نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

وربما تحصل آثار مختلفة من مجرد أمزجة تتركب من عناصر مخصوصة والمطلع على الماهيات غير الباحث عن الكيفيات والكميات فلا بد إذا من إثبات شخص له اطلاع على الكواكب وعلى ما وراء الكواكب حتى يكون الكل عنده كصورة واحدة فتقرر للخاصية منافع الأشياء ومضارها من جهة الخواص ويحمل العامة على التسليم ذلك جملة وسيأتي تقرير ذلك.

وأما الجواب عن مقالة التناسخية فطريق الرد عليهم أن نبطل مذهبهم في أصل التناسخ وإنكار البعث في الآخرة فنقول أثبتم جزاء على كل فعل فهل تنتهي الأفعال عندكم إلى جزاء محض وهل تبتدئ إلا جزية من فعل محض فإن قضيتم بالتسلسل فذلك دور محض فإنه إن لم يكن فعل إلا جزاء ولا جزاء إلا على فعل فلم يكن فعل وجزاء أصلا فإنه يتوقف كون الجزاء جزاء على سبق فعل ويتوقف كون الفعل فعلا على سبق جزاء فيكون كل واحد منهما متوقفا على صاحبه فيكون حكمه حكم توقف المعلول على العلة وتوقف العلة على المعلول وذلك محال فلا بد من ابتداء بفعل أولي ليس بجزاء والانتهاء إلى جزاء آخر ليس بفعل وذلك تسليم المسألة.

ثم نقول ما الدرجة العليا في الخير وما الدرجة السفلى في الشر عندكم قالوا الدرجة العليا في الخير هي الملكية والنبوة والدرجة السفلى هي الشيطانية والجنية.

فقيل لهم : لو قتل نبي حية فما ثوابه ولا درجة في الثواب فوق النبوة ولو قتل جني نبيا فما عقابه ولا درجة في العقاب تحت الجنية فيجب أن يعرى أشرف الطاعات عن الثواب وأكبر الكبائر عن العقاب.

ومما يبطل التناسخ رأسا إن كان مزاج استعد لقبول الصورة يلائمها من واهب الصور فإذا فاضت عليه الصورة قارنتها صورة النفس المستحسنة لزم أن يكون لبدن واحد نفسان وذلك محال.

وأما الجواب عن مقالة البراهمة سيأتي على استيفاء في مسألة إثبات النبوات والرد عليهم فيما يليق بسؤالهم أن الذي يأتي به النبي معقول أو غير معقول.

نقول : ما يأتي به النبي معقول في نفسه أي جنسه معقول ويمكن أن يدركه العقل وليس كل ما هو معقول الجنس يجب أن يعقله الإنسان ، فإن العلم بخواص الأشياء وماهيات الموجودات مما هو معقول الجنس وليس كل إنسان يدركه في الحال فبطل التلبيس الذي تعلقوا به.

٢٢١

القاعدة الثامنة عشرة

في إبطال الغرض والعلة في أفعال الله تعالى وإبطال القول بالصلاح

والأصلح واللطف ومعنى التوفيق والخذلان والشرح والختم والطبع

ومعنى النعمة والشكر ومعنى الأجل والرزق (١)

مذهب أهل الحق : أن الله تعالى خلق العالم بما فيه من الجواهر والأعراض وأصناف الخلق والأنواع لا لعلة حاملة له على الفعل سواء قدرت تلك العلة نافعة له أو غير نافعة إذ ليس يقبل النفع والضر أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق إذ ليس يبعثه على الفعل باعث فلا غرض له في أفعاله ولا حامل بل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه.

وقالت المعتزلة : الحكيم لا يفعل فعلا إلا لحكمة وغرض والفعل من غير غرض سفه وعبث والحكيم من يفعل أحد أمرين إما أن ينتفع أن ينفع غيره ولما تقدس الرب تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره فلا يخلو فعل من أفعاله من صلاح ثم الأصلح هل تجب رعايته قال بعضهم تجب كرعاية الصلاح وقال بعضهم لا تجب إذ الأصلح لا نهاية له فلا أصلح إلا وفوقه ما هو أصلح منه ولهم كلام في اللطف وتردد في وجوب ذلك (٢).

وقد قالت الفلاسفة واجب الوجود لا يجوز أن يفعل فعلا لعلة لا ليحمد ويتزين بالحمد والشكر ولا لينتفع أو يدفع الضرر ولا لأمر داع يدعوه ويحمله على الفعل والعالي لا يريد أمرا لأجل السافل بل الأفعال صدرت عن المبادئ الأول ، وهي استندت إلى العقل الفعال وإنما أبدع العقل بلوازمه وأبدع بتوسطه سائر الأشياء على وجه اللزوم عنه ضرورة إذ ليس يتصور وجود واجب الوجود إلا كذلك.

قالوا : إفادة الخير والصلاح من المنعم تنقسم إلى ما يكون لفائدة وغرض يرجع إلى المفيد والفائدة تنقسم إلى ما هو مثل المبذول كمقابلة المال بالمال وإلى ما ليس مثلا كمن يبذل المال رجاء للثواب والمحمدة أو اكتساب صفة الفضيلة وطلب الكمال به وهذه أيضا معاوضة وليس بجود كما أن الأول معاملة وليس بإنعام بل الجود والإنعام هو إفادة ما ينبغي من غير عوض وغرض فالأول قد أفاد الجود على الموجودات كلها

__________________

(١) سنذكر مصادر التوثيق والتحقيق لكل مسألة على حدة.

(٢) انظر : المواقف للإيجي (٣ / ٢٩٨).

٢٢٢

كما ينبغي على ما ينبغي من غير ادخار ممكن من ضرورة أو حاجة أو رقبة بحيث لو قدر غيره من الممكنات الوهمية كان نقصا في ذلك الموضوع لا كمالا فكل ذلك بلا عوض ولا فائدة وغيره يتصور أمرا ثم يعرض له احتياج إلى وجوده فيحتال لوجوده ليتم غرضه به كمن يريد يبني دارا تصورها أولا ثم احتاج إليها للاستكنان والسكنى احتال لوجودها آلاتها ليتم غرضه بها أو من يهب مالا أو يعطي عطاء ابتداء أو عقيب سؤال يتصور في نفسه أولا اكتساب حمد وجزاء وحمله على ذلك ضعف حال الفقير فرق له رقة الجنسية فأنعم عليه كان الحامل له على النوال نفع يلحقه أو ضرر يدفعه وتعالى الخالق الأول عن ذلك ، ولم يكن تصوره وعلمه من المتصور المعلوم حتى يكون هو الحامل بل المتصور من العلم والمقدور من القدرة هذا كلام القوم وهو حسن لو لا تشبيههم بأمور لا نرتضيها والتزامهم أمورا لا نستقصيها (١).

فقال أهل الحق الدليل على أن الباري تعالى غني على الإطلاق إذ لو كان محتاجا من وجه كان من ذلك الوجه مفتقرا إلى من يزيل حاجته فهو منتهى مطلب الحاجات ومن عنده نيل الطلبات ولا يبيع نعمه بالأثمان ، ولا يكدر عطاياه بالامتنان ، فلو خلق شيئا ما لعلة تحمله على ذاك أو لداعية تدعوه إليه أو لكمال يكسبه أو حمد وأجر يحصله لم يكن غنيا حميدا مطلقا ولا برا جوادا مطلقا بل كان فقيرا محتاجا إلى كسب.

