نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

سؤالان ومنها على المعتزلة آخران ومنها سؤال على جميع المتكلمين.

أما السؤال الأول فقالوا أنتم إذا نفيتم الحال وقلتم الأشياء في حقائقها تتمايز بذواتها ووجودها فكيف يستمر لكم الجمع بين الشاهد والغائب. الثاني : أنكم ما أثبتم في الشاهد فاعلا موجدا على الحقيقة وإن أثبتم فاعلا مكتسبا فكيف يستمر لكم الجمع بين ما لم يتصور منه الإيجاد وبين ما لم يتصور منه الاكتساب.

أجاب الأصحاب عن السؤال الأول : بأنا وإن نفينا الحال صفة ثابتة لعين مشار إليها لم ننف الوجوه والاعتبارات العقلية جمعا بين الشاهد والغائب بالعلة والمعلول والدليل والمدلول وغير ذلك فإن العقل إذا وقف على المعنى الذي لأجله صح الفعل من الفاعل في الشاهد حكم على كل فاعل كذلك.

وأما الثاني : فإنا وإن لم نثبت إيجادا وإبداعا في الشاهد إلا أنا نحس في أنفسنا تيسرا وتأتيا وتمكنا من الفعل وبذلك الوجه امتازت حركة المرتعش عن حركة المختار وهذا أمر ضروري ، ثم وجه تأثير القدرة في المقدور أهو إيجاد أم اكتساب نظر ثان ، ونحن بهذا الوجه جمعنا لا بذلك الوجه الذي فرقتم.

أما السؤال على المعتزلة قالوا : من أثبت الحال منكم لم يثبت للفعل أثرا من الفاعل إلا حالا لا توصف بالوجود والعدم والقادرية أيضا عندكم حال فكيف أوجدت حالة حالة.

والثاني : إنكم أثبتم تأثيرا للقدرة الحادثة في الإيجاد وما أثبتم للقدرة في الغائب إلا حالا فما أنكرتم أن المصحح للإيجاد هو كونه قدرة لا كونه قادرا فما حصل في الشاهد لم يوجد في الغائب وما ثبت في الغائب لم يثبت في الشاهد ثم أثبتم تأثيرا في إيجاد حركات دون الألوان والأجسام فإن جمعتم بين الشاهد والغائب بمجرد الحدوث فقولوا : إن القدرة الحادثة تصلح لإيجاد كل موجود وإن تقاصرت القدرة في الشاهد حتى لم يجمع بين محدث ومحدث في الشاهد فكيف يصح الجمع بين محدث في الشاهد ومحدث في الغائب.

وأما السؤال على الفريقين قالوا : هذا تمسك باستقراء الحال وهو فاسد من وجوه كثيرة منها : إنكم وجدتم في بعض الفاعلين أن البناء يدل على الباني وقلتم سبرنا صفات الباني فعثرنا على كونه قادرا فما أنكرتم أن بانيا يصدر عنه البناء ويكون حكمه على خلاف هذا الباني حتى لا يستدعي كونه قادرا كما أنكم ما رأيتم بانيا إلا بآلة وأداة فلو حكمتم على كل بان بآلة وأداة كان الحكم فاسدا كذلك في كونه قادرا أو ذا قدرة أليست المعتزلة تخالفكم في القدرة والعلم والإرادة وأنتم تقولون البناء يدل

١٠١

على كون الباني ذا قدرة وعلم وإرادة ثم لم تطردوا هذا الحكم غائبا فإذا يلزمكم دليل مستأنف في حق الغائب ولا يغنيكم دعوى الضرورة في هذا الجمع فأنتم معاشر المعتزلة يلزمكم في استقرائكم الشاهد كون الصانع ذا قدرة وعلم وإرادة وأنتم معاشر الأشاعرة يلزمكم في استقرائكم الشاهد كون الصانع ذا بنية وآلة وأداة وبالجملة الاستقراء ليس يوجب علما وإن ادعيتم الضرورة فما بالكم شرعتم في الدليل.

قال القاضي أبو بكر رحمه‌الله إذا كنا نعود في آخر الاستدلال بعد السبر والتقسيم والترديد والتحويم إلى دعوى الضرورة فما بالنا لم ندع البديهة والضرورة في الابتداء.

فنقول إذا أحاط المرء علما ببدائع الصنع وعجائب الخلق من سير المتحركات على نظام وترتيب وثبات الساكنات على قوام وتسديد وحصول الكائنات بين المتحركات والساكنات فمن جماد ونبات ومن حيوان ومن إنسان وكل بإحكام وإتقان عرف يقينا أن الصانع عالم حكيم قادر مريد ومن استراب عن ذلك كان عن العقل خارجا وفي تيه الجهل والجا ولسنا نحتاج في ذلك إلى إثبات فعل في الشاهد ثم طرد ذلك في الغائب بل الغائب شاهد والعقل رائد والبصر ناقد ومن حاول الاستدلال في مناهج الضروريات عمي من حيث يبصر وجهل من حيث يستبصر.

وأجاب إمام الحرمين عن سؤال الاستقراء بأن قال : نحن لم نستقر الحال في الشاهد ولا نحكم على الغائب بحكم الشاهد لكنا نقول قام الدليل على حدوث العالم واحتياجه من حيث إمكانه إلى مرجح لأحد طرفي الإمكان والمرجح إما أن يرجح بذاته ولذاته أو بذاته على صفة أو بصفة وراء الذات واستحال الترجيح والتخصيص بالوجود بالذات من حيث هو ذات لأن الموجب بالذات لا يخصص مثلا عن مثل فإن نسبة الذات إلى هذا المثل كنسبته إلى المثل الثاني فيجب أن يكون بصفة وراء الذات أو بذات على صفة ، وقد ورد التنزيل والشرع بتسمية تلك الصفة التي يتأتى بها التخصيص إرادة ثم الإرادة تخصص ، ولا توقع فالصفة التي يتأتى بها الإيقاع والإيجاد هي القدرة والفعل إذا اشتمل على إتقان وإحكام وجب بالضرورة كون الصانع عالما والإرادة أيضا لا تتعلق بشيء إلا بعد أن يكون المريد عالما وهذه الصفات تستدعي في ثبوتها الحياة فوجب أن يكون الصانع حيا وقد نازعوه في تماثل الأشكال وتشابه الأمثال ، وذلك عناد وجدال لكن الخصم يقول نسبة الصنع عندنا إلى الذات كنسبته إلى الإرادة والقدرة عندكم ، فإن الإرادة عندكم واحدة وهي في ذاتها صفة صالحة يتأتى بها التخصيص مطلقا ونسبتها إلى هذا المثل كنسبتها إلى مثل آخر وكذلك القدرة ولأنهما لا يتعلقان بالمرادات والمقدورات قبل الإيجاد فما الموجب لتخصيص حال

١٠٢

الوجود بالإيقاع ونسبة الإرادة والقدرة إلى هذه الحال كنسبتها إلى حال أخرى فجوابكم عن تعلق الصفات بالمتعلقات إيجادا هو جوابنا عن نسبة الذات إلى الموجبات إيجابا والسؤال مشكل ، وقد أشرنا إلى حل الإشكال في حدث العالم وربما يقول الخصم ألستم رددتم معنى كونه حكيما إلى كونه مريدا أو فاعلا على مقتضى العلم ورد الكعبي كونه مريدا إلى كونه قادرا عالما ورد أبو الحسين البصري جملة الصفات إلى كونه قادرا عالما على رأي وإلى كونه قادرا على رأي وإلى كونه عالما على رأي فنحن رددنا جملة الصفات إلى كونه ذاتا واجبة الوجود على جلال وكمال تصدر منه الموجودات على أحسن نظام وأتقن إحكام ثم يشتق له اسم من نحو إيثاره لذاته أو اسم لذاته أو اسم من حيث تقدسه عن سمات مخلوقاته ويسمى الأول أسماء إضافية كالعلة والمبدأ والصانع ويسمى الثاني أسماء سلبية كالواحد والعقل والعاقل والجواب وأشتهي أن تجري في هذه الأسامي مباحثة عقلية للإنصاف والانتصاف.

