على هذا التقدير كان قولنا السواد موجود جاريا مجرى قولنا السواد سواد وقولنا الموجود موجود ومعلوم أنه ليس كذلك لأن الأخير هذر والأول مفيد ، والثاني باطل أيضا لوجهين :

أحدهما لأنه لو كان السواد مغايرا لموجود في تلك القضية ، ومع ذلك قلنا : السواد موجود فهذا إنما جائز لنا لأن واحدا منهما قائم بالآخر ، لكن إذا كان الوجود قائما بالسواد ، فالسواد في نفيه ليس بموجود وإلا لعاد البحث فيه ولكان الشيء الواحد موجودا مرتين ، وإذا كان كذلك كان الوجود قائما بما ليس بموجود.

الثاني أنه إذا كان الوجود مغايرا للماهية ، كان مسمى قولنا السواد غير مسمى قولنا موجود ، فإذا قلنا السواد موجود ، بمعنى أن السواد هو موجود ، كان ذلك حكما بوحدة الاثنين وهو محال.

وأما المعنى الثاني يعني : ثبوت الشيء لشيء آخر وعدمه عنه كما في قولنا الجسم إما أن يكون أسود وإما أن لا يكون. فلاحق فيه كذلك ، وهذا وجهه : من الظاهر أنه لا يمكن التصديق به ، إلا بعد تصور معنى قولنا الجسم أسود والجسم ليس بأسود ، ـ فنقول :

إذا قلنا الجسم أسود فهو محال من وجهين :

أحدهما : أنه حكم بوحدة الاثنين على ما تقدم تقريره وهو باطل.

الثاني : أن موصوفية الجسم بالسواد إما أن يكون وصفا عدميا أو ثبوتيا ، الأول

٢٩٦

محال لأنه نقيض اللاموصوفية وهي وصف سلبي ونقيض السلب ثبوت ومحال أيضا أن يكون أمرا ثبوتيا لأنه على هذا التقدير إما أن يكون نفس وجود الجسم والسواد وإما أن يكون مغايرا لهما : والأول محال ، لأنه ليس كل من عقل وجود الجسم ووجود السواد ، عقل كون الجسم موصوفا بالسواد والثاني أيضا محال لأن موصوفية الجسم بالسواد لو كانت صفة زائدة لكانت موصوفية الجسم بتلك الصفة زائدة عليها ولزم التسلسل وهو محال.

إن العلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان موقوف على هذه القضية : الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون ؛ ثم هذه القضية ليست يقينية فالأول غير يقيني كذلك.

بيان الثاني يعني : أن القضية الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون ليست يقينية.

سلمنا تصور هذه القضية بأجزائها ، لكن لا نسلم عدم الواسطة وبيانه من وجهين :

إن مسمى الامتناع إما أن يكون موجودا أو معدوما أو لا موجودا ولا معدوما ؛ لا جائز أن يكون موجودا وإلا لكان الموصوف به موجودا لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم ولو كان الموصوف به موجودا لم يكن الممتنع ممتنعا ، بل إما واجبا أو ممكنا ولا جائز أن الامتناع يكون معدوما لأنه نقيض اللاامتناع الذي يكون معدوما لحمله على العدم ولأنه متميز عن الماهيات.

لا يقال : ثابت في الذهن ، لأنه مر : ولأن الممتنع ممتنع وجد الذهن أو لا ؛ ولأن الذهني إما موجود فلا يتصف بالامتناع أو معدوم فكذا صفته.

فثبت أن مسمى الامتناع ليس بموجود ولا معدوم وذلك هو الواسطة.

إن الآن الصادق فيه على الماهية مسمى الحدوث وهو الخروج من العدم إلى الوجود ليست فيه موجودة ، ولا معدومة ؛ وإلا صدق مسماه علينا وهو يغايرهما ولأن الحدوث ثبوتي لعدم الواسطة فلا يقوم بالمعدوم.

وله تقرير آخر وهو أنها آن انتقالها من العدم إلى الوجود ليست معدومة ، وإلا فلا انتقال ولا موجودة وإلا بعد ما انقطع فلا بد من متوسط.