والذي يقرره أن كل صلاح نقدره بالعقل بالنسبة إلى شخص عارضه صلاح فوق ذلك أو فساد مثل ذلك بالنسبة إلى شخص آخر فلئن كان الصلاح يقتضي وجوده بالنسبة إلى ذلك الشخص فالفساد يقتضي عدمه بالنسبة إلى شخص آخر ، فالسم في أصحاب السموم صلاح وفي غيرهم من الحيوانات فساد ، فلو كان الصلاح اقتضى وجوده فالفساد اقتضى عدمه وكما يختلف ذلك بالأشخاص يختلف الصلاح والفساد بالجزئي والكلي ونحن لا ننكر أن أفعال الله تعالى اشتملت على خير وتوجهت إلى صلاح وأنه لم يخلق الخلق لأجل الفساد ولكن الكلام إنما وقع في أن الحامل له على الفعل ما كان صلاحا يرتقبه وخيرا يتوقعه بل لا حامل له وفرق بين لزوم الخير والصلاح لأوضاع الأفعال وبين حمل الخير والصلاح على وضع الأفعال كما يفرق فرقا ضروريا بين الكمال الذي يلزم وجود الشيء وبين الكمال الذي يستدعي وجود الشيء فإن الأول فضيلة هي كالصفة اللازمة والثاني فضيلة كالعلة الحاملة.

قالت المعتزلة : قد قام الدليل على أن الرب تعالى حكيم والحكيم من تكون أفعاله على إحكام وإتقان ، فلا يفعل فعلا جزافا ، فإن وقع خيرا فخير وإن وقع شرا

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (٢ / ١٥).

٢٢٣

فشر بل لا بدّ وأن ينحو غرضا ويقصد صلاحا ويريد خيرا ، ثم إن النفع ينقسم إلى ما يرجع إلى الفاعل إن كان محتاجا إليه أو إلى غيره ، وإن كان الفاعل غنيا غير محتاج كإنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى مستحسن في العقل ، وربما لا يكون المنقذ مكتسبا نفعا ومتوقعا حمدا أو أجرا ، وعن ذلك ورد في بعض الكتب «ما خلقت الخلق لأربح عليهم بل خلقتهم ليربحوا عليّ».

والذي يقرره : أن الحكمة في خلق العالم ظاهرة لمن تأملها بالعقل منصوصة لمن طلبها في السمع.

أما العقل : فقد شهد بأن الحكمة في خلق العالم إظهار آيات ليستدل بها على وحدانيته ويتوصل بها إلى معرفته فيعرف ويعبد ويستوجب به ثواب الأبد.

وأما السمع فآيات القرآن كثيرة منها قوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢] ، ولهذا صار كثير من العقلاء إلى أن أول ما يخلقه الرب تعالى يجب أن يكون عاقلا مفكرا لأن خلق شيء من غير من ينظر فيه باعتبار ويتوسل إلى معرفة الباري تعالى باستبصار عبث وسفه.

قالوا : وما ذكرناه لا ينافي الغنى بل هو كمال الغنى عن خلقه فإن كمال الغنى لا يعرف إلا باحتياج كل العالم إليه واحتياج العالم إنما يعرفه العالم فيستدل به على انفراده تعالى بغناه ولله تعالى في كل صنع من صنائعه حكمة ظاهرة وآية تدل على وحدانيته باهرة لا تنكرها العقول السليمة ولا ينبو عنها إلا الأوهام السقيمة.

قال أهل الحق مسلم أن الحكيم من كانت أفعاله محكمة متقنة وإنما تكون محكمة إذا وقعت على حسب علمه وإذا حصلت على حسب علمه لم تكن جزافا ولا وقعت بالاتفاق.

وقولكم : لا بدّ وأن ينحو غرضا ويريد صلاحا فما المعنى بالغرض وما المعنى بالصلاح ولا يشك أنكم تفسرون الغرض باجتلاب نفع أو دفع ضرر إذ القادر الحق على كل شيء والغنى المطلق عن كل شيء متقدس عن الضرر والنفع والألم واللذة ويتعالى عن أن يكون محلا للحوادث قابلا للاستحالة والتغيرات ، وإن فسرتموه بنفع الغير وصلاحه فما النفع المطلق ، وما الصلاح المطلق في خلق العالم بأسره إن قلتم يستدل بوجود دلائله على وحدانيته.

قيل لكم : والحكيم إذا فعل فعلا لغرض معين وجب أن يحصل له ذلك الغرض من كل وجه ولا يتخلف غرضه من وجه وإلا فينسب إلى الجهل والعجز ومن المعلوم

٢٢٤

أن الغرض الذي عينتموه لم يحصل إذا قدرتم خلق العالم في الأقل من العقلاء وإن لم يقرر ذلك لم يحصل في الأكثر والغرض إذا كان معلقا على اختيار الغير لم يصف عن شوائب الخلاف فلا يحصل على الإطلاق ، ثم لو خلقهم ولم يكلفهم لا عقلا ولا سمعا وفوض الأمر إليهم ليفعلوا ما أرادوا يتضرر بذلك أم يلحقه نقص أو يثلم جلاله فعل أو ليست الطيور في الهواء والسوائم في الفلاة تغدو وتروح من غير تكليف فما السر في تخصيص بني آدم بالتكليف ولم ينتفع به ولا يتضرر بضده.

قالوا : ليأتي المكلف بما أمر به فيثيبه عليه ويعوضه عما فات عليه ويكون التذاذ المكلف بالثواب والعوض المرتبين على فعله أكثر من التذاذه بنفس التفضل والكرم.

قيل يا لله!! : العجب من حكمة ما أشرفها ، ومن سر ما أدقه تعبت عقولكم من شدة التعمق في استخراج المعاني فقد عادت حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض بما فيها إلى أن يكون التذاذ المكلف بثواب يناله على عمله أكثر من التذاذه بتفضل يناله من غير عمل إنا إذا فحصنا عن الأغراض كان الغرض من خلق العالم هو الاستدلال وكان الغرض من الاستدلال حصول المعرفة وكان الغرض من حصول المعرفة وجوب الثواب وكان الغرض من الثواب حصول التفرقة بين لذتي المقابلة والعطية فغرض الأغراض من خلق العالم بما فيه من الجواهر والأعراض ما لا يجوز أن يكون غرضا لعاقل ولا يقدر الخالق على أن يخلق لذة في التفضل أكثر مما يخلقها في الثواب واللذات كلها مخلوقة لله تعالى أولا ينادي المكلف يا رب مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى عندي من عملي يا من لا تنفعه المغفرة ولا تضره المعصية اغفر لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينفعك حتى يكون ابتهاجي برحمتك ومغفرتك ألطف من التذاذي بمعرفتي وطاعتي أو لا يعد من غاية اللؤم وركاكة الهمة أن يهدي فقير هدية حقيرة إلى ملك كبير سجيته البذل والعطايا من غير سؤال وعرض هدية لنيل ثواب ، ثم يوجب عليه العوض ويقول التذاذي بما يقابل هديتي أكثر من عطاياك التي لا تحصى انظر كيف عادت الحكمة الإلهية في خلق العالم بأسره عند القوم إلى أخس الدرجات في الهمة وأمس الحاجات إلى المرمة بحيث لا يرتضيه عاقل لإرمام بيته الكثيف ، فكيف يرتضيه الفاطر لإحكام صنعه اللطيف فتعالى وتقدس.

وأما الآيات في مثل قوله تعالى : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢] ، فهي لام المآل وصيرورة الأمر وصيرورة العاقبة لا لام التعليل كما قال تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ،

٢٢٥

وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ، واعلم أنه كما لا تطرق لم إلى ذات الباري تعالى وصفاته لم تتطرق إلى صنائعه وأفعاله حتى لا يلزم أن يجاب لأنه كذا أو لكونه كذا ، فلا يقال : لم وجد ولم كان العالم ولا يقال لم أوجد العالم ولم خلق العباد ولم كلف العقلاء ولم أمر ونهى ولم قدر وقضى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣].

