نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

٣٦١
٣٦٢

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ترجمة المؤلف

أبي إسحاق الشيرازي ٣٩٣ ـ ٤٧٦ ه

هو الإمام إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد اللّه الفيروزآبادي الشيرازي وكنيته أبو إسحاق ولد سنة ٣٩٣ ه في إحدى قرى فارس يقال لها جور ، ثم انتقل بعد ذلك إلى شيراز فنسب إليها ، ونقل ابن كثير أن مولده كان سنة ٣٩٣ ه بخوارزم. نشأ محبا للعلم يسعى إلى تحصيله ويرتحل في طلبه من مكان إلى مكان آخر ما بين خراسان ونيسابور.

تتلمذ الشيرازي على أئمة كبار ، فجلس بشيراز إلى مجلس شيخه أبي عبد اللّه البيضاوي وأبي أحمد بن عبد الوهاب بن رامين ، ثم قدم البصرة فتتلمذ على يد الخرزي. ودخل بغداد في شوال سنة ٤١٥ ه فلازم بها شيخه أبا الطيب الطبري ، وبرع في الفقه الشافعي وذاع صيته فيه حتى جلس مجلس شيخه في التدريس والتعليم كما قرأ الفقه أيضا على الزجاجي وأخذ الأصول عن أبي حاتم القزويني ، وسمع الحديث من أبي بكر البرقاني ببغداد وجلس للحديث والفتيا في بغداد ونيسابور وهمذان. وعرف بين أبناء عصره بأنه أعلم أهل العصر في الفقه الشافعي والحديث ، وأصبح مجلسه مقصدا يؤمه طلبة العلم من كل مكان حتى قال فيه العقيلي مادحا فضله وعلمه :

كفاني إذا عنّ الحوادث صارم

ينيلني المأمول في الإثر والأثر

يقدّ ويفري في اللقاء كأنّه

لسان أبي إسحاق في مجلس النّظر

وذكر الذهبي في العبر أنه كان أنظر أهل زمانه وأفصحهم وأكثرهم ورعا وتواضعا وبشرا وانتهت إليه رئاسة المذهب وتوفي وله ثلاث وثمانون سنة.

٣٦٣

مذهبه :

من المعروف أن أبا إسحاق قد جمع في مذهبه في أصول الدين وفروعه بين الأشعرية والشافعية. فكان على مذهب أبي الحسن الأشعري عقيدة ، وعلى مذهب الشافعي فروعا ، وكانت قدمه ثابتة في تاريخ المذهبين ، فكان مرجعا في مسائل الخلاف سواء في قضايا الأصول أو في قضايا الفروع ، ويتضح من الكتاب الذي بين أيدينا تمسكه الشديد بالمذهب الأشعري ودفاعه عنه وانتصاره لرأي أبي الحسن في قضايا الخلاف بينه وبين القدرية.

وقد وقع في عصره خلاف بين الحنابلة والقشيري وهو خلاف مشهور بين المذهبين في قضايا أصول الدين ، وشكا الحنابلة من الفيروزآبادي لأنه كان ينتصر لمذهب الأشاعرة وللقشيري ضد الحنابلة ، وبلغ ذلك نظام الملك حيث قيل له إن أبا إسحاق يريد إبطال مذهب الحنابلة ، فأرسل إليه نظام الملك في ذلك حتى يكف عن النيل من الحنابلة فكتب إليه أبو إسحاق يشكو من عنف الحنابلة ويذكر له سبهم له وأن الحنابلة يثيرون الفتن بين المسلمين ويسأله المعونة على الحنابلة ، فكان جواب نظام الملك يحمل الإنكار الشديد والتعنيف لخصوم القشيري من الحنابلة وكان ذلك سنة ٤٦٩ ه وهدأت الأحوال بعد ذلك.

ثم تكلم بعض الحنابلة فنال من الشيخ أبي إسحاق فجمع الخليفة بينه وبين الحنابلة وأصلح ما كان بينهم من خصومات بعد أن كانت الفتنة قد بلغت في ذلك حدا كبيرا قتل فيها نحو عشرين قتيلا.

وينقل بعض المؤرخين لما وقع الصلح ، وسكن الأمر ، أخذ الحنابلة يشيعون أن الشيخ أبا إسحاق تبرّا من مذهب الأشعري فغضب الشيخ لذلك غضبا لم يصل أحد إلى تسكينه ، وكاتب نظام الملك ، فقالت الحنابلة : إنه كتب يسأله في إبطال مذهبهم ، ولم يكن الأمر على هذه الصورة ، وإنما كتب يشكو أهل الفتن ، فعاد جواب نظام

٣٦٤

الملك ، في سنة سبعين وأربعمائة إلى الشيخ ، باستجلاب خاطره وتعظيمه ، والأمر بالانتقام من الذين أثاروا الفتنة ، وبأن يسجن الشريف أبو جعفر ، وكان الخليفة قد حبسه بدار الخلافة ، عندما شكاه الشيخ أبو إسحاق.

