نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

الإمكان لا يناسب إلا المادة لأن طبيعة المادة طبيعة عدمية لها استعداد قبول الصور والإمكان طبيعة عدمية أيضا لها استعداد قبول الوجود بقيت الصورة ولا موجب لها.

ومما يفضي منه العجب أن الجسم الذي هو مركّب من جوهرين مختلفين مادة وصورة لا يجوز أن يوجب جسما مثله وشيء ما له وجود بغيره وإمكان بذاته يوجب جواهر عقلية حقيقية مختلفة بالنوع لا يجوز أن تشترك في مادة مع أن الإمكان ليس يتحقق له وجود إلا في الذهن والمادة يتحقق لها وجود في الخارج فعرف بهذه الاعتراضات أن الواسطة التي أوجبوا وجودها حتى توجب الموجودات لا يحتاج إليها.

ثم نقول من أين أثبتم أربع اعتبارات في الصادر الأول حتى صدرت عنه أربعة جواهر فما قولكم في الصادر الثاني والثالث أفيصدر عن كل واحد على مثال ما صدر من الأول أو يتغير الترتيب فإن كان على مثال الأول فيجب أن يصدر عن كل واحد من الأربعة أربعة جواهر فيتضاعف الأعداد أربعة في أربعة ، وذلك على خلاف الوجود ، أو يصدر عن العقل الثاني أربعة أخرى ، فما الموجب للوقوف على تسعة من العقول أو تسع من النفوس وتسعة من الأفلاك وأربعة من العناصر فهلا زاد إلى ما لا يتناهى ، أو هلا زاد بعدد معلوم أو هلا نقص فهل الانتهاء على عدد معلوم ، ثم الوقوف عليه إلا تحكم محض ثم ما الموجب حتى يتغير التأثير من السماوي المتركب تركيبا لا ينحل قط المتحرك تحركا على الاستدارة لا يسكن قط إلى العناصر والمركبات تركيبا لا يدوم قط ولا يثبت على حال قط المتحركة تحركا على الاستقامة ثم الانتهاء إلى النفس الإنسانية والوقوف عليها آخرا وما الموجب لتقدير النجوم والشمس والقمر بأقدارها المعلومة حتى صار منها ما هو أكبر ومنها ما هو أصغر.

وما الموجب لتعيين القطبين بالموضع المعلوم مع أن كل كرة واحدة وليس بعض الأجزاء يتعين القطب فيه أولى من البعض فإن كنتم شرعتم في طلب العلة لكل شيء ، وادعيتم أن كمال نفس الإنسان في أن تتجلى له حقائق الموجودات وتصرفتم بالفكر العقلي في الهيئات وكيفية الإبداع فأفيدونا جواب هذه الأسئلة ، وإذ رأينا انحصاركم وتحيركم ورأينا الوجود على خلاف الترتيب الذي وضعتم ولم تستمر قاعدتكم على ما مهدتم عرف بطلان مذهبكم من كل وجه وعلم بالضرورة استناد الموجودات إلى صانع عالم قادر مختار ابتدع الخلق بقدرته وإرادته ابتداعا واخترعهم على مشيئته اختراعا ، ثم سلكهم في طرق إرادته وبعثهم على سبيل محبته لا يملكون تأخرا عما قدّمهم إليه ، ولا يستطيعون تقدما إلى ما أخرهم عنه ، وهذا القدر يكفي في هذه المسألة من الرد على الفلاسفة المتفقين على رأي أرسطاطاليس ، وسنردّ على

٤١

الباقين عند تعقبنا آراء أرباب المقالات إن شاء الله تعالى.

وأما المجوس فمذهبهم يدور على قاعدتين إحداهما : ذكر سبب امتزاج النور والظلمة ، والثانية : ذكر سبب خلاص النور من الظلمة والأولى هي المبدأ والثانية هي المعاد ، وذلك أنه لما ألزم عليهم أن النور إذا كان ضد الظلمة جوهرا وطبعا وفعلا وحيزا وهما متنافران ذاتا وطبيعة فكيف امتزجا وما الموجب لاجتماعهما حتى حصل الامتزاج وحصل بحصول الامتزاج صور هذا العالم ثم هل يبقى هذا الامتزاج أبد الدهر ويلزم عليهم كون أجزاء النور معذبة أبد الآبدين أو تتخلص يوما ما فما الموجب للخلاص.

فصار مدار المسألة معهم على تقدير هذين الركنين.

قالت طائفة منهم : إن النور فكّر في نفسه فكرة رديئة فحدث منها الظلام متشبثا ببعض أجزاء النور وهذا قول من قال بحدوث الظلام.

فيقال لهم : إذا كان النور خيرا لا شر فيه بوجه ما فما الموجب لحدوث الفكرة الرديئة فإن حدثت بنفسها فهلّا حدث الظلام بنفسه من غير أن ينسب إليه وإن حدث بالنور فالنور كيف أحدث أصل الشر ومنبع الفساد فإنه إن كان كل فساد في العالم إنما انتسب إلى الظلام والظلام انتسب إلى الفكرة كانت الفكرة مبدأ الشر والفساد.

ومن العجب أنهم احترزوا حتى لم ينسبوا شرا جزئيا إلى النور في الحوادث ولزمهم أن ينسبوا كل الشر وأصل الفساد إليه.

ومن قال بقدم الظلام فالردّ عليه أن العقل يقضي ضرورة أن شيئين متنافرين غاية التنافر طبعا لا يمتزجان إلا بقاسر فإنهما لو امتزجا بذاتيهما بطل تنافرهما بذاتيهما وما هو متنافر ذاتا لا يجوز أن يجتمع ذاتا فالذات الواحدة لا توجب اجتماعا وافتراقا وذلك يقتضي ألا يحصل وجود ما وقد حصل فهو خلف.

ونقول أيضا الظلام لا يخلو إما أن يكون موجودا حقيقة أو لم يكن فإن كان وجوده وجودا حقيقيا فقد ساوى النور في الوجود وبطل الامتياز عنه من كل وجه وكذلك إن ساواه في القدم والوحدة ثم الوجود من حيث هو وجود خير لا محالة فلم يكن الظلام شرا وإن لم يكن موجودا حقيقة فما ليس بموجود حقيقة كيف يكون قديما وكيف ينافي ضده وكيف يحصل منه امتزاج وكيف يحصل من امتزاجه وجود العالم.

ونقول أيضا عندكم وجود خير من شر ووجود شر من خير لا يتصور.

ومن قال بحدوث الظلام فقد لزمه حدوث شر من خير ثم حدوث العالم من الامتزاج وذلك حدوث خير من شر.

٤٢

ومن قال بقدمه فقد لزمه حصول العالم من الامتزاج والامتزاج إن كان خيرا فهو حصول خير من شر ، وإن كان شرا فهو حصول شر من خير ، ثم لو كان الامتزاج خيرا أوجب أن يكون الخلاص شرا لأنه ضده ولو كان شرا فالخلاص خير وعلى أي وجه قدّر فلا بد من حصول خير من شر وحصول شر من خير.

ونقول أيضا العقل بالضرورة يقضي بأن امتزاج جوهرين بسيطين لا يقتضي إلا طبيعة واحدة ونحن نرى مختلفات في العالم اختلافا في النوع والشخص والحقيقة والصورة على طبائع مختلفة وأعراض متضادة وهذه المختلفات يستحيل أن تحصل من امتزاج أمرين بسيطين فقط فإنهما لا يوجبان أمورا على خلاف ذاتيهما ولا يوجدان أكوانا على ضد طبيعتهما ، فقد بطل قولهم إن الكون والكائنات حصلت من الامتزاج بل لا بد من إسنادهما إلى فاطر حكيم قادر عليم.

