نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

والجواب على قاعدة المتكلمين :

قال المحققون منهم وجه دلالة الفعل على الفاعل هو الجواز والإمكان وترجح جانب الوجود على العدم وذلك لم يختلف خيرا كان أو شرا فالوجود من حيث هو وجود خير كله أو يقال لا خير فيه ولا شر والفعل من حيث وجوده ينسب إلى الفاعل لا من حيث هو خير أو شر والفاعل يريد الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو خير أو شر بل الخير والشر إما أمران إضافيان بأن يكون شيء خيرا بالإضافة إلى شيء شرا بالإضافة إلى شيء وإما أمران شرعيان فيرجع الحسن والقبح والخير والشر فيه إلى قول الشارع افعل ولا تفعل ، وهذا هو جوابنا عن قول المعتزلة حيث قالوا في إرادة الكائنات إنه لو كان مريدا للشر لكان شرا فإن الشر لم ينسب إليه إلا من جهة وجوده والوجود من حيث هو وجود لا شر فيه وهو مريد لموجود بمعنى أنه على صفة يتأتى منه التخصيص بالوجود دون العدم وببعض الجائزات دون البعض فلم يكن مريدا للشر في الحقيقة.

ونقول للثنوية إنا كما صادفنا في الموجودات خيرا وشرا متمايزين فقد صادفنا في الموجودات خيرا أو شرا مختلطين فإن عالم الخير المحض هو عالم الملائكة وعالم الشر المحض هو عالم الشياطين وعالم الاختلاف والامتزاج هو عالم البشر فهلا أثبتم ثالثا ينسب إليه الامتزاج فإن الممتزج من حيث هو ممتزج على طبيعة غير ما كان المنفرد عليها فهلا كانت الطبيعة المذكورة دالة على ثالث لكن قلتم الخير والشر لم يختلفا بالامتزاج بل دلالتهما واحدة كذلك نقول لم يختلفا في الوجود فإن دلالة الوجود واحدة.

وقد سلك الفلاسفة الإلهيون طريقة أخرى في الوحدانية فأجابوا عن هذا السؤال على طريقتهم.

فأما طريقتهم قالوا : قد شهد العقل الصريح بأن الوجود ينقسم إلى ما يكون واجبا في ذاته وإلى ما يكون ممكنا في ذاته وكل ممكن فإنما يترجح جانب الوجود منه على جانب العدم بمرجح فإما أن تذهب الممكنات إلى غير نهاية أو تقف على واجب بذاته غير ممكن لكنها لو ذهبت إلى غير النهاية لما وجدت إذ كان يتوقف وجود كل ممكن على سبق وجود مرجحه وذلك محال فلا بد أن يقف على واجب بذاته ثم الواجب بذاته لا يجوز أن يكون لذاته مبادئ يجتمع منها واجب الوجود لا أجزاء كمية ولا كالمادة والصورة والجنس والفصل فإن المبادئ يجب أن تكون سابقة على ذات واجب الوجود ويكون واجبا بها لا بذاته وقد فرضنا الواجب بذاته فهذا خلف

٦١

ولو قدرنا اثنين واجبي الوجود اشتركا في كون كل واحد منهما واجب الوجود فلا بد أن ينفصل أحدهما عن الثاني بفصل يخصه فيكون وجوب الوجود مشتركا فيه وهو ذاتي لهما فيكون جنسا وما يخص أحدهما دون الثاني فصلا ويكون ذاته متركبا منهما ويجب أن تكون الأجزاء متقدمة بالذات على ذاته فيكون متأخرا عنها بالذات فيكون واجبا بها لا بنفسه وذاته فهو خلف فإذا نوع واجب الوجود سواء أطلق إطلاقا أو خصص تخصيصا لا يجوز أن يكون إلا واحدا فوجوده وجوبه ووجوبه حقيقته وحقيقته وحدته ووحدته تخصصه وتعينه من غير أن يتمايز وجوب عن وجود ووجود عن ماهية وحقيقة وعن هذا نفوا صفات الباري تعالى زائدة على الذات كما سيأتي تفصيل ذلك في مسألة الصفات إن شاء الله.

ثم جرحوا دلالة الخير والشر بل وقوع الشر في الوجود على مذهبهم.

بأن قالوا : الشر لا معنى له إلا عدم وجود أو عدم كمال وجود والعدم يدخل في القضاء بالعرض لا بالذات بل القصد الأول في الإبداع أن يكون وجود ثم القسمة العقلية أن يكون وجود هو خير محض أو يكون وجود لا يتحقق حصوله إلا على أن يتبعه شر أما وجود الشر المحض فهو مستحيل بل الوجود الذي أكثره شر كذلك فلا وجود وجود يتبعه شر قليل أكثر شرا من وجوده فالشر داخل في الوجود بالقصد الثاني ولا دلالة له على مدلول إذ لا حقيقة لوجوده كما بيناه.

وقد سلكت المعتزلة طريق التمانع في استحالة الإلهين كما سلكناه ، ولم يستمر لهم ذلك حيث جوزوا اختلافا في إرادة الباري سبحانه وإرادة العبد واختلافا في الفعل فلا تمانع.

وسلك الكعبي طريقا آخر ، وقال لو قدرنا قائمين بأنفسهما لا يتميز أحدهما عن الآخر بزمان أو مكان أو حيز لا يكون لأحدهما حقيقة خاصية يمتاز أحدهما عن الثاني بها فهو مستحيل عقلا والخصم ربما يقول : هذا هو نفس النزاع عبرت عنه تعبيرا وصيرته دليلا فإن جماعة من العقلاء صاروا إلى إثبات جواهر عقلية من عقول مجردة ونفوس مجردة قديمات قائمات بأنفسها ويمتاز بعضها عن بعض بخواص وحقائق ولم تمنع العقول ثبوتها ومن أراد أن يسلك هذه الطريقة فلا بد أن يزيد فيها شروطا حتى يتحقق الاستحالة وتتضح للعقل والله أعلم.

٦٢

القاعدة الرابعة

في إبطال التشبيه (١)

وفيها الرد على أصحاب الصور ، وأصحاب الجهة والكرامية في قولهم إن الرب تعالى محل للحوادث.

فمذهب أهل الحق أن الله سبحانه لا يشبه شيئا من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها بوجه من وجوه المشابهة والمماثلة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فليس الباري سبحانه بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا في مكان ولا في زمان ولا قابل للأعراض ولا محل للحوادث (٢).

وصارت الغالبية من الشيعة إلى نوعي تشبيه أحدهما تشبيه الخالق بالخلق فقالت المغيرية والبيانية والهاشمية ومن تابعهم إنه الإله ذو صورة مثل صور الإنسان ونسج على منوالهم جماعة من مشبهة الصفاتية متمسكين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله آدم على صورة الرحمن وفي رواية على صورته» (٣) والنوع الثاني تشبيه المخلوق بالخالق.

فقالت هؤلاء من الغالبية وجماعة أخرى : إن شخصا من الأشخاص إله أو فيه جزء من الإله سبحانه وتعالى عن قولهم متشخص به نسجا على منوال النصارى والحلولية في كل أمة ، ومن الكرامية من صار إلى أنه جوهر وجسم.

