نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

الحركات الماضية كأنها موجودة متعاقبة ، والأزمنة أيضا كأنها موجودة وهما متعاقبة على مثال خط موهوم لا يتناهى تركب من نقط متتالية ، والحدود في الحركات والأوقات في الأزمنة كالنقط في الخطوط والتعاقب كالتتالي والعلة التي لأجلها امتنع ألا تتناهى ، ووجب أن تتناهى فهو أنه مؤد إلى أنه يكون الأقل مثل الأكثر ، والناقص مثل الزائد وهذا موجود في الموضعين جميعا ، ولذلك قال المتكلم : إنا إذا فرضنا الكلام في اليوم الذي نحن فيه ، وقلنا ما مضى من الأيام غير متناه عندكم وما بقي أيضا غير متناه والباقي والماضي متساويان متماثلان في عدم التناهي ، فلو فصلنا من الماضي سنة وأضفناها إلى الباقي صار الماضي ناقصا والباقي زائدا وهما متماثلان في نفي التناهي أدى ذلك إلى أن يكون الزائد مثل الناقص.

الوجه الثاني : أنه لو لم يتحقق في الحركات والأشخاص ترتيب وضعي فقد تحقق فيها ترتيب طبيعي كالعلل والمعلولات ، فإنها لا بدّ أن تكون متناهية بالاتفاق وذلك أن كل معلول فهو ممكن الوجود بذاته ، وإنما يجب وجوده بعلته فيتوقف وجوده على وجود علته والكلام في علته كذلك حتى يتناهى إلى علة أولى ليست ممكنة لذاتها ، كذلك نسبة كل والد إلى مولود نسبة العلة إلى معلولها فيتوقف وجود الولد على وجود الوالد وكذلك القول في الوالد فهلا قلت ينتهي إلى والد أول ومع ذلك فالأشخاص عندكم لا تتناهى ثم يعدّد لكل شخص إنساني قد وجد نفس ناطقة وهي باقية مجتمعة في الوجود فالأشخاص إذا كانت لا تتناهى؟ وجاز وجودها لأنها متعاقبة لا مجتمعة معا في الوجود فما قولك في النفوس فإنها مجتمعة وهي لا تتناهى ، فإن قال : ليس لها ترتيب طبيعي ولا وضعي قيل : فإذا ترتبت الأشخاص والدا ومولودا ترتبت النفوس أيضا ذلك الترتيب لأن من العوارض واللوازم المعينة للنفوس كونها بحيث إن صدرت عن أشخاصها أشخاص ، فهذه النسبة باقية ببقائها ، ولذلك النوع ترتيب.

برهان آخر : في أن ما لا يتناهى من الحوادث والحركات لا يتحقق في الوجود : وذلك أنا نفرض الكلام في الدورة التي نحن فيها ولا شك إن ما مضى قد انتهى بها وما انتهى بشيء فقد تناهى ومعنى قولنا : إن ما مضى قد انتهى أنا إذا أردنا قصر النظر على ما نحن فيه وقطعناه عما سيأتي اقتضى ذلك تناهي الحركات الماضية إذ بتناهي الحركات الماضية لم يكن مشروطا فيها لحوق الحركات الآتية فما من حركة توجد وتعدم إلا وقد انقضت حركات قبلها بلا نهاية فيوجد أبدا طرف منها متناهيا ويكون ذلك الطرف آخر الماضي وأولا لما بقي فكل حركة أو كل دورة فقد تحقق لها أول وآخر وإذا تناهى من طرف فقد تناهى من الطرف الثاني ، فالحركات كلها إذا في

٢١

ذواتها متناهية أولا وآخرا وهي معدودة بالزمان والزمان هو العاد للحركات فالمعدود إذا يتناهى أولا وآخرا ، كذلك يلزم أن يتناهى العاد أولا وآخرا يبقى أن يقال : أهي متناهية عددا أم لا؟ قلنا : وكل عدد موجود فهو قابل للزيادة والنقصان والأكثر والأقل فهو متناه وكل عدد موجود فهو متناه ، وهذا الحكم يجري في كل عدد موجود معا كالنفوس الإنسانية أو متعاقبة كالأشخاص الإنسانية وعندهم النفوس غير متناهية عددا وهي قابلة للزيادة والنقصان ، فإذا طبّقت الأشخاص على النفوس تساوت لا محالة وإن نقصت من الأشخاص عددا وطبقت الباقي على عدد النفوس فإن كان كل واحد منهما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص ، وإن كان يتناهى فقد حصل المقصود وتطبيق الخط على الخط كتطبيق العدد على العدد وتطبيق النفس على الشخص والحركات والمتحركات إذا تناهت ذاتا وزمانا ومكانا وعددا وهذا قاطع لا جواب عنه ولا سؤال عليه (١).