فأقول العلة والمبدأ عندكم يقال على كل ما استمر له وجود في ذاته ثم حصل منه وجود شيء آخر ويقوم به وقد يكون الشيء علة للشيء بالذات وقد يكون بالعرض وقد تكون علة قريبة وقد تكون علة بعيدة وواجب الوجود لذاته تام الوجود في ذاته وحصل منه العقل الأول أهو علة له بالذات أم بالعرض فإن كان علة له بالذات لا بالعرض فهو مبدأ له بالقصد الأول لا بالقصد الثاني ولم يكن واجب الوجود غنيا مطلقا بل فقيرا محتاجا إلى كسب ولم يكن كاملا مطلقا بذاته لو لا معلوله؟ بل كاملا بغيره ناقصا باعتبار ذاته كيف وهم يأبون أن يكون المعلول الأول وسائر الموجودات إلا من لوازم تعلقه بذاته فلا يكون توجيه واجب الوجود الأزلي إلا إلى ذاته على سبيل الاستغناء المطلق عن الكل ووجوه سائر الموجودات إليه على سبيل احتياج الكل إليه وإن قالوا هو علة بالعرض لا بالذات مبدأ بالقصد الثاني لا بالقصد الأول قلنا فما لم تكن العلة علة لشيء بالذات لا تكون علة لشيء آخر بالعرض وما لم يكن مبدأ الشيء بالقصد الأول لا يكون مبدأ الشيء بالقصد الثاني فيلزم ما لزم في الأول فيبطل إطلاق لفظ العلة والمبدأ عليه.

ونقول أيضا كونه مبدأ وعلة لم يدخل في مفهوم كونه واجبا بذاته فإن مفهوم أنه علة أمر إضافي ومفهوم أنه واجب بذاته أمر سلبي وقد تمايز الأمران والمفهومان ويدل كل واحد منهما على غير ما دل عليه الثاني فمن أين يصح لكم رد المعاني إلى أمر واحد وهو الذات فتمايز المفهومات والاعتبارات عندكم وتمايز الأحوال عند أبي هاشم وتمايز الصفات عند أبي الحسن على وتيرة واحدة وكلكم يشير إلى مدلولات مختلفة الخواص والحقائق واعتذاركم أن كثرة اللوازم والسلوب والإضافات لا تقتضي كثرة في صفات

١٠٣

الذات واستشهادكم بالقرب والبعد لا يغني عن هذا الإلزام فإنا نلزمكم تمايز الوجوه والاعتبارات بين الإضافي والسلبي إذ من المعلوم كونه علة ومبدأ للمعلول الأول أمر أو حال سلبي وليس يوجب المعلول من حيث أنه انتفى عن الكثرة وليس كونه مسلوب الكثرة عنه موجبا للمعلول ولا يلزم وجوده شيء من حيث يسلب عنه شيء ولا يسلب عنه شيء من حيث يلزم وجوده شيء ويخالف ما نحن فيه حال القرب والبعد بالإضافة إلى شيء دون شيء فإن قرب الجوهر من جوهر قد يكون من باب الإضافة وقد يكون من باب الوضع وقد يكون من باب الأين لكن لفظ القرب والبعد يطلق على كل جوهرين تقاربا أو تباعدا بمقدار ما والمقادير بينهما لا تنحصر في حد فقيل فعند ذلك تختلف بالنسب والإضافات وهي لا تنحصر فلو قلنا إنهما أمران زائدان على وجودهما أدى ذلك إلى إثبات أعراض لا تتناهى لجوهرين متناهيين لكن ما فيه القرب والبعد متناهيين أعني الأين والوضع والإضافة فهي أمور زائدة على ذاتي الجوهرين فعرف أن المثال الذي تمثلوا به لازم عليهم.

على أنا نقول : ألستم أثبتم الإضافة معنى وعرضا زائدا على الجوهر ، فأفيدونا فرقا معقولا بين إضافة الأب إلى الابن وبين إضافة العلة إلى المعلول ، فإن الإضافة هي : المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره مثل الأبوة بالقياس إلى البنوة لا كالأب فإن له وجودا كالإنسانية وكونه مصدرا ومبدأ هو المعنى الذي وجوده بالقياس إلى المعلول وليس له وجود غيره وكذلك كل علة ومعلول سوى العلة الأولى فتعرض له هذا المعنى وهو هذا المعنى بعينه ثم حكمتم بأن الأبوة معنى هو عرض زائد فهلا حكمتم بأن العلية معنى هو عرض زائد حتى يلزم أن يكون الإيجاب بالذات نوع ولادة.

وكثيرا ما دار في خيالي وخاطري أن الذي اعتقدوه النصارى من الأب والابن هو بعينه ما قدّره الفلاسفة من الموجب والموجب والعلة والمعلول (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ـ ٩٢] ، فهو تعالى لم يوجب ولم يوجب ولم يلد ولم يولد وإنما نسبة الكل إليه نسبة العبودية إلى الربوبية ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم: ٩٣] ، وهو رب كل شيء ومبدعه وإله كل موجود وفاطره جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره.

١٠٤

القاعدة التاسعة

في إثبات العلم بالصفات الأزلية

صارت المعتزلة إلى أن الباري تعالى حي عالم قادر لذاته لا بعلم ، وقدرة وحياة واختلفوا في كونه سميعا بصيرا مريدا متكلما على طرق مختلفة كما سنوردها مسائل أفراد إن شاء الله ، وأبو الهذيل العلاف (١) انتهج مناهج الفلاسفة فقال الباري تعالى عالم بعلم هو نفسه ولكن لا يقال نفسه علم كما قالت الفلاسفة عاقل وعقل ومعقول (٢).

ثم اختلفت المعتزلة في أن أحكام الذات هل هي أحوال الذات أم وجوه واعتبارات فقال أكثرهم : هي أسماء وأحكام للذات وليست أحوال وصفات كما في الشاهد من صفات الذاتية للجوهر والصفات التابعة للحدوث.

وقال أبو هاشم : هي أحوال ثابتة للذات وأثبت حالة أخرى توجب هذه الأحوال.

وقالت الصفاتية من الأشعرية والسلف : إن الباري تعالى عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة سميع بسمع بصير ببصر مريد بإرادة متكلم بكلام باق ببقاء وهذه الصفات زائدة على ذاته سبحانه وهي صفات موجودة أزلية ومعان قائمة بذاته.

وحقيقة الإلهية هي : أن تكون ذات أزلية موصوفة بتلك الصفات وزاد بعض السلف قديم بقدم كريم بكرم جواد بجود إلى أن عد عبد الله بن سعيد الكلابي خمس عشرة صفة على غير فرق بين صفات الذات وصفات الأفعال.

قالت الفلاسفة : واجب الوجود بذاته لن يتصور إلا واحدا من كل وجه فلا صفة ولا حال ولا اعتبار ولا حيث ولا وجه لذات واجب الوجود بحيث يكون أحد الوجهين والاعتبارين غير الآخر أو يدل لفظ على شيء هو غير الآخر بذاته ، ولا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له لعينه ولا يشاركه شيء ما صفة كانت أو موصوفا في وجوب الوجود والأزلية ، ولا ينقسم هو ولا يتكثر لا بالكم ولا بالمبادئ المقومة ولا بأجزاء الحقيقة والحد تعم له صفات سلبية

__________________

(١) هو أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولى عبد القيس ، بصري أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم ، الفصل لابن حزم (٤ / ١٤٦).

(٢) انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ٣٢٣) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ١٧٤ ، ٤٩٦) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (٢ / ٩٩) ، والتمهيد للباقلاني (٢٣٩ ، ٢٤٠).

١٠٥

مثل تقدسه عن الكثرة من كل وجه فيسمى لذلك واحدا حقا أحدا صمدا ومثل تنزهه عن المادة وتجرده عن طبيعة الإمكان والعدم يسمى لذلك عقلا وواجبا وله صفات إضافية مثل كونه صانعا مبدعا حكيما قديرا جوادا كريما ، وصفات مركبة من سلب وإضافة مثل كونه مريدا أي هو مع عقليته ووجوبه بذاته مبدأ لنظام الخير كله من غير كراهية لما يصدر عنه وجوادا أي هو بهذه الصفة وزيادة سلب أي لا ينحو أعراضا لذاته وأولا أي هو مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجود الكل إليه وصفاته عندهم إما سلبية محضة وإما مؤلفة من سلب وإضافة والسلوب والإضافات لا توجب كثرة في الذات.