وأما الكلام على المعتزلة فنذكر أولا طريق أهل السنة في إسناد الكائنات إلى الله سبحانه خلقا وإبداعا (١).

ولهم طريقان في ذلك أحدهما قولهم الأفعال المحكمة دالة على علم مخترعها إذ الإتقان والإحكام من آثار العلم لا محالة وإذا كان الفعل صادرا من فاعل متقن فيجب أن يكون من آثار علم ذلك الفاعل ومن المعلوم أن علم العبد لا يتعلق قط بما يفعله من كل وجه بل لو علمه علمه من وجه دون وجه علم جملة لا علم تفصيل فوجوه الإحكام في الفعل لم تدل على علمه وليست من آثار علمه فيتعين أن الفاعل غيره وهو الذي أحاط به علما من كل وجه وهذه الطريقة هي التي اعتمد عليها الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه وأوردها في كتبه وفرضها في الغافل إذا صدر عنه فعل.

والحق أن الدليل ليس بمختص بالغافل فإن الغافل كما لم يحط علما بالفعل من كل وجه كذلك العالم لم يحط به علما من كل وجه والفاعل الخالق يجب أن يكون محيطا بالفعل من كل وجه إذ الإحكام إنما يثبت فيه من آثار علمه لا من آثار علم غيره ويدل على علمه لا على علم غيره فكما يستحيل إيجاد الفعل واختراعه على

__________________

(١) انظر : غاية المرام (ص ٢٠٦ ، ٢١٢ ، ٢١٤) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٢٠ ، ١٢٤ ، ٢٦٩ ، ٣١٧ ، ٣٤٩) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٤٨٥) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (١ / ٤٣ ، ٤٤) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٢٣٧ ، ٢٤٤ ، ٢٥٣) ، وفضائح الباطنية للغزالي (ص ٤٠) ، واختلاف فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص ٨٨ ، ٨٩) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٦٠٨ ، ٦١٦).

٤٣

جهل وغفلة بالمخلوق المخترع من كل وجه كذلك يستحيل إيجاده على غفلة من وجه قال الله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

فإن قيل هذا الدليل لا يصلح لإثبات استحالة حدوث الفعل بالقدرة الحادثة فإن إحاطة العبد بالفعل من كل وجه غير مستحيل وإن لم يتفق في الصورة المذكورة وقوعا لا وجوبا فلو قدر تعلق العلم الحادث بالفعل من كل وجه وجب أن تجوزوا حصول الفعل بالقدرة الحادثة من كل وجه لأن الإحكام والإتقان فيه دل على علم الفاعل ومع ذلك لم يجز على أصلكم فدل أن الاستدلال بانتفاء العلم من كل وجه باطل وأيضا فإن القدر الذي تعلق العلم به وجب أن يكون مخلوقا للعبد وعندنا العلم بالفعل من كل وجه غير شرط بل العلم بأصل وجوده شرط كونه فاعلا وهو لم يعدم ذلك.

والجواب : إنا ما أنشأنا هذا الدليل لبيان استحالة حدوث الفعل بالقدرة الحادثة بل لنفي كون العبد خالقا لأفعاله التي يثاب ويعاقب عليها إذ لو كان خالقا لدل الإحكام في فعله على علمه لكن لم يدل فلم يكن خالقا لأنه لو كان خالقا لكان عالما بخلقه من كل وجه لكنه ليس بعالم به من كل وجه فليس بخالق.

هذا وجه دلالة هذا النظر فلا يلزمنا تقدير الإحاطة به من كل وجه فإن انتفاء العلم إذا دل على انتفاء الخالقية لم يلزم أن يدل وجود العلم على ثبوت الخالقية بل هو عكس الأدلة والدليل لا ينعكس.

ولو تصدينا لبيان الاستحالة صغنا الدليل صياغة أخرى فقلنا لو كان الفعل منتسبا إلى العبد إبداعا لوجب أن يكون في حال إبداعه عالما بجميع أحواله ويستحيل من العبد الإحاطة بجميع وجوه الفعل في حالة واحدة لأمرين أحدهما أن العلم الحادث لا يتعلق بمعلومين في حالة واحدة وذلك لجواز طريان الجهل على العالم بأحد الوجهين فيؤدي إلى أن يكون عالما جاهلا بمعلوم واحد في حالة واحدة ويكون علمه علما من وجه وجهلا من وجه.

الثاني : أن وجوه المعلومات في الفعل تنقسم إلى ما يعلم ضرورة وإلى ما يعلم نظرا فيحتاج حالة الإيجاد في تحصيل ذلك العلم إلى نظر وهو اكتساب ثان وربما يحتاج إلى معرفة الضروري والنظري من وجوه الاكتساب فيؤدي إلى التسلسل حتى لا يصل إلى إيجاد الفعل المطلوب وعن هذا المعنى صار كثير من عقلاء الفلاسفة إلى أن الإيجاد لن يحصل إلا بالعلم حتى لو تصور من الإنسان العلم بوجوه الفعل كليا وجزئيا ومحلا ومكانا وزمانا وعددا وشكلا وعرضا وكمالا لتصور منه الإيجاد والإبداع وعن هذا صاروا إلى

٤٤

أن علم الباري سبحانه بذاته هو المبدئ لوجود الفعل الأول وفرقوا بين العلم الفعلي والعلم الانفعالي ، وإنما يحتاج الإنسان إلى القدرة والإرادة والدواعي والآلات والأدوات لأن علمه لن يتصور أن يكون علما فعليا بل علومه كلها انفعالية ولذلك اتفق المتكلمون بأسرهم على أن العلم يتبع المعلوم فيتعلق به على ما هو به ولا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة وهذا هو سر هذه الطريقة ونهايتها.

أما الطريق الثاني في بيان استحالة كون القدرة الحادثة صالحة للإيجاد.

فنقول : لو صلحت للإيجاد لصلحت لإيجاد كل موجود من الجواهر والأعراض وذلك لأن الوجود قضية واحدة تشمل الموجودات وهو من حيث إنه وجود لا يختلف فليس يفضل الجوهر العرض في الوجود من حيث إنه وجود بل من وجه آخر وهو القيام بالنفس والحجمية والتحيز والاستغناء عن المحل وعند الخصم هذه كلها صفات تابعة للحدوث وليست من آثار القدرة وأما الشيئية والعينية والجوهرية والعرضية فهي أسماء أجناس عنده ثابتة في العدم ليست أيضا من آثار القدرة فلم يبق من الصفات وجه لتعلق القدرة إلا الوجود وهو لا يختلف في الموجودات وجهة الصلاحية أيضا وفي القدرة جهة واحدة فلو صلحت لإيجاد موجود ما صلحت لإيجاد كل موجود لكنها لا تصلح لإيجاد بعض الموجودات من الجواهر وأكثر الأعراض فلم تصلح لإيجاد موجود ما.

ومما يوضحه أن الصلاحية لو اختلفت بالنسبة إلى موجود وموجود لاختلفت بالنسبة إلى قدرة وقدرة حتى يقال تصلح قدرة زيد لحركة ولا تصلح قدرة عمر ولمثل تلك الحركة بل عند الخصم لمّا شملت الحقيقة جميع قدر البشر استوت كلها في الصلاحية كذلك شملت الحقيقة الوجود جميع الموجودات فيجب أن تستوي في قبول أثر الصلاحية بل يمكن أن يقال إن الصلاحية ليست تابعة لحقيقة القدرة بل هي مختلفة بالنسب وعن هذا صلحت للإيجاد عندهم ولم تصلح للإعادة والإعادة إيجاد ثان وصلحت لتحصيل العلم ولم تصلح للغفلة عن ذلك العلم.