قالوا : ومن كتاب نظام الملك إلى الشيخ «وإنه لا يمكن تغيير المذاهب ، ولا نقل أهلها عنها ، والغالب على تلك الناحية مذهب أحمد ، ومحله معروف عند الأئمة ، وقدره معلوم في السنة ...» من كلام طويل ، سكن به جأش الشيخ.

وأنا لا أعتقد أن الشيخ أراد إبطال مذهب الإمام أحمد ، وليس الشيخ ممن ينكر مقدار هذا الإمام الجليل ، المجمع على علوّ محلّه من العلم والدين ، ولا مقدار الأئمة من أصحابه أهل السنة والورع. وإنما أنكر على قوم عزوا أنفسهم إليه وهو منهم برئ ، وأطالوا ألسنتهم في سبّ الشيخ أبي الحسن الأشعري. وهو كبير أهل السنة بعده ، وعقيدته وعقيدة الإمام أحمد ـ رحمه اللّه ـ واحدة ، لا شك في ذلك ولا ارتياب ، وبه صرح الأشعري في تصانيفه ، وكرر فيرى مرة «أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المبجّل أحمد بن حنبل» هذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضع من كلامه.

٣٦٥

علمه وورعه

كان الشيخ أبو إسحاق ممن انتشر فضله في البلاد ، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد والسداد ، وأقر بعلمه وورعه الموافق والمخالف والمعادي والمحالف ... ، وحاز قصب السبق في جميع الفضائل وتعزّى بالدين والنزاهة عن كل الرذائل ، وكان سخي النفس ، شديد التواضع ، طلق الوجه ، لطيفا ظريفا ، كريم العشرة ، سهل الأخلاق ، كثير المحفوظ للحكايات والأشعار.

كان عاملا بعلمه ، صابرا على خشونة العيش ، معظما للعلم ، مراعيا للعمل بدقائق الفقه والاحتياط ، فقال عنه القاضي أبو العباس الجرجاني صاحب (المعاياة) بتحقيقنا محمد فارس : كان أبو إسحاق الشيرازي لا يملك شيئا من الدنيا ، فبلغ به الفقر حتى كان لا يجد قوتا ولا ملبسا ولقد كنا نأتيه وهو ساكن في القطيعة ، فيقوم لنا نصف قومة ـ ليس يعتدل قائما من العرى ـ كي لا يظهر منه شيء.

قال السرخاني : قال أصحابنا ببغداد : كان الشيخ أبو إسحاق إذا بقي مدة لا يأكل شيئا ، صعد إلى النصرية وله بها صديق ، فكان يثرد له رغيفا ويشربه بماء الباقلاء ، فربما صعد إليه وقد فرغ ، فيقول أبو إسحاق :(تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (النازعات : من الآية ١٢).

قال أبو بكر الشاشي : أبو إسحاق حجة اللّه على أئمة العصر.

وقال الموفق الحنفي : أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء.

قال القاضي محمد بن الماهاني : إمامان ما اتفق لهما الحج ، أبو إسحاق الشيرازي ، وقاضي القضاة أبو عبد اللّه الدامغاني. أما أبو إسحاق فكان فقيرا ، ولو أراده لحملوه على الأعناق. والآخر لو أراده لأمكنه على السّندس والإستبرق.

وقال القاضي محمد بن الماهاني : ما اتفق للشيخ الحج ذلك أنه ما كان له استطاعة الزاد والراحلة.

٣٦٦

وعن ورعه وإخلاصه وتحريه الدقة في كل شيء ما قيل عنه أنه كان يتوضأ يوما وكان يشك في غسل وجهه ، ويكرر حتى غسله عدة مرات ، فوصل إليه بعض العوام ، وقال له يا شيخ ، أما تستحي! تغسل وجهك كذا وكذا نوبة ، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : «من زاد على الثلاث فقد أسرف»؟ فقال له الشيخ : لو صح لي الثلاث ما زدت عليها.

فمضى الرجل وخلّاه ، فقال له واحد : ما ذا قلت لذلك الشيخ الذي كان يتوضأ؟ فقال الرجل : ذاك شيخ موسوس ، قلت له : كذا على كذا.

فقال له : يا رجل ، أما تعرفه؟

فقال : لا.

قال له : ذاك إمام الدنيا ، وشيخ المسلمين ، ومفتي أصحاب الشافعي ؛ فرجع ذلك الرجل خجلا إلى الشيخ ، وقال : يا سيدي اعذرني ، فإني قد أخطأت وما عرفتك.

كما روى عن الشيخ أنه كان يمشي يوما مع بعض أصحابه فعرض له في الطريق كلب فزجره صاحبه فنهاه الشيخ وقال : أما علمت أن الطريق بيننا مشترك.

ودخل يوما مسجدا ليأكل فيه شيئا على عادته فنسى دينارا فذكره في الطريق فرجع فوجده فتركه ولم يمسه وقال ربما وقع من غيري ولا يكون ديناري.