ونحن نسلك منهاجا في إنهاء كلام كل صاحب مذهب نهايته على سبيل المناظرة والمباحثة فتظهر مزلة الأقدام ومضلة الأوهام ويلوح الحق من وراء ستر رقيق على أوضح تحقيق وتدقيق.

قالت الصفاتية : ونحن نعتبر الغائب بالشاهد بجوامع أربعة وهي العلة والشرط والدليل والحد أما العلة فنقول قد ثبت كون العالم عالما شاهدا معلل بالعلم والعلة العقلية مع معلولها يتلازمان ولا يجوز تقدير واحد منهما دون الآخر فلو جاز تقدير العالم عالما دون العلم لجاز تقدير العلم من غير أن يتصف محله بكونه عالما فاقتضى الوصف الصفة كاقتضاء الصفة الوصف فمن ثبت له هذه الصفات وجب وصفه بها كذلك إذا وجب وصفه بها وجب إثبات الصفة له ثم عضدوا كلامهم بالإرادة والكلام فإنه لما ثبت له الإرادة والكلام كان مريدا متكلما فلما ثبت كونه مريدا متكلما وجب له الإرادة والكلام فإن العلم ..... (١) لا يختلفان في العلية والمعلولية وإن كانا يختلفان عندهم في القدم والحدوث.

قالت المعتزلة : تعليل الأحكام بالعلل نوع احتياج إلى العلل وذلك لا يتحقق إلا إذا كان الحكم جائز الوجود وجائز العدم فيعلل الحكم بجوازه في الشاهد وكون الباري تعالى عالما واجب وهو مقدس عن الاحتياج إلى التعليل فلا يعلل الحكم لوجوبه في الغائب أليس كل حكم واجب في الشاهد غير معلل أصلا مثل تحيز الجوهر وقبوله للعرض ومثل قيام العرض بالجواهر واحتياجه إلى المحل إلى غير ذلك وخرجوا عن هذه القاعدة كونه مريدا فإنه لما لم يكن واجبا كان معللا وهذا كله لأن الواجب يستقل بوجوبه عن الافتقار إلى العلة وإنما الجائز لما لم يستقل بنفسه أعني أحد طرفي جوازه احتاج إلى علة أما اختيار مختار وأما إيجاب علة فوجود العلم في العالم شاهدا

__________________

(١) غير واضح بالأصل.

١٠٦

لما كان جائزا احتاج إلى اختيار مختار يوجده وثبوت حكم العلة في الشاهد لما كان جائزا احتاج إلى علة توجبه وهي العلم أليس وجود القديم لما كان واجبا لم يعلل وجود الحادث لما كان جائزا علل.

قال الصفاتية بم تنكرون على من يعلل الأحكام الجائزة بالعلل الجائزة والأحكام الواجبة بالعلل الواجبة فلا الاحتياج والافتقار غير موجب للتعليل ولا الاستقلال ولا الاستغناء مانع من التعليل لأنا لسنا نعني بالتعليل الإيجاد والإبداع حتى يستدعيه الجواز والاحتياج ويمنعه الوجوب والاستغناء لكنا نعني بالتعليل الاقتضاء العقلي والتلازم الحقيقي بشرط أن يكون أحدهما ملتزما والآخر ملتزما والوجوب والجواز لا أثر لهما في منع الاقتضاء والتلازم فلا يمتنع عقلا تعليل الواجب بالواجب وتعليل الجائز بالجائز وزادوا على ذلك تحقيقا.

فقالوا نحن لا نحكم على الأحكام من حيث إنها أحكام بأنها جائزة فإنها على مذهب مثبتي الأحوال صفات لا توصف بالوجود والعدم ولا ذات لها على الانفراد حتى يقال هي جائزة أو واجبة وعلى مذهب النفاة عبارات عن اختصاصات المعاني بالمحال بحيث يعبر عنها بالأسامي وهي على المذهبين لا يطلق عليها الجواز والوجوب من حيث هي أحكام بل الوجوب إليها أقرب فإنها بالنسبة إلى عللها واجبة سواء قدرت قديمة أو حادثة فكون العالم عالما بعد قيام العلم بالمحل ليس بجائز بل واجب لأنه من حيث هو حكم العلم لا ذات له فلا يتطرق إليه الجواز والإمكان ومن حيث هو حكم العلم يتطرق إلى ذي العلم الجواز إذ يجوز أن يكون ذا علم ويجوز أن لا يكون والجواز من هذا الوجه لا يعلل البتة بل ينسب إلى الفاعل حتى يخصص بأحد طرفي الجواز فهو إذا من حيث إنه جائز لا يعلل بعلة ولو وجب تعليل كل جائز بعلة وتلك العلة أيضا تعلل بعلة فيؤدي إلى ما لا نهاية له ولست أقول لا ينسب إلى فاعل وأن نسبة الجائز في أن يوجد إلى فاعل ليس كنسبة العالمية في أن توجب إلى علم فليفرق الفارق بين تعليل الأحكام بالعلل وبين تعلق المقدور بالقدرة فإن بينهما بونا عظيما وأمدا بعيدا فلا يجوز أن يقتبس حكم أحدهما من الآخر ولا أن يطرد حكم أحدهما في الثاني إلا أن يمنع مانع أصل التعليل ، ويرفع العلة والمعلول ولا نقول بهما في الشاهد والغائب وذلك كلام آخر ومن نفى الحال وكونها صفة ثابتة في الأعيان لم يصح إثبات العلة والمعلول على أصله تحقيقا فإنه لم يبق إلا عبارة أعيانا محضة أو وجه اعتبار عقلي فلا معنى لكون العالم عالما على أصله إلا أنه شيء ما له علم وليس العلم يوجب حكما زائدا على نفسه فيقال أي شيء يعني بكونه فاعله أهي مقتضية شيئا أم

١٠٧

غير مقتضية وإن اقتضت أهي تقتضي نفسها أم غيرها فإن اقتضت نفسها فذلك سفسطة وإن اقتضت غيرها أفهو موجود أو حال أو جهة لا توصف بالوجود والعدم والكلام على الأمرين ظاهر فقد تكلمنا على ذلك في مسألة الحال بما فيه مقنع ونقول هاهنا إن سلم مسلم كون العلم علة العالمية في الشاهد وألزم الطرد والعكس حتى إذا ثبت العلم وجب كون المحل عالما وإذا ثبت كون المحل عالما لزم وجود العلم.

أجاب بأن الطرد والعكس شاهدا وغائبا إنما يلزم بعد تماثل الحكمين من كل وجه لا من وجه دون وجه والخصم ليس يسلم تماثل الحكمين أعني عالمية الباري تعالى وعالمية العبد بل لا تماثل بينهما إلا في اسم مجرد وذلك أن العلمين إنما يتماثلان إذا تعلقا بمعلوم واحد والعالميتان كذلك ومن المعلوم الذي لا مرية فيه أن عالمية الغائب وعالمية الشاهد لا يتماثلان من كل وجه بل هما مختلفان من كل وجه فكيف يلزم الطرد والعكس والإلحاق والجمع أليس لو ألزم طرد حكم للعالمية في الغائب من تعلقها بمعلومات لا تتناهى وحكم القادرية في الغائب من صلاحية الإيجاد والتعلق بالمقدورات التي لا تتناهى إلى غاية حتى يحكم على ما في الشاهد بذلك لم يلزم فلذلك احتياج العالمية في الشاهد إلى علة لا يستدعي طرده في الغائب فإذا لا تعويل على الجمع بين الشاهد والغائب بطريق العلة والمعلول بل إن قام دليل في الغائب على أنه عالم بعلم قادر بقدرة فذلك الدليل مستقل بنفسه غير محتاج إلا ملاحظة جانب الشاهد.