ومن جملة الإلزامات على الدهرية : أن حركات زحل وهو في الفلك السابع مثل حركات القمر وهو في الفلك الأول من حيث أن كل واحد من النوعين غير متناه ومعلوم بالضرورة أن حركات زحل أكثر من حركات القمر فهي إذا مثلها وأكثر منها ، وذلك من أمحل المحال وأبلغ في التناقض.

فإن قيل : إن قصرت مسافة فلك القمر عن فلك زحل فقد طال زمان القمر بمقدار قصر المسافة حتى قطع القمر فلكه بمثل ما قطع زحل فلكه فقد تساويا في الحركة.

قلنا : وما قولكم في حركة فلك زحل فإنها حركات المحيط وحركات فلك القمر وحركات القطب فهما متساويان فيما لا يتناهى وحركات فلك زحل أضعاف حركات فلك القمر ولا جواب عنه.

فإن قيل : ألستم أثبتم تفاوتا في معلولات الله تعالى وفي مقدوراته فإن العلم عندكم متعلق بالواجب والجائز والمستحيل والقدرة لا تتعلق إلا بالجائز فكانت المعلومات أكثر والمقدورات أقل ، والقلة والكثرة قد تطرقنا إلى النوعين وهما غير متناهيين.

والجواب : قلنا : نحن لم نثبت معلومات أو مقدورات هي أعداد بلا نهاية بل معنى قولنا إنها لا تتناهى أي العلم صفة صالحة يعلم به ما يصح أن يعلم والقدرة صفة صالحة يقدر بها على ما يصح أن يوجد ثم ما يصح أن يعلم وما يصح أن يقدر عليه لا يتناهى ، وليس ذلك عدد أنقص من عدد حتى يكون ذلك نقضا لما ذكرناه وإنما الممتنع عندنا أعداد يحصرها الوجود وهي غير متناهية فنقول : قد بينا أن ما لا يتناهى

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (١ / ٥٣١).

٢٢

إنما يمكن تصوره في الوهم والتقدير لا في الوجود كالعدد يقال له : إنه لا ينتهي تضعيفا وليس نعني به أن العدد غير المتناهي موجود محصور بل المعنى أنك إذا قدرت أو توهمت ضعفا فوق ضعف إلى ما لا يتناهى أمكنك ذلك كذلك المعلولات والمقدورات على التقدير الوهمي لا يتناهى ولصلاحية العلم أن يعلم به كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه يقال : إن العلم لا يتناهى وذلك لصلاحية القدرة أن يقدر بها على كل ما يصح أن يقدر عليه يقال إن القدرة لا تتناهى فلا القدرة ولا العلم أمر بسيط ذاهب في الجهات لا يتناهى ، ولا المعلومات والمقدورات أعداد كثيرة لا تتناهى ، وهكذا ينبغي أن تفهم من معنى قولنا ذات الباري سبحانه لا تتناهى أي هو واحد لا يقبل الانقسام بوجه من الوجوه ، فلا يتطرق إليه نهاية بوجه من الوجوه.

شبه الدهرية قالوا : إذا قلتم إن العالم محدث بعد أن لم يكن فقد تأخر وجوده عن وجود الباري تعالى فلا يخلو إما أن يتأخر بمدة أو لا بمدة فإن تأخر لا بمدة فقد قارن وجوده وجود الباري تعالى ، وإن تأخر بمدة فلا يخلو إما أن تأخر بمدة متناهية أو بمدة غير متناهية فإن تأخر بمدة متناهية فقد وجب تناهي وجود الباري سبحانه وإن تأخر بمدة غير متناهية فنفرض في تلك المدة موجودات لا تتناهى فإنه إن لم يمتنع مدة لا تتناهى لم يمتنع عدة لا تتناهى (١).