ومما يوضحه أن صلاحية القدرة لم تخل من أحد الأمرين إما أن تثبت عموما فيجب أن لا يختلف بالنسبة إلى موجود دون موجود كما بينا وإما أن تثبت خصوصا ولا دليل على التخصيص لبعض الموجودات دون البعض سوى جريان العادة بما ألفناه من الأفعال المنسوبة إلى العباد وسنبيّن أن ذلك على أي وجه يثبت وبالجملة فليس يصلح ذلك دليلا على حصر صلاحية القدرة فيها دون سائر الموجودات تجويزا وإمكانا.

فإن قيل : ألستم أوجبتم تعلق القدرة الحادثة ببعض الموجودات دون البعض

٤٥

وسميتم نفس التعلق كسبا فما ذكرتموه في التعلق والكسب من التخصيص فهو جوابنا في الإيجاد من التخصيص.

ومن العجب أنكم تنكرون تأثير القدرة الحادثة وتثبتون التعلق فهلا جوّزتم عموم التعلق حتى يتعلّق بكل موجود قديم أو حادث جوهر أو عرض فإن خصصتم التعلق مع نفي التأثير فلا تستبعدوا منا تخصيص التعلق مع إثبات التأثير.

والجواب قلنا : نحن بيّنا القدرة الحادثة وتعلقها بالمقدور ولم نثبت عموم التعلق ولا لزمنا ذلك إذ لم نعيّن جهة التأثير بالوجود والحدوث وأنتم عيّنتم جهة التأثير بالوجود من حيث هو وجود قضية عامة فلزمكم عموم التعلق والتأثير في كل موجود واستحال على أصلكم حصر صلاحية القدرة في بعض الموجودات دون البعض.

ولم يثبت شيخنا أبو الحسن رحمه‌الله للقدرة الحادثة صلاحية أصلا لا لجهة الوجود ولا لصفة من صفات الوجود فلم يلزمه التعميم والتخصيص.

وأما القاضي أبو بكر فقد أثبت لها أثرا كما سنذكره ولكنه يبرئ جهة الوجود عن التأثير فيه فلم يلزمه التعميم.

قال القاضي : الإنسان يحسّ من نفسه تفرقة ضرورية بين حركتي الضرورية والاختيارية كحركة المرتعش وحركة المختار والتفرقة لم ترجع إلى نفس الحركتين من حيث الحركة لأنهما حركتان متماثلتان بل إلى زائد على كونهما حركة وهو كون أحدهما مقدورة مرادة وكون الثانية غير مقدورة ولا مرادة ثم لم يخل الأمر من أحد حالين إما أن يقال تعلقت القدرة بإحداهما تعلّق العلم من غير تأثير أصلا فيؤدي ذلك إلى نفي التفرقة فإن نفي التأثير كنفي التعلق فيما يرجع إلى ذاتي الحركتين والإنسان لا يجد التفرقة فيهما وبينهما إلا في أمر زائد على وجودهما وأحوال وجودهما ، وإما أن يقال تعلقت القدرة بأحدهما تعلق تأثير لم يخل الحال من أحد أمرين إما أن يرجع التأثير إلى الوجود والحدوث وإما أن يرجع إلى صفة من صفات الوجود والأول باطل بما ذكرناه أنه لو أثّر في الوجود لأثر في كل موجود فتعيّن أنه يرجع التأثير إلى صفة أخرى وهي حال زائدة على الوجود لأنه أثبت في العد سائر صفات الأجناس من الشيئية والجوهرية والعرضية والكونية واللونية إلى أخص الصفات من الحركات والسكون والسوادية والبياضية فلم يبق سوى حالة واحدة هي الحدوث ، فليأخذ مني في قدرة العبد مثله.

فألزمه أصحابه أنك أثبت حالا مجهولة لا ندري ما هي إذ لا اسم لها ولا معنى.

قال : بل هي معلومة بالدليل والتقسيم الذي أرشدنا إليه كما بيّنا ، فإن لم تتيسر

٤٦

لي عبارة عنها باسم خاص لم يضر ذلك ألسنا أثبتنا وجوها واعتبارات عقلية للفعل الواحد وأضفنا كل وجه إلى صفة أثّرت فيه مثل الوقوع فإنه من آثار القدرة والتخصيص ببعض الجائزات فإنه من آثار الإرادة والإحكام ، فإنه من دلائل العلم ، وعند الخصم كون الفعل واجبا أو ندبا أو حلالا أو حراما أو حسنا أو قبيحا صفات زائدة على وجوده بعضها ذاتية للفعل وبعضها من آثار الإرادة وكذلك الصفات التابعة للحدوث مثل كون الجوهر متحيزا وقابلا للعرض فإذا جاز عنده إثبات صفات هي أحوال واعتبارات زائدة على الوجود لا تتعلق بها القادرية وهي معقولة ومفهومة فكيف يستبعد مني إثبات أثر للقدرة الحادثة معقولا ومفهوما ومن أراد تعيين ذلك الوجه الذي سمّاه حالا فطريقه أن يجعل حركة مثلا اسم جنس يشمل أنواعا وأصنافا أو اسم نوع يتمايز بالعوارض واللوازم فإن الحركات تنقسم إلى أقسام فمنها ما هو كتابة ومنها ما هو قول ومنها ما هو صناعة باليد وينقسم كل قسم إلى أصناف فكون حركة اليد كتابة وكونها صناعة متمايزان وهذا التمايز راجع إلى حال في إحدى الحركتين تتميز بها عن الثانية مع اشتراكهما في كونهما حركة وكذلك الحركة الضرورية والحركة الاختيارية فتضاف تلك الحالة إلى العبد كسبا وفعلا ويشتق له منها اسم خاص مثل قام وقعد وقائم وقاعد وكتب وقال وكاتب وقائل ، ثم إذا اتصل به أمر ووقع على وفاق الأمر سمي عبادة وطاعة فإذا اتصل به ، نهي ووقع على خلاف الأمر سمي جريمة ومعصية ، ويكون ذلك الوجه هو المكلف به وهو المقابل بالثواب أو العقاب ، كما قال الخصم إن الفعل يقابل بالثواب أو العقاب لا من حيث إنه موجود بل من حيث إنه حسن أو قبيح ، والقبح والحسن حالتان زائدتان على كونه فعلا وكونه موجودا وهو أبعد من العدل والقاضي أقرب إلى العدل فإنه أضاف إلى العبد ما لم يقابل بثواب أو عقاب وقابل بالثواب والعقاب ما لم يكن من آثار قدرته ، والقاضي عيّن الجهة التي عنده لم تقابل بالجزاء فأثبتها فعلا للرب وعين الجهة التي هي فعل العبد وكسبه فقابلها بالجزاء وذلك هو العدل (١).

ومما يوضح طريقة القاضي ويبيّن أنه ما خالف الأصحاب تلك المخالفة البعيدة

__________________

(١) انظر : معارج القدس للغزالي (ص ١١٠) ، وشرح قصيدة ابن قيم لابن عيسى (١ / ٣٨٥) ، (٢ / ٢٨١) ، والصواعق المرسلة لابن قيم (٤ / ١٥٧١) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٣١ ، ٨٦ ، ١٥٢ ، ٢٢١) ، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٣٨ ، ١٤٤ ، ٣٢٨) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٢٣٨ ، ٣٤٦ ، ٣٥٠) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٦٧).