وأطبقوا على أنه بجهة فوق وأنه محل الحوادث قالوا : إذا خلق الله سبحانه

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ١٥٧).

(٢) انظر : غاية المرام (ص ١٨٠) ، الفرق بين الفرق (ص ٢٠٤ ، ٢١٧) ، وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص ٣٣).

(٣) حديث صحيح : رواه مسلم (٤ / ٢٠١٧ ، ٢١٨٣) ، والبخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، وابن حبان (١٣ / ١٨) (١٤ / ٣٣) ، وأبو عوانة في مسنده (١ / ١٦٠) ، والربيع في مسنده (١ / ٣١٤ ، ٣١٨ ، ٣١٩) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٩ / ٤٤٤ ، ٤٤٥) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٤ ، ٢٥١ ، ٣١٥ ، ٣٢٣) ، والحميدي في مسنده (٢ / ٤٧٦) ، وعبد بن حميد في المنتخب (ص ٢٨٣ ، ٤١٧) ، واللالكائي في أصول الاعتقاد (٣ / ٤٢٢ ، ٤٢٣) ، وابن أبي عاصم في السنة (١ / ٢٢٩ ، ٢٣٠) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (١ / ٢٦٨ ، ٢٧٧).

٦٣

جوهرا أحدث في ذاته إرادة حدوثه وربما احترزوا عن لفظ أحدث فقالوا : حدثت له إرادة حدوثه وكاف ونون وإذا كان المحدث مسموعا حدث له تسمع وإذا كان مبصرا حدث له تبصر فتحدث له خمس من الصفات الحادثة بكل محدث أحدثه ، وربما احترزوا عن إطلاق لفظ الحلول والمحل ، وإن أطلقوا الاتصاف بالحادث ، وفرقوا بين المشيئة والإرادة فقالوا مشيئة قديمة وإرادة حادثة ولذلك فرقوا بين التكوين والمكون والإحداث والمحدث والخلق والمخلوق فالخلق حادث في ذاته والمخلوق مباين وكذلك التكوين عبارة عن قوله كن والقول قائم بذاته والمكون مباين وكذلك كلامه تعالى صفات تحدث له وهي عبارات منتظمة من حروف وأصوات عند بعضهم وعند بعضهم من حروف مجردة فهو حادث ليس بقديم ولا محدث وأحالوا فناء ما حدث من الصفات في ذاته ولم يطلقوا لفظ التقدم والتأخر على الحروف والكلمات واجتهد محمد بن الهيصم منهم في كل مسألة من مسائل التشبيه حتى رد الخلاف فيها إلى ما يسوغ أن يذكر ولا يسفه غير مسألة الحوادث فإنه تركها على النكال الأول بعلم صاحبه أبي عبد الله الكرام.

لنا دليل شامل يعم إبطال مذاهب المشبهة جملة وعلى كل فرقة ممن عددناهم حجة خاصة ونقض على الانفراد فنبتدئ بالأعم.

ونقول التقدر بالأشكال والصور والتغير بالحوادث والغير دليل الحدوث فلو كان الباري سبحانه متقدرا بقدر متصورا بصورة متناهيا بحد ونهاية مختصا بجهة متغيرا بصفة حادثة في ذاته لكان محدثا إذ العقل بصريحه يقضي أن الأقدار في تجويز العقل متساوية فما من قدر وشكل يقدره العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصا بقدر آخر واختصاصه بقدر معين وتميزه بجهة ومسافة يستدعي مخصصا ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ذاتا لم تكن موصوفة بصفة ثم صارت موصوفة فقد تغيرت عما كانت عليه والتغير دليل الحدوث فإذا لم يستدل على حدوث الكائنات إلا بالتغير الطارئ عليها وبالجملة فالتغير يستدعي مغيرا خارجا من ذات المغير والمقدر يستدعي مقدرا.

فإن قيل بم تنكرون على من يقول : إن القدر الذي اختص به نهاية وحد واجب له لذاته فلا يحتاج إلى مخصص ، والمقادير التي هي في الخلق إنما احتاجت إلى مقدر لأنها جائزة وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة فلما كانت المقادير الخلقية مقدورة عرف جوازها واحتاج الجواز إلى مرجح فإذا لم يكن فوق الباري سبحانه قادر يقدر عليه لم تكن إضافة الجواز وإثبات الاحتجاج له ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان أفهي واجبة له على هذا العدد أم جائز أن توجد صفة أخرى.

٦٤

فإن قلتم : يجب الانحصار في هذا العدد كذلك نقول الاختصاص بالحد المذكور واجب له إذ لا فرق بين مقدار في الصفات عددا وبين مقدار في الذات حدا.

فإن قلتم : جائز أن توجد صفة أخرى فما الموجب للانحصار في هذا الحد والعدد فيحتاج إلى مخصص حاصر.

والجواب قلنا المقادير من حيث إنها مقادير طولا وعرضا وعمقا لا تختلف شاهدا وغائبا في تطرق الجواز العقلي إليها واستدعاء المخصص فإنا لو قدرنا مثل ذلك المقدار بعينه في الشاهد تطرق الجواز العقلي إليه واختصاصه به دون مقدار آخر يستدعي المخصص وتطرق الجواز إلى الجائزات لا يتوقف على تقدير القدرة عليها بل معرفة ذلك بينة للعقل ضرورية حتى صار كثير من العقلاء إلى أن العقل نفسه عبارة عن علوم ضرورية هي معرفة الجواز في الجائزات والاستحالة في المستحيلات والوجوب في الواجبات وتقدير القدرة عليها إنما يحتاج إليها في ترجيح أحد الجائزين على الثاني لا في تصور نفس الجواز.

وهذه نكتة قد أغفلها كثير من أصحاب الكلام وأما الصفات وانحصارها في ثمان فقد اختلف الجواب عنه بوجوه منها أنهم منعوا إطلاق لفظ العدد عليها فضلا عن الثمانية.

وقالوا قد دل الفعل بوقوعه على أن الفاعل قادر وباختصاصه ببعض الجائزات على أنه مريد وبإحكامه على أنه عالم وعلم بالضرورة أن القضايا مختلفة وورد في الشرع إطلاق العلم والقدرة والإرادة ولا مدلول سواء ما دل الفعل عليه أو ورد في الشرع إطلاقه ولهذا اقتصرنا على ذلك فلو سئل هل يجوز أن يكون له صفة أخرى اختلف الجواب عنه فقيل لا يتطرق الجواز إليه فإنا لم نثبت له الصفات بطريق التجويز العقلي بل بدليل الفعل والفعل ما دل إلا على تلك الصفات وقيل يجوز عقلا إلا أن الشرع لم يرد به فيتوقف في ذلك ولا يضرنا الاعتقاد إذا لم يرد به تكليف فينسب إلى المكلف تقصير ومنها أنهم فرقوا في الشاهد بين الصفات الذاتية التي تلتئم منها حقيقة الشيء وبين المقادير العرضية التي لا مدخل لها في تحقيق حقيقة الشيء فإن الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل بل هي له من غير سبب والمقادير المختلفة تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل فإن جعلها له بسبب ومنها أنهم قالوا لو قدرنا صفة زائدة على الصفات الثمانية لم يخل الحال فيها إما أن تكون صفة مدح وكمال أو تكون صفة ذم ونقصان فإن كانت صفة كمال فعدمها في الحال نقص وقد اتصف الباري سبحانه بصفات الكمال من كل وجه وإن كان صفة نقصان فعدمها عنه واجب وإذا بطل القسمان تعين أنه لا يجوز أن

٦٥

يتصف بصفة زائدة على الصفات الذاتية ويترتب على ما ذكرناه أنه هل يجوز للباري سبحانه أخص وصف لا ندركه ، وفرق بين هذا السؤال والسؤال الأول ، فإن السائل الأول سأل هل يجوز أن تزيد صفة على الصفات الثمانية والسائل الثاني سأل هل له أخص وصف به يتميز عن المخلوقات.