والجواب قلنا : هذا الكلام غير مستقيم وضعا وتقسيما أما الوضع فقولكم لو كان العالم محدثا كان وجوده متأخرا فإن عنيتم به التأخر بالزمان فغير مسلم ، فإنا قد بينا أن التقدم والتأخر والمعية الزمانية تمتنع في حق الباري سبحانه.

وعلى هذا لم يصح بنا التقسيم عليه أنه متأخر بمدة أو لا بمدة فإن ما لا يقبل المدة ذاتا ووجودا لا يقال له تقدم أو تأخر أو قارن بمدة أو لا بمدة فأحلتم علينا تقدما وتأخرا ومعية زمانية للباري تعالى وإذا منعنا ذلك ألزمتم علينا مقارنة في الوجود وذلك تلبيس فإنا إذا منعنا التقدم والتأخر الزماني منعنا المقارنة الزمانية ، بل وجود الباري تعالى لا يقال متقدم بالزمان كما لا يقال أيضا فوق بالمكان ولا يقال مقارن بالزمان كما لا يقال مجاور للعالم بالمكان وإن عنيتم بالتأخر في الوجود أي الموجد مفيد الوجود والموجد مستفيد الوجود والموجد لا أول لوجوده والموجد له أول فهو

__________________

(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم (ص ٣٦٠) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٥٧ ، ٢٩٤) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (٢ / ١٤٤) ، والملل والنحل للشهرستاني (٢ / ١٥١) ، وتلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ٣٠٠) ، والتبصير في الدين (ص ١٤٩).

٢٣

مسلّم ولا يصح أيضا بنا التقسيم عليه أنه تأخر بمدة أو لا بمدة.

فإن قيل : لا بدّ من نسبة ما بين الموجد والموجد وإذا تحققت النسبة فبمدة متناهية أو غير متناهية.

قلنا : ولا بد من نفي النسبة بين الموجد والموجد إذ لو تحققت النسبة بمدة متناهية أو غير متناهية كان وجوده زمانيا قابلا للتغير والحركة أليس لو قال القائل : ما نسبة واحد منا حيث حدث وله أول كان السؤال محالا أليس لو قال القائل ما نسبة العالم منه تعالى حيث وجد وله نهاية أفيباينه أو يجاوره فإن باينه أفبخلا أو بينونة تتناهى أم لا تتناهى كان السؤال محالا ، كذلك نقول في المدة فإن الجزئي كالكلي والزمان كالمكان.

وجواب آخر عن التقسيم نقول ما المعنيّ بالمدة أهي عبارة عن أمر موجود أو عن تقدير موجود أم عن عدم بحت ، فإن كان أمرا موجودا محققا فهو من العالم فلا يكون قبل العالم وأيضا الموجود إما قائم بنفسه أو قائم بغيره وعلى الوجهين جميعا لا يمكن تقديره قبل العالم ، وإن كان أمرا مقدرا وجوده والتقديرات الوهمية تجويزات وليس كلما يجوّزه العقل أو يقدره الوهم يمكن وجوده جملة حاصلة فإن وجود عالم آخر وكذلك إلى ما لا يتناهى مما يجوز يقدره الوهم وكذلك الأعداد التي لا تتناهى مما يقدره الوهم لا مما يجوزه العقل وبالجملة الجائزات كلها لا يمكن أن توجد جملة حاصلة فيكون ما لا يتناهى مما يحصره الوجود وذاك محال فعلم أن تقدير أزمنة غير متناهية لا يكون كالتحقيق وما يمكن وجوده جملة معا أو متعاقبا لا يمكن أن يكون مشحونا بما لا يتناهى وإن كانت المدة عبارة عن عدم بحت ، فلا يتناهى ولا يتناهى في عدم البحث.