وهذا حال الأقوى فما ظنك بالأضعف؟

البرهان الثاني أن البديهية تجزم بما يحتمل النقيض ، كجزمنا بأن زيدا المرئي قبل تغميض عيني وبعده هو هو ، وأن هذا الشيخ لم يحدث الآن من غير أب وأم ؛ وأن أواني الدار لم تنقلب في غيبة علماء مهندسين ، ولا أحجارها ذهبا ، وليس تحت رجلي ياقوتة منّ ألف من ؛ ولا البحار والأودية دما وأن الكلام المرتب المنظوم صدر من

٢٩٧

عالم حي فاهم ؛ مع احتمال أن زيدا أعدم ، ووجد مثله والشيخ حدث الآن ، والأواني صارت علماء ، والبحار دما ، وأن أقوال المتكلم وأفعاله يخلقها القادر في الجماد أو يقتضيها الشكل الفلكي الغريب.

لا يقال : وجد كما كان ، لأنا نقول : عاد إلى حاله.

وكجزمنا بأن هذا ولدي ولعله جبريل ـ عليه السلام ـ لظهوره في صورة دحية ؛ فتطرق التهمة إليها ؛ فلا يقبل حكمها.

لا يقال نظري ، لأنا نقول : يجزم به الصبيان والمجانين ، وليس علمي بأن زيدا هو هذا أضعف من علمي بأن الواحد نصف الاثنين.

البرهان الثالث أن الإنسان يجزم بصحة مقدمات دليلين متعارضين في مطلب عقلي مع تحقق الخطأ في أحدهما وإلا اجتمع النقيضان.

ولقائل أن يقول : إنما يعجز عن تعيين موضعه ولم يجزم.

البرهان الرابع أنا نجزم بصحة دليل يتبين خطأه.

ولقائل أن يقول : نظري.

البرهان الخامس لعلها لمزاج أو ألف عامين فإنهما مؤثران في الاعتقاد.

لا يقال : هي ما تجزم به النفس عنهما ، لأنا نقول : لا يجب حصول الخلو من فرضه ؛ ولو وجب فلعل ما لا نشعر به باق في النفس.

ثم قالوا : إن أجبتم حصل الغرض ، لأن الجزم بها بعد الجواب ، وهو نظري.

ولقائل أن يقول : نبين فساد الشبه ولا نجيب.

وأما نفاتهما فقالوا : ظهر القدح فيهما بكلام الفريقين ، فلا بد من حاكم ، وليس الاستدلال لأنه فرعهما فتوقف.

ولا يقال إن أفاد هذا الفساد ، فتناقض ، وإلا سقط ، لأنا نقول : قولك يفيد الثبوت وقولي النفي.

والصواب أن لا يشتغل بجوابهم ، لأنه يفيد غرضهم ، والعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، والشمس مضيئة لا يزول بما ذكروه.

وينبغي أن يعذفوا ليفرقوا بين وجود الألم وعدمه ويعترفوا بالحسيات ، وستجيء أجوبة هذه مفصلة إن شاء اللّه تعالى.

٢٩٨

المقدمة الثانية

في النظر

مسألة : النظر ترتيب تصديقات يتوصل بها إلى تصديقات أخر.

وقيل : تجريد النفس عن الغفلات ؛ وقيل تحديق العقل نحو المعقول ثم المقدمتان إن كانتا معا يقينيتين فكذا النتيجة وإلا فلا.

مسألة : النظر المفيد للعلم موجود مطلقا ، خلافا للسمنية ، وفي الإلهيات خلافا لقوم.

لنا العالم ممكن لأنه متغير ، يعني : للزومه ليقينيتين ، قالت السمنية : العلم بأن الحاصل منه علم ليس ضروريا ، إذ يحتمل خلافه ؛ ولا نظريا وإلا تسلسل ، قلنا : نظري لأن اللازم عن الضروري ضروري ، والعلم بالنتيجة ضروري فلا تسلسل.

قالوا : إن كان معلوما فلا طلب ، وإلا فمن أين يعرف إذا وجد؟ قلنا : من التصور السابق.