واختلف جواب الأصحاب عنه أيضا فقال بعضهم : ليس له أخص وصف ولا يجوز أن يكون لأنه بذاته وصفاته يتميز عن ذوات المخلوقات وصفاتها من حيث إنه ذاته لا حد لها زمانا ومكانا ولا يقبل الانقسام فعلا ووهما ، بخلاف ذوات المخلوقات وصفاتها فإنها غير متناهية في التعلق بالمتعلقات ، فلو كان الغرضان يتحقق أخص وصف به يقع التميز فقد وقع التميز بما ذكرنا فلا أخص سوى ما عرفنا.

وقال بعضهم : له أخص وصف الإلهية لا ندركه وذلك أن كل شيئين لهما حقيقتان معقولتان فإنهما يتمايزان بأخص وصفيهما وجميع ما ذكرنا من أن لا حد ولا نهاية ولا انقسام للذات ولا تناهي للصفات كل ذلك سلوب وصفات نفي وبالنفي لا يتميز الشيء عن الشيء بل لا بد من صفة إثبات يقع بها التميز وإلا فترتفع الحقيقة رأسا.

ثم إذا أثبت أن له أخص الوصف فهل يجوز أن تدركه.

قال إمام الحرمين لا يجوز أن ندركه أصلا وقال بعضهم يجوز أن يدرك وقال ضرار بن عمرو يدرك عند الرؤية بحاسة سادسة ونفس المسألة من محارات المتكلمين وتصوير الأخص من محارات العقول.

فإن قيل : إذا قدر موجودان قائمان بأنفسهما بحيث لا يكون أحدهما بحيث يكون الثاني كالعرض في الجوهر فمن الضرورة أما أن يكونا متجاورين وإما أن يكونا متباينين وعلى الوجهين جميعا يجب أن يكون كل واحد منهما بجهة الثاني وربما عبروا عن هذا المعنى بأن قالوا الباري سبحانه لا يخلو إما أن يكون داخل العالم أو خارجا عن العالم وكما أن الدخول بالذات يقتضي مجاورة ومماسة والخروج بالذات يستدعي مباينة وجهة وربما شككوا أبلغ تشكيك على سبيل الإلزام.

فقالوا : اتفقنا على أن له سبحانه ذاتا وصفات ومن المعلوم أن الصفات لا تكون كل واحدة بحيث الثانية ولا منحازة عنها بجهة ، فإن القائم بالغير لا يقبل التحيز رأسا بل هي كلها قائمة بذاته أي بحيث ذاته فقد تحقق التميز بين الذات والصفات وذلك راجع إلى أن الذات لها حيث حتى تكون الصفات بحيث هو والصفات لا حيث لها فلا تكون الذات بحيث هي وما قيل التحيث بالنسبة إلى الصفات فلو قدر قائم بذات آخر فمن ضرورته أن لا يكون بحيث هو حتى يتحقق

٦٦

فرق بين الصفات التي هي بحيث هو وبين ذلك القائم بذاته الذي ليس بحيث هو فيثبت له جهة ما ينحاز بها عنه وقد ورد السمع بأن تلك الجهة هي جهة فوق قال الله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] فأثبتنا الجهة عقلا وأثبتنا الفوقية سمعا واستنبطنا من النص الوارد فيه معنى ، وهو كون الفوق أشرف الجهات وأليق بكمال الصمدية ولهذا تعلقت القلوب بالسماء ورفعت الأيدي ، ودلت عليها إشارة الخرساء وإليها كان معراج سيد الأنبياء(١).

والجواب قلنا : هذه الشبهات كلها نشأت من اشتراك في لفظ القائم بالنفس ، فإن عندنا يطلق هذا اللفظ في حق الباري سبحانه بمعنى أنه مستغن عن المحل والحيز جميعا ، ويطلق على الجوهر بمعنى أنه مستغن عن المحل فقط والمستغني على الإطلاق في مقابلة المحتاج إلى المحل ، والمحتاج إلى الحيز فلننقل العبارة إلى هذه الجهة حتى يتبين أنكم جعلتم نفس النزاع دليلا متمسكين باشتراك في العبارة دون المعنى ، ونقول قدرناه مستغنيا عن المحل والحيز ، ومحتاجا إلى الحيز فيجب أن يكونا إما متجاورين أو متباينين محال تقديره ، فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات فالمستغني عن التحيز كيف يكون إما متجاورا وإما متباينا هذا كمن يقول القائمان بأنفسهما إما أن يكونا مجتمعين أو مفترقين متحركين أو ساكنين قيل الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز والتحدد ولا حيز له سبحانه ولا حد ولا اجتماع ولا افتراق بل إذا فتش على المجاورة والمباينة لم يتحقق منه إلا نفس الاجتماع والافتراق وما جاور أو باين فقد تناهى ذاتا والمتناهي إذا اختص بمقدار استدعي مخصصا(٢).

وكذلك الجواب عن الدخول والخروج فإنا نقول : ليس بداخل في العالم ولا خارج لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات والمحدودات ولهذا لا يطلقان على الأعراض ، وهما كالاجتماع والافتراق والحركة والسكون وسائر الأعراض التي لا تختص بالأجرام التي لا حياة لها ولو قيل هو الله سبحانه داخل في العالم بمعنى العلم والقدرة وخارج عن العالم بمعنى التقدس والتنزيه كان معنى صحيحا كما ورد في التنزيل (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] ، وقد ورد (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٥] ،

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (٣ / ٣٢ ، ٣٧).

(٢) انظر : صفات الرب للواسطي (ص ٢٠).

٦٧

وقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] ، الآية ، بل الآيات الدالة على القرب أكثر من الآيات الدالة على بعد الفوق وكما ورد (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) وورد مقرونا به وفي الأرض إله وبالجملة من تصور وجوده وجودا مكانيا طلب له جهة ما ، وانحيازا عن العالم ببينونة متناهية أو غير متناهية كما أن من تخيل وجوده زمانيا طلب له مدة وتقدما على العالم بأزمنة متناهية أو غير متناهية وكلا التخييلين باطل فهو الأول والآخر إذ ليس وجوده سبحانه زمانيا والظاهر والباطن إذ ليس وجوده مكانيا.