قالت المعتزلة : نحن على طريقين في وجوب رعاية الصلاح والأصلح فشيوخنا من بغداد حكموا بأن الواجب في الحكمة لخلق العالم وخلق من يكون قابلا للتكليف ثم استصلاح حاله بأقصى ما يقدر من إكمال العقل والأقدار على النظر والفعل وإظهار الآيات وإزاحة العلل وكل ما ينال العبد في الحال والمآل من البأساء والضراء والفقر والغنى والمرض والصحة والحياة والموت والثواب والعقاب فهو صلاح له حتى تخليد أهل النار في النار صلاح لهم وأصلح فإنهم لو أخرجوا منها لعادوا لما نهوا عنه وصاروا إلى شر من الأول وشيوخنا من البصرة صاروا إلى أن ابتداء الخلق تفضل وإنعام من الله تعالى من غير إيجاب عليه لكنه إذا خلق العقلاء وكلفهم وجب عليه إزاحة عللهم من كل وجه ورعاية الصلاح والأصلح في حقهم بأتم وجه وأبلغ غاية.

قالوا : والدليل على المذهبين أن الصانع حكيم والحكيم لا يفعل فعلا يتوجه عليه سؤال ويلزم حجة بل يزيح العلل كلها فلا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يتحقق الوسع إلا بإكمال العقل والإقدار على الفعل ولا يتم الغرض من الفعل إلا بإثبات الجزاء (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢] فأصل التخليق والتكليف صلاح والجزاء صلاح وأبلغ ما يمكن في كل صلاح هو الأصلح وزيادات الدواعي والصوارف والبواعث والزواجر في الشرع وتقدير ألطاف بعضها خفي وبعضها جلي فأفعال الله تعالى اليوم لا تخلو من صلاح وأصلح ولطف وأفعال الله تعالى غدا على سبيل الجزاء إما ثواب أو عوض أو تفضل فالصلاح ضد الفساد وكل ما عري عن الفساد يسمى صلاحا وهو الفعل المتوجه إلى الخير من قوام العالم وبقاء النوع عاجلا والمؤدي إلى السعادة السرمدية آجلا والأصلح هو إذا صلاحان وخيران فكان أحدهما أقرب إلى الخير المطلق ، فهو الأصلح واللطف هو وجه التيسير إلى الخير وهو الفعل الذي علم الرب تعالى أن العبد يطيع عنده وليس في مقدور الله تعالى لطف وفعل لو فعله لآمن الكفار ، ثم الثواب هو الجزاء على الأعمال الحسنة والعوض هو البدل عن الفائت كالسلامة التي هي بدل الألم والنعيم الذي هو في مقابلة البلايا والرزايا والفتن

٢٢٦

والتفضل هو اتصال منفعة خاصة إلى الغير من غير استحقاق يستحق بذلك حمدا وثناء ومدحا وتعظيما ووصف بأنه محسن مجمل وإن لم يفعله لم يستوجب بذلك ملاما وذما وليس للمعتزلة فيما ذكروه مستند عقلي ولا مستروح شرعي إلا مجرد اعتبار العادة في الشاهد وتشنيعا معقولا ثم اعتبار الغائب بالشاهد وهم في الحقيقة مشبهة في الأفعال.

فألزمت الأشعرية عليهم إلزامات :

منها قولهم : إذا أوجبتم على الله تعالى رعاية الصلاح والأصلح في أفعاله فيجب أن توجبوا علينا رعاية الصلاح والأصلح في أفعالنا حتى يصح اعتبار الغائب بالشاهد ولم يجب علينا رعايتهما بالاتفاق إلا بقدر ما والتعرض للنصب والتعب. والنصب لو كان فاصلا بين الشاهد والغائب لكان فاصلا في أصل الصلاح.

ومنها : أن القربات من النوافل صلاح فليجب وجوب الفرائض.

ومنها : القضاء بأن خلود أهل النار في النار يجب أن يكون صلاحا لهم وقولهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه لا يغني فإن الله تعالى لو أماتهم أو سلب عقولهم وقطع عقابهم كان أصلح لهم ولو غفر لهم ورحمهم وأخرجهم من النار إذ لم يتضرر بكفرهم وعصيانهم كان أصلح لهم.

ومنها : أن كل ما فعله الرب تعالى من الصلاح لو كان حتما عليه لما استوجب بفعل ما شكرا أو حمدا فإنه في فعله قضى ما وجب عليه وما استوجب عبد بطاعته ثوابا وتفضيلا فإنه في طاعته قضى ما وجب عليه ومن قضى دينه لم يستوجب شيئا آخر.

ومنها قولهم : نحن فرضنا الكلام في إنظار إبليس وإمهاله أكان صلاحا له وللخلق أم كان فسادا وفي إماتة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل كان صلاحا له وللخلق أم كان فسادا فإن كان تبقية إبليس صلاحا مع إضلاله الخلق فهلا كان تبقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاحا مع هدايته للخلق وكيف صار الأمر بالضد من ذلك.

ومنها قولكم : إنكم حسبتم التكليف لتعريض المكلف للثواب الدائم وإذا علم الرب أنه لو اخترم العبد قبل البلوغ وكمال العقل لكان ناجيا ولو أمهله وسهل له النظر لعند وكفر وجحد فكيف يستقيم أن يقال أراد به الصلاح والأصلح ومن المعلوم أن المقصود من التكليف عند القوم الصلاح والتعريض لا معنى الدرجات التي لا تنال إلا بالأعمال فيجب أن يكون الرب مسيئا للنظر لمن خلقه وأكمل عقله وكلفه مع العلم بأنه يهلك ويخسر ولزم من حيث الحكمة أن يكون علمه مانعا له عن إرادته والتعريض لمن هذه حاله بالنفع والثواب وفي العادة كل من عرف من حال ولده أنه لو سافر واتجر في مال يعطيه لهلك وخسر لا يحسن من حيث العقل أن يبعثه لأجل

٢٢٧

التجارة ويعطيه المال لأجل الخسارة ولو علم من ولده أنه لو أعطاه سيفا وسلاحا ليقاتل عدوا من أعدائه لقتل نفسه ويبقى السلاح لعدوه لم يكن من الحكمة أن يعطيه السلاح ويبعثه للقاء عدوه البتة بل لو فعل ذلك كان ساعيا في هلاك ولده.

ومن مذهبهم أن الرب تعالى لو علم أنه لو أرسل رسولا إلى خلقه وكلفه الأداء عنه مع علمه بأنه لا يؤدي فإن علمه به يصرفه عن إرادته الأداء عنه فكذلك لو علم أنه يكفر ويهلك وجب أن يصرفه عن إرادته الأداء عنه مع علمه بأنه لا يؤدي فإن علمه به يصرفه عن إرادته الخير والصلاح له وهذا بمثابة من أولى حبلا إلى عريق ليخلص به نفسه مع العلم بأنه يخنق نفسه فقد أساء النظر له بل قصد به هلاكه.

ومن مذهبهم أن الرب إذا علم أن في تكليفه عبدا من العباد فساد الجماعة فإنه يقبح تكليفه لأنه استفساد لمن يعلم أنه يكفر عند تكليفه.

ومن الإلزامات أن القوم قضوا بأن الرب تعالى قادر على التفضل بمثل الثواب فأي غرض في تعريض العباد للبلوى والمشاق.