٤٧

أن الفعل ذو جهات عقلية واعتبارات ذهنية عامة وخاصة كالوجود والحدوث والعرضية واللونية وكونه حركة أو سكونا وكون الحركة كتابة أو قولا وليس الفعل بذاته شيئا من هذه الوجوه بل هي كلها مستفادة له من الفاعل والذي له بذاته هو الإمكان فقط وأما وجوده فمستفاد من موجده على الوجه الذي هو به وهو أعم الوجوه ، وأما كونه كتابة أو قولا فمستفاد من كاتبه أو قائله وهو أخص الوجوه فيتميز الوجهان تميزا عقليا لا حسيا وتغاير المتعلقان تغايرا سمّي أحدهما إيجادا وإبداعا وهو نسبة أعم الوجوه إلى صفة لها عموم التعلق وسمي الثاني كسبا وفعلا وهو نسبة أخص الوجوه إلى صفة لها خصوص التعلق فهو من حيث وجوده يحتاج إلى موجد ومن حيث الكتابة والقول يحتاج إلى كاتب وقائل والموجد لا تتغير ذاته أو صفته لوجود الموجد ويشترط كونه عالما بجميع جهات الفعل والمكتسب تتغير ذاته وصفته لحصول الكسب ولا يشترط كونه عالما بجميع جهات الفعل.

وبيان آخر نقول : جلت القدرة الأزلية عن أن يكون لها صلاحية مخصوصة مقصورة على وجوه من الفعل مخصوصة وقصرت القدرة الحادثة عن أن يكون لها صلاحية عامة شاملة لجميع وجوه الفعل وذلك أن صلاحية القدرة الحادثة لم تشمل جميع الموجودات بالاتفاق فلا تصلح لإيجاد الجوهر وكل عرض بل هي مقصورة على حركات مخصوصة والقدرة الحادثة فيها مختلفة الصلاحية حتى يمكن أن يقدر نوعية مخصوصة والقدرة الحادثة لتنوع الصلاحية فلذلك اقتصرت على بعض الموجودات دون البعض بخلاف قدرة الباري سبحانه فإن صلاحيتها واحدة لا تختلف فيجب أن يكون متعلقها واحدا لا يختلف وذلك هو الوجود فإذا لم يجز أن يضاف أخص الأوصاف إلى الباري سبحانه لأنه يؤدي إلى قصوره في الصلاحية كذلك لا يجوز أن يضاف أعم الأوصاف إلى القدرة الحادثة لأنه يؤدي إلى كمال في الصلاحية فلا ذاك الكمال مسلوب عن القدرة الإلهية ولا هذا الكمال ثابت للقدرة الحادثة فينعم النظر فيه لأن فيه خلاصا فلا يجوز أن يضاف إلى الموجد ما يضاف إلى المكتسب حتى يقال هو الكاتب القائل القاعد القائم ولا يجوز أن يضاف إلى المكتسب ما يضاف إلى الموجد حتى يقال هو الموجد المبدع الخالق والرازق.

وعن هذا كان الجواب المرتضى عند التمييز بين الخلق والكسب أن الخلق هو الموجود بإيجاد الموجد ويلزمه حكم وشرط.

أما الحكم : فإنه لا يتغير الموجد بالإيجاد فيكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة.

وأما الشرط : أن يكون عالما به من كل وجه والكسب هو المقدور بالقدرة

٤٨

الحادثة ويلزمه حكم وشرط.

أما الحكم : فإن يتغير المكتسب بالكسب فيكسبه صفة ويكتسب عنه صفة.

وأما الشرط فأن يكون عالما ببعض وجوه الفعل أو نقول يلزمه التغيير ولا يشترط العلم به من كل وجه.

وهذا تحقيق ما قاله الأستاذان كل فعل وقع على التعاون كان كسبا للمستعين وحقيقة الكسب من المكتسب هو وقوع الفعل بقدرته مع تعذر انفراده به وحقيقة الخلق هو وقوع الفعل بقدرته مع صحة انفراده به وهذا أيضا شرح لما قاله الأستاذ أبو بكر إن الكسب هو أن تتعلق القدرة به على وجه ما وإن لم تتعلق به من جميع الوجوه والخلق هو إنشاء العين وإيجاد من العدم فلا فرق بين قوليهما وقول القاضي إلا أن ما سمياه وجها واعتبارا سماه القاضي صفة وحالا (١).

ونجا أبو الحسن رحمه‌الله (٢) حيث لم يثبت للقدرة الحادثة أثرا أصلا غير اعتقاد العبد بتيسير الفعل عند سلامة الآلات وحدوث الاستطاعة والقدرة والكل من الله تعالى.

وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثرا هو الوجود غير أنه لم يثبت للعبد استقلالا بالوجود ما لم يستند إلى سبب آخر ثم تتسلسل الأسباب في سلسلة الترقي إلى الباري سبحانه وهو الخالق المبدع المستقل بإبداعه من غير احتياج إلى سبب وإنما سلك في مسلك الفلاسفة حيث قالوا بتسلسل الأسباب وتأثير الوسائط الأعلى في القوابل الأدنى وإنما حمله على تقرير ذلك الاحتراز عن ركاكة الجبر والجبر على تسلسل الأسباب ألزم إذ كل مادة تستعد لصورة خاصة والصور كلها فائضة على المواد من واهب الصور جبرا حتى الاختيار على المختارين جبر والقدرة على القادرين جبر وحصول الأفعال من العباد عند النظر إلى الأسباب جبر وترتيب الجزاء على الأفعال جبر وهو كالمرض يحصل عند سوء المزاج وكالسلامة تحصل عند اعتدال المزاج وكالعلم يحصل عند تجريد العقل عن الغفلة وكالصورة تحصل في المرآة عند التصقيل فالوسائط معدات لا موجودات وما له طبيعة الإمكان في ذاته استحال أن يكون موجدا على حقيقة كما بينا.

وأما شبهة المعتزلة : فتنحصر في مسلكين أحدهما مدارك العقل والثاني

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٢١٤) ، والتبصير في الدين للأسفراييني (ص ١٠٨) ، وشفاء العليل لابن قيم (ص ١٣٠) ، ومرهم العلل المضلة لليافعي (ص ١٧١).

(٢) يعني الإمام الأشعري.

٤٩

مدارك السمع.

أما الأول فقالوا : الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن ومن أنكر ذلك جحد الضرورة فلو لا صلاحية القدرة الحادثة لإيجاد ما أراد لما أحس من نفسه ذلك قالوا وأنتم وافقتمونا على إحساس التفرقة بين حركة الضرورة والاختيارية ولم يخل الحال من أحد أمرين إما أن يرجع إلى نفس الحركتين من حيث إن إحداهما واقعة بقدرته والثانية واقعة بقدرة غيره وإما أن يرجع إلى صفة في القادر من حيث إنه قادر على أحدهما غير قادر على الثانية فإن كان قادرا فلا بد له من تأثير في مقدوره ويجب أن يتعين الأثر في الوجود لأن حصول الفعل بالوجود لا بصفة أخرى تقارن الوجود وما سميتموه كسبا غير معقول فإن الكسب إما أن يكون شيئا موجودا أو لم يكن شيئا موجودا فإن كان شيئا موجودا فقد سلّمتم التأثير في الوجود وإن لم يكن موجودا فليس بشيء.

وأكدوا ما قالوه بقولهم إثبات قدرة لا تأثير لها كنفي القدرة فإن تعلقها بالمقدور كتعلق العلم بالمعلوم ولا يجد الإنسان تفرقة بين حركتين في أن إحداهما معلومة والثانية مجهولة ويجد التفرقة بينهما في أن إحداهما مقدورة والثانية غير مقدورة.