وأما الشك الثاني الذي أوردوه على سبيل الإلزام ، وهو الاتفاق من الكرامية والصفاتية أن الله سبحانه ذاتا وصفات والصفات قائمة بالذات وليست كل صفة بحيث الثانية بل بحيث الذات.

قيل من أثبت الصفات الأزلية قائمة بذات الباري تعالى ليس يعني بالقيام ما عنيتم ولا أطلق أنها بحيث هو كما أطلقتم بل يعني بالقيام وصف الباري سبحانه وتعالى بها والوصف من حيث هو وصف لا يقتضي أن يكون الموصوف بحيز وجهة ، ثم الحكم للوصف بأنه معنى موجود أو حال فهو بمعنى آخر وإلا فمجرد الوصف والصفة من حيث هو وصف لا يقتضي ذلك ، ثم إطلاق لفظ الحيث أيضا قد اتسع حتى يقال هذا في العرض من حيث هو موجود له حكم ومن حيث هو عرض له حكم وليس يعني بإطلاق لفظ الحيث إلا الاعتبار العقلي والوجوه العقلية والحاصل في هذا السؤال أن الألفاظ التي أوردوها كلها مشتركة ، ولفظ القائم بالذات والقائم بالغير (١) ، ولفظ الدخول والخروج ولفظ الحيث والجهة وبالجملة فليعلم أن جهات الأجسام من أحكام النهايات في الأجسام حتى لو قدر مقدر جسما غير متناه بالفعل لم يكن للجهات معنى فلا يكون فوق وتحت ويمين ويسار وقدام وخلف ، ولذلك تتحقق إليها الإشارة ولذواتها اختصاص وانفراد من جهة أخرى ، وإذا كانت الأجسام كرويّة أي مدورة فيكون تجدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط والفوق والسفل فيها على سبيل المركز والمحيط ، فإن قدر العالم كري الشكل إما تقديرا أوجد عليه حقيقة ،

__________________

(١) انظر : شرح العقيدة الطحاوية (ص ١٨٠) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٣٠٧) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ١١٢) ، ومنهاج السنة لابن تيمية (٢ / ٣٦٣ ، ٤٣٦ ، ٤٣٧) ، ومرهم العلل المضلة لليافعي (ص ٣١).

٦٨

وإما تقديرا يجوز أن يوجد عليه تصورا ، قيل : إن الباري سبحانه بجهة من العالم فيكون لا محالة محيطا بكل العالم ، وإلا فيخلو عن ذاته طرف من جهات الفوق وعندهم هو فوق العالم بأسره فهو خلف فيلزم عليه فوقا بالنسبة إلى من هو على الأرض على موازاة القطب الشمالي وتحت بالنسبة إلى من هو عليها على موازاة القطب الجنوبي بل يكون بعض منه فوقا وبعض منه تحتا وذلك محال ، وإما تعلق القلوب بالسماء ورفع الأيدي إليها والمعراج إليها فمقابل بتعلق الرءوس بالأرض وضع الأيدي عليها والنزول إليها بل العرش قبلة الدعاء والأرض مسجد الصلاة والكعبة وجهة الوجه وموضع السجود قبلة العين وأقرب ما يكون العبد من الرب إذا كان في السجود واسجد واقترب.

ومما أوجب التشبيه : قيام الحوادث بذاته سبحانه وقد ذهبت الكرامية إلى جواز ذلك ومن مذهبهم إنما يحدث من المحدثات فإنما يحدث بإحداث الباري سبحانه ، والإحداث عبارة عن صفات تحدث في ذاته من إرادة لتخصيص الفعل بالوجود ، ومن أقوال مرتبة من حروف مثل قوله كن وأما سائر الأقوال كالإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهم‌السلام والقصص والوعد والوعيد والأحكام والأوامر والنواهي والتسمعات للمسموعات والتبصرات للمبصرات فتحدث في ذاته بقدرته الأزلية وليست هي من الإحداث في شيء [وعلى طريقة] إنما الإحداث في الخلق على مذهب أكثرهم قول وإرادة والقول هما صورتان هما حرفان وعلى طريقة محمد بن الهيصم الإحداث إرادة وإيثار وذلك مشروط بالقول شرعا وجوز بعضهم تعلق إحداث واحد بمحدثين إذا كانا من جنس واحد ، وأكثرهم على أن لكل محدث إحداثا فيحدث في ذاته لكل محدث خمس صفات إرادة وكاف ونون وتسمع وتبصر وقد أثبتوا مشيئة قديمة تتعلق بالحادث والمحدث والإحداث والخلق ثم قالوا هذه الحوادث لا تصير صفات لله تعالى وإنما هو خالق بخالقيته لا بخلق مريد بإرادته ، لا بإرادة قائل بقائليته وهي واجبة البقاء ويستحيل عدمها بعد وجودها في ذاتها (١).

وللمتكلمين عليه طريقان في الكلام أحدهما البرهان والثاني المناقضة في الإلزام.

أما البرهان فنقول لو قامت الحوادث بذات الباري سبحانه وتعالى لاتصف بها بعد أن لم يتصف ، ولو اتصف لتغير والتغير دليل الحدوث إذ لا بدّ من مغير وتحقيق المقدمة الأولى أن معنى قيام الأعراض بمحالها كونها أوصافا لها كالعلم إذا قام بجوهر

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١١١).

٦٩

وصف الجوهر بأنه عالم وكذلك سائر المعاني والأعراض فليس ذلك كالوصف يكون الباري تعالى خالقا صانعا على مذهب من لم يفرق بين الخلق والمخلوق فإن المخلوق لا يقوم بذات الخالق والخلق قائم بذاته تعالى عندكم فيجب أن يكون وصفا له وكذلك يقال أراد فهو مريد بإرادة وقال فهو قابل بقول : وإذا تحقق كونه وصفا له بعد أن لم يكن موصوفا به فقد تحقق التغير والتغير خروج الشيء إلى غير ما كان عليه ولا يشترط فيه بطلان صفة وتجدد صفة فإنه إذا كان خاليا من صفات ، ثم اعتراه صفات فقد تغير عما كان عليه فليس للخصم اعتراض على هذه الطريقة إلا منع الاتصاف أو منع التغير وقد أثبتناهما ولكنه وضع لنفسه اصطلاحا في أحكام المعاني القائمة بالغير وميز بين حكم العلم والقدرة وهي العالمية والقادرية والمريدية وبين حكم الحركة والسكون القائمين بالجوهر وهو المتحركية والساكنية فإن كان هذا التميز غير مقبول عقلا فإن اتصاف المحال بالأوصاف الحادثة واتصاف الذات بالأوصاف من حيث إنها صفات وموصوفات ليس تختلف ولا تأثير القدم والحدوث فيها أصلا ، فإنه إن كان الوصف راجعا إلى القول واللسان فلا يختلف الحال بين وصف ووصف ، وإن كان الوصف راجعا إلى حقيقة في الموصوف يعبر عنها لسان الواصف فلا يختلف الحال بين حقيقة وحقيقة والمعنى إذا قام بذات أو محل صار وصفا وصفة لها ورجع حكمه إليه بالضرورة.