ومن الجمع بين الشاهد والغائب الشرط والمشروط قالت الصفاتية : ألستم وافقتمونا على أن الشرط وجب طرده شاهدا وغائبا فإن كون العالم عالما لما كان مشروطه بكونه حيا في الشاهد وجب طرده في الغائب حتى إذا ثبت كونه حيا بهذا الطريق كذلك في العلم وأنتم ما فرقتم في الشرط بين الجائز والواجب لذلك يلزمكم في العلم أن لا تفرقوا في العلة بين الجائز والواجب وهذا لازم على المعتزلة غير أن لهم ولغيرهم طريقا آخر في إثبات كونه تعالى حيا بدون الشرط فإن الحياة بمجردها لم تكن شرطا في الشاهد ما لم ينضم إليها شرط آخر فإن البيّنة على أصلهم شرط في الشاهد ثم لم يجب طرده في الغائب وانتفاء الأضداد شرط حتى يتحقق العلم ويجوز أن يكون المعنى الواحد شرطا لمعان كثيرة ويجوز أن تكون شروط كثيرة لمعنى واحد وبهذا يتحقق التمايز بين الشرط والعلة فلا يلزم الشرط على القوم ولكن يلزم على كل من قال بالعلة والمعلول والشرط والمشروط سؤال التقدم والتأخر بالذات وإن كانا متلازمين في الوجود فإن العلة إنما صارت مقتضية للحكم لاستحقاقها التقدم عليه بذاته والمعلول إنما صار مقتضيا للعلة لاستحقاقه التأخر عنها بذاته وبهذا أمكنك أن

١٠٨

تقول إنما صار العالم عالما لقيام العلم به ولا يمكنك أن تقول إنما قام العلم به لكونه عالما ولو كان حكمهما في الذات حكما واحدا لم يثبت هذا الفرق وبمثل هذا نفرق بين القدرة الحادثة والمقدور فإن الاستطاعة وإن كانت مع الفعل وجودا إلا أنها قبل الفعل ذاتا واستحقاق وجود ولهذا أمكنك أن تقول حصل الفعل بالاستطاعة ولا يمكنك أن تقول حصلت الاستطاعة بالفعل وهذا قولنا في الشرط والمشروط فإن المحل يجب أن يكون حيا أولا حتى يقوم العلم به والقدرة ولا يمكنك أن تقول العلم والقدرة أولا حتى يكون حيا وإلا فيرتفع التميز بين الشرط والمشروط.

ولا نظن أن هذا الفرق راجع إلى مجرد اللفظ فإن التفرقة المذكورة قضية عقلية وراء اللفظ ولا تظنن أيضا أنه راجع إلى تقديرنا الوهمي حيث يقدر استحقاق وجود لأحدهما دون الثاني وافتقار وجود أحدهما بالثاني فإن كل تقدير وهمي إذا لم يكن معقولا أمكن تبديله بغيره من التقديرات وهذا لا يمكن تبديله بل هذه قضية معقولة فيلزم على ذلك أحد أمرين أما إن يترك القول بالعلة والمعلول والشرط والمشروط رأسا ولا يطلق لفظ الإيجاب والاقتضاء على المعاني بل يقال معنى كون الشيء عالما قيام العلم به ومعنى قيام العلم به اتصاف محله به من غير فرق لكن يشتق له اسم من العلم فيقال عالم كما يشتق له اسم من الفعل فيقال فاعل وهذا أمر راجع إلى اللغة فحسب فلا اقتضاء ولا إيجاب ولا علة ولا معلول وهذا أهون الأمرين وأما أن يقضي بسبق العلم على العالمية وأن يكون الوجود بالعلم أولا وأولى منه بالعالمية ثم يحكم بسبق الذات على الصفات وأن يكون الوجود بالذات أولا أولى منه بالصفات من حيث أن الذات قائمة بذاتها والصفات قائمة بها حتى يكون الموصوف من حيث الذات أسبق على الصفة والصفة من حيث الإيجاب والاقتضاء أسبق على الموصوف وهذا أشنع الأمرين والاستخارة إلى الله سبحانه وتعالى وهو خير مخير (١).

ومن الجوامع بين الشاهد والغائب الحد والحقيقة جرى رسم المتكلمين بذكر الحد والحقيقة في هذا الموضع وقد اختلفوا في أن الحد عين المحدود أو غيره وإنه والحقيقة شيء واحد أم شيئان.

قال نفاة الأحوال إلى حد الشيء وحقيقته وذاته وعينه عبارات عن معبر واحد.

__________________

(١) انظر : الصواعق المرسلة لابن القيم (٤ / ١٣٢٧ ، ١٣٧٠) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص ٥٢٦) ، والفرق بين الفرق (ص ٩٦ ، ١٦٣ ، ١٨٢ ، ١٩٣ ، ٣٠٤) ، والملل والنحل للمصنف (ص ٨٦ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ١٠٨) ، وحجج القرآن للرازي (ص ٧ ، ٤٧).

١٠٩

وقال مثبتو الأحوال : إن الحد قول الحاد المبين عن الصفة التي تشترك فيها آحاد المحدود ، فإن المحدود عندهم يتميز عن غيره بخاصية شاملة لجميع آحاد المحدود ، وتلك الخاصية حال ويعبر عن تلك الحال بلفظ شامل دال عليه جامع مانع يجمع ما له من الخاصية ويمنع ما ليس له من خواص غيره ، ثم من الأشياء ما يحد ومنها ما لا يحد على أصلهم وأكثر حدود المتكلمين راجع إلى تبديل لفظ بلفظ أعرف منه وربما يكون مثله في الخفاء والجلاء وإنما أهل المنطق يبالغون في ذكر شروط الحد ويحققون في استيفاء جوانبه لفظا ومعنى غير أنهم إذا شرعوا في تحديد الأشياء وتحقيق ماهيتها يأتون بأبعد ما يأتي به المتكلمون كمن يتقن علم العروض ولا طبع له في الشعر أو كمن يكون له طبع ولا مادة له من النحو والأدب فيعود حسيرا ويصبح أسيرا ولعلهم معذورون لأن الظفر بالذاتيات المشتركة والذاتيات الخاصة عسير جدا.

فنقول في تحديد الحد وشرائطه : إن الحد ينقسم إلى ثلاثة معان : حد لفظي هو شرح الاسم المحض كمن يقول : حد الشيء هو الموجود والحركة هي النقلة والعلم هو المعرفة وليس يفيد ذلك إلا تبديل لفظ بما هو أوضح منه عند السائل على شرط أن يكون مطابقا له طردا وعكسا.

وحد رسمي : وهو تعريف الشيء بعوارضه ولوازمه كمن يقول حد الجوهر القائل للعرض وحد الجسم هو المتناهي في الجهات القابل للحركات ، وقد يفيد هذا القول نوع وقوف على الحقيقة من جهة اللوازم وقد لا يفيد.

وحد حقيقي : هو تعريف لحقيقة الشيء وخاصيته التي بها هو ما هو وإنما هو ما هو بذاتيات تعمه وغيره وبذاتيات تخصه والجمع والمنع إن أريد بهما هذان المعنيان فهو صحيح فيما يجمعه من الذاتيات العامة والخاصة وهو الجنس والفصل ، وما يمنع غيره فيقع من لوازم الجمع والطرد والعكس يقع أيضا من اللوازم.

ومن شرائطه : أنه يجب أن يكون أعرف من المحدود ولا يكون مثله ولا دونه في الخفاء والجلاء وأن لا يعرف الشيء بما لا يعرف إلا به إلى غير ذلك فيما ذكر فإذا ثبت ما ذكرناه من تحديد الحد بعد التفصيل.

قال : من حاول الجمع بين الغائب والشاهد بالحد والحقيقة حد العالم في الشاهد أنه ذو العلم والقادر ذو القدرة والمريد ذو الإرادة فيجب طرد ذلك في الغائب والحقيقة لا تختلف شاهدا أو غائبا قيل له هذا تعريف الشيء بما هو دونه في الخفاء والجلاء فإن الإنسان ربما يعرف كون زيد متحركا ويشك في الحركة حتى يبرهن على ذلك وكذلك في جميع الأوصاف فكيف اقتبست معرفة الإجلاء من الإخفاء ، وأيضا

١١٠

فإن ذا الشيء قد يكون على سبيل الوصف والصفة وقد يكون على سبيل الفعل والمفعول وقد يكون على سبيل الملك والمملوك أليس روي في التنزيل (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) [غافر : ١٥] ثم العرش خلقه وملكه ، وليس صفة قائمة بذاته فما أنكرتم أن يكون معنى كونه ذا العلم والقدرة.