قالوا : الغرض فيه أن استيفاء المستحق أهنأ وألذ من قبول التفضل وهذا كلام من لم يعرف الله حق معرفته وكيف يستنكف العبد وهو مخلوق مربوب من قبول فضل الله تعالى فلو خلق الخلق وأسكنهم الجنة كان حسنا منه ولو خلقهم في الدنيا ثم أماتهم من غير تكليف كان حسنا (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] ، أليس لو خلقهم وكلفهم وقطع عنهم الألطاف كانوا أبلغ في الاجتهاد وأحمل للمشاق فكان الثواب لهم أكثر والالتذاذ بما يستحقونه من العوض أشد فهلا تقطع عنهم الألطاف بأسرها لتكون اللذة في الثواب أوفر.

ثم نلزمهم فرض الكلام في طفلين أحدهما اخترمه قبل البلوغ لعلمه بأنه لو بلغ لكفر فصار الصلاح في حقه الاخترام حتى لا يستوجب عقاب النار والأخر أوصله إلى البلوغ والتكليف فكفر فيقول يا رب هلا اخترمتني قبل البلوغ كما اخترمت أخي حتى لا يتوجه عليّ تكليف يوجب عقاب الأبد وطفلين آخرين اخترم أحدهما قبل البلوغ وهو ابن كافر وقد علم أنه لو بلغ لآمن وأصلح والآخر أوصله إلى البلوغ ، وهو ابن مسلم فكفر وأفسد فيقول : هلا اخترمتني حتى لا أستوجب عقاب الأبد ، وبالجملة من أوجب رعاية الصلاح والأصلح يوجب اخترام الأطفال الذين علم الله تعالى منهم الكفر بعد البلوغ حتى لا يوجد كافر في العالم وإبقاء الأطفال الذين علم الله تعالى منهم الإيمان حتى لا يتحقق إلا الإيمان والمؤمن في العالم والصلاح يدور على المعلوم كيف كان ثم ما من أصلح إلا وفوقه أصلح ، والاقتصار على مرتبة واحدة كالاقتصار

٢٢٨

على الصلاح ، فلا معنى للأصلح ولا نهاية له ولا يمكن في العقل رعايته.

ثم للمعتزلة في الآلام وأحكامها كلام وهو على مذهب الأشعري لا تقع مقدورة لغير الله وإذا وقعت كان حكمها الحسن سواء وقعت ابتداء أو وقعت جزاء من غير تقدير سبق استحقاق عليها ولا تقدير جلب نفع ولا دفع ضرر أعظم منها بل المالك متصرف في ملكه كما شاء سواء كان المملوك بريئا أو لم يكن بريئا ومن صار من الثنوية إلى أن الآلام والأوجاع والغموم منسوبة إلى الظلمة من دون النور فقد سبق الرد عليهم ومن نسبها إلى أعمال سبقت لغير هذا الشخص فهو مذهب التناسخية فقد سبق الرد عليهم بقي استرواح العقلاء إلى أهل العادة يستقبحون الآلام من غير سبق جناية والآلام مما يأباه العقل وإذا اضطر إليه رام الخلاص منه فدل ذلك على قبحه ونحن لا ننازعهم في أن الآلام ضرر وتأباه النفوس وتنفر منه الطباع ولكن كثيرا من الآلام مما ترضاه النفوس وترغب إليه الطباع إذا كان ترجو فيها صلاحا هو أولى بالرعاية مثل الحجامة والصبر على شرب الدواء رجاء للشفاء ونرى كثيرا إيلام الصبيان والمجانين وشرط العوض فيه يزيد في قبحه والمالك قادر على التفضل بحسن العوض عالم بأن الصلاح في الإيلام ، وبالجملة هو المتصرف في ملكه له التصرف مطلقا كما شاء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وللفريقين : في التوفيق والخذلان والشرح والطبع وأمثالها كلام على طرفي الغلو والتقصير والحق بينهما دون الجائز منهما.

قالت المعتزلة : التوفيق من الله تعالى إظهار الآيات في خلقه الدالة على وحدانيته وإبداع العقل والسمع والبصر في الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الكتب لطفا منه تعالى وتنبيها للعقلاء من غفلتهم وتقريبا للطرق إلى معرفته وبيانا للأحكام تمييزا بين الحلال والحرام ، وإذ فعل ذلك فقد وفق وهدى وأوضح السبيل وبين المحجة وألزم الحجة وليس يحتاج في كل فعل ومعرفة إلى توفيق مجرد وتسديد منجز بل التوفيق عام وهو سابق على الفعل والخذلان لا يتصور مضافا إلى الله تعالى بمعنى الإضلال والإغواء ، والصد عن الباب ، وإرسال الحجاب على الألباب إذ يبطل التكليف به ويكون العقاب ظلما.

قالت الأشعرية : التوفيق والخذلان ينتسبان إلى الله تعالى نسبة واحدة على جهة واحدة ، فالتوفيق من الله تعالى خلق القدرة الخاصة على الطاعة والاستطاعة إذا كانت عنده مع الفعل وهي تتجدد ساعة فساعة ، فلكل فعل قدرة خاصة والقدرة على الطاعة صالحة لها دون ضدها من المعصية فالتوفيق خلق تلك القدرة المتفقة مع الفعل والخذلان خلق قدرة المعصية ، وأما الآيات في الخلق فنسبتها إلى الموفق كنسبتها إلى المخذول والقدرة الصالحة للضدين أعني الخير والشر إن كانت توفيقا بالإضافة إلى

٢٢٩

الخير فهي خذلان بالإضافة إلى الشر (١).

والقصد بين الطريقتين أن يقسم التوفيق قسمة عموم وخصوص على عموم الخلق وخصوصهم فعموم الخلق في توفيق الله تعالى الشامل لجميعهم وذلك نصب الأدلة والأقدار والاستدلال وإرسال الرسل وتسهيل الطرق لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وخصوص الخلق في توفيق الله الخاص لمن علم منه الهداية وإرادته الاستقامة ، وذلك أصناف لا تحصى وألطاف لا تستقصي تبتدئ من كمال الاعتدال في المزاج أحدهما من جهة الطبيعة طينا ، والثاني من جهة الشريعة خلالا ، وهذا في النطفة الحاصلة من الأبوين وعلتها النقش الأول من السعادة والشقاوة كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه» (٢) ، ثم التربية من الأبوين أو من الأستاذ أو من المعلم أو من أهل البلد وذي القرابة والخلطة معونة أخرى قوية حتى ربما يغير الاعتدال من النقص إلى الكمال وعن الكمال إلى النقص وعلة النقش الثاني من الفطرة والاحتيال كما قال عليه‌السلام : «فطر الله العباد على معرفته فاحتالتهم الشياطين عنها ، وقال : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (٣) ، ثم الاستقلال بحالة البلوغ وكمال العقل يحتاج إلى قوى استمداد من التوفيق وذلك مزلة الأقدام ومجرة الأقلام فالتوفيق فيها من الله أن لا يكله إلى نفسه مما هي عليها من الاستقلال والاستبداد والخذلان أن يخذله ويكله إلى نفسه وحوله وقوته وعن هذا كان التبرؤ من الحول والقوة بقولهم «لا حول ولا قوة إلا بالله» واجبا في كل حال وذلك مطردة الشياطين إذ يدخل احتيال الشيطان تغريره بحوله وقوته والفطرة هي الاحتياج إلى الله تعالى والتسليم لله والتوكل على الله إذ لا حول ولا

__________________

(١) انظر : مرهم العلل المضلة لليافعي (ص ١٦٤).