برهان آخر أوضح مما قد سبق وهو أن كل حادث يحتاج إلى محدث من حيث إنه كان في نفسه وباعتبار ذاته جائز الوجود والعدم فلما ترجح جانب الوجود على العدم احتاج إلى مرجح بالضرورة ثم ذلك المرجح إن كان حادثا احتاج إلى مرجح ثم يتسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له وجهة الاحتياج لا يختلف الحال فيها بين حادث في ذاته سبحانه وتعالى وبين محدث مباين ذاته فإنه إنما احتاج بجهة تردده بين طرفي جواز الوجود والعدم لا بجهة التباين وغير التباين وهذا قاطع لا اعتراض عليه.

ونقول : إن تصور وجود حادث لا بإحداث فإما أن يقال : يحدث ذلك الحادث بنفسه أو بقدرته أو بمشيئة قديمة.

فإن قيل : يحدث بنفسه فقد باهتوا العقل الصريح بضرورة حكمه بأن ما لم يكن فكان احتاج إلى محدث مكون.

فإن قيل : أحدث بقدرة ومشيئة فقد ناقضوا قضية العقل فإن ذلك الحادث إذا جاز أن يحدث بالقدرة فلم لا يجوز أن يحدث المحدثات كلها بقدرته ومشيئته ، إذ لا فرق في نظر العقل بين الحادث والمحدث من حيث إنه لم يكن فكان.

٧٠

والفرق بينهما من حيث اللغة : أن أحدهما لازم والثاني متعد لا ينتهض ، فرق من حيث العقل فإنا إذا قلنا : قام وقعد وجاء وذهب كان الحكم لازما والقيام والقعود والمجيء والذهاب فعله ومفعوله كما هو فعله والعقل لا يفرق بين فعل الإنسان شيئا في نفسه وبين فعله في غيره على مذهب من قال به ، ومن قال إن الفعل لا يباين محل القدرة فلم يفرق فيه بين الفعل والمفعول ولا متمسك في هذه المسألة إلا بأمر لغوي ولفظ اصطلاحي.

وقد ألزم عليه الفلسفي إلزاما لا محيص له عنه فقال : كل ذات لم يحدث فيها معنى ثم حدث فيها قبل الحدوث استعداد القبول وصلاحيته وقوته ثم إذا حدث فيها القبول تبدل الاستعداد بالوجود والصلاحية بالحصول والقوة بالفعل ويلزم أن يكون في ذاته معنى ما بالقوة ثم معنى ما بالفعل وذلك بعينه هو الهيولي والصورة ، وقد أثبتوا لله سبحانه وتعالى قبل خلق العالم خصائص الهيولي وهي طبائع عدمية ، فإن الاستعداد والصلاحية عدم شيء من إثباته أن يكون شيئا وواجب الوجود لذاته منزه عن طبيعة الإمكان والعدم اللذان هما منبع الشر.

وأما طرق الإلزام عليهم : فمنها إن قالوا قول الله سبحانه وتعالى وإرادته من جنس قولنا وإرادتنا ثم لقوله وإرادته مفعولات مثل العالم بما فيه من السموات والأرض فيلزم أن يحصل بإرادتنا وقولنا مثل ذلك فإن قوله كن كاف ونون من جنس أقوالنا من غير فرق.

فإن قيل : إنما حصل قوله بمباشرة قدرته وإرادته ومشيئته القديمة ، وقولنا : لم يحصل بهما وقوله في ذاته قول له لا لغيره وقد قصد به التكوين لا بغيره.

قيل له : إن كان هذا فرقا فلم يكن قوله إذا من جنس أقوالنا بل الحق أن القول إذا حدث بعد أن لم يكن فهو كقولنا الحادث بعد أن لم يكن ولم يكن لإضافته إلى القدرة أثر بعد الحدوث فإنه إنما أثر في حال الانفصال عن القدرة لا في حال تعلق القدرة به ، وإنما أثرت القدرة في حصول ذاته فقط لا في شيء آخر يحدث به ، وعن هذا لو أحدث قولا لنفسه في شجرة وقصد به التكوين لم يحصل به شيء ، فبطل قولهم إنما قصد به الإحداث وبطل ما اعتذروا به وحصل أن قوله لا ينبغي أن يوجد كقولنا أو قولنا يوجد كقوله إذ لا فرق بين قول وقول في الحدوث والحروف والأصوات والاحتياج إلى المحل بل قولنا أوكد فإنه إذا قام بمحل اتصف المحل به وتحققت له النسبة إلى المحل وعندكم قول الله سبحانه قائم به من غير أن تتصف به الذات ولم تتحقق له نسبة إلى الذات إلا مجرد الإضافة ، وقد انقطع حكمه عن القدرة القديمة فإنه إنما يوجد

٧١

بعد أن يحدث لا حال أن يحدث.

ومن الإلزامات : أن قوله كن لا يخلو إما أن يسبق أحد الحرفين على الثاني أو يتلازمان في الوجود ، أما في حال الوجود أو حال البقاء ، فإن سبق أحدهما وتلاه الثاني فإما أن يبقى الأول أو لم يبق ، فإن بقي مقولا مسموعا لم يكن كن بل الأول ما لم ينعدم لا يوجد الثاني حتى يكون مترتبا متعاقبا وإلا ، فالكاف المسموع مع النون دواما لا يتصور أصلا وإن لم يبق فقد انعدم وعندكم ما حل في ذاته تعالى لا يجوز عليه العدم ، وإن كانا يتلازمان في الوجود فقد أوجد أحدهما مع الثاني فليس الكاف بالتقديم أولى من النون وكذلك كل حرف يجب أن يسبق حرفا في القول والتكلم حتى يكون بترتبه وتعاقبه كلاما مسموعا (١).

ومن الإلزامات : إثبات أكوان حادثة مع الكون القديم وإثبات علوم حادثة مع العلم القديم كإثبات إرادة حادثة مع المشيئة القديمة وقد ذكر المتكلمون ذلك في كتبهم.

أما شبهة الكرامية أن قالوا سمع الباري سبحانه ما لم يسمع قبله ورأى ما لم ير قبله فيجب أن يحدث له تسمع وتبصر.

فقيل لهم أتقولون لم يكن الباري سبحانه سامعا للأصوات فصار سامعا لها ولا رائيا للمدركات فصار رائيا لها ولم يكن قائلا للأوامر والنواهي فصار قائلا ولم يرد وجود العالم في الوقت الذي سبق وجوده فصار مريدا في الوقت الذي أوجده فيدل كل ذلك على تجدد وصف له وإن لم تقولوا إنه صار سميعا بصيرا مريدا فقد تناقض قولكم إنه سمع ما لم يسمع ورأى ما لم ير وأراد ما لم يرد.