وجواب آخر : لم قلتم إن المدة لو كانت متناهية لتناهى وجود الباري تعالى فإن تناهي المدة كتناهي العالم مكانا وهو مصادرة على المطلوب الأول وتعبير عن محال النزاع ثم تناهي العالم مكانا ليس يقتضي تناهي ذات الباري تعالى لأنه لا مناسبة بينه وبين المكانيات والمكان كذلك تناهي العالم زمانا لا يقتضي تناهي وجود الباري لأنه لا مناسبة بينه وبين الزمانيات والزمان ، ولم قلتم إن المدة لو لم تكن متناهية في التقدير العقلي أمكن أن يوجد فيها موجودات في التحقيق الحسي.

شبهة أخرى : قال ابن سينا حكاية عن أرسطاطاليس : كل حادث عن عدم فإنه يسبقه إمكان الوجود ضرورة وإمكان الوجود ليس هو عدما محضا بل هو أمر ما له صلاحية الوجود والعدم ولن يتصور ذلك إلا في مادة فكل حادث فإنه يسبقه مادة ثم

٢٤

تلك المادة المتقدمة لا تتصور إلا في زمان لأن قبل ومع لا يتحقق إلا في زمان والمعدوم قيل هو المعدوم مع وليس الإمكان قبل هو الذي يقارن الوجود فهو إذا متقدم تقدما زمانيا والعالم لو كان حادثا عن عدم لتقدمه إمكان الوجود في مادة تقدما زمانيا ، فهو إما أن يتسلسل فهو باطل وإما أن يقف على حد لا يسبقه إمكان فلا يسبقه عدم فيكون واجبا بغيره وهو ما ذهبنا إليه ، وهذه الشبهة هي التي أوقعت المعتزلة في اعتقاد كون المعدوم شيئا ، وعن هذا قصروا الشيئية في الممكن وجوده لا المستحيل ثبوته.

والجواب : أنا قد بينا أن معنى الحدوث عن عدم أنه هو الموجود الذي له أول لا [....] (١) الإمكان السابق عليه ليس يرجع إلى ذات وهو شيء حتى يحتاج إلى مادة بل هو أمر راجع إلى التقدير الذهني لأن ما لا يجوز وجوده لا يتحقق له ثبوت وحدوث والقبلية والمعية ، راجعة أيضا إلى التقدير العقلي ، وإنما نتصور نحن من حدوث العالم ما يتصورونه من حدوث النفس الإنسانية حادثة لها أول لا عن شيء حتى يمكن أن يقال : إنها مسبوقة بالعدم أي لم تكن فكانت وهي ممكنة الوجود في ذاتها وإمكانها لا يستدعي مادة تسبقها ، فإن ذلك يؤدي إلى أن يكون وجودها ماديا ، فعلم أن الإمكان من حيث هو ، إمكان ليس يستدعي مادة وسبقه على الموجود الحادث ليس إلا سبقا في الذهن سميتموه سبقا ذاتيا وذلك السبق ليس سبقا زمانيا وكذلك القول في المعلول الأول وسائر النفوس فإنها ممكنة الوجود بذواتها ، وإمكان وجودها سابق على وجودها سبقا ذاتيا (٢) ، وكذلك القول في الجسم الأول الذي هو فلك الأفلاك ونقول : إن كل حادث حدوثا زمانيا أو حدوثا ذاتيا على أصلكم ، فإنه بسبقه إمكان الوجود فإن الموجود المحدث قد تردد بين طرفي الوجود والعدم وهذا التردد والسبق والإمكان كله يرجع إلى تقدير في الذهن وإلا فالشيء في ذاته على صفة واحدة من الوجود لكن الوجود باعتبار ذاته انقسم إلى ما يكون وجوده لوجود هو له لذاته أي هو غير مستفاد له من غيره فيقال : الوجود أولى به وأول ما يكون وجوده لوجود هو له من غيره فيقال الوجود ليس أولى به ولا أول وهذا الوجود لم يتحقق إلا أن يكون له أول مسبوق بوجود لا أول له ويكون له في ذاته إمكان الوجود يعبر عنه بأنه مسبوق بإمكان الوجود لا أنه وجود يسبقه إمكان الوجود بل الوجود في ذاته

__________________

(١) ما بين [....] بياض في الأصل.

(٢) انظر : المواقف (٢ / ٦٧٧ ، ٦٨٠ ، ٦٨١) ، ومعارج القدس (١ / ١٠٨ ، ١١١).