(٢) انظر : تعليق أهل العلم على الحديث في : شفاء العليل لابن قيم (ص ٢١) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٣٤ ، ١٣٥ ، ٣٠٤) ، والملل والنحل للشهرستاني (١ / ٥٧) ، والتعرف لمذهب التصوف للكلاباذي (ص ٦١) ، والاعتقاد للبيهقي (ص ١٣٩ ، ١٤٠) ، والحديث رواه الطبراني في الأوسط (٣ / ١٠٧) (٨ / ٢٢٣) ، وفي الصغير (٢ / ٥٦) ، والبيهقي في الاعتقاد (ص ١٣٩ ، ١٤٠) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (٤ / ٥٩٦).

(٣) صحيح : رواه البخاري (١ / ٤٦٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧ ، ٢٠٤٨) ، وأبو داود (٤ / ٢٢٩ ، ٢٣٠) ، ومالك في الموطأ (١ / ٢٤١) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٧٥ ، ٢٩٢ ، ٣١٥) ، وابن حبان (١ / ٣٣٦ ، ٣٣٧ ، ٣٣٩ ، ٣٤٠) ، والترمذي (٤ / ٤٤٧) ، والبيهقي في الكبرى (٦ / ٢٠٣) ، وابن أبي شيبة في المصنف (٦ / ٤٨٤) ، وعبد الرزاق في المصنف (٣ / ٥٣٣).

٢٣٠

قوة إلا بالله وذلك كنز من كنوز الجنة وهذه الحالة أعني حالة البلوغ والاستقلال هي مثار القوى الحيوانية منها الغضبية والشهوية قال الصديق الأول يوسف عليه‌السلام (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ٥٣ [يوسف : ٥٣] ، وذلك عند مثار القوى الشهوية ووكز الكليم عليه‌السلام ذلك القبطي فقضى عليه فقال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] ، وذلك عند مثار القوة الغضبية وتبرأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من القوتين جميعا فقال في كل حال «اللهم واقية كواقية الوليد» «رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» وعلى هذه الحالة النفس الثالثة وهي تمتد إلى آخر العمر فلا تزيده مواعظ الشرع ترغيبا وترهيبا ولا تجانبه مواقع التقدير تنبيها وتحذيرا فإن انفتح سمعه لمواعظ الشرع وبصره لمجاري التقدير انشرح صدره وصار على نور من ربه فذلك الشرح والبسط (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر : ٢٢] ، وإن جعل إصبعه في أذنيه فلم يسمع الآيات الأمرية وأسبل جفنه على عينيه فلم يبصر الآيات الخلقية صار على ظلمة من طبعه وذلك الطبع والختم (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ، (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة: ٧] ، وربما يكون الختم والطبع من قساوة في جوهر جبلية اكتسبها من أصل فطرته وربما يكون على كفره ونفاق آثره على خلاف فطرته فالتقدير مصدر والتكليف مظهر والكل مقدر والمقدر ميسر لما خلق له فالحاصل أن الموكول إلى حوله وقوته في خذلان الله تعالى والمتوكل على حول الله وقوته في توفيق الله تعالى فعلى رأي القدرية العبد أبدا في الخذلان إذ هو موكول إلى حوله وقوته ولم يستعن بالله ولم يتوكل على الله.

وعلى رأي الجبرية العبد أبدا في الخذلان إذ هو خاذل نفسه عن امتثال أمر الله تعالى لم يعبد الله ولم يحفظ حدود الله تعالى.

والحق الذي لا غبار عليه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] ، محافظة على العبودية (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ، استعانة بالربوبية والتوفق والخذلان والشرح والطبع والفتح والختم والهداية والضلال ينتسب إلى الله تعالى بشرط أن يكون أحق الاسمين به أحسن الاسمين (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف :

٢٣١

١٨٠] ، وأولى الفعلين بحكمه وتقديره أولى الفعلين وجودا وأجدرهما حصولا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ٢٦] ، اللهم من أحسن فبفضلك يفوز ومن أساء فبخطيئته يهلك لا المحسن استغنى عن رفدك ومعونتك ولا المسيء عليك ولا استبد بأمر خرج به عن قدرتك فيا من هكذا لا هكذا غيرك صل على محمد وعلى آله افعل بي ما أنت أهله إنك أهل لكل جميل.

والقول في النعمة والرزق قريب مما ذكرناه فمن راعى فيهما عموما قال النعمة كل ما ينعم به الإنسان في الحال والمال والرزق كل ما يتغذى به من الحلال والحرام وقد سماها الله تعالى باسمها فقال (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [الإسراء : ٨٣] ، (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] ، ومن راعى فيهما خصوصا قال النعمة في الحقيقة ما يكون محمود العاقبة وهو مقصور على الدين قال الله تعالى فيهم : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ، ٥٦] ، والرزق في الحقيقة ما يكون مباحا شرعا قال الله تعالى : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٢٥٤] ، والحرام لا يجوز الإنفاق منه وكلا القولين صحيح إذا اعتبر فيهما الخصوص والعموم ولا مشاحة في المواضعات والشكر على النعم والأرزاق واجب ، وهو أن تراها بقلبك من المنعم فضلا فتحمده قولا ولا تستعملها في المعاصي فعلا والأرزاق مقدرة على الآجال والآجال مقدورة عليها ، ولكل حادث نهاية ليس تختص النهايات بحياة الحيوانات ، وما علم الله إن شاء ينتهي عند أجل معلوم كان الأمر كما علم وحكم فلا يزيد في الأرزاق زائد ولا ينقص منها ناقص فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، وقد قيل إن المكتوب في اللوح المحفوظ حكمان : حكم مطلق بالأجل والرزق ، وحكم مقيد بشرط إن فعل كذا يزاد رزقه وأجله ، وإن فعل كذا نقص منهما كذا ، وعليه حمل ما ورد في الخبر من صلة الرحم يزيد في العمر وقد قال تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] ، وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩].

٢٣٢

القاعدة التاسعة عشرة

في إثبات النبوات (١)

وتحقيق المعجزات ووجوب عصمة الأنبياء عليهم‌السلام

صارت البراهمة والصابئة إلى القول باستحالة النبوات عقلا وصارت المعتزلة وجماعة من الشيعة إلى القول بوجوب وجود النبوات عقلا من جهة اللطف وصارت الأشعرية وجماعة من أهل السنة إلى القول بجواز وجود النبوات عقلا ووقوعها في الوجود عيانا وتنتفي استحالتها بتحقيق وجودها كما ثبت تصورها بنفي استحالتها.

فقالوا : بم يعرف صدق المدعي ، وقد شاركناه في النوعية والصورة بنفس دعواه ، وقد علم أن الخبر محتمل للصدق والكذب بدليل آخر يقترن به ، وذلك الدليل إن كان مقدورا له فهو أيضا مقدورنا ، وإن لم يكن مقدورا له ولكنه مقدور بقدرة الله تعالى ، فلا يخلو إما أن يكون فعلا معتادا ولا يختص ذلك بهذا المدعي ، فلا يكون دليلا وإن كان فعلا خارقا فمن أي وجه يدل على صدقه والفعل من حيث هو فعل لا يدل على الاختصاص بشخص معين سوى اقترانه بنفس دعواه وللاقتران أسباب أخر محتملة كما لخرق العادات أحوال مختلفة وإذا احتملت الوجوه عقلا لم تتعين جهة الدلالة فانحسم باب الدليل من كل وجه أما نفس الاقتران فربما لا يتفق في بعض الأحوال إذ الفعل فعل الله تعالى ، وهو منوط بمشيئته ، فكيف يوجب المدعي على الله فعلا يفعله في