ثم الجواب الحقيقي قلنا قد جمعتم بين كلمتي نفي وإثبات في قولكم لم يكن كذا فصار كذا فلا النفي على أصلنا مسلم ولا الإثبات على أصلكم مذهب لكم فأما النفي على أصلنا فغير مسلم أنه لم يكن سميعا بصيرا بل هو بصير سميع أبدا وأزلا كما هو عليم قدير أبدا وأزلا وإنما التجدد يرجع إلى المدرك كما يرجع التجدد إلى المعلوم والمقدور فهو كقولكم لم يكن مستويا على العرش فصار مستويا ولم يكن بجهة فوق فصار بجهة فوق وبالاتفاق لم تحدث له صفة لم تكن بل النفي إنما يرجع إلى المدركات فنقول لم تكن المسموعات والمرئيات موجودة فيسمع ويرى فوجدت فتعلق بها السمع والبصر فكان التعلق مشروطا بالوجود لا بالمتعلق ورب تعلق شرط فيه الوجود والحياة والعقل والبلوغ ثم عدم الشرط لم يقتض عدم المتعلق.

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١١٠).

٧٢

أما الإثبات فعلى أصلكم لم يوصف الباري سبحانه بالحوادث في ذاته فكيف يصح على مذهبكم أنه صار سميعا بصيرا وإن التزمتم الاتصاف فقد سلمتم لنا المسألة فإن الاتصاف بصفة لم يكن قبل صريح التغيير والتغيير دليل الحدوث وهذه الحوادث باقيات على مذهبكم والمتعلقات فانية وإثبات صفة من الصفات المتعلقة يتأخر تعلقها أو متعلقها غير مستحيل كالعلم والقدرة والمشيئة أما إثبات صفة باقية يتقدم تعلقها أو متعلقها فهو مستحيل فإنه إذا أراد وجود العالم بإرادة حادثة في ذاته ووجد العالم وبقي وفني فهو مريد أبد الدهر وقائل كن أبد الدهر لشيء قد تكون وفني وسامع لصوت وحرف قد مضى وانقضى وبصير لجسم ولون قد انقرض في غاية الاستحالة.

ونقول هذه الحروف التي أثبتموها هي حروف مجردة من غير أصوات أم هي حروف هي تقطيع أصوات فإن أثبتموها حروفا من غير أصوات فهي غير مسموعة ولا هي معقولة فإن حقيقة الحرف تقطيع صوت والصوت بالنسبة إلى الحروف كالجنس بالنسبة إلى النوع والعرض بالنسبة إلى اللون فإن أثبتوا حروفا هي أصوات مقطعة فلا بد لها من اصطكاكات أجرام حتى يتحقق الصوت (١) ، فإن اصطكاك الأجرام كالنوع بالنسبة إلى الحركة والصوت كالنوع بالنسبة إلى الاصطكاك ولا بد من حركة حتى يتحقق اصطكاك أو تفكيك ، ولا بدّ من اصطكاك حتى يتحقق الصوت ، ولا بدّ من صوت حتى يتحقق حرف ، ولا بدّ من حرف حتى تتحقق كلمة ، ولا بدّ من كلمة حتى يتحقق قول تام ، ولا بدّ من قول حتى تتحقق قصة وحكاية فيلزم على ذلك أن يكون الباري جسما متحركا ذا اصطكاك في أجزاء جسمية ، ويتعالى الرب سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.

وقد تخطى بعض الكرامية إلى إثبات الجسمية : فقال أعني بها القيام بالنفس وذلك تلبيس على العقلاء وإلا فمذهب أستاذهم مع اعتقاد كونه محلا للحوادث قائلا بالأصوات مستويا على العرش استقرارا مختصا بجهة فوق مكانا واستعلاء فليس ينجيه من هذه المخازي تزويرات ابن هيصم (٢) ، فليس يريد بالجسمية القائم بالنفس ولا بالجهة الفوقية علاء ولا بالاستواء استيلاء وإنما هو إصلاح مذهب لا يقبل الإصلاح وإبرام معتقد لا يقبل الإبرام والإحكام وكيف استوى الظل والعود أعوج وكيف استوى المذهب وصاحب المقالة أهوج والله الموفق.

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٩٢).

(٢) انظر : الفرق بين الفرق (ص ٨٧) ، وأبو بهيس هيصم بن عامر ، وتنسب له البيهسية.

٧٣

القاعدة الخامسة

في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل

وقد قيل : إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى فمنها تعطيل الصنع عن الصانع ومنها تعطيل الصانع عن الصنع ، ومنها تعطيل الباري سبحانه عن الصفات الأزلية الذاتية القائمة بذاته ، ومنها تعطيل الباري سبحانه عن الصفات والأسماء أزلا ، ومنها تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها.

أما تعطيل العالم عن الصانع (١) العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد ، ولا أعرف عليه صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا : العالم كان في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة واصطكت اتفاقا فحصل عنها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع ، بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البحث والاتفاق احترازا عن التعليل ، فما عددت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان ، فإن الفطر السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على صانع حكيم عالم قدير (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ، وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [يونس : ٢٢] ، (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ

__________________

(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم لإبراهيم بن عيسى (٢ / ٢٤٠ ، ٢٤٣) ، ومنهاج السنة النبوية (١ / ٤١٠).

٧٤

تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع ، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (١) ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) [غافر : ١٢] الآية ، (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥] ، (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٤٦].

وقد سلك المتكلمون طريقين في إثبات الصانع تعالى وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع ، وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان ويدعي كل واحد في جهة الاستدلال ضرورة وبديهة.

وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج في ذاته إلى مدبر هو منتهى الحاجات ، فيرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث وعن هذا كانت تعريفاته الخلق سبحانه في هذا التنزيل على هذا المنهاج (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢] ، (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ) [الأنعام : ٦٣] ، (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [النمل : ٦٤] ، (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [النمل : ٦٤] ، وعن هذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله تعالى الخلق على معرفته فاحتالهم الشيطان عنها» (٢) فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاحتيال من الشياطين هو تسويله الاستغناء ونفي الاحتياج

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (١ / ١٥٣) (٢ / ٢٠٧) (٣ / ١٠٧٧) (٦ / ٢٦٥٧) ، ومسلم (١ / ٥١ ، ٥٣) (٤ / ١٨٧١) ، وأبو داود (٢ / ٩٣) (٣ / ٤٤ ، ٢٠٨) ، والترمذي (٥ / ٣ ، ٤٣٩) ، والدارمي (٢ / ٢٨٧) ، والنسائي (٦ / ٤ ، ٧) (٧ / ٧٦ ، ٧٨) ، وأحمد في المسند (١ / ١١ ، ١٩ ، ٣٥ ، ٤٧) (٢ / ٣١٤ ، ٣٤٥) ، والشافعي في مسنده (١ / ١٦٩ ، ٢٠٨).

(٢) أورده ابن القيم في شفاء العليل (ص ١٧٣ ، ٢٦١).

٧٥

والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويل الشيطان فإنهم الباقون على أصل الفطرة ، وما كان له عليهم من سلطان ، وقال : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْيَخْشى) [الأعلى : ٨ ، ٩] ، (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع ، فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ، ثم استبصر في آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ، ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] ، عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ، فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لا يتعطل عن الصانع الحكيم القادر العليم سبحانه وتقدس (١).