٢٥

وجود ممكن فقد وجد هاهنا سبقان أحدهما سبق وجود الموجود والثاني سبق إمكان الوجود ولكننا بعد ما بحثنا عن السبق الثاني لم نعثر على معنى إلا أن الوجود المستفاد لن يتحقق إلا بأن يكون ممكنا في ذاته مقدرا فيه تردد بين طرفي الوجود والعدم واحتاج إلى مرجّح لولاه لما حصل له وجود فلو كان كل حادث محتاجا إلى سبق إمكان وكل إمكان محتاجا إلى مادة وكل مادة إلى زمان تسلسل القول فيه فيقال وتلك المادة والزمان يحتاجان إلى مادة وزمان ولما حصل وجود حادث أصلا فبطل الأصل الذي وضعوا الكلام عليه بل لا بدّ من منتهى ينتهي إليه فيكون مبدعا لا من شيء ويكون ممكنا في ذاته ولا يستدعي إمكانه مادة وزمانا فهكذا يجب أن يتصور معنى سبق الإمكان وسبق العدم وسبق الموجد فإن الموجد يسبق بوجوده من حيث وجوده ويلزم ذلك أن يسبق العدم والإمكان في الموجد سبقا تقديريا وقد تقرر الفرق بين التقدم الذاتي والتقدم الوجودي فتأمل ذلك.

شبهة أخرى : اعتمد عليها أبو علي بن سينا قال : أسلّم أن العالم بما فيه من الجواهر والأعراض جائز الوجود لذاته لكن كلامنا في أنه هل هو واجب الوجود بغيره دائم الوجود بدوامه ، قال : والجائز أن لا يوجد وأن يوجد وإذا تخصص بالوجود احتاج إلى مرجح لجانب الوجود ، والحال لا يخلو إما أن يقال ما يجوز أن يوجد عن المرجح يجب أن يوجد حتى لا يتراخى عنه وإما أن يقال لا يجب أن يوجد حتى يتراخى عنه ثم يوجد بعد أن لم يوجد لكن العقل الصريح الذي لم يكذب يقضي أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة وهي كما كانت وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل مع جواز أن يوجد وهي الآن كذلك فالآن لا يوجد عنها شيء وإذا كان قد وجد فقد حدث أمر لا محالة عن قصد وإرادة وطبع وقدرة أو تمكن وغرض أو سبب من الأسباب ثم لا يخلو ذلك السبب إما أن يحدث في ذاته صفة أو يحدث أمرا مباينا عنه والكلام في ذلك الحادث على أي وجه كان كالكلام في العالم فإذا لا يجوز أن يحدث أمر ما وإذا لم يجز فلا فرق بين حال أن يفعل وبين حال أن لا يفعل وقد وجد الفعل فهو خلف وإنما ألزمنا هذا لأنا وضعنا في التقدير العقلي ذاتا معطلة عن الفعل وهو باطل فنقيضه حق.

والجواب قلنا : أنتم مطالبون بإثبات ثلاث مقدمات إحداها : إثبات جواز وجود العالم في الأزل ، والثانية إثبات أن ما يجوز وجوده يجب وجوده ، والثالثة إثبات سبب حادث لأمر حادث.

أما الأولى فنحن قد بينا استحالة وجود أمر جائز في ذاته مع وجود موجود

٢٦

واجب في ذاته في الأزل من وجهين أحدهما استحالة اقتران وجود ما لا أول له مع وجود ما له أول فإن الجمع بينهما من المحالات والوجود الواجب لذاته يجب أن يتقدم الوجود الجائز لذاته تقدما ما في وجوده بحيث يكون الواجب موجودا ولا وجود معه لا من حيث الوجود ولا من حيث الذات ولا من حيث الزمان ولا من حيث الرتبة والمكان ولا من حيث الفضيلة وبالجملة فحيث ما تحقق الجواز والإمكان في شيء تحقق نفي الأزلية عنه وإثبات الأولية له واقتران الأزلية والأولية في شيء واحد محال وقولكم العالم جائز الوجود وكل جائز وجوده يجب وجوده أزلا وأبدا جمع بين قضيتين متناقضتين ومن اعترف بالجواز والإمكان فقد سلم المسألة من كل وجه فإن الشيء إذا تطرق إليه الجواز في الوجود من وجه تطرق إليه الجواز من سائر الوجوه أعني الوقت والمقدار والشكل إذا كان الموجود قابلا لها أو لواحد منها والدائر بين وجوه الجواز إذا تخصص بأحد الجائزين دون الثاني احتاج إلى مخصص وانتفى الوجوب والدوام عنه.