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٣١٥) ، والجواب الصحيح لابن تيمية (٢ / ٢٤ ، ٣٠) (٣ / ٤٦١) (٥ ـ ٦ / ٤٢٨) ، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٤) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (١ / ١٠ ، ٥٦ ، ٦٣) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ٦٠ ، ٢٥٠ ، ٢٥١) ، وفضائح الباطنية للغزالي (ص ٤٠ ، ٤٢) ، والتعرف للكلاباذي (ص ٧٢) ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (ص ١١ ، ١٩ ، ٣٧) ، والعقيدة الأصفهانية (ص ٣١ ، ١٣٨ ، ١٨٨ ، ١٩٤ ، ١٩٥) ، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ١٤٠ ، ١٦٢ ، ٢٥٤) (٢ / ١٣٥) ، وأعلام النبوة للماوردي (ص ٢٢ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٩ ، ٤٩ ـ ٥٤ ، ٩٣ ، ٩٦) ، والمواقف للإيجي (٣ / ٣٢٩ ، ٣٣١) ، وأصول الدين (ص ١١٩) ، لمع الأدلة للجويني (ص ١٢٣) ، والغنية في أصول الدين للنيسابوري (ص ٥٥) ، والتمهيد للباقلاني (ص ١٧٤) ، وإيثار الحق على الخلق لمحمد القاسمي (ص ٢١ ، ٣٦ ، ٦٥ ، ٧٠ ، ٧٧ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٢٢٩ ، ٢٦٨ ، ٣٩٦).

٢٣٣

تلك الحال ، وليس يدعي النبي على أصلكم هذه الدعوى التي قدرتموها فإنه يحيل خلق الآيات على مشيئة الله تعالى كما أخبر كتابكم (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩] ، وكم من نبي سئل إظهار الآية ، فلم يظهر في الحال على يده ، فلئن كان ظهور الآية في بعض الأوقات دليلا على صدقه ، فعدم ظهورها في بعض الأوقات يجب أن يكون أيضا دليلا على كذبه ، وليس الأمر كذلك على أصلكم ، فإذا قال واحد من عرض الناس وهو مجهول الحال عند الكل : إني رسول الله إليكم فطولب بالآية وجب عليه التضرع إلى الله في استدعاء الآية الخارقة للعادة على مقتضى الدعوى ووجب على الله إجابته في الحال إلى ذلك كان الإيجاب أولى على الله ورسوله من الخلق وهو عكس ما رمتم إثباته ثم مسألة النظر والاستمهال فيه يفضي إلى إفحام الأنبياء فإنه إذا ادعى الرسالة فقال المدعو العلم بالرسول يترتب على العلم بالمرسل والعلم به ليس يقع بديهة وضرورة فلا بد من نظر واستدلال في أفعاله استدلالا بتغيرها على حدوثها وبحدوثها على ثبوت محدثها ثم النظر في قدمه ثم النظر في وحدانيته ثم النظر في صفاته الواجبة له والجائزة عليه وما يستحيل في صفته وبعد ذلك ينظر في جواز انبعاث الرسل ثم في معجزة هذا المدعي بعينه.

فيقول : أمهلني حتى أنظر في هذه الأبواب وأقطع هذه المراتب فهل يجب على النبي إمهاله أم لا فإن لم يمهل فقد ظلمه إذ كلفه ما لا يطيق وذلك أن العلم إذا لم يحصل إلا بالنظر والنظر يستدعي مهلة وزمانا ولم يمهله فقد ظلمه وأمره بمجرد التقليد والتقليد إما كفر وإما قبيح وإذا أمهله فيلزمه أن لا يعود إليه حتى ينتهي النظر نهايته ولا يتقرر ذلك بزمان معين بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص وأذهانهم وكياستهم في مدارج النظر وأيضا فمن استمهل ووجب إمهاله يعطل النبي عن الدعوة فإن عاد إليهم قالوا نحن بعد في مهلة النظر فليس لك علينا حكم بعد الإمهال ولم يثبت عندنا صدقك فنتبعك ثم إذا كان النبي مبلغا عن الله تعالى فلا بد وأن يسمع أمره وكلامه أولا ثم يبلغ عنه أو يسمع من سمع منه فبم عرف النبي بأن المتكلم هو الله أو بم عرف أن المتوسط ملك يوحي إليه وبم عرف ذلك الملك أن الرب هو الآمر المتكلم فما الجواب عن هذه المسألة هذا كلامنا على نفس الدعوى.

أما الكلام على بينة الدعوى فنحن أولا ننكر ما حكيتموه عن الأنبياء من قلب العصا حية وإحياء الموتى وفلق البحر وخروج الناقة من الصخرة الصماء وتسبيح الحصا وانشقاق القمر فإن جنس ذلك مستحيل الوجود ، فنحن أولا نمنع حصولها

٢٣٤

فما ذا دليلكم على وقوع ذلك ثم بم تنكرون على من يرد الخوارق إلى خواص الأشياء ، فإنا نجد حصول أمثال ذلك من الجمادات على يد من لا دين له كالأمطار التي تحصل من اصطكاك الأحجار والرياح التي تهب من تحريك ما مخصوص ، ثم التعزيم والتنجيم والتبخير وعلم الطلسمات واستسخار الروحانيات واستخدام الكواكب العلوية علوم معروفة والعمل بها من العجائب المعجزة والغرائب المفحمة ، فما أنكرتم إن ما أتى به هذا المدعي من جنس ذلك ، ثم الواجب عليكم أن تثبتوا وجه دلالة المعجزة على الصدق فإنه من حيث هو فعل دل على قدرة الفاعل فقط من هذا الوجه لم يدل على صدق قول المدعي من حيث اقترانه بدعواه لم يدل أيضا لأن اقترانه بدعواه كاقترانه بحدوث حادث آخر من قول أو عمل ، ثم لم يدل نفس الاقتران على حق أو باطل فكيف دل هاهنا ، وأيضا فإن عندكم يجوز خرق العادات على يدي مدعي الإلهية ، ولم يدل ذلك على صدق دعواه فكيف يدل على صدق دعوى النبوة.

قال أهل الحق : قام الدليل على أن الرب تعالى خالق الخلق ومالكهم ، ومن له الأمر والخلق والملك له أن يتصرف في عباده بالأمر والنهي ، وله أن يختار منهم واحدا لتعريف أمره ونهيه ، فيبلغ عنه إليهم فإن من له الخلق والإبداع له الاختيار والاصطفاء (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) [القصص : ٦٨] ، فلا استحالة في هذه المراتب ولا استحالة في نفس الدعوى ولا يضاهي استحالته استحالة دعوى الإلهية بل هو من الجائزات العقلية فله الواجبات الحكمية ، فبقي كون الخبر والدعوى على احتمال الصدق والكذب وإنما ترجح الصدق على الكذب بدليل.

وللمتكلمين طرق في إثبات المرجح : أحدها أن اقتران المعجزة بدعوى النبي نازل منزلة التصديق بالقول ، وذلك أنه متى عرف من سنة الله تعالى أنه لا يظهر أمرا خارقا للعادة على يدي من يدعي الرسالة عند وقت التحدي والاستدعاء إلا لتصديقه فيما يجري به واجتماع هذه الأركان انتهض قرينة قطعية دالة على صدق المدعي فكان المعجزة بالفعل كالتصديق شفاها بالقول ونحن نعلم قطعا في صورة من يدعي الرسالة من ملك حاضر محتجب بستر والجماعة على كثرتها حضور ، ثم إن رجلا من عرض الناس إذا قام بين يدي ذلك الجمع الكثير من الخلق ، وقال : أيها الناس إني رسول هذا الملك إليكم وآية صدقي في دعواي أنه يحرك هذا الستر ، إذا استدعيت منه ، ثم قال : أيها الملك إن كانت صادقا في دعواي الرسالة عنك فحرك هذا الستر فحرك في الحال علم قطعا ويقينا بقرينة الحال أنه أراد بذلك الفعل تصديق المدعي ونزل التحريك منه على خلاف العادة منزلة التصديق بالقول ولم يشك واحد من أهل

٢٣٥

الجمع أن الأمر على ما يجري به المدعي فكذلك في صورة مسألتنا هذه ، فإذا المرجح للصدق هي القرائن الحاصلة من اجتماع أمور كثيرة منها الخارق للعادة ومنها كونه مقرونا بالدعوى ، ومنها سلامته عن المعارضة فانتهضت هذه القرائن بمجموعها دالة على صدق المدعي نازلة منزلة التصديق بالقول ، وذلك مثل العلم الحاصل من سائر القرائن ، أعني قرائن الحال وقرائن المقال.