وأما تعطيل الصانع عن الصنع فقد ذهب وهم الدهرية القائلين بقدم العالم إلى أن الحكم بقدم العالم في الأزل تعطيل الصانع عن الصنع وقد سبق الرد عليهم بأن الإيجاد قد تحقق حيث تصور الإيجاد وحيث ما لم يتصور لم يكن تعطيلا وكما أن التعطيل ممتنع كذلك التعليل ممتنع وأنتم عللتم وجود العالم بوجوده وسميتم معبودكم علة ومبدئا وموجبا ، وذلك يؤدي إلى أمرين محالين أحدهما بثبوت المناسبة بين العلة والمعلول وقد سبق تقريره ، والثاني : أن العلة توجب معلولها لذاتها ، والقصد الأول وجود العالم من لوازم وجوده بالقصد الأول فإن العالي لا يريد أمرا لأجل الأسفل ، فبطل أيضا التعليل ، وهذا من الإلزامات المفحمة التي لا جواب عنها.

أما تعطيل الباري سبحانه عن الصفات الذاتية والمعنوية وعن الأسماء والأحكام ، فذلك مذهب الإلهيين من الفلاسفة ، فإنهم قالوا : واجب الوجود لذاته واحد من كل وجه فلا يجوز أن يكون لذاته مبادئ تجتمع فيتقدم واجب الوجود لا أجزاء كمية ولا أجزاء حد سواء كانت المادة والصورة أو كانت على وجه آخر بأن يكون أجزاء لقول الشارح لمعنى اسمه ويدل كل واحد منهما على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته وذلك لأن ما هذا صفته فذات كل واحد منه ليس ذات الآخر ولا ذات المجتمع ، وإنما تعينه واجب بالذات فليس يقتضي معنى آخر سوى وجوده ، وإن وصف بصفة

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١٦٦).

٧٦

فليس يقتضي ذلك معنى غير ذاته واعتبارا ووجها غير وجوده بل الصفات كلها إما إضافية كقولنا مبدئ العالم وعلة العقل كما تقولون خالق ورازق وإما سلبية كقولنا واحد أي ليس بمتكثر وعقل أي مجرد عن المادة وقد يكون تركيبه من إضافة وسلب كقولنا حكيم مريد ، وسيأتي شرح ذلك في كتاب الصفات فألزم عليهم مناقضات.

منها أنهم أطلقوا لفظ الوجود على الواجب بذاته وعلى الواجب لغيره شمولا وعموما على سبيل الاشتراك ثم خصصوا أحد الوجودين بالوجوب والثاني بالجواز ومن المعلوم أن الوجوب لم يدخل في معنى لوجود حتى يتصور الوجود فهذا إذا معنى آخر وراء الوجود والمعنيان إن اتحدا في الخارج من الذهن فقد تمايزا في العقل مثل العرضية واللونية وليس يغني عن هذا الإلزام قولهم إطلاق لفظ الوجوب على الواجب بذاته والجائز لذاته بالتشكيك أي هو في أحدهما أولى وأول وفي الثاني لا أولى ولا أول إذ الأولى والأول فصل آخر تميز به أحد الوجودين عن الثاني وذلك يؤكد الإلزام ولا يدفعه.

ومن الإلزامات كونه مبدئا وعلة وعاقلا ومعقولا فإن اعتبار كونه واجب الوجود لذاته لا يفيد اعتبار كونه مبدئا وعلة واعتبار كونه مبدئا وعلة لا يفيد اعتبار كونه عقلا وعاقلا ومعقولا فإن ساغ لكم الحكم بتكثير الاعتبارات ساغ للمتكلم إثبات الصفات وتعطيله عن الصفات تعطيل عن الاعتبارات وأما الباري ..... (١) عن الصفات ، والأسماء والأحكام أزلا وأبدا ، وما صار إليه صائر إلا شرذمة من قدماء الحكماء قالوا إن المبدع الأول آنية أزلية وهو قبل الإبداع عديم الاسم فلسنا ندرك له اسما في نحو ذاته وإنما أسماؤه من نحو آثاره وأفاعيله وأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات أي لا علم ولا معلوم وإنما العلم والمعلوم في المعلول الأول الذي هو العنصر فهم المعطلة حقا ونقل عن بعض الحكماء أنهم قالوا هو هو ولا نقول موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا مريد ولا كاره ولا متكلم ولا ساكت وكذلك سائر الأسماء والصفات وينسب هذا المذهب إلى الغالية من الشيعة والباطنية ولا شك أن من أثبت صانعا لم يكن له بد من عبارة عنه وذكر اسم له ثم الاشتراك في الأسامي ليس يوجب اشتراكا في المعاني فهؤلاء احترزوا عن إطلاق لفظ الوجود عليه وما أشبهه من الأسماء لأحد أمرين أحدهما لاعتقادهم أن الاشتراك في الاسم يوجب اشتراكا في المعنى فيتحقق له مثل ذلك الوجه ، والثاني لاعتقادهم أن كل اسم من الأسامي التي تطلق عليه يقابله اسم آخر تقابل التضاد مثل الموجود يقابله

__________________

(١) بياض بالأصل.

٧٧

المعدوم والعالم يقابله الجاهل والقادر يقابله العاجز فيتحقق له ضد من ذلك الوجه فاحترزوا عن إطلاق لفظ وجودي أو علمي لكيلا يقعوا في التمثيل والتعطيل ونحن نعلم بأن الأسامي المشتركة هي التي تختلف حقائقها من حيث المعاني فإن أسماء الباري تبارك وتعالى إنما تتلقى من السمع ، وقد ورد السمع أنه سبحانه عليم قدير حي قيوم سميع بصير لطيف خبير وأمرنا أن ندعوه عزوجل بأحسن الاسمين المتقابلين كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٨٠] ، ولم يحترز هذا الاحتراز البارد ولا تكلف هذا التكلف الشارد.

وقالت طائفة من الشيعة لا يجوز التعطيل من الأسماء الحسنى (١) ، ولا يجوز التشبيه بالصفات التي يشترك فيها الخلق فيطلق على الباري سبحانه الوجود وندعوه بأحسن الأسماء وهو العليم القدير السميع البصير إلى غير ذلك مما ورد في التنزيل لكن لا بمعنى الوصف والصفة لأن عليا عليه‌السلام كان يقول في توحيده لا يوصف بوصف ولا يحد بحد ولا يقدر بمقدار الذي كيف الكيف ولا يقال له كيف والذي أين الأين لا يقال له أين ، لكنا نطلق الأسماء بمعنى الإعطاء فهو موجود بمعنى أنه يعطي الوجود وقادر وعالم بمعنى أنه واهب العلم للعالمين والقدرة للقادرين حي بمعنى أنه يحيي الموتى قيوم بمعنى أنه يقيم العالم سميع بصير أي خالق السمع والبصر ولا نقول إنه عالم لذاته أو بعلم بل هو إله العالمين بالذات والعالمين بالعلم وعلى هذا المنهاج يسلكون في إطلاق الأسامي ، وكذلك الواحد والعليم والقدير وينسب إلى محمد بن علي الباقر أنه قال هل سمي عالما إلا لأنه واهب العلم للعالمين وهل سمي قادرا إلا لأنه واهب القدرة للقادرين وليس هذا قولا بالتعطيل فإنه لم يمنع من إطلاق الأسامي والصفات كمن امتنع وقال ليس بمعدوم ولا موجود ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولكنه استدل بالقدرة في القادرين على أنه قادر وبالعلم في العالمين على أنه عالم وبالحياة في الأحياء على أنه حي قيوم واقتصر على ذلك من غير خوض في الصفات بأنها لذاته أو لمعاني قائمة بذاته كيلا يكون متصرفا في جلاله بفكره العقلي وخياله الوهمي وقد اجتمع السلف بل الأمة على أن ما دار في الوهم أو خطر في الخيال والفهم فالله سبحانه خالقه ومبدعه ولا محمل لقول علي صلوات الله عليه وسلامه لا يوصف بوصف إلا هذا الذي ذكرناه.