قلنا : وقوع الفعل على حسب الدواعي ممنوع بل هو نفس المتنازع فيه ودعوى الضرورة فيه غير مستقيم لمخالفتنا إياكم في ذلك ولانتقاضه عليكم طردا وعكسا فإن أفعال النائم والساهي والغافل لم تقع على حسب الدواعي وهي منسوبة إلى العباد نسبة الإيجاد عندكم وكثير من الأعراض وقع على حسب الدواعي وهي غير منسوبة إلى العباد نسبة الإيجاد عندكم بالاتفاق كالألوان التي تحصل بالصبغ والطعوم التي تحصل بالمزج والحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة عند تقريب الأجرام بعضها من بعض ، والشبع عند الطعام والري عقيب الشرب والفهم عند الإفهام إلى غير ذلك مما أجرى الله تعالى العادة به فلا دعوى الضرورة صحيحة ولا الدليل مطرد وأنتم مدفوعون إلى إيراد حجة على نفس ما تنازعنا فيه وهو إثبات تأثير القدرة الحادثة في الوجود من حيث هو وجود وما ذكرتموه من التفرقة بين الحركتين إما الوجدان فمسلم لكن لم قلتم إن إحداهما موجودة بالقدرة الحادثة فإنا قد بينا أنها راجعة إلى أحد أمرين إما إلى صفة في المحل وإما إلى حال في الحركة وفصلناهما أحسن تفصيل وبالجملة الإيجاد غير محسوس ولا يدرك بإحساس النفس ضرورة فقد وجدنا للتفرقة بين الحركتين والحالتين مرجعا ومردا غير الوجود أليس من أثبت المعدوم شيئا عندكم ما

٥٠

ردّ التفرقة إلى العرضية واللونية والحركية في أنها بالقدرة الحادثة فإنها صفات نفسية ثابتة في العدم ولا إلى الاحتياج إلى المحل فإنها من الصفات التابعة للحدوث فلذلك نحن لا نردّها إلى الوجود فإنها من آثار القدرة الأزلية ونردها إلى ما أنتم تقابلونه بالثواب والعقاب حتى ينطبق التكليف على المقدور والمقدور على الجزاء والدواعي والصوارف أيضا تتوجه إلى تلك الجهة فإن الإنسان لا يجد في نفسه داعية الإيجاد ويجد داعية القيام والقعود والحركة والسكون والمدح والذم وهذه هيئات تحصل في الأفعال وراء الوجود تتميز عن الوجود بالخصوص والعموم فإن شئت سميتها وجوها واعتبارات وبالجملة لا تنزل في كونها معقولة عن درجة الاختصاص ببعض الجائزات الذي هو من أثر الإرادة والإحكام والإتقان الذي هو من أثر العلم وكون الصيغة أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا بالإرادة.

والسر الذي دفعنا إلى ذلك عموم تعلق قدرة الباري سبحانه وتعالى وقادريته واستدعاؤها أعم صفات الفعل وخصوص صلاحية القدرة الحادثة واستدعاؤها أخص صفات الفعل فإن الفعل كان مقدورا للباري سبحانه وتعالى قبل تعلق القدرة الحادثة أي هي على حقيقة الإمكان صلاحية والقدرة على حقيقة الإيجاد صلاحية ونفس تعلق القدرة الحادثة لم تخرج الصلاحيتين عن حقيقتهما فيجب أن تبقى على ما كانت عليه من قبل ثم يضاف إلى كل واحد من المتعلقين ما هو لائق فالوجود من حيث هو وجود إما خير محض وإما لا خير ولا شر انتسب إلى الباري سبحانه إيجادا وإبداعا وخلقا والكسب المنقسم إلى الخير والشر انتسب إلى العبد فعلا واكتسابا وليس ذلك مخلوقا بين خالقين بل مقدورا بين قادرين من جهتين مختلفتين أو مقدورين متمايزين لا يضاف إلى أحد القادرين ما يضاف إلى الثاني.

ثم نقول نحن نعكس عليكم الدليل فنستدل على أن الحركات ليست مخلوقة للعباد بوقوع أكثرها على خلاف الدواعي والقصود فإن الإنسان إذا أراد تحريك يده في جهة مخصوصة على حد مضبوط عنده مثل تحريك إصبعه على خط مستقيم لم يتصور ذلك من غير انحراف عن الجهة المخصوصة ، وكذلك لو رمى سهما وقصد أن يمضي فأخطأ أو رمى حجرا فأصاب موضعا وأراد أن يصيب في الرمي ، ثانيا لم يتأت له ذلك ويستمر ذلك في جميع الصناعات المبنية على الأسباب فإن الاستداد والانحراف فيها مرتب على حركات اليد والإنسان قاصر القدرة على تسديدها على حسب الداعية فإذا وجدنا الدواعي ولم نجد التأتي ووجد التأتي ولم توجد الدواعي علمنا أن اختلاف الأحوال والحركات دالة على مصدر آخر سوى دواعي الإنسان وصوارفه.

٥١

ومما يوضحه أن القدرة على الشيء قدرة على مثله وعلى ضده عند الخصم فلو كانت الحركة الأولى تحدث بإحداثه لكان قادرا على مثلها أو على ضدها مثل ما قدر على الأولى ولكانت الحركات لا تختلف أصلا عند اجتماع الدواعي (١).

المسلك الثاني لهم في إثبات الفعل للعبد إيجادا قولهم التكليف متوجه على العبد بافعل ولا تفعل فلم تخل الحال من أحد أمرين إما أن لا يتحقق من العبد فعل أصلا فيكون التكليف سفها من المكلف ومع كونه سفها يكون متناقضا فإن تقديره افعل يا من لا يفعل وأيضا فإن التكليف طلب والطلب يستدعي مطلوبا ممكنا من المطلوب منه وإذا لم يتصور منه فعل بطل الطلب وأيضا فإن الوعد والوعيد مقرون بالتكليف والجزاء مقدر على الفعل والترك فلو لم يحصل من العبد فعل ولم يتصور ذلك بطل الوعد والوعيد وبطل الثواب والعقاب فيكون التقدير افعل وأنت لا تفعل ثم إن فعلت ولن تفعل فيكون الثواب والعقاب على ما لم يفعل وهذا خروج عن قضايا الحس فضلا عن قضايا المعقول حتى لا يبقى فرق بين خطاب الإنسان العاقل وبين الجماد ولا فصل بين أمر التسخير والتعجيز وبين أمر التكليف والطلب.

قالوا : ودع التكليف الشرعي أليس المتعارف منا والمعهود بيننا مخاطبة بعضنا بعضا بالأمر والنهي وإحالة الخير والشر على المختار وطلب الفعل الحسن والتحذير عن الفعل القبيح ثم ترتيب المجازات على ذلك ومن أنكر ذلك فقد خرج عن حد العقل خروج عناد فلا يناظر إلا بالفعل مناظرة السفسطائية فيشتم ويلطم فإن غضب بالشتم وتألم باللطم وتحرك للدفع والمقابلة فقد اعترف بأنه رأى من المعامل شيئا ما وإلا فما باله غضب وتألم منه وأحال الفعل عليه وإن تصدّى للمقابلة فقد اعترف بأنه رأى من المعامل فعلا يوجب الجزاء والمكافأة.

والجواب عن ذلك من وجهين أحدهما : الإلزامات على مذهبهم ، والثاني : التحقيق على موجب مذهبنا.

الأول أن نقول : عيّنوا لنا ما المكلف به وما المطلوب بالتكليف فإن إجمال القول بأن التكاليف متوجه على العبد ليس يغني في تقدير أثر القدرة الحادثة وتعيينه.

فإن قلتم : المطلوب والمكلف به هو الوجود من حيث هو وجود فذلك محل التنازع وكيف يكون الوجود هو المطلوب والوجود من حيث هو وجود لا يختلف في

__________________

(١) انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١١٦) ، وتمهيد الباقلاني (ص ٣٣٢) ، وأقاويل الثقات لمرعي (ص ١٦١).