ووجه آخر : الآية الخارقة للعادة كما دلت بوقوعها على قدرة الفاعل وباختصاصها على إرادته وبأحكامها على علمه كذلك دلت بوقوعها مستجابة لدعاء الداعي لا لدعوى المدعي على أن له عند الله حالة صدق ومقالة حق ، ومن كانت دعوته مستجابة عند الله يستحيل أن يكون في دعواه كاذبا على الله تعالى وهذا هو حقيقة النبوة وذلك أن استجابته في أمور لا يقدر الخلق على ذلك دليل على صدق هذا الداعي ، ولو قدر الداعي كاذبا في نفسه على الله أقبح كذب وهو الرسالة عنه بما لم يرسل انقلب دليل الصدق دليلا على الكذب وهو متناقض ونحن لا ننكر أن يكون شخص من الأشخاص مستجاب الدعوة ، ثم ينقلب حاله إلى حالة الأشقياء كما لا ننكر أن يظهر خارق للعادة على يد ساحر ، لكن الشرط في الأمرين واحد وهو أن يكون المدعي في حال ما يدعي مستجاب الدعوة بالآية حتى تكون الآية دالة على صدق حالته ودرجته عند الله تعالى ، وإذا قدر كونه كاذبا انقلبت الدلالة على الصدق دلالة على الكذب ، وهو محال لتناقضه وكما أن الوقوع إذا دل على القدرة لم يدل على العجز والإحكام لما دل على العلم لم يدل على الجهل كذلك دليل الصدق لا يجوز أن يكون دليلا على الكذب ، وهذه الطريقة أحسن من الأولى.

ووجه آخر نقول : إن قرينة الصدق ملازمة لتحدي النبي الصادق عن الله تعالى وذلك أن المعجزة تنقسم إلى منع المعتاد وإلى إثبات غير المعتاد ، أما المنع فكالجنس من الحركات الاختيارية مع سلامة البنية وإحساس التيسير ، والثاني في مجرى العادة ومثال ذلك تيه بني إسرائيل في قطع الطريق ومنع السّحرة من التخييل وحصر زكريا من الكلام المعتاد ، ويجوز أن يقدر صرف الدواعي عن المعارضة بمثل ما جاء به النبي عليه‌السلام من جنس المعجزات وإن كان ذلك من قبيل مقدوراتهم ولهذا عد بعضهم إعجاز القرآن من هذا القبيل وهو مذهب مهجور ، ويجوز أن يقدر منع الناس عن التحدي بمثل ما تحدى به النبي من جنس المعجزات ، فلا يقدر أحد على المعارضة بالدعوى ، فضلا عن معارضته بالخارق للعادة ، ويكون لهذه المعجزة قرينة متصلة بنفس الدعوى حتى لا تخلو قط دعوى نبي من الأنبياء عن قرينة الصدق ولا تتأخر الدلالة عن نفس التحدي وهذا أبلغ في باب الإعجاز فإن المتصدي للمعارضة يحس

٢٣٦

من نفسه عجزا مع استمرار عادته بمثل ذلك التحدي فيقول النبي : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الأعراف : ١٥٨] ، وآية صدقي أن لا يعارضني معارض في نفس دعواي هذه والنفوس متطلعة والألسن سليمة والدواعي باعثة فتتحير العقول وتنحصر الألسن وتتراجع الدواعي وتنمحق الدعاوي لست أقول لا ينكره منكر بل أقول لا يعارضه معارض بمثل التحدي والدعوى فيقول لا بل إني رسول الله إليكم ولهذا لم نجد في قصص الأنبياء من عارضهم بمثل دعواهم في حال التحدي ولا استمرت هذه الدعوى لأحد من بعدهم ، ولا يلتفت إلى ما يحكى عن مسيلمة الكذاب أنه ادعى الرسالة عن الله تعالى ، فإن من كتب إلى نبي الله أما بعد : فإن الأرض بيني وبينك نصفين لم يكن معارضا له في نفس دعواه ، بل مسلما له من وجه ومتحكما من وجه ، ومن ادعى الرحمانية في الحالة الثانية لم يكن ثابت القدم على الدعوى الأولى ، وكان من حقه لو كان منازعا له أن يقول : إني عبد الله ونبيه لا شريك الله في الرحمانية وشريك رسوله في الأرض فاعرف هذه الدقيقة فإن فيها سرا وغورا.

ثم الجواب عن شبهات المنكرين أن نقول : قولكم إن اقتران المعجزة بدعوى المدعي لا ينتهض دليلا على صدقه ، فإن نفس الاقتران بالإضافة إلى دعواه أو إلى غيرها من الأفعال أو الأقوال بمثابة واحدة.

فنقول : سبيل تعريف الله تعالى عباده صدق الرسل بالآيات الخارقة للعادة كسبيل تعريفه إياهم إلهيته بالآيات الدالة عليها ، والتعريف قد يكون بالقول تارة وقد يكون بالفعل أخرى والتعريف بالقول قد يكون إخبارا عن صدقه كقوله تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، وقد يكون تنبيها على صدقه بتعجيز الخلق عن معارضته كما علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة وكما علم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن وقال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، فكما عجزت الملائكة عن معارضة آدم بالأسماء عجزت العرب والعجم عن معارضة المصطفى بآيات القرآن ، ودلت الأسماء والآيات على صدق النبي الأول والنبي الآخر ، ولما ثبت صدق الأول كان مبشرا بمن بعده إلى الآخر ، ولما ثبت صدق الآخر كان هو مصدقا لمن قبله إلى الأول فكانت الأقوال متواصلة والعلوم متواترة والكلمات متفقة والدعوات متحدة والكتب والصحف متصادقة والسيوف على رقاب المنكرين قائمة ، ومن اصطفاه الله عزوجل لرسالته من عباده واجتباه لدعوته كساه ثوب جمال في ألفاظه وأخلاقه وأحواله ما يعجز الخلائق عن معارضته بشيء من ذلك ، فيصير جميع حركاته

٢٣٧

معجزة للناس كما صارت حركات الناس معجزة لمن دونهم من الحيوانات ، ويكون مستتبعا جميع نوع الإنسان ، كما صار الإنسان مستسخرا جميع أنواع الحيوان (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] ، (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] ، ونعيد ما أبديناه آنفا.