قال : قد يقتبس إثبات العلم والقدرة من كونه عالما وقادرا وقد يقتبس من كون الشيء معلوما ومقدورا.

فنقول : المتعلق بالمعلوم علم والمتعلق بالمقدور قدرة فإذا قام الدليل على كونه عالما بالمعلوم فيجب أن يكون عالما بالعلم.

ويحققه أن العلم إحاطة بالمعلوم ويستحيل أن تكون الذات محيطا أو متعلقا فيجب أن يكون للذات صفة إحاطة هي المحيطة المتعلقة بالمعلومات.

قالت المعتزلة : معلوم الله بكونه عالما لا بالعلم ولا بالذات ولا معنى لكون المعلوم معلوما إلا أنه غير مخفي على العالم كما هو عليه فليس ثم تعلق حسي أو وهمي حتى يحال به على العلم أو على الذات وقولكم العلم إحاطة بالمعلوم تغيير عبارة وتبديل لفظ بلفظ وإلا فالعلم والإحاطة والتيقن عبارات عن معبر واحد ومعنى كون الذات عالما أنه محيط ، وكذلك معنى كونه محيطا أنه عالم وإنما وقعتم في إلزام لفظ الإحاطة لظنكم أن الإحاطة لو تحققت للذات كانت تلك الإحاطة كإحاطة جسم بجسم وذلك الاشتراك في اللفظ وإلا فمعنى الإحاطة هو العلم وهو بكل شيء عليم محيط ، وبكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير.

قالت الصفاتية : العقل الصريح يفرق بين كون الشيء معلوما وبين كونه مقدورا وكيف لا وكونه معلوما أعم من كونه مقدورا فإن المعلوم قد يكون قديما وقد يكون حادثا وواجبا وجائزا ومستحيلا ، وكونه مقدورا ينحصر في كونه ممكنا جائزا ثم نسبة المعلوم إلى الذات من حيث هي ذات واحدة كنسبة المقدور من حيث هي ذات.

فنقول نسبة الذات إليهما على قضية واحدة عندكم أم تختلف النسبة فإن كان نسبة الذات إليهما على قضية واحدة فيلزم أن لا يكون أحدهما أعم ، والثاني أخص ، ويجب أن يكون كل معلوم مقدورا كما كان كل مقدور معلوما وإن اختلف وجه النسبة بالأعم والأخص علم أنه ما كان مضافا إلى الذات بل إلى صفة وراء الذات

١١١

وذلك مما يخبر عنه التنزيل بالعلم والقدرة (١).

قالت المعتزلة : تختلف وجوه الاعتبارات في شيء واحد ولا يوجب ذلك تعدد الصفة كما يقال : الجوهر متحيز وقائم بالنفس وقابل للعرض ويقال للعرض لون وسواد وقائم بالمحل فيوصف الجوهر والعرض بصفات هي صفات الأنفس التي لا يعقل الجوهر والعرض دونهما ثم هذه الأوصاف لا تشعر بتعدد في الذات ولا بتعدد صفات هي ذوات قائمة بالذات ولا بتعدد أحوال ثابتة في الذات كذلك نقول في كون الباري تعالى عالما قادرا.

قالت الصفاتية : ليس في وصف الجوهر والعرض بهذه الأوصاف أكثر من إثبات حقيقة واحدة لها خاصية تتميز بها عن غيرها وهذه العبارات دالة على تلك الخاصية ، وهي الحجمية في الجوهر والسوادية في العرض مثلا ، فأما تحيزه وقبوله للعرض فذلك تعرض لنسبة الجوهر إلى الحيز ونسبته إلى العرض إما تقديرا أو تحقيقا ، وبمثل ذلك نقول في حق الباري سبحانه إنه موجود قديم قائم بنفسه غني أحد صمد غير متناهي الوجود والذات ، وكل هذه الأوصاف ترجع إلى حقيقة واحدة ، وأما وصفه بكونه حيا عالما قادرا ، إنما هو راجع إلى حقائق مختلفة وخواص متباينة تختص كل صفة بخاصية وحقيقة لا تتعداها ولكل واحدة فائدة خاصة تخصها ودليل خاص يدل عليها ومتعلق خاص يختص بها والحقائق إذا اختلفت من هذه الوجوه ، فقد اختلفت في ذواتها ولا يسد أحدهما مسد الآخر ، والعقل إنما يميز هذه المعاني بهذه الوجوه وإلا فأعراض متعددة إذا قامت بمحل واحد لم يحكم العقل باختلافها وتعددها إلا باختلاف خواصها وآثارها وفوائدها ودلائلها ومتعلقاتها ، ومن المستحيل في العقل اجتماع خواص مختلفة في حقيقة واحدة فلو جاز إثبات ذات لها حكم العلم والقدرة والإرادة والحياة لجاز إثبات حقيقة واحدة لها حكم العرض والجوهر ولجاز إثبات علم له حكم القدرة ولجاز إثبات لون له حكم الكون ويلزم على ذلك اجتماع المتضادات وذلك من أمحل ما يتصور.

ومما يوضح ذلك وهو أقوى ما يتمسك به في إثبات الصفات قولنا الله عالم قادر وقول المعطل مثلا ليس بعالم ولا قادر إثبات ونفي لا محالة فلا يخلو الأمر فيه إما أن يرجع الإثبات والنفي إلى الذات وإما أن يرجع إلى الصفات وإما أن يرجع إلى الأحوال ومستحيل رجوعهما إلى الذات فإنها معقولة دون الاتصاف بالعالمية إذ ليس

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (٣ / ٨٨ ، ٨٩) ، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ٣٨).

١١٢

من ضرورة العلم كونه ذاتا قائما بالنفس مستغنيا من كل وجه أن يعلم كونه عالما ولذلك كان الدليل على كونه قائما بالنفس غير الدليل على كونه عالما قادرا ولا من ضرورة نفي العالمية نفي الذات فإن جماعة من المعطلة نفوا كونه عالما وقادرا مع إقرارهم وعلمهم بثبوت الذات ويستحيل رجوعهما إلى الحال فإنها لا تنفي على حيالها ولا تثبت وقد أبطلنا القول بالحال فلم يبق إلا القسم الأخير وهو الرجوع إلى الصفات.

قالت المعتزلة : أنتم أول من أثبت حقائق مختلفة وخواص متباينة لذات واحدة حيث قلتم الرب تعالى عالم بعلم واحد يتعلق بجميع المعلومات ومن المعلوم أن العلم بالسواد مثلا ليس يماثل العلم بالبياض بل يخالفه لأن المثلين عندكم لا يجتمعان وقد يجتمع العلمان المختلفان فعلمه سبحانه في حكم علوم مختلفة وكذلك القدرة الأزلية تتعلق بمقدورات لا تتعلق القدرة الحادثة بها فهي في حكم قدر مختلفة وكذلك الإرادة والسمع والبصر وأظهر من ذلك كله الكلام فإنه صفة واحدة أزلية وهي في ذاتها أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ومعلوم أن هذه حقائق مختلفة قد ثبتت لكلام واحد فإن قلتم هذه الحقائق ترجع إلى الوجوه والاعتبارات فنحن نقول كذلك في ذات الباري سبحانه وإن رددتم ذلك إلى الأحوال فمن مذهب أبي هاشم أنها أحوال وعلى كل وجه قدرتموه يلزمكم مثله في الذات والصفات وقولكم إن المعاني إنما تتعرف بعددها من خواصها ومتعلقها وآثارها وأدلتها صحيح في الشاهد غير مسلم في الغائب بل بإجماع منا في مسائل وانفراد منكم في مسائل خالفنا هذه القاعدة فإن القدم والوجوب بالذات والوحدة والقيام بالذات والبقاء والديمومية وأنه أول وآخر وظاهر وباطن منزه عن المكان مقدس عن الزمان حقائق مختلفة لو اعتبرناها شاهدا لكان لكل واحدة منها دليل خاص يدل عليه ومع ذلك لا يوجب تعددا في الصفات بالاتفاق وعندكم الأمر والنهي في الشاهد يتباينان ويتضادان وما يدل على الأمر غير ما يدل على النهي وكذلك الخبر والاستخبار يتمايزان من حيث الحقيقة والدليل والمتعلق فإن متعلق الأمر غير متعلق الخبر والخبر يتعلق بالقديم والأمر لا يتعلق به واختلافهما من حيث التعلق أوجب اختلافهما في الشاهد ثم لم نستدل باختلافهما في الشاهد على اختلافهما في الغائب بل كلامه أمر ونهي مع أن الأمر يتعلق بالمأمورات دون المنهيات والنهي يتعلق بالمنهيات دون المأمورات والخبر يتعلق بكل ما يتعلق به العلم معدوما وموجودا وواجبا وجائزا ومستحيلا.