حكى عنه أنه قال : كنت نائما ببغداد ، فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ، فقلت : يا رسول اللّه : بلغني عنك أحاديث كثيرة عن ناقلي الأخبار ، فأريد أن أسمع منك حديثا أتشرف به في الدنيا ، وأجعله ذخرا للآخرة ، فقال لي يا شيخ! ـ وسمّاني شيخا ، وخاطبني به. وكان يفرح بهذا ـ قل عني : من أراد السلامة ، فليطلبها في سلامة غيره. قال السمعاني سمعت هذا بمرو من أبي القاسم حيدر بن محمود الشيرازي ، أنه سمع ذلك من أبي إسحاق ذاته.

وقد أورد الذهبي في أخباره عن الشيخ أنه مات ولم يخلّف درهما ولا عليه درهم. وكذا فليكن الزهد ، وما تزوج فيما أعلم.

وقد بنى له الوزير نظام الملك مدرسة على شاطئ دجلة أخذ يدرس بها بعد تمنع

٣٦٧

شديد ، وبدأ العمل بها يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ٤٥٩ ه وظل يدرس بها إلى أن وافته المنية سنة ٤٧٦ ه. وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات التي رواها عنه بعض تلامذته.

لبست ثوب الرّجاء والناس رقدوا

وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا عدّتي في كلّ نائبة

يا من عليه لكشف الضّرّ أعتمد

وقد مددت يدي والضرّ مشتمل

إليك يا خير من مدّت إليه يد

فلا تردّنّها يا ربّ خائبة

فبحر جودك يروي كلّ من يرد

من أهم مؤلفاته

١ ـ التبصرة في أصول الفقه.

٢ ـ تلخيص علل الفقه.

٣ ـ التنبيه في فروع الشريعة.

٤ ـ الحدود.

٥ ـ رسالة الشيرازي في علم الأخلاق.

٦ ـ الطب الروحاني.

٧ ـ طبقات الفقهاء.

٨ ـ عقيدة السلف.

٩ ـ كتاب القياس.

١٠ ـ اللمع في أصول الفقه.

١١ ـ المعونة في الجدل.

١٢ ـ الملخص في الجدل في أصول الفقه.

١٣ ـ ملخص في الحديث.

١٤ ـ المهذب في المذهب.

١٥ ـ نصح أهل العلم.

١٦ ـ النكت في المسائل المختلف فيها بين الإمامين أبي حنيفة والشافعي.

١٧ ـ الوصول إلى مسائل الأصول أو شرح اللمع.

١٨ ـ الإشارة إلى مذهب أهل الحق وهو كتابنا.

٣٦٨

وصف النسخة الخطية

لقد اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب بالإضافة إلى المطبوعة على نسخة معهد المخطوطات العربية تحت رقم [١٩ ـ توحيد] وتقع في أربعين لوحة.

٣٦٩

٣٧٠

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم (١)

قال الشيخ الإمام أبو إسحاق بن علي بن يوسف الفيروزآبادي ـ رحمه اللّه ـ أما بعد ... فإني لما رأيت قوما ينتحلون العلم وينسبون إليه ، وهم من جهلهم لا يدرون ما هم عليه ، ينسبون إلى أهل الحق ما لا يعتقدونه ، ولا في كتاب هم يجدونه ، لينفروا قلوب العامة من الميل إليهم ، ويأمرونهم أبدا بتفكيرهم ولعنهم ، أحببت أن أشير إلى بطلان ما ينسب إليهم ، بما أذكره من اعتقادهم وأنا مع ذلك مكره لا بطل ، ولى دعوى لا عمل ، ولكن شرعت فيما شرعت مع اعترافي بالتقصير ، وعلمي بأن ناصر الحق كثير ، ليرجع الناظر فيما جمعته عن قبول قول المضلين ، ويدين اللّه عز وجل بقول الموحدين المحققين.

فقد روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إذا لعن آخر هذه الأمة أولها ، فمن كان عنده علم فليظهره ، فإن كاتم العلم ككاتم ما أنزل اللّه عز وجل على محمد» (٢). ومقصدي بذلك النصيحة.

فلن يكمل المؤمن إيمانه حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه. ويروي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «من كتم أخاه نصيحة أو علما يطلبه منه لينفع به حرمه اللّه فضل ما يرجو» (٣) نسأل اللّه تعالى أن لا يحرمنا رحمته ، وأن يدخلنا جنته.

__________________

(١) أي أبتدئ أو أؤلف ، والاسم مشتق من السمو وهو العلو.

واللّه : علم على الذات الواجب الوجود.

والرحمن الرحيم : اسمان بنيا للمبالغة من رحم. والرحمن أبلغ من الرحيم ، لأن الزيادة في البناء تدل على الزيادة في المعنى. انظر / شرح البهجة الوردية (١ / ٣).

(٢) أخرجه ابن ماجة (١ / ٩٧) ـ ح (٢٦٣). والطبراني في الأوسط (١ / ١٣٦ ـ ١٣٧) ـ ح (٤٣٠).

قال الشيخ البوصيري : فيه الحسين بن أبي السريّ : كذّاب ، وعبد اللّه بن السري : ضعيف.

وانظر / مصباح الزجاجة (١ / ٣٩).

(٣) لم أجده.