٥٢

كونه قبيحا وحسنا ومنهيا عنه ومأمورا به ومن المعلوم أن المطلوب بالتكليف مختلف الجهة فمنه ما هو واجب فعله ويثاب عليه ويمدح به ومنه ما هو واجب تركه ويعاقب على فعله ويذم عليه.

وإن قلتم : المكلف به هو جهة يستحق المدح والذم عليه فهو مسلم وذلك الوجه ليس يندرج تحت القدرة وما اندرج لم يكن مكلفا به فسقط الاحتجاج بالتكليف.

فإن قيل المقدور هو وجود الفعل إلا أنه يلزمه ذلك الوجه المكلف به لا مقصودا بالخطاب.

قيل : لا يغنيكم هذا الجواب فإن التكليف لو كان مشعرا بتأثير القدرة في الوجود كان المكلف به هو الوجود من حيث هو وجود لا غير ولكن تقدير الخطاب أوجد الحركة التي إذا وجدت يتبعها كونها حسنة وعبادة وصلاة وقربة فما هو مقصود بالخطاب غير موجود بإيجاده فيعود الإلزام عكسا عليكم افعل يا من لا يفعل فليت شعري أي فرق بين مكلف به لا يندرج تحت قدرة المكلف ولا يندرج تحت قدرة غيره وبين مكلف به اندرج تحت قدرة المكلف من جهة ما كلف به واندرج تحت قدرة غيره من جهة ما لم يكلف به أليس القضيتان لو عرضتا على محك العقل كانت الأولى أشبه بالجبر فهم قدرية من حيث أضافوا الحدوث والوجود إلى قدرة العبد إحداثا وإيجادا وخلقا وهم جبرية من حيث لم يضيفوا الجهة التي كلف بها العبد إلى قدرته كسبا وفعلا كما قيل أعور بأي عينيه شاء ثم يلزمهم الأعراض التي اتفقوا على أنها حاصلة بإيجاد الباري سبحانه وقد ورد الخطاب بتحصيلها أو بتركها وتوجه الثواب والعقاب عليها وهي أيضا مما يتعارفه الناس ويتداولونه مثل الألوان والطعوم واستعمال الأدوية والسموم والجراحات المزهقة للروح والفهم عقيب الإفهام والشبع عقيب الطعام إلى غير ذلك فإن هذه كلها حاصلة بإيجاد الباري سبحانه وقد يرد الخطاب بتحصيلها عقيب أسباب يباشرها العبد.

ووجه الإلزام أن الخطاب يتوجه بتحصيل أعيانها مقصودا ولذلك يعاقب على قدر ويمدح على قدر ومن المعلوم أن من استأجر صباغا ليبيض ثوبه فسوده غرم ومن قتل إنسانا بسم استوجب القود ومن أحرق ثوب إنسان أو أغرق سفينة أو فتح بثقا حتى هلك زرع أو هدم دار عوقب على ذلك وضمن وغرم ، فمورد التكليف ما اندرج تحت القدرة وما اندرج تحت القدرة غير مورد التكليف.

والجواب عن السؤال من حيث التحقيق أنا قد بينا وجه الأثر الحاصل بالقدرة

٥٣

الحادثة وهو وجه أو حال للفعل مثل ما أثبتموه للقادرية الأزلية فخذوا من العبد ما يشابه فعل الخالق عندكم فلينظر إلى الخطاب بافعل لا تفعل أو خوطب أوجد ولا توجد أو خوطب اعبد الله ولا تشرك به شيئا فجهة العبادة التي هي أخص وصف للفعل صار عبادة بالأمر وذلك حاصل بتحصيل العبد مضاف إلى قدرته فما يضركم إضافة أخرى نعتقدها وهي مثل ما اعتقدتموه تابعا فالوجود عندنا كالتابع أو كالذاتي الذي كان ثابتا في العدم والفرق بيننا أنا جعلنا الوجود متبوعا وأصلا وقلنا هو عبارة عن الذات والعين وأضفناه إلى الله سبحانه وتعالى وجميع ما يلزمه من الصفات وأضفنا إلى العبد ما لا يجوز إضافته إلى الله تعالى حيث لا يقال أطاع الله تعالى وعصى الله تعالى وصام وصلى وباع واشترى وقام ومشى فلا تتغير صفاته بأفعاله فلا يعزب عن علمه ذرة من خلقه بخلاف ما يضاف إلى العبد فإنه يشتق له وصف واسم من كل فعل يباشره وتتغير ذاته وصفاته بأفعاله ولا يحيط علما بجميع وجوه اكتسابه وأعماله وهذا معنى ما قاله الأستاذ أبو إسحاق إن العبد فاعل بمعين والرب فاعل بغير معين.

وأما على طريقة الشيخ أبي الحسن رحمه‌الله حيث لم يثبت للقدرة أثرا.

فالجواب عن هذه الإلزامات مشكل عليه غير أنه يثبت تأتيا وتمكنا يحسه الإنسان من نفسه وذلك يرجع إلى سلامة البنية واعتقاد التيسر بحكم جريان العادة أن العبد مهما هم بفعل وأزمع على أمر خلق الله تعالى له قدرة واستطاعة مقرونة بذلك الفعل الذي يحدثه فيه فيتصف به العبد وبخصائصه وذلك هو مورد التكليف وإحساسه بذلك كإحساسه بالصفات التابعة للحدوث عندكم وإن لم تكن هي أثر القدرة الحادثة.

ومما يوضح الجواب غاية الإيضاح أن التكليف بافعل ولا تفعل ورد بالاستعانة بالله سبحانه وتعالى في نفس المكلف به كقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وكقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) وسواء كانت الهداية نفسها هي المسئولة بالدعاء أو الثبات عليها هو المسئول ولا شك أن العبد لو كان مستقلا بإنشائها بقدرته مستبدا بالثبات عليها كان مستغنيا عن هذه الاستعانة ثم الله سبحانه يمن على من يشاء من عباده بأن هداهم للإيمان وعند الخصم هو محمول على خلق القدرة وهي صالحة للضدين جميعا على السواء وذلك يبطل قضية الامتنان بالهداية قال الله سبحانه وتعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ).

وتحقيق ذلك من غير حيد عن الإنصاف أن العبد كما يحس من نفسه التمكن

٥٤

من الفعل وتيسر التأتي يحس من نفسه الافتقار والاحتياج إلى معين في كل ما يتصرف ويجد في استطاعته ويتكلف فقدان الاستقلال والاستبداد بالفعل في كل ما يأتي ويذر ويقدم ويؤخر من تصرفات فكره نظرا واستدلالا ومن حركات لسانه قيلا وقالا ومن ترددات يديه يمينا وشمالا فيحس الاقتدار على النظر ولا يحس الاقتدار على العلم بعد حصول النظر فإنه لو أراد أن لا يحصل لا يتمكن منه ويحس من نفسه تحريك لسانه بالحروف ولو أراد أن يبدل المخارج ويغير الأصوات لم يتمكن من ذلك ويحس تحريك يديه وأنملته ولو أراد تحريك جزء واحد من غير تحريك الرباطات المتصلة لم يتمكن من ذلك وعند الخصم القدرة صالحة للأضداد والأمثال وهي متشابهة في القادرين فالعبد مستقل بالإيجاد والاختراع وليس إلى الباري سبحانه وتعالى من هذه الأفعال إلا خلق القدرة فحسب واشتراط البنية من أضعف ما يتصور والحق في المسألة تسليم التمكن والتأتي والاستطاعة على الفعل على وجه ينتسب إلى العبد وجه من الفعل يليق بصلاحية قدرته واستطاعته وإثبات الافتقار والاحتياج ونفي الاستقلال والاستبداد فنجد في التكليف موردي الخطاب فعلا واستطاعة ويضاف في الجزاء مقابلة وتفضلا والله أعلم (١).