وأما استدلالكم بطريق النفي والإثبات على أصل نفاة الأحوال غير مستقيم فإن عندهم النفي والإثبات في كل شيء يرجعان إلى أمر مخصوص معين فلا يتصور إثبات ذات

١١٣

على الإطلاق إلا في مجرد اللفظ أو يرجع إلى وجه واعتبار فقولنا عالم يرجع إلى العلم بذات على وجه واعتبار ، وعند مثبتي الأحوال قولنا عالم يرجع إلى إثبات ذات على حال كونه عالما هذا كمن يعرف بكونه موجودا ولا يعرف بكونه واحدا وغنيا وقديما أليس النفي والإثبات في ذلك لا يرجع إلى الصفات الزائدة على الذات وإنما يرجع إلى الاعتبارات والوجوه كذلك نقول في الصفات فبطل استدلالكم بالنفي والإثبات.

قالت الصفاتية : العلم من حيث هو علم حقيقة واحدة وليس خاصية واحدة وإنما تختلف العلوم باعتبار متعلقاتها وتتماثل باتحاد المتعلق وليس يخرج ذلك الاعتبار نفس العلم عن حقيقة العلمية حتى لو قدرنا تقديرا لمحال جواز بقاء العلم الحادث لتعلق العلم الحادث بمعلومين ومعلومات.

والسر فيه أن العلم على كل حال يتبع المعلوم عدما ووجودا فلا يكسب المعلوم صفة ولا يكتسب عنه صفة فالعلوم تختلف في الشاهد لاستحالة البقاء وتقدير اختلاف المتعلقات والعلم القديم في حكم علوم مختلفة لا في حكم خواص متباينة وكذلك نقول في الكلام فإن الأمر والنهي والخبر والاستخبار شملتها حقيقة الكلام فاجتمعت في حقيقة واحدة واختلفت اعتبارات تلك الحقيقة بالنسبة إلى المتعلقات وهذا غير مستبعد وإنما المستحيل كل الاستحالة إثبات ذات واحدة لها خاصية العلم وخاصية القدرة والإرادة إلى غير ذلك من سائر الصفات حتى يلزم أن يقال يعلم من حيث يقدر ويقدر من حيث يعلم ويقدر بعالمية ويعلم بقادرية وتجتمع صفتان وخاصيتان لذات واحدة وذلك غير معقول وأما صفات الذات التي ليست وراء الذات فإنها راجعة إلى النفي لا إلى الإثبات فمعنى كونه قديما أنه لا أول له ولا آخر ومعنى كونه واحدا أنه لا شريك له ولا قسيم ومعنى كونه غنيا أنه لا حاجة له ولا فقرا ومعنى كونه واجبا بذاته أن وجوده غير مستفاد من غيره ومعنى كونه قائما بنفسه أنه غير محتاج إلى مكان وزمان بل هو مستغن على الإطلاق عن الموجد والمكان والمحل بخلاف قولنا : إنه عالم قادر فإن العالم ذو العلم حقيقة والقادر ذو القدرة حقيقة والإحكام والإتقان دليل العلم وأثره والوجود والحصول دليل القدرة وأثرها فهما معنيان معقولان بحقيقتهما فلا يتّحدان في ذات كما لا يتحدان بذاتهما حتى يكون حقيقة أحدهما حقيقة الثاني وكذلك قلتم معاشر المعتزلة : إن العالمية ليس بعينها معنى القادرية لجواز العلم بأحدهما مع الجهل الثاني.

وقال أبو هاشم العالمية حال والقادرية حال ومفيدهما حال يوجب الأحوال كلها فلا فرق في الحقيقة بين أصحاب الأحوال وبين أصحاب الصفات إلا أن الحال

١١٤

متناقض للصفات إذ الحال لا يوصف بالوجود ولا بالعدم والصفات موجودة ثابتة قائمة بالذات ويلزمهم مذهب النصارى في قولهم واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية ولا يلزم ذلك التناقض مذهب الصفاتية (١).

وأما الاستدلال بالنفي والإثبات فصحيح ، واعتراضكم فاسد فنقول قد قام الدليل على كون الصانع عالما قادرا فلا يخلو الحال إما أن يكون الاسمان عبارتين عن معبر واحد من غير تفاوت أصلا فيلزمكم أن تفهم العالمية بفهم القادرية ويلزمكم أن تنفي العالمية من نفي القادرية ويلزمكم أن يوجد العالم من حيث كونه عالما فحسب ، ولا يحتاج إلى إثبات كونه قادرا فيلزم أن يدل على العالمية كما يدل على القادرية ومن المعلوم الذي لا مرية فيه أنه ليس إطلاق لفظ العالم القادر كإطلاق لفظ الموجد الخالق ، فإنا ندرك ببداية عقولنا فروقا ضرورية بين كونه عالما قادرا وبين كونه موجدا خالقا فلو كان الاسمان مترادفين ترادف هذين الاسمين لكنا لا ندرك بعقولنا هذه التفرقة ، ثم ليس يجوز أن يقال أحد الوصفين وصف إثبات والثاني وصف نفي فإنهما في محل تصور الفهم متساويان وليس يجوز أن يقال أحدهما وصف إضافة والثاني وصف حال وصفة إذ الإضافة من لوازمها لذاتها بل هما حقيقتان تعرض لهما الإضافة إلى المتعلقات والإضافة معنى لا تعرض له الإضافة وإذا بطلت هذه الوجوه تعين أنهما صفتان قائمتان بالذات عبر الشرع عن إحداهما بالعلم وعن الثانية بالقدرة.

قالت المعتزلة : نحن لا ننكر الوجوه والاعتبارات العقلية لذات واحدة ولا نثبت الصفات إلا من حيث تلك الوجوه أما إثبات صفات هي ذوات موجودات أزلية قديمة قائمة بذاته هو المنكر عندنا فإنها إذا كانت موجودات وذوات وراء الذات ، فإما أن تكون عين الذات وإما أن تكون غير الذات ، فإن كانت عين الذات فهو مذهبنا وبطل قولكم هي وراء الذات وإن كانت غير الذات فهي حادثة أو قديمة وليس من مذهبكم أنها حادثة وإن كانت قديمة فقد شاركت الذات في القدم والوجوب بالذات ونفي الأولية فهي آلهة أخرى ، فإن القدم أخص وصف القديم والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم.

ومن الإلزامات على قولكم إنها قائمة بذاته أن القائم بالشيء محتاج إلى ذلك الشيء حتى لولاه لما تحقق له وجود به فيلزمكم إثبات خصائص الأعراض في الصفات فإن العرض هو المحتاج إلى محل يقوم به ويلزمكم إثبات التقدم والتأخر الذاتي

__________________

(١) انظر : منهاج السنة النبوية لابن تيمية (٢ / ٢٨٣ ، ٤٨٦).

١١٥

العقلي في الذات والصفات وهذا كله محال.