٣٧١

النظر أول الواجبات

فمن ذلك : أنهم يعتقدون أن أول ما يجب على العاقل البالغ المكلف القصد إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة اللّه عز وجل (١) ؛ لأن اللّه عز وجل أمرنا بالعبادة ، قال عز وجل : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة : من الآية ٥) والعبادة لا تصح إلا بالنية ، لقوله علية الصلاة والسلام «إنما الأعمال بالنيات» (٢) ، والنية هي القصد. تقول العرب : نواك اللّه بحفظه أي قصدك اللّه بحفظه. وقصد من لا يعرف محال ، فدل ذلك على وجوب النظر والاستدلال ، ولأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا كالواجب ، ألا ترى أن الصلاة لما كانت واجبة ثم لا يتوصل إليها إلا بالطهارة صارت الطهارة واجبة كالواجب. فكذلك أيضا في مسألتنا ، لأنه إذا كانت معرفة الرب عز وجل واجبة ثم بالتقليد لا يتوصل إليها دل على وجوب النظر والاستدلال المؤديين إلى ذلك. فقد أمرنا اللّه عز وجل بذلك ، ودعا إليه ، فقال عز وجل :قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(يونس : من الآية ١٠١). (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (الواقعة : ٥٨ ، ٥٩) (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (الواقعة : ٦٨ ، ٦٩) (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (الغاشية : ١٧ ، ١٨) الآية ، وقال عز وجل إخبارا عن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَلَمَّا جَنَّ

__________________

(١) ويعزى للأشعري. وثانيها : المعرفة وهو قول الأشعري. وثالثها : إنه أول اللفظ ، أي المقدمة الأولى منه. ورابعها : ما قاله إمام الحرمين أنه القصد إلى النظر ، أي تفريغ القلب عن الشواغل. وخامسها : إنه التقليد ، قاله بعضهم. وسادسها : إنه النطق بالشهادتين. وسابعها : إنه الشك ، قاله أبو هاشم ، في طائفة من المعتزلة.

وردّ : بأنه مطلوب زواله ، لأن الشك في شيء من العقائد كفر ، فلا يكون مطلوبا حصوله ، ولعلهم أرادوا ترويد الفكر فيؤول إلى النظر.

وثامنها : إنه الإيمان. وتاسعا : أنه الإسلام. وهذان القولان متقاربان مردودان باحتياج كل من الإيمان والإسلام للمعرفة. وعاشرها : اعتقاد وجوب النظر. وحادي عشرها : إنه المعرفة أو التقليد. أي أحدهما لا بعينه فيكون مخيرا بينهما.

قال الشيخ البيجوري : والأصح أن أول واجب مقصدا : المعرفة ، وأول واجب وسيلة قريبة : النظر ، ووسيلة بعيدة : القصد إلى النظر ، وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة.

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٣٠) ـ ح (٥٤) ، ومسلم (٣ / ١٥١٥) ـ ح (١٩٠٧).

٣٧٢

عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (الأنعام : ٧٦) الآيات. وأمرنا باتباعه فقال عز وجل : فاتبعوا (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج : من الآية ٧٨).

فمن أنكر النظر والاستدلال لا يخلو : إما أن ينكر بدليل ، أو بغير دليل ، أو بالتقليد فإن أنكره بغير دليل لا يقبل منه ، وإن أنكره بالتقليد ، فليس تقليد من قلده بأولى من تقليدنا ، وإن أنكره بدليل فهو النظر والاستدلال الذي أنكره والنظر لا يزول بالتفكير فبطل دعواه وثبت ما قلناه.

إيمان المقلد

ثم يعتقدون أن التقليد في معرفة اللّه عز وجل لا يجوز ، لأن التقليد قبول قول الغير من غير حجة (١) ، وقد ذمه اللّه تعالى فقال عز وجل : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) (الزخرف : من الآية ٢٤) (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف : من الآية ٢٣) ولأن المقتدين تتساوى أقوالهم ، فليس بعضهم بأولى من بعض ، ولا فرق بين النبي والمتنبي في ذلك.

وإذا كان الأنبياء مع جلالة قدرهم وعلو منزلتهم لم يدعوا الناس إلى تقليدهم من غير إظهار دليل ولا معجزة ، فمن نزلت درجته عن درجتهم ؛ أولى وأحرى أن لا يتبع فيما يدعو إليه من غير دليل ، فعلى هذا لا يجوز تقليد العالم للعالم ، ولا تقليد العامي للعامي ، ولا تقليد العامي للعالم ، ولا تقليد العالم العامي. فإن قيل : لم جوزتم تقليد العامي للعالم في الفروع ولم لا تجيزوها في الأصول؟.

قيل : لأن الفروع التي هي العبادات دليلها السمع ، وقد يصل إلى العالم من السمع ما لا يصل إلى العامي ، فلما لم يتساويا في معرفة الدليل جاز له تقليده ، وليس كذلك الأصل الذي هو معرفة الرب عز وجل فإن دليله العقل ، والعامي والعالم في ذلك سواء ، فإن العالم إذا قال للعامي : واحد أكثر من اثنين لا يقبل منه من غير دليل ، فإن الفرق بينهما ظاهر(٢).

__________________

(١) انظر / شرح البيجوري على الجوهرة (ص / ٣٢).