__________________

(١) انظر : غاية المرام (ص ٦٨ ، ٨٩ ، ١٠٠ ، ٢٢٢) ، والفرق بين الفرق البغدادي (ص ٣٢٩ ، ٣٣٨) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ١٠٦ ، ١٠٧).

٥٥

القاعدة الثالثة

في التوحيد (١)

وفيها الرد على الثنوية وتستدعي هذه المسألة سبق ذكر الوحدانية ومعنى الواحد.

قال أصحابنا : الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه ولا تقبل الشركة بوجه فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وقد أقمنا الدلالة على انفراده بأفعاله فلنقم الدلالة على انفراده بذاته وصفاته.

وقالت الفلاسفة : واجب الوجود بذاته لا يجوز أن يكون أجزاء كمية ولا أجزاء حد قولا ولا أجزاء ذات فعلا ووجودا وواجب الوجود لن يتصور إلا واحدا من كل وجه ، فلا يتصور ولا يتحقق موجودان كل واحد منهما واجب بذاته ، وعن هذا نفوا الصفات وإن أطلقوها عليه فبمعنى آخر كما سنذكره.

ووافقهم المعتزلة على ذلك غير أنهم مختلفون في التفصيل وسنفرد لإثبات الصفات مسألة ونذكر المذهبين فيها وهذه المسألة مقصورة على استحالة وجود الإلهين يثبت لكل واحد منهما من خصائص الإلهية ما يثبت للثاني ولست أعرف صاحب مقالة صار إلى هذا المذهب لأن الثنوية وإن صارت إلى إثبات قديمين لم تثبت لأحدهما ما ثبت للثاني من كل وجه والفلاسفة ، وإن قضوا بكون العقل والنفس أزليين وقضوا بكون الحركات سرمدية لم يثبتوا للمعلول خصائص العلة كيف وأحدهما علة والثاني معلول والصابئة وإن أثبتوا كون الروحانيين والهياكل أزلية سرمدية مدبرة لهذا العالم وسموها أربابا وآلهة فلم يثبتوا فيها خصائص رب الأرباب ودلالة التمانع في القرآن مسرودة على من يثبت خالقا من دون الله سبحانه وتعالى قال الله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] وعن هذا صار أبو الحسن رحمه‌الله إلى أن أخص وصف الإله هو القدرة على الاختراع فلا يشاركه فيه غيره ومن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين.

__________________

(١) انظر : المقصد الأسنى للغزالي (ص ١٣٣) ، وتلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ٤٦٥ ، ٤٦٦ ، ٤٦٩) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٢٣١) ، ومعنى لا إله إلا الله للزركشي (ص ٩٠).

٥٦

قد بينا على استحالة وجود إلهين : أنا فرضنا الكلام في جسم وقدرنا من أحدهما إرادة تحريكه ، ومن الثاني إرادة تسكينه في وقت واحد لم يخل الحال من أحد ثلاثة أمور إما أن تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى اجتماع الحركة والسكون في محل واحد في حالة واحدة وذلك بين الاستحالة وإما أن لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجز وقصور في إلهية كل واحد منهما وخلو المحل عن الضدين وذلك أيضا بين الاستحالة وإما أن تنفرد إرادة أحدهما دون الثاني فيصير الثاني مغلوبا على إرادته ممنوعا من فعله مضطرا في إمساكه وذلك ينافي إلاهية قال الله تعالى: (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وكذلك لو فرضنا في توارد الإرادة والاقتدار على فعل واحد فإما أن يشتركا في نفس الإيجاد وهو قضية واحدة لا يقبل الاشتراك وإما أن ينفرد أحدهما بالإيجاد فيكون المنفرد هو الإله والثاني يكون مغلوبا مقهورا وكذلك لو فرضنا في فعلين متباينين حتى يذهب كل إله بما خلق فيكون استغناء كل واحد منهما عن الثاني افتقارا إليه لأن نفس الاستغناء استعلاء وفي الاستعلاء إلزام قهر وغلبة على الثاني.

ولنزد هذا بيانا وشرحا فإن التمانع في الفعل إن أوجب استحالة الإلهين والتمانع في الاستغناء بالذات أدل على استحالة الإلهين.

فنقول لو قدرنا إلهين استغنى كل واحد منهما عن صاحبه من كل وجه خرج المستغني عنه عن كمال الاستغناء فإن المستغني على الإطلاق من يستغني به ولا يستغنى عنه فيكون كل واحد منهما مستغنيا عنه فيكون مفتقرا قاصرا عن درجة الاستغناء المطلق فلن يتصور إذا إلهان مستغنيان على الإطلاق والله الغني وأنتم الفقراء إشارة إلى هذا المعنى.

ونقول : لو قدرنا إلهين فإما أن يكونا مختلفين في الصفات الذاتية أو متماثلين والمختلفان يستحيل أن يكونا إلهين لأن الصفة الذاتية التي بها تقدس الإله عن غيره إذا كانا مختلفين فيها كان الذي اتصف به هو الإله والمخالف ليس بإله وإما أن يكونا متماثلين في الصفات الذاتية من كل وجه فالمتماثلان ليس يتميز أحدهما عن الثاني بالحقيقة والخاصية فإن حقيقتهما واحدة بل بلوازم زائدة على الحقيقة مثل المحل والمكان والزمان وكل ذلك ينافي الإلهية أليس لما كان السوادان متماثلين لم يتميز أحدهما بحقيقة السوادية بل باختلاف المحل أو باختلاف الزمان وكذلك الجوهران فدل ذلك على أن التماثل في الإلهية لن يتصور بوجه ليس كمثله شيء إشارة إلى هذا المعنى.

ونقول من المعلوم أن الطريق إلى إثبات الصانع هو الدليل بالأفعال إذ الحس لا

٥٧

يشهد عليه والأفعال التي شاهدناها دلت عليه من جهة جوازها وإمكانها في ذاتها والجواز قضية واحدة تدل على الصانع من حيث إنها ترددت بين الوجود والعدم فلما ترجح جانب الوجود اضطررنا إلى إثبات مرجح وليس في نفس الجواز وترجحه ما يدل على مرجحين كل واحد منهما يستقل بالترجيح فإنه لو لم يستقل بالترجيح لم يكن إلها وإنما ترجح جانب الوجود لأنه أراد التخصيص بالوجود وكما أراد علم أنه هو المرجح ، فلو قدرنا مرجحا آخر وشاركه في الترجيح بطل الاستقلال ، ولم يكن علمه وإرادته وقدرته أيضا بأن يكون هو المرجح وإن لم يشاركه في الترجيح وكان متعطلا لم يكن علمه وإرادته وقدرته أيضا بأن يكون هو المرجح بل يكون علمه متعلقا بترجيح غيره وإرادته كذلك ، وإذا تعلق علمه بأن يكون غيره هو المرجح كان محالا أن يكون هو المرجح فإن خلاف المعلوم محال الوقوع وكذلك إرادته تكون تمنيا وتشهيا من غيره حتى تخصص لا قصدا وترجيحا وتخصيصا من ذاته فقد تطرق النقص إلى كل صفة من صفاته بل كان مفتقرا في جميع ذلك إلى غيره والفقر ينافي الإلهية وهذه الطريقة تعضد بيان طريقة الاستغناء وهي أحسن ما ذكر في هذه المسألة (١).