قالوا : نجزم بصحته ويظهر غلطه ـ قلنا : معارض بالحس.

قالوا : العلم بالمقدمتين معا لا يحصل ، والواحدة لا ينتج. قلنا : يحصل كما في الشرطية لأن الحكم بلزوم قضية لأخرى مسبوق بتصورهما.

قال الآخرون : التصديق مسبوق بالتصور ، والمتصور إما حسي أو وجداني أو عقلي.

قلنا : يتصور بحسب العوارض المشتركة ـ المشتركة ـ.

قالوا : أظهر الأشياء وأقربها إلى الإنسان نفسه ، وقد اختلف فيها ، فما ظنك بالأخفى والأبعد؟ قلنا : للعسر لا للتعذر.

مسألة : العلم باللّه ـ تعالى ـ مستغن عن المعلم ، خلافا للملاحدة.

لنا : العالم له مؤثر ، لأنه ممكن كان المعلم أو لا.

واعتمد جمهور المعتزلة (١) وأصحابنا في إبطاله على أمرين :

إنه يفتقر إلى معلم آخر ويتسلسل. ورد : يحتمل أن ينتهي من عقله أكمل

__________________

(١) انظر الكلام على هذه الفرقة في أبكار الأفكار للآمدي.

٢٩٩

فيستقل كالنبي والإمام.

إن العلم بصدقه يتوقف على العلم باللّه لتوقفه على تصديقه إياه بالمعجزة فيدور ، ورد: لا نعزل العقل مطلقا ، بل لا يستقل.

قالوا : لو كفى لما اختلف؟ قلنا : يأتي به صحيحا ولا يضره.

قالوا : نرى الإنسان لا يحصل علما إلا بأستاذ ، قلنا : للعسر ثم عينوا الإمام ونبين أنه أجهل الناس.

مسألة : الناظر لا يكون عالما بالمطلوب ، لأنه تحصيل الحاصل.

لا يقال : ننظر في الشيء بدليل ثان ، لأنا نقول : المطلوب كونه دليلا ، ولا جاهلا جهلا مركبا ، لأنه جزم وامتناع الاجتماع إما ذاتي أو لصارف.

مسألة : النظر واجب ، لوجوب معرفة اللّه وتوقفها عليه ، وهو مقدور وإلا فهي تكليف بما لا يطاق. واعترض : لا نسلم إمكان وجوب العلم لأن التصديق متوقف على التصور وهو غير مكتسب وهو ضروري لما مر ، ثم الحاصل فإن كفى في النسبة بينهما فبديهي ، وإلا فالحال في المتوسطة كما فيها وتنتهي إلى الضروريات ؛ فلوازمها ضرورية ، فالتكليف لا يطاق ، ولو صح بطل الدليل.

ولقائل أن يقول : الضروري اللزوم ، لا اللازم.

ولو سلم فلا يمكن الأمر بمعرفة اللّه ، لتوقفه على معرفة الأمر ، ويدور ولو سلم فلم نكلف بهذه الأدلة فيكفي التقليد أو الظن والاعتماد على «فاعلم» ضعيف لتسميته علما ولأنه خاص ، واللفظ غير يقيني ، ولو سلم فلعل طريقه قول الإمام أو الإلهام أو التصفية ولأنه لو انحصر خرج المسلم في كل لحظة عن الدين بسبب ما يعرض له ، والشك في مقدمة يوجبه في المدلول.

ولو سلم فالتكليف بما لا يطاق جائز ، بل واقع في جميع التكاليف لأنه إن علم اللّه وجوده وجب وإلا امتنع.

ولو سلم فلعل الأمر بالمعرفة مقيد ، كقوله تعالى :(وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] ، والجواب إن أمكن لكن التعويل على الظواهر كقوله : (قُلِ انْظُرُوا) [يونس : ١٠١] أولى.

مسألة : وجوب النظر سمعي ، خلافا للمعتزلة وبعض الشافعية والحنفية.

لنا : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) [الإسراء : ١٥] ولأن فائدة الوجوب الثواب والعقاب ولا يجب على اللّه شيء فينتفي ملزومها وهو الوجوب.

٣٠٠