(٢) اختلفوا في قبول إيمان المقلد على أقوال :

أحدها : عدم الاكتفاء بالتقليد بمعنى عدم صحة التقليد ، فيكون المقلد كافرا ، وعليه السنوسي في الكبرى.

والثاني : الاكتفاء بالتقليد مع العصيان مطلقا ، أي سواء كان فيه أهلية للنظر أم لا.

والثالث : الاكتفاء به مع العصيان إن كان فيه أهلية للنظر ، وإلا فلا عصيان.

٣٧٣

حدوث العالم

ثم يعتقدون أن لهذا العالم صانعا صنعه ، ومحدثا أحدثه ، وموجدا أوجده من العدم إلى الوجود لأنه حال وجوده وهو شيء موجود موصوف بالحياة والسمع لا يقدر أن يحدث في ذاته شيئا ففي حال عدمه وهو ليس بشيء أولى وأحرى ألا يوجد نفسه ، ولأنه لو كان موجدا لنفسه لم يكن وجوده اليوم بأولى من وجوده غدا ، ولا وجوده غدا بأولى من وجوده اليوم ، ولا كونه أبيض بأولى من كونه أسود ، فدل على أن له مخصصا يخصصه وموجدا يوجده. قال اللّه تعالى :(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) (الروم : من الآية ٢٢).

صفة الوحدانية

ثم يعتقدون أن محدث العالم هو اللّه عز وجل ، وأنه واحد أحد ؛ لأن الاثنين لا يجري أمرهما على النظام ، لأنهما إذا أرادا شيئا لا يخلو إما أن يتم مرادهما جميعا أو لا يتم مرادهما جميعا أو يتم مراد أحدهما دون الآخر.

فإن لم يتم مرادهما جميعا ؛ بطل أن يكون إلهين ، ومحال أن يتم مرادهما جميعا ، لأنه قد يريد أحدهما إحياء جسم والآخر يريد إماتته ، والإنسان لا يكون حيا أو ميتا في حالة واحدة.

وإن تواطئا فالتواطؤ أيضا لا يكون إلا عن عجز ، وإن تم مراد أحدهما دون الآخر ، فالذي لم يتم مراده ليس بإله ؛ لأن من شروط الإله أن يكون مريدا قادرا ؛ فدل على أن اللّه عز وجل واحدا أحد.

قال اللّه عز وجل : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (البقرة : من الآية ١٦٣). وقال عز وجل :

__________________

والرابع : أن من قلد القرآن والسنة القطعية صحّ إيمانه لاتباعه القطعيّ ومن قلد غير ذلك لم يصح إيمانه لعدم أمن الخطأ على غير المعصوم.

والخامس : الاكتفاء به من غير عصيان مطلقا ، لأن النظر شرط كمال فمن كان فيه أهلية النظر ولم ينظر فقد ترك الأولى.

السادس : أن إيمان المقلد صحيح ، ويحرم عليه النظر ، وهو محمول على المخلوط بالفلسفة.

قال الشيخ البيجوري : والقول الحق الذي عليه المعوّل من هذه الأقوال القول الثالث.

انظر / حاشية البيجوري على الجوهرة (ص / ٣٤ ـ ٣٥).

٣٧٤

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء : من الآية ٢٢).

صفة القدم

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل قديم أزلي أبدا كان ، وأبدا يكون ؛ لأنه لو كان محدثا ، لافتقر إلى محدث آخر ، وذلك المحدث إن كان محدثا ، افتقر إلى محدث آخر ، ويؤدي ذلك إلى التسلسل ، وعدم التناهي ، وذلك محال.

مخالفته ـ تعالى ـ للحوادث

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل لا يشبهه شيء من المخلوقات ، ولا يشبه شيئا منها ؛ لأنه لو أشبهه شيء لكان مثله قديما ، ولو أشبه شيئا لكان مثله مخلوقا وكلا الحالين محال. قال اللّه عز وجل :(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : من الآية ١١).

اللّه تعالى ليس بجسم

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل ليس بجسم لأن الجسم هو المؤلف وكل مؤلف لا بدّ له من مؤلف. وليس بجوهر لأن الجوهر لا يخلو من الأعراض كاللون والحركة والسكون ، والعرض الذي لا يكون ثم يكون ولا يبقى وقتين. قال اللّه تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) (الأحقاف : من الآية ٢٤) أي لم يكن فكان ، وما لم يكن فكان فهو محدث ، وما لا ينفك من المحدث فهو محدث كالمحدث.

صفاته تعالى أزلية

ثم يعتقدون أن اللّه تعالى المحدث للعالم موصوف بصفات ذاتية ، وصفات فعلية ، فأما الصفات الذاتية فهي ما يصح أن يوصف بها في الأزل وفي لا يزال كالعلم والقدرة ، وأما الصفات الفعلية فهي ما لا يصح أن يوصف بها في الأزل وفكالخلق والرزق ؛ لا يقال إنه أبدا كان خالقا ورازقا ؛ لأن ذلك يؤدي إلى قدم المخلوق والمرزوق ، بل يقال إنه أبدا كان قادرا على الخلق والرزق ، عالما بمن يخلقه ويرزقه ، فإن قيل إنه أبدا الخالق والرازق بالألف واللام جاز.