سؤال على دليل التمانع في فعلين مختلفين :

فإن قيل الاختلاف الذي قدرتموه في إرادة التحريك من أحدهما وإرادة التسكين من الآخر غير متصور فإن الإرادة تتبع العلم والعلم يتبع المعلوم فإذا كان المعلوم هو الحركة فمن ضرورته أن يكون المراد هو الحركة وتقدير الاختلاف في العلم غير متصور فتقدير الاختلاف في الإرادة أيضا غير متصور ، ومبنى دلالة التمانع على تحقيق الاختلاف أو تقديره وذلك غير جائز فبطل التمسك بها (٢).

قال الأصحاب : الحركة والسكون من جملة الجائزات جبلة إذ ليس في وجود كل واحد منهما استحالة ، وإذا كانت القدرة صالحة وتقدير الاختلاف في الإرادة متصور عقلا فنحن نجعل المقدر كالمحقق وإن ما يلزم من التحقيق يلزم من التقدير

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ١٥٤ ، ٢٧٣) ، وفضائح الباطنية للغزالي (ص ١٥١) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (١ / ٤٨) (٣ / ١٢٤) ، والمواقف للإيجي (٣ / ٦٠ ، ٦٤) ، ولمع الأدلة للجويني (ص ٩٨) ، والغنية في أصول الدين للنيسابوري (ص ٦٧ ، ٦٨) ، ومرهم العلل لليافعي (ص ٥٧) ، ورسالة الأشعري إلى أهل الثغر (ص ١٥٦).

(٢) انظر : شفاء العليل (ص ١٥٠) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ٢٠٧) ، والمواقف (٢ / ١١٧ ، ١١٩) ، والغنية في أصول الدين لأبي سعيد النيسابوري (ص ٦٩) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٧٠) ، ورسالة الأشعري إلى أهل الثغر (ص ١٥٦).

٥٨

كتقدير قيام لون أو عرض آخر بذاته تعالى نازل منزلة التحقيق في الاستحالة والعلم ليس يخرج الجائز عن قضية الجواز فإن خلاف المعلوم جائز الوجود جنسا وأقول إذا علم أحدهما تحريكه بإرادته وقدرته أفيعلم الثاني تحريكه بإرادة نفسه وقدرته أم يعلم تحريكه بإرادة غيره وقدرته؟ فإن علم ذلك موجودا بإرادته وقدرته ، فيكون العلم الثاني جهلا لا علما وإن علمه موجود بإرادة غيره وقدرته على فعل غيره فتقديرهما مستحيل الوجود أو ناقص الوجود ، فإن أخص وصف الإرادة ما يتأتى به التخصيص وأخص وصف القدرة ما يتأتى بها الإيجاد والإبداع وهما إذا تعلقا بفعل الغير خرجا عن أخص حقيقتهما ففي تعطيلهما عن الفعل بعد جواز الفعل إبطال حقيقتهما ، ولهذا قلنا إن معنى فاعلية الباري سبحانه وتعالى أنه لما علم وجود شيء في وقت مخصوص أو تقدير وقت أراده على مقتضى علمه وأوجده بقدرته على مقتضى إرادته من غير أن تتغير ذاته أو صفة من صفاته وعلمه وإرادته وقدرته فيشبه أن يقال لزم كونه ضرورة ولكنا لا نطلق هذا اللفظ ملاحظة منا جانب الإرادة والقدرة حتى لا يلزمنا الإيجاب بالذات ، وذلك ينافي الكمال فنحن إنما عرفنا الجواز في الجائزات بقضية عقلية ضرورية وعرفنا استناد وجود الموجودات إلى عالم قادر مريد لضرورة الاحتياج في الجائزات فإن قدرناهما على كمال الاقتدار والاستبداد بالفعل والإبداع والتساوي في صفات الذات وصفات الفعل حتى يكون كل واحد منهما هو الموجد بقدرته وإرادته وعلمه وقع القانع في الفعل وإن قدرناهما على تسليم أحدهما للثاني في جميع ما اشتغل به كان المسلم عبدا والمسلم إليه إلها حقا وإن كان كل واحد منهما مستقلا في بعض مسلما في بعض كان كل واحد منهما محتاجا من وجه وغنيا من وجه قاصرا من حيث الفعل كاملا من حيث القوة فلا يكون إلهين بل محتاجين إلى كامل من كل وجه فإذا لا يتصور في العقل تقدير موجودين على كمال الاستقلال ولا في التجويز العقلي تقدير قادرين على التساوي في كمال الاقتدار ، ولا مريدين ولا عالمين على التماثل في كمال الإرادة والعلم بل ولا ذاتين متساويين من جميع الوجوه من غير أن يختص إحداهما عن الثانية إما بإشارة إلى هذا أو ذلك أو محل مميز أو مكان محيز وزمان مقدم أو مؤخر أو بفعل خاص أو أثر يدل على تغاير المصدر وتباين المظهر ولهذا قلنا : إن الواحد مدلول الفعل ولو قدرنا ثانيا وثالثا لتكافئوا من حيث العدد(١).

__________________

(١) انظر : الغنية في أصول الدين (ص ١٦٢) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٥٢٠) (٣ / ٤٦٣) ، والملل والنحل للشهرستاني (٢ / ١٧).

٥٩

ولقد استهزأ بهذه الطريقة من لم يدرك غورها وأمكن تقريرها من وجهين :

أحدهما : أن الفعل قد دل على وجود صانع للعالم مريد قادر فإن قدر ثان ، فلا يخلو إما أن يكون له دليل خاص على وجوده أو يجوز عقلا بأن يقال كما لا دليل على وجوده لا دليل على انتفائه فإن له دليلا بأن يخلق عالما آخر غير العالم المعين فيؤدي إلى قصور في الإلهين جميعا كما بينا وإن جوز ذلك فيجب أن يكون عالما بأن يخلق مريدا لأن يخلق قادرا على أن يخلق وإذا لم يخلق دل على أنه لم يرد وإذا لم يرد علم أن لا يخلق والإله يجب علمه بأن يخلق ويريد بأن يخلق حتى يكون مثلا للأول فإنما ليس بمثل له ليس بإله.

والوجه الثاني في تقرير التكافؤ : أن الأمر لا يخلو إما أن يقف في عدد معلوم فيستدعي الاقتصار على عدد محصور مقتضيا حاصرا فإن الكمية من حيث العدد كالكمية من حيث المساحة أليس لو كان واحدا ذا حجم وعظم مشكل اقتضى مشكلا لذلك إذا كان ذا مقدار وعدد اقتضى مقدرا وإن لم يقف في عدد معلوم اقتضى أعدادا غير متناهية محصورة في الوجود غير مترتبة وذلك محال وبالجملة ما لا دليل عليه عقلا فتجويز وجوده تقدير عقلي والمجوز عقلا المقدر ذهنا ليس بإله.

فلا تعقل عن هذه الدقيقة وأفرق في المعقولات بين تقدير المحال لفظا أو فرضا وبين تجويزه عقلا أو عقدا واعلم أن التقدير المذكور في الكتاب فرض محال لفظا ليس بطلانه عقلا.

سؤال على وجه دلالة الفعل (١) :

فإن قيل صادفنا في الموجودات خيرا أو شرا أو نظما أو فسادا ووجه دلالة الخير يخالف وجه دلالة الشر بل وجود الخير يدل على مريد الخير ووجود الشر يدل على مريد الشر ومريد الخير على الإطلاق لا يكون مريدا للشر على الإطلاق كما أن مريد الخير في فعل مخصوص لا يكون مريد الشر في ذلك الفعل بعينه فاختلاف وجه دلالة الفعل بالتضاد دل على اختلاف الفاعلين بالتضاد وكما أنكم استدللتم بأنه لو كان معه إله لفسدت السموات والأرض فنحن نستدل بفساد فيهما خيرا وشرا على إلهين اثنين.

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (٣ / ٥٦٦) ، والتبصير في الدين للأسفراييني (ص ١٦٣) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٣٠).

٦٠