فنقول : أنتم معاشر الصابئة والبراهمة المعولون على مجرد العقول وقضاياها وافقتمونا ولم يحتج بالموافقة بل قام الدليل الواضح على أن لله تعالى تصرفا في عباده بالتكليف والأمر على حركاتهم بالأحكام والحدود ، ومن القضايا العقلية أن نوع الإنسان يحتاج إلى اجتماع على نظام وصلاح وأن ذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بتعاون وتمانع وأن ذلك التعاون والتمانع لن يتصور إلا بحدود وأحكام ، وأن تلك الحدود والأحكام تجب أن تكون موافقة لحدود الله وأحكامه ، وأن كل من دب ودرج ليس يتلقى من الله حدوده وأحكامه ولا له أن يضع من عند نفسه حدودا وأحكاما فلزم العقل ضرورة أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يتلقى من الله وحيا وينزله تنزيلا على عباده وهذه قضايا عقلية بيننا وبينكم ، وإنما حقيقة القول آئل إلى تعيين الشارع.

فنقول : لن يتحتم على الله تعالى تعريف صدق من اصطفاه لرسالته وتعيين شخص من اجتباه لشريعته فإنه يؤدي إلى التعجيز وإلى تكليف ما لا يطاق ، وهو كما لو كلف عباده بمعرفته ، ثم يطمس عليهم وجوه أدلته وإذ لا طريق إلى التصديق إلا بالقول والفعل ولا طريق إلى ذلك بالقول تعين الفعل ولربما يعرف الملائكة بالقول ويعرف الناس بالفعل ولربما يعرف النوعين بهما جميعا أعني تعريفهما بفعل نازل منزلة القول أو بقول دال دلالة الفعل وليس ذلك تعريف إيجابا عليه تعالى وتقدس بل وجوبا له حتى لا يؤدي إلى التعجيز في نصب الأدلة ، وحتى لا يفضي إلى التكذيب في خبر الاستخلاف وحتى لا يكون على الله حجة بعد الرسل بتكليف ما لا يطاق فيقال : (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] ، وإذا أرسلت فهلا بينت لنا طريقا ودليلا يتوصل به إلى صدقه ويتوصل بتصديقه إلى معرفتك وطاعتك.

وقولكم : إن الرسول يحيل نزول الآية إلى مشيئة الله تعالى قلنا تلك الحوالة من أدل الأدلة على صدق المقالة إذ لو ادعى الاستقلال بإظهار الآيات ما كان مخبرا عن الله تعالى بأمره ولا داعيا إلى الله بإذنه فهو في كل حال من الأحوال يثبت حق موكله ويظهر العجز من نفسه ويحيل الحول والقوة إلى مرسله وكان الفصل الذاتي لنفس النبي

٢٣٨

عليه‌السلام أن لا يكون موكولا لنفسه طرفة عين فلا ينطق عن الهوى ولا يتحرك إلا على متن الهدى ، وذلك هو العصمة الإلهية المقيمة لنفسه المقومة لذاته ولئن كان النطق فصلا ذاتيا لنوع الإنسان (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ، ٤] ، فصل ذاتي لنفس النبي عليه‌السلام أعرف الإشارة ولا تؤاخذني بالعبارة ونقول أنتم معاشر الصابئة سلمتم بنبوة عاذيمون وهرمس وهما شيث وإدريس عليهما‌السلام فبم عرفتم صدقهما أبمجرد الدعوى والخبر أم بدليل ونظر وكل ما قدرتموه دليلا في حق شخص واحد ثبتت به نبوته أو على الجملة صدقه في جميع أقواله فهو دليل المخبر الثاني والثالث وإن أحلتم الرسالة في الصورة البشرية فهما بشر مثلكم وأنتم مخبرون عنهما بشر مثلنا.

فإن قلتم : إنهما كانا حكيمين عالمين لا نبيين مرسلين قيل وبم وجب عليكم اتباعهما والمحافظة على حدودهما وأحكامهما وانتهاج مناهجهما في الدعوات والصلوات والصيام والزكاة ، وقد تساوت أقدامكم في العقول والأنفس وتشابهت صوركم في البشرية والإنسانية.

ومن عجب ما يلزم منكري النبوة : أن من أنكر النبوة فقد أقر بها من حيث أنكرها فإن النبوة لا معنى لها إلا الخبر عن الله تعالى بأنه أرسل رسولا ، ومن أنكر فقد ادعى أنه مخبر عن الله أنه لم يرسل رسولا فقد ادعى الرسالة لنفسه فكان إنكاره إقرارا وعاد إنكاره تسليما ، ومن سلم أن لله على عباده تكليفا وأمرا فقد سلم أنه يرسل رسولا ، وإنما النزاع وقع في أن الرسالة هل تتصور في الصورة البشرية (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وإذا بينا أن البشرية لا تنافي الرسالة ، فقد أثبتنا جواز انبعاث الرسل والصابئة سلموا الرسالة للروحانيات ، وأوجبوا التوجه إلى هياكلها من الكواكب السبعة ، وعملوا الأشخاص على صورة الهياكل فتقربوا إليها وذلك عود إلى الصورة والأصنام ، والحنفاء سلموا الرسالة للجسمانيات ، وأوجبوا التوجه إلى أشخاصهم ولم يتخذوا أصناما آلهة ولا اعتقدوا النبيين أربابا لكنهم قالوا لهم طرفان بشرية ورسالة (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] ، فبطرف البشرية يشاكل نوع الإنسان ويشاركه فيأكل ويشرب وينام ويستيقظ ويحيي ويموت وبطرف الرسالة يشاكل نوع الملائكة ويشاركه فيسبح ويقدس ويبيت عند ربه فيطعمه ويسقيه وتنام عيناه ولا ينام قبله ويموت قالبه ولا يموت روحه والمناظرة بين الفريقين في أول

٢٣٩

الزمان كانت قائمة وقد أظهرها الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٨ ، ٧٩] ، وبذلك أمر خاتم النبيين عليه‌السلام قال على (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] ، وقال : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] ، وقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) [الأنعام : ٧٩] ، الآية وغيرها من الآيات وفيه فصول كثيرة ذكرناها في كتاب الملل والنحل.

وأما الجواب : عن مسألة إمهال النظر وإفحام الأنبياء فإنما يلزم الإفحام على من قال بالمهلة ويجب على النبي إمهال النظر وذلك مذهب المعتزلة ، وأما من قال بأنه لا يمهله ولا يجب عليه أن يمهله ، بل يجيب بأني جئت لأرفع المهلة وأرشدك إلى معرفة المرسل بأن أخبر عنك بما لا يمكنك إنكاره ، وهو احتياجك إلى صانع فاطر حكيم إذ كنت تعرف ضرورة أنك لم تكن فكنت ، وما كنت بنفسك ، بل بكون غيرك وهذه هي ابتداء الدعوة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] ، فكيف يمهله ويكله إلى نفسه وهو مأمور بدعوة الناس إلى التوحيد والمعرفة حالة فحالة وشخصا فشخصا والاستمهال إنما يتوجه إذا خلت الدعوة من الحجة الملزمة ، والدلالة المفحمة فإن من تحققت رسالته في نفسها وتصدى لدعوة الناس إلى وحدانية الله تعالى لا يخلي دعوته عن الدلالة على التوحيد أولا ثم يتحدى بالرسالة عنه ثانيا اعتبر حال جميع الأنبياء عليهم‌السلام في دعوتهم أما آدم أبو البشر فقد ثبت صدقه بإخبار الله تعالى ملائكته (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، فلم يكن في أول زمانه من كان مشركا فيدعوه إلى التوحيد وحين أمروا بالطاعة فمن صدق الله تعالى في خبره فسجد له بأمره ، ومن لم يسجد فكأنه لم يصدق فاستحق اللعنة وهو أول من كفر ، وأما نوح عليه‌السلام فأول كلامه مع قومه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [المؤمنون : ٣٢] ، فأثبت التوحيد ثم النبوة فقال : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) [الأعراف : ٦٩] ، وأما هود بعده فقال : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ

٢٤٠