وساعدهم جماعة من الفلاسفة المعطلة في إلزام هذه الكلمات وزادوا عليهم بأن قالوا قام الدليل على أن واجب الوجود مستغن على الإطلاق من كل وجه فمن أثبت له صفة لذاته أزلية معنى وحقيقة قائمة بذاته فقد أبطل الاستغناء المطلق من الصفة والموصوف جميعا وأثبت الاحتياج والفقر في الصفة والموصوف جميعا أما الصفة فاحتاجت في وجودها إلى ذات تقوم بها ، إذ يجب أن تقول قام العلم بالباري واستحال أن تقول قام الذات بالعلم وأما الموصوف فإنما يتم كماله في الإلهية إذا قامت به هذه الصفات حتى لولاها لما كان إلها مستغنيا على الإطلاق فإذا المستغني على الإطلاق لا يكون إلا واحدا من كل وجه ولا كثرة فيه من وجه.

قالت الصفاتية : كما أنكرتم إثبات صفات أزلية أنكرنا عليكم إثبات موصوف بلا صفة إنكارا بإنكار واستبعادا باستبعاد وتقسيمكم إنها عين الذات أم غير الذات إنما يصح إذا كان التقسيم دائرا بين النفي والإثبات فإن من قال هذا عينه وهذا غيره قد يعني به أنهما شيئان فهذا شيء وذاك شيء آخر وقد يعني به أنهما شيئان ويجوز وجود أحدهما مع عدم الثاني أو مع تقدير عدم الثاني ونحن لا نسلم أن الصفات أغيار ولا نقول إنها عين الذات لأن حد الغيرين عندنا هو المعنى الثاني لا المعنى الأول ثم إن جاز لمثبتي الأحوال القول بأن الحال لا موجودة ولا معدومة جاز لمثبتي الصفات القول بأن الصفات لا عين الذات ولا غير الذات على أن كل حقيقة التأمت من أمرين محققين في الشاهد مثل الإنسانية فإنها التأمت من حيوانية وناطقية عند القوم فإذا قيل الناطقية عين الإنسانية أو غيرها لم يصح بأنها لا عينها ولا غيرها وكذلك جزء كل شيء لا عينه ولا غيره ثم هب أنا نسلم الغيرية بالمعنى الأول فقولكم إن كانت قديمة أوجب أن تكون إلها دعوى مجردة بل هو محل النزاع وقولكم القدم هو أخص وصف الإله دعوى لا برهان عليها فإن معنى الإلهية هو ذات موصوفة بصفات الكمال فكيف نسلم أن كل صفة أزلية إله ثم من قال القدم أخص الأوصاف فيجب أن يبين أعم الأوصاف فإن الأخص إنما يتصور بعد الأعم فما الأعم فإن كان الوجود هو الأعم والقدم هو الأخص فقد التأمت حقيقة الإلهية من أعم وأخص فالأخص عين الأعم أو غيره ويلزم على مساق ذلك ما ألزمتموه على الصفات.

وأما قولكم : إن الصفات لو قامت بذاته تعالى لاحتاجت إليها وكان حكمها حكم الأعراض وكان وجود الموصوف أسبق وأقدم بالذات على وجود الصفة فهذا مما يستحق أن يجاب عنه.

١١٦

فنقول : معنى قولنا الصفات قامت به أنه سبحانه يوصف بها فقط من غير شرط آخر والوصف من حيث هو وصف لا يستدعي الاحتياج والاستغناء ولا التقدم ولا التأخر فإن الوصف بكونه قديما واجبا بذاته من حيث هو وصف لا يستدعي كون القدم والوجوب محتاجا إلى الموصوف ولا كون الموصوف سابقا بالقدم والوجوب بل الاحتياج إنما يتصور في الجواهر والأعراض حيث لم تكن فكانت فاحتاجت إلى موجد لجوازها وتطلق على الأعراض خاصة حيث لم تعقل إلا في محال واحتاجت إلى محل وبالجملة الاحتياج إنما يتحقق فيما يتوقع حصوله فيترقب وجوده ولن يتصور الاحتياج في القدم.

وأما الجواب عن قول الفلاسفة إنه تعالى مستغن على الإطلاق قيل الاستغناء من حيث الذات إنه لا يحتاج إلى مكان ومحل والاستغناء من حيث الصفات أنه لا يحتاج إلى شريك في القدرة والفعل ومعين في العلم والإرادة ووزير في التصرف والتدبير فهو تعالى مستغن على الإطلاق وإنما يستغني بكمال صفاته وصفات جلاله فكيف يقال إنه احتاج إلى ما به استغنى أليس القول بأنه استغنى بوجوبه في وجوده عن موجد ولا يقال إنه لما استغنى عند ذلك كان محتاجا إليه كذلك نقول : إنه استغنى بذاته وصفاته فلا الموصوف محتاج إلى الصفة ولا الصفة احتاجت إلى الموصوف وإنما يتحقق الاحتياج أن لو كانت الصفة على مثال الآلة والأداة والصفات الأزلية يستحيل أن تكون آلة فبطل الإلزام وزال الإيهام.

قالت الفلاسفة القسمة الصحيحة العقلية أن الموجود ينقسم إلى واجب بذاته وإلى ممكن بذاته وواجب بغيره فالواجب بذاته ليس يتصور إلا واحدا من كل وجه لا كثرة فيه بوجه من الوجوه لا كثرة أجزاء عددية ولا كثرة معان عقلية وإلا فيلزم أن يشترك في وجوب الوجود وينفصل كل واحد عن صاحبه بفصل يخصه فحينئذ تتركب ذاته من جنس وفصل ثم تكون الأجزاء مقومات للجملة لا محال والمقوم أقدم من المقوم وما يقوم بالشيء لا يكون واجبا بذاته بل بالمقوم والواجب بذاته لن يتصور إلا واحدا والمعاني التي أثبتموها إما أن تكون واجبة بذاتها فيلزم أن يكون اثنان واجبا الوجود وذلك محال كما قدمناه وإما أن لا تكون واجبة بذاتها بل يكون قوامها بالذات فيلزم ما ذكرناه آنفا.

قيل لهم قسمة الوجود إلى واجب بذاته وإلى واجب بغيره دليل قاطع على نقض إلزامكم فإن الوجود من حيث هو وجود قد عم الواجب والجائز والوجوب من حيث هو وجوب قد خص الواجب فاشتركا في الأعم وافترقا في الأخص وما به عم غير ما

١١٧

به خص فتركبت الذات من وجود عام ووجوب خاص فهو كتركيب الذات من واجب الذات قد شملت الواجبين ويفصل كل واحدهما بفصل عن الواجب الآخر.

قالت الفلاسفة : الوجود ليس يعم القسمين بالسوية بل هو في أحدهما بالأولى والأول في الثاني بلا أولى ولا أول فلم يكن جزء مقوما فلم يصلح أن يكون جنسا فلم يلزم التركيب منه والتقوم به.

قيل هذا بعينه في الوجوب جوابنا فإن الوجوب ليس يعم القسمين بالسوية فلم يكن الوجوب جزءا مقوما فلم يصح أن يكون جنسا فلم يلزم التركيب منه والتقوم به.

وقالت الفلاسفة : الوجوب معنى سلبي معناه أن وجوده غير مستفاد من غيره فلم يصلح أن يكون فصلا للوجود.

قيل وإذا لم يصلح أن يكون فصلا لكونه معنى سلبيا فلا يصلح أن يكون جنسا لكونه معنى سلبيا وألزمتمونا كونه جنسا إذ قلنا ذاته تعالى واجبة لذاتها وصفاته تعالى واجبة لذاتها أيضا بمعنى أن وجودها غير مستفاد من غيرها فلم لا يجوز أن يكون اثنان كل واحد واجب الوجود لذاته فإن ألزمتمونا بالاشتراك في شيء والافتراق في شيء آخر لزمكم في الوجوب والوجود كذلك.