وأما الوجه الثاني في بيان الاستحالة : أن الحوادث التي لا تتناهى قد تبين استحالتها.

فإن قيل : ما المانع من وجود العالم في الأزل كان الجواب استحالة حوادث لا تتناهى لما بينا من البرهان الدال عليه.

وأما الكلام على المقدمة الثانية : وهي أن ما يجوز وجوده يجب وجوده.

قلنا هذا الكلام أولا متناقض لفظا ومعنى أما اللفظ فإن الجواز والوجوب متناقضان إلا أن يقال إن ما يجوز وجوده في ذاته يجب وجوده بغيره قيل وهذا أيضا باطل فإن الوجوب بالغير إنما يكون بإيجاب الغير ، والجائز إنما يحتاج إلى الواجب في وجوده لا في وجوبه فيكون وجوده بإيجاد الغير ثم يلزمه من حيث النسبة وجوبه وقد تبين هذا المعنى فيما قبل وأما التناقض من حيث المعنى فهو أن الجائز وجوده مما لا يتناهى فلو كان ما جاز وجوده وجب وجوده لوجد ما لا يتناهى دفعة واحدة كما هي إذا شرط شرط الترتيب في الذوات حتى حصل في الوجود أول ثم ثان ثم ثالث ثم ينتهي إلى موجودات محصورة كذلك يشترط الترتيب في الموجود حتى حصل موجود له أول ثم ثان ثم ثالث فالترتيب في الذوات تقدما وتأخرا كالترتيب في الموجودات أولا وآخرا وهذا بناء على ما ذكرناه من إثبات قسم آخر في أقسام التقدم والتأخر وذلك واجب الرعاية.

وأما الكلام في المقدمة الثالثة وهي المغلطة الزباء والداهية الدهيا وكثيرا ما كنا

٢٧

نراجع أستاذنا وإمامنا ناصر السنة [صاحب الغنية وشرح الإرشاد] أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري فيها ويتكلم عليها فما يزيد فيها على إثبات وجه فاعلية الباري سبحانه وتعالى مما يقصر عن دركه عقول العقلاء ثم الذي كان يستقر كلامه عليه قال ثبت جواز وجود العالم عقلا وثبت حدوثه دليلا ويعرف أن ما حدث بذاته فيجب نسبة حدوثه إلى واجب الوجود بذاته والخصم إنما يطالب بوجه النسبة فإن الموجد إذا كان لا يوجد وأوجد فنسبة الحادث إليه قبل الإيجاد كنسبته إليه حال الإيجاد وبعده ولم يحدث أمر ما ولا سبب فلم وجد ولم أوجد وبالجملة فما معنى الإيجاد والإبداع إن قلت إنه علم وجوده في هذا الوقت وأراد وجوده فيه قيل : العلم عام التعلق ، والإرادة عامة التعلق فنسبة وجوده إلى الإرادة العامة في هذا الوقت على هذا الشكل كنسبة وجوده في غير هذا الوقت على غير هذا الشكل ، وكذلك القول في القدرة فإنها في عموم تعلقها كالإرادة : والعلم فلا خصوص في الصفات ، فكيف يختص الفعل وهذا الموضع منشأ ضلال بعض المتكلمين ، فإن الكرامية أثبتوا حوادث في ذات الباري تعالى من الإرادة والقول ، وهي التي تخصص العالم بالوجود دون العدم والمشيئة القديمة تتعلق عندهم تعلقا عاما والإرادة تتعلق تعلقا خاصا وفرقوا بين الأحداث والمحدث والخلق والمخلوق والمعتزلة أثبتوا إرادات حادثة لا في محل هي التي تخصص العالم بالوجود دون العدم ولم يفرقوا بين الإحداث والمحدث والخلق والمخلوق والأولى أن نسلك في حل الإشكال طريق إبطال مذهب الخصم ثم نشير إلى ما يلوح للعقل من معنى الإيجاد.