صفة العلم

ثم يعتقدون أن اللّه تعالى عالم بعلم واحد قديم أزلي يتعلق بجميع المخلوقات فلا يخرج مخلوق عن عمله ؛ لأنه لو لم يكن موصوفا بالعلم لكان موصوفا بضده وهو الجهل ، ثم يكون الجهل صفة له قديمة ، والقديم يستحيل عدمه ، فلا يكون أبدا عالما ،

٣٧٥

وذلك نقص ، والرب عز وجل موصوف بصفات الكمال لا بصفات النقص (١) ؛ قال اللّه عز وجل : (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحجرات : من الآية ١٦) ، وقال تعالى :(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء : من الآية ١٦٦).

صفة القدرة

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل قادر بقدرة واحدة قديمة أزلية تتعلق بجميع المقدورات ، فلا يخرج مقدور عن مقدوراته ، لأن ضد القدرة العجز فلو لم يكن في الأزل موصوفا بالقدرة لكان موصوفا بضدها وهو العجز ، ثم يكون العجز صفة له قديمة ، والقديم يستحيل عدمه كما ذكرنا في العلم فلا يكون أبدا قادرا ، وذلك آفة ، والرب عز وجل منزه عن الآفات. قال اللّه عز وجل : (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران : من الآية ٢٩). والكلام في إثبات جميع صفاته الذاتية كالكلام فيما ذكرناه من إثبات العلم والقدرة.

صفة الإرادة

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل مريد بإرادة قديمة أزلية ، فجميع ما يجري في العالم من خير أو شر أو نفع أو ضر أو سقم أو صحة أو طاعة أو معصية فبإرادته وقضائه ، لاستحالة أن يجري في ملكه ما لم يرده ؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقصه وعجزه. قال اللّه تعالى (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (البروج : ١٦) وقال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (الأنعام : من الآية ١٢٥).

والكلام في هذه المسألة مع القدرية يطول لأنهم لا يثبتونها على أصلهم ، وهو أن العقل عندهم يوجب ويحسن ويقبح ، وعند أهل الحق العقل لا يوجب ولا يحسن ولا يقبح ، بل الحسن ما حسنته الشريعة والقبيح ما قبحته الشريعة (٢). قال اللّه عز وجل (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء : من الآية ١٥). فأخبرنا تعالى أنهم آمنوا من العذاب قبل بعث الرسول إليهم ، فالواجب فعله ما لا يؤمن أمن في تركه عذاب ، فعلم بهذه الآية أن اللّه تعالى لم يوجب على العقلاء شيئا من جهة العقل ، بل أوجب ذلك عند مجيء الرسل من قبل اللّه تعالى ، ولأن العقل صفة للعاقل وهو محدث

__________________

(١) فالعلم هو : صفة أزلية متعلقة بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات على وجه الإحاطة على ما هي به ، من غير سبق خفاء. انظر / شرح البيجوري على الجوهرة (ص / ٦٨).

(٢) انظر / إحكام الأحكام لسيف الدين الآمدي (١ / ١١٣) ، نهاية السئول للأسنوي (١ / ٢٥٨).

٣٧٦

مخلوق للّه تبارك وتعالى ، وليس بقائم بنفسه ولا حي ولا قادر ولا عالم ولا متكلم ، وما هذه حالته فلا يصح أن يوجب على العقلاء ولا على غيرهم شيئا ولا أن يحرم شيئا ولا يقبح شيئا ، ولا يعلم به غير المعلومات التي لا تتعلق به كجميع العلوم. إذا كان الأمر كذلك لم تصر الأفعال حسنة واجبة بإيجابه ، ولا محرمة قبيحة بتحريمه ، ولا مباحة كسائر الحوادث لأنه محدث مخلوق كسائر العلوم والحوادث ، ولو وجب عليهم شيء من جهة العقل قبل مجيء الرسل فكان حجة عليهم مجردة في ذلك لما قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : من الآية ١٦٥) بل كان الواجب أن يقول لئلا يكون للّه حجة بعد العقل. ولما بطل ذلك دل على أن العقل ليس له تأثير في شيء مما ذكرناه.

فإن قيل : لم قلتم إن اللّه عز وجل مريد للمعاصي خالق لها فبأي شيء يستحق العبد العقوبة؟

يقال لهم : هل تثبتون أن اللّه عز وجل مريد للطاعة خالق لها أم لا؟

فإن قيل ليس مريدا لها ولا خالق أيضا فلا كلام معهم والأولى السكوت عنهم ؛ لأنهم قد كذبوا الرب في خبره ، وقال عز وجل (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : من الآية ١٠٢).