قالت الفلاسفة : الوجود يطلق على الموجودات بالتشكيك لا بالتشريك ولا بالتواطؤ إذ معناه أنه وإن عم إلا أن عمومه ليس بالتسوية فإنه في الواجب لذاته وبذاته فهو أولى وأول وفي الجائز لغيره وبغيره فهو لا أولى ولا أول فلم يصلح أن يكون جنسا فلم يلزم منه التركيب من جنس وفصل بخلاف موجودين واجبين كل واحد منهما وجوبه بذاته وينفصل كل واحد منهما عن الآخر بفصل ذاتي كالعلمية فإنها والذات تشتركان في وجوب الوجود وينفصل أحدهما عن الآخر بفصل ذاتي وكذلك العلم والقدرة المشتركان في كونهما معنيين متباينين ثابتين أزليين وينفصل أحدهما عن الآخر بفصل ذاتي فتكون الإلهية حقيقة ما متركبة من ذات قائمة بنفسها وصفات مختلفة قائمة بالذات فلا يوجد فرق بين الإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية وبين الإلهية المركبة من الذات والصفات وحينئذ لا فرق بين التأليف المحسوس والتأليف المعقول.

قيل لهم : أنتم وضعتم هذه الاصطلاحات حيث ضاق بكم التزام الوجود وشموله.

فنقول العموم إذا حصل معنى مفهوم من لفظ متصور في ذهن كان شموله بالسوية لست أقول شموله بالنسبة إلى سائر الموجودات بل أقول شموله بالنسبة إلى قسمية الأخصين به وهو الوجوب والجواز والقول بأنه في الواجب أولى وأول تفسير

١١٨

لمعنى الواجب أي هو ما يكون الوجود له أولى وأول حتى لو تركنا لفظ الواجب جانبا وقلنا الوجود ينقسم إلى ما يكون الوجود له أولى وأول وإلى ما يكون الوجود له لا أولى ولا أول كان التقسيم صحيحا مفيدا لفائدة الأولى ، ثم الوجوب لا يفهم إلا وأن يفهم الوجود أولا حتى لو رفع الوجود في الوهم ارتفع الوجوب بارتفاعه ، وهو معنى ذاتي فالوجود ذاتي للواجب بهذا المعنى وبمعنى أنه أولى به وأنه لذاته وبذاته وأنه لغيره على خلاف ذلك.

ومن العجب أنهم قالوا : الوجوب معنى سلبي حتى لزمهم أن يقولوا الجواز الذي في مقابلته معنى إيجابي ، وليت شعري كيف يستجيز العاقل من عقله أن يرد معنى الوجوب إلى السلب والجواز إلى الإيجاب أليس الوجود أولى بالواجب فكيف صار أولى بالجائز أليس الوجوب تأكيدا للوجود فكيف تأكد الوجوب بالسلب وهل هذا كله إلا تحير العقل ودوار في الرأس وتطرق الوسواس إلى صدور الناس.

ثم نقول : إن سلم لكم أن الوجود ليس بجنس فلم يخرج عن كونه عاما شاملا للقسمين إذ لو لا شموله وإلا لما صح التقسيم فإن التقسيم إنما يرد على المعنى لا على مجرد اللفظة ، فالمعنى العام للواجب والجائز غير المعنى الخاص بأحد القسمين فإذا لم يكن التركيب تركبا من جنس وفصل كان تركبا من عام وخاص فيفيد أحدهما من التصور ما لا يفيده الآخر ، فيلزم منه عين ما يلزم من الفصل والجنس.

قالت الفلاسفة التميز بينهما تميز في الذهن بالاعتبار العقلي لا في الوجود.

قيل لهم التميز بين العرضية واللونية تميز في الذهن بالاعتبار العقلي لا في الوجود ، وكذلك الإنسانية في كونها مركبة من حياة ونطق فما الفرق بين وجود عام ، ووجوب خاص وبين عرض عام ولون خاص ، والتركيب كالتركيب إلا أن أحد العامين والخاصين من جنس وفصل على اصطلاح المنطق فيصلح أن يركب منهما حد الشيء والثاني عام وخاص لا يصلح أن يركب منهما حد الشيء والفرق من هذا الوجه ليس يقدح في غرضنا من الإلزام فإنا لم نلزم كون الباري تعالى محدودا بل ألزمنا كونه موصوفا والموصوف بالصفة أعم من المحدود بالحد ثم القول بأن تركبه بالقياس إلى عقولنا وأذهاننا تسليم المسألة وزيادة أمر على الصفاتية ويلزم عليه أن يقال له مادة وجنس وفصل وخاصية وعرض إلى غير ذلك من أنواع التركيب بالقياس إلى عقولنا لا بالقياس إلى ذاته ثم هو معرفة المعلوم على خلاف ما هو به فإنه في ذاته غير مركب وفي التصور العقلي مركب ثم الوجوب إن كان معنى إثباتيا في الذهن غير إثباتي في الخارج فذلك تغيير حقيقة الشيء الواحد بالنسبة إلى شيئين والحقائق لا تختلف

١١٩

بالنسبة أصلا وإن كان الوجوب معنى سلبيا في الذهن فقد استغنى بكونه نفيا عن إلزام التركيب الذهني وعندهم المعاني السلبية لا توجب التكثير سواء كانت في الذهن أو في الخارج والمعاني الإيجابية غير الإضافية لا تخلو من التكثر سواء كانت في الذهن أو في خارج ومن المعلوم أنا إذا قلنا يعلم ذاته ويعلم غيره فليس علمه بذاته علما بغيره من الوجه الذي كان علما بذاته بل اعتبار علمه بذاته غير اعتبار علمه بغيره واعتبار إضافة العقل الأول إليه عندكم غير اعتبار إضافة العقل الثاني إليه وإذا اختلفت الاعتبارات والوجوه العقلية لزمكم التكثير في الذات فنحن نسمي كل اعتبار صفة ، وما سميتموه بالمعاني السلبية فعندنا القدم والوحدة بمثابتهما ، فإن معنى القديم أنه لا أول لوجوده ومعنى الواحد أنه لا انقسام لذاته وما سميتموه من المعاني بالمعاني الإضافية فعندنا كونه خالقا رزاقا بمثابتهما فإن معنى الخالقية يتصور من الخلق والرازقية من الرزق وبقى عندنا أنا أثبتنا معاني من كونه عالما قادرا حيا (١) فإن رده إلى السلبية غير ممكن حتى يقال معنى كونه عالما أنه غير جاهل فإن غير الجاهل قد يتصور ولا يكون عالما فهو أعم ، وحتى يقال إن معنى كونه قادرا أنه غير عاجز فإن غير العاجز قد يتصور ولا يكون قادرا ، فنفي الأولية بالضرورة يقتضي القدم ونفي الانقسام لا يقتضي العلم والقدرة فقد يخلو الشيء عن الجهل والعلم كالجماد فإذا معنى العالمية والقادرية ليس معنى سلبيا ، وليس هو أيضا معنى إضافيا فإن الاسم الإضافي من المضاف يتلقى بمعنى أنه يحصل الفعل أولا حتى يسمى فاعلا وليس كذلك كونه عالما قادرا فإن وجود المعلوم والمقدور من العلم والقدرة يحصل فهو على خلاف وضع الأسامي الإضافية خصوصا على أصلهم فإنهم قالوا علمه تعالى فعلي لا انفعالي وعند المتكلمين العلم يتبع المعلوم وعندهم المعلوم يتبع العلم والمقدور يتبع القدرة وعن هذا قالوا : إنما يصدر عنه العقل الأول لعلمه بذاته فإذا لم يكن العلم معنى سلبيا ولا معنى إضافيا ولا مركبا منهما فتعين أنه صفة للموصوف.

قالت الفلاسفة : المبدأ الأول يعقل ذاته ويعقل ما يلزم ذاته وعقله لذاته من حيث إنه مجرد عن المادة لذاته وهو علة المبدأ الثاني وهو المعلول الأول فلزم وجوده من حيث إنه يعقل ذاته وسائر الأشياء تكون معلولة على نسق الوجود منه وتجرده لذاته عن المادة أمر سلبي محض فلم تتكثر الذات بسلب شيء منه كما يقال الإنسان ليس بحجر ولا مدر ولا نجم ولا شجر وكذا إلى غير نهاية فهذا السلب وإن بلغ إلى

__________________

(١) انظر : الرد على القائلين بوحدة الوجود للقارئ (ص ١١٢).

١٢٠