فنقول : اتفقنا على أن العالم جائز لذاته محتاج إلى مرجح لجانب الوجود على العدم فالمرجح لا يخلو إما أن يرجح من حيث هو ذات أو من حيث هو وجود ويلزم عليه أمران أحدهما : أن يكون كل ذات وكل وجود مرجحا ، والثاني : أن يحدث ما يجوز وجوده مما لا يتناهى فإنه نسبة الجميع إلى الذات والوجود نسبة واحدة والوجهان محالان ، وإما أن يرجح من حيث هو ذات أو وجود على صفة أو على اعتبار ووجه فإن يرجح من حيث هو وجود على صفة فقد سلمت المسألة وبطل الإيجاب الذاتي وأن يرجح من حيث هو وجود على وجه كما قال الخصم إنه واجب الوجود لذاته ، وإنما أوجب من حيث أنه واجب لذاته وهو وجود على وجه فهو أيضا باطل فإن وجوب الوجود لذاته معناه أمر سلبي أي وجوده غير مستفاد من غيره ومن فهم وجودا غير مستفاد لم يلزمه أن يفهم أنه مفيد غيره ، وكذلك من فهم أنه عالم أو عقل وعاقل كما قال الخصم لم يلزم منه أن يفهم منه أنه موجد مفيد الوجود غيره لأن

٢٨

معنى كونه عقلا عند الخصم معنى سلبي أيضا أي مجرد عن المادة وبأن يكون مجردا عن المادة لا يلزم أن يكون مفيد الوجود لغيره ، فبطل الإيجاب الذاتي من كل وجه وتعين أنه إنما أوجد لكونه على صفة ولتلك الصفة من حيث ذاتها صلاحية التخصيص والإيجاد عموما بالنسبة إلى ما حصل على الهيئة التي حصل وبالنسبة إلى غيرها نسبة واحدة ، ولها أيضا خصوص وجه بالنسبة إلى ما حصل دون ما لم يحصل وذلك الخصوص لها عند إضافتها إياها إلى غيرها (١).

فنقول : لما علم الباري وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه أراد وجوده في ذلك الوقت فالعلم عام التعلق بمعنى أنه صفة صالحة لأن يعلم به جميع ما يصح أن يعلم والمعلومات لا تتناهى على معنى أنه علم وجود العالم وعلم جواز وجوده قبل وبعد على كل وجه يتطرق إليه الجواز العقلي والإرادة عامة التعلق بمعنى أنها صفة صالحة لتخصيص ما يجوز أن يخصص به والمرادات لا تتناهى على معنى أن وجوه الجواز في التخصيصات غير متناهية ولها خصوص تعلق من حيث إنها توجد وتوقع ما علم وأراد وجوده ، فإن خلاف المعلوم محال وقوعه فالصفات كلها عامة التعلق من حيث صلاحية وجودها وذواتها بالنسبة إلى متعلقاتها إلى ما لا يتناهى خاصة التعلق من حيث نسبة بعضها إلى بعض والإرادة لا تخصص بالوجود إلا حقيقة ما علم وجوده والقدرة لا توقع إلا ما أراد وقوعه وتعلقات هذه الصفات إذا توافقت على الوجه الذي ذكرناه حصل الوجود لا محالة من غير تغيير يحصل في الموجد ، وإنما يتعذر تصور هذا المعنى علينا لأنا لم نحس من أنفسنا إيجادا وإبداعا ولا كانت صفاتنا عامة التعلق فعلمنا إذا لم يتعلق إلا بمعلوم واحد ولم تتعلق إرادتنا إلا بمراد واحد ولا قدرتنا إلا بمقدور واحد لا على سبيل الإيجاد ولن يتصور بقاء صفاتنا لكونها أعراضا فيتقاضى عقلنا وحسنا حدوث سبب لحدوث أمر ، حتى لو قدرنا علما وإرادة وقدرة لها عموم التعلق بمتعلقات لا تتناهى على معنى صلاحية كل صفة لمتعلقها وقدرنا صلاحية قدرتنا للإيجاد وقدرنا بقاء الصفات فعلمنا وجود شيء بقدرتنا وإرادتنا في وقت مخصوص ودخل