__________________

(١) انظر : منهاج السنة لابن تيمية (٢ / ٢٤٣) ، وشرح قصيدة ابن قيم (٢ / ١٢٥ ، ١٢٧).

٧٨

القاعدة السادسة

في الأحوال (١)

اعلم أن المتكلمين قد اختلفوا في الأحوال نفيا وإثباتا بعد أن أحدث أبو هاشم بن الجبائي رأيه فيها وما كانت المسألة مذكورة قبله أصلا فأثبتها أبو هاشم ونفاها أبوه الجبائي وأثبتها القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه‌الله بعد ترديد الرأي فيها على قاعدة غير ما ذهب إليه ونفاها صاحب مذهبه الشيخ أبو الحسن الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم وكان إمام الحرمين من المثبتين في الأول والنافين في الآخر ، والأحرى بنا أن نبين أولا : ما الحال التي توارد عليها النفي والإثبات ، وما مذهب المثبتين فيها ، وما مذهب النافين ، ثم نتكلم في أدلة الفريقين ، ونشير إلى مصدر القولين وصوابهما من وجه وخطئهما من وجه.

أما بيان الحال وما هو : اعلم أنه ليس للحال حد حقيقي يذكر حتى نعرفها بحدها وحقيقتها على وجه يشمل جميع الأحوال ، فإنه يؤدي إلى إثبات الحال للحال بل لها ضابط وحاصر بالقسمة وهي تنقسم إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل وما يعلل فهي أحكام لمعان قائمة بذوات وما لا يعلل فهو صفات ليس أحكاما للمعاني.

أما الأول : فكل حكم لعلة قامت بذات يشترط في ثبوتها الحياة عند أبي هاشم ككون الحي حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا لأن كونه حيا عالما يعلل بالحياة والعلم في الشاهد فتقوم الحياة بمحل وتوجب كون المحل حيا وكذلك العلم والقدرة والإرادة وكل ما يشترط في ثبوته الحياة وتسمى هذه الأحكام أحوالا وهي صفات زائدة على المعاني التي أوجبتها وعند القاضي رحمه‌الله كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط ككون الحي حيا وعالما وقادرا وكون المتحرك متحركا والساكن ساكنا والأسود والأبيض إلى غير ذلك ولابن الجبائي في المتحرك اختلاف رأي وربما يطرد ذلك في الأكوان كلها ولما كانت البنية عنده شرطا في المعاني التي تشترط في ثبوتها الحياة وكانت البينة في أجزائها

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٣٦) ، والتعريف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي (ص ٨٩ ، ١١١) وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ٥٣٣) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٢٣٥ ، ٢٤٥) ، والغنية في أصول الدين لأبي سعيد النيسابوري (ص ١٠٧) ، والرد على القائلين بوحدة الوجود للقارئ (ص ٨٥) ، ونعمة الذريعة في نصرة الشريعة (ص ٧٣).

٧٩

في حكم محل واحد فتوصف بالحال ، وعند القاضي أبي بكر رحمه‌الله لا يوصف بالحال إلا الجزء الذي قام به المعنى فقط وأما القسم الثاني فهو كل صفة إثبات لذات من غير علة زائدة على الذات كتحيز الجوهر وكونه موجودا وكون العرض عرضا ولونا وسوادا والضابط أن كل موجود له خاصية يتميز بها عن غيره فإنما يتميز بخاصية هي حال ، وما تتماثل المتماثلات به وتختلف المختلفات فيه فهو حال وهي التي تسمى صفات الأجناس والأنواع والأحوال عند المثبتين ليست موجودة ولا معدومة ولا هي أشياء ولا توصف بصفة ما وعند ابن الجبائي ليست هي معلومة على حيالها وإنما تعلم مع الذات ، وأما نفاة الأحوال فعندهم الأشياء تختلف وتتماثل لذواتها المعينة ، وأما أسماء الأجناس والأنواع فيرجع عمومها إلى الألفاظ الدالة عليها فقط وكذلك خصوصها وقد يعلم الشيء من وجه ويجهل من وجه والوجوه اعتبارات لا ترجع إلى صفات هي أحوال تختص بالذوات وهذا تقرير مذهب الفريقين في تعريف الحال.

أما أدلة الفريقين فقال المثبتون : العقل يقضي ضرورة أن السواد والبياض يشتركان في قضية وهي اللونية والعرضية ويفترقان في قضية وهي السوادية والبياضية فما به الاشتراك غير ما به الافتراق أو غيره فالأول سفسطة والثاني تسليم المسألة.

وقال النفاة : السواد والبياض المعنيان قط لا يشتركان في شيء هو كالصفة لهما بل يشتركان في شيء هو اللفظ الدال على الجنسية والنوعية والعموم والاشتراك فيه ليس يرجع إلى صفة هي حال للسواد والبياض ، فإن حالتي العرضين يشتركان في الحالية ، ولا يقتضي ذلك الاشتراك ثبوت حال للحال فإنه يؤدي إلى التسلسل فالعموم كالعموم والخصوص كالخصوص (١).

قال المثبتون : الاشتراك والافتراق قضية عقلية وراء اللفظ ، وإنما صيغ اللفظ على وفق ذلك ومطابقته ونحن إنما تمسكنا بالقضايا العقلية دون الألفاظ الوضعية ومن اعتقد أن العموم والخصوص يرجعان إلى اللفظ المجرد فقد أنكر الحدود العقلية للأشياء والأدلة القطعية على المدلولات والأشياء لو كانت تتمايز بذواتها ووجودها بطل القول بالقضايا العقلية ، وحسم باب الاستدلال بشيء أولى على شيء مكتسب متحصل وما لم يدرج في الأدلة العقلية عموما عقليا لم يصل إلى العلم بالمدلول قط وما لم يتحقق في الحد شمولا بجميع المحدودات لم يصل إلى العلم بالمحدود.

__________________

(١) انظر : غاية المرام (ص ٣٥ ، ٥٠) ، ومقالات الإسلاميين (ص ٣٧٢) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ٢٠٢) ، والمواقف للإيجي (١ / ٤١٠ ، ٤١٥).

٨٠