وإن قيل : إنه مريد لإيجادها وخالق لها يقال : فالعبد بأي شيء ينال الثواب والدرجات ، وكل دليل لهم هنا هو دليل لنا هناك فكما أنه يقدرنا على فعل الطاعة ويخلقها لنا ثم يثيبنا عليها بفضله فكذلك أيضا يقدرنا على المعصية ، ويخلقها لنا ثم يعاقبنا عليها بعدله لأنه متصرف في ملكه على الإطلاق. وقد روى في الخبر أن اللّه عز وجل أوحى إلى أيوب : «لو لم أخلق لك تحت كل شعرة صبرا لما صبرت» ثم بعد ذلك يمدحه ويثنى عليه بقوله (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) (ص : من الآية ٤٤) فإذا كان الرب عز وجل خلق الصبر له فبأي شيء نال هذا المدح والثناء فدل على أن الأمر ما ذكرناه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣).

فإن قيل : وجدنا أحدنا إذا قال لغلامه : اكسر هذا الإناء فكسره ثم عاقبه يكون ظالما ، فإذا قلنا إن اللّه عز وجل مريد للمعاصي ثم يعاقب عليها يكون ظالما؟.

يقال : حقيقة الظلم هو تجاوز الحد ، فالسيد إذا قال لغلامه اكسر هذا الإناء وعاقبه يكون ظالما لأن فوقه آمرا وهو اللّه عز وجل أمره أن لا يتجاوز مع عبده الحد فإذا تجاوزه يكون ظالما ، ثم يقال لهم : هذا السيد أمر عبده بكسر الإناء فكان عقوبته ظلما له والرب عز وجل لم يأمر بالمعاصي قال اللّه عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ

٣٧٧

بِالْفَحْشاءِ) (الأعراف : من الآية ٢٨) بل يقول إنه مريد للمعاصي والأمر بخلاف الإرادة ونحن مخاطبون بالأمر لا بالإرادة.

فإن قيل : الأمر والإرادة سواء فما أمر به فقد أراده ، وما أراده فقد أمر به.

قيل : هذا ليس بصحيح والدليل عليه إذا قال رجل لغيره إن غلامي هذا لا يطيعني فيما آمره به ولا ينصحني ثم قال لغلامه افعل كيت وكيت فقد أمره بالفعل وهو يريد أن لا يفعل ليبين لذلك الرجل صدق قوله ، فدل على أن الأمر بخلاف الإرادة. أمر إبليس بالسجود ، وهو لم يرد منه السجود ، ولو أراد أن يسجد على رغم أنفه ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده أن يأكل منها ، وعندهم أن اللّه عز وجل ، أراد إبليس أن يسجد وإبليس ما أراد أن يسجد يكون على قولهم إبليس وصل إلى مراده والرب عز وجل ما وصل إلى مراده. ثم يقال لهم : هل الرب عز وجل قادر على أن يحيل بين هذا العاصي وبين المعصية أم لا؟ وهل هو عالم بأنه إذا رزقه رزقا يتوصل به إلى المعصية أم لا؟ فإن قيل ليس بقادر ولا عالم فقد عطلوا وأبطلوا ونفوا القدرة والعلم وهو أصل مذهبهم ، وينتقل الكلام معهم إلى إثبات الصفات.

وإن قيل : إنه عالم وقادر. قيل لهم : لو لم يكن مريدا للمعصية من العاصي مع كونه عالما بأنه سيعصى وقادر أنه يحيل بينه وبينها لما وجدت ، وإذا ثبت بأنه عالم بما يكون من العاصي قبل المعصية وقادر أن يحيل بينه وبينها ثم يتركه على المعصية فلا يوصف بالظلم عند عقوبته ، فكذلك أيضا يريد المعصية ثم يعاقب عليها ولا يوصف بالظلم ولو لم يكن مريدا للمعصية مع وجودها لكان عاجزا لأن من يجري في ملكه ما لم يرد لا يكون إلا عاجزا مغلوبا. ولهذا قال بعض أصحابنا : القدرية أرادت أن تعدل الباري فعجزته ، والمشبهة أرادت أن تثبت الباري فشبهته. وهذا خلاف النص والإجماع. قال اللّه تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) (الإنسان : من الآية ٣٠) وأجمعت الأمة على ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن. وقال عز وجل : (إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (الرعد : من الآية ٢٧) (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) (إبراهيم : من الآية ٢٧) فأضاف إلى الإضلال إليه. وقال عز وجل إخبارا عن نوح : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (هود : من الآية ٣٤) فأضاف الغواية إليه. وقال إخبارا عن موسى :(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) (الأعراف : من الآية ١٥٥) وقال عز وجل (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء : من الآية ٣٥) فأضاف الخير والشر إليه. وقال عز وجل إخبارا عن إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) (الحجر : ٣٩) فلو كان إضافة ذلك إلى الرب

٣٧٨

عز وجل لا يجوز لذم اللّه عز وجل إبليس على ذلك كما ذمه ولعنه عند امتناعه عن السجود. وقد حكي عن بعض أصحابنا أنه قال : إن قوما إبليس أفقه منهم السكوت عنهم أولى من الكلام معهم.

فإن قيل قال اللّه عز وجل (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (الزمر : من الآية ٧) قيل لهم : أراد به لا يرضى لعباده المؤمنين دون الكافرين.

فإن قيل : قد قال اللّه إخبارا عن موسى : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (القصص : من الآية ١٥) قيل : أراد به هذا مما يخلقه الشيطان بدليل قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) (الأعراف : من الآية ١٥٥) ، والفرق بين ما نورده من الآيات وبين ما يوردونه إن ما نورد غير محتمل للتأويل وما يوردونه محتمل لذلك ثم يقال لهم : جميع أعمال الخلق أعراض ، فلو كان للمخلوق قدرة على خلق بعضها لكان له قدرة على خلق جميعها ، ثم لا فرق بين خلق الأعراض وبين خلق الأجسام فإن الأعراض التي لا تكون ثم تكون وتفتقر إلى محدث يحدثها ويوجدها ، والأجسام كذلك أيضا فلو كان لمخلوق قدرة على خلق الأعراض لكان له قدرة على خلق الأجسام ، فمن وصف المخلوقين بالقدرة على خلق جميعها وهذا يؤدي إلى إثبات خالق غير اللّه تعالى قال اللّه تعالى :(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) (فاطر : من الآية ٣).

وهذا القول من القدرية أعظم من قول اليهود والنصارى لأن اليهود أثبتت مع اللّه عز وجل العزير ، والنصارى أثبتت المسيح ، والقدرية أثبتت مع اللّه خالقين لا يحصى عددهم بقولهم : إن العبد يخلق ويريد والرب يخلق ويريد وقد شبههم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمجوس بقوله : «القدرية مجوس هذه الأمة».

فإن قيل : إنهم القدرية لأنكم تقولون الرب عز وجل يقدر على خلق المعاصي. يقال لهم هذا لا يصح لأن من وصف غيره بالحياكة لا يصير حائكا بالحائك من فعل الحياكة. فقولنا إن اللّه يقدر لا نسمى بالقدرية بل القدرية الذين يصفون أنفسهم بالقدرة ، وقد شبههم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمجوس ولأن المجوس يقولون بإلهي النار والنور ، والقدرية يقولون بخالقين لأن العبد عندهم يخلق والرب يخلق فلهذا شبههم بالمجوس.

وقد حكى أن بعض أهل التوحيد تناظر مع قدريّ وكانا بقرب شجرة فأخذ القدري ورقة من الشجرة وقال أنا فعلت هذا وخلقته.

فقال له الموحد : إن كان الأمر كما ذكرت فرده كما كان فإن من قدر على شيء قدر على ضده ، فانقطع في يده. وقد ذكرنا أن الكلام معهم في هذا يطول ولم يكن غرضي بما ذكرت الرد على المخالف لاعترافي بالتقصير بل كان غرضي بما

٣٧٩

ذكرت الرد على المخالف لاعترافي بالتقصير بل كان غرضي أن أشير إلى مذهب أهل الحق لأبين ما هم عليه من التوحيد واتباع السنة ، وأرجو أن يكون قد حصل المقصود إن شاء اللّه تعالى.

صفة السمع والبصر

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل يسمع بسمع قديم أزلي (١) ، ويبصر ببصر قديم أزلي أبدا(٢) كان موصوفا بهما وأبدا يكون ، لأن عدمهما يوجب إثبات ضديهما وهما الصمم والعمي وذلك آفة ، قال اللّه عز وجل : (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (الحج : من الآية ٦١) وقال عز وجل : (أَسْمَعُ وَأَرى) (طه : من الآية ٤٦).

صفة الكلام

ثم يعتقدون أن اللّه عز وجل متكلم بكلام قديم أزلي أبدي غير مخلوق ولا محدث ولا مفتر ولا مبتدع ولا مخترع بل أبدا كان متكلما به وأبدا يكون ، لاستحالة ضد الكلام من الخرس والسكوت عليه ، قال اللّه عز وجل : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : من الآية ١٦٤) ، وقال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) (الأعراف : ١٤٤) ، وقال عز وجل (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) (التوبة : من الآية ٦) فأثبت لنفسه الكلام بهذه الآيات ، فإذا ثبت أنه متكلم ، فكلامه قديم أزلي ، والدليل قوله عز وجل (الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ) (الرحمن ١ ـ ٣) فلو كان مخلوقا لقال : الرحمن خلق القرآن ، وخلق الإنسان ، فلما لم يقل ذلك ؛ فدل على أن الإنسان مخلوق ، والقرآن ليس بمخلوق.

ويدل عليه قوله عز وجل : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف : من الآية ٥٤). بالواو والأمر كلام اللّه ، فلو كان مخلوقا لقال الإله : الخلق والخلق ، ويكون تكرارا من الكلام ، فلما فصل بينهما بالواو ، دل على أن الخلق مخلوق ، والأمر كلام قديم أزلي قال اللّه عز وجل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل : ٤٠) فلو كان قوله كن مخلوقا لافتقر إلى قول قبله ، وكذلك ما قبله ، ويؤدي ذلك إلى

__________________

(١) فالسمع : صفة أزلية قائمة بذاته تتعلق بالموجودات ، الأصوات وغيرها كالذوات.

انظر / جوهرة التوحيد (ص / ٧٣).

(٢) فالبصر : صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات الذوات وغيرها.

انظر / شرح البيجوري على الجوهرة (ص / ٧٣).

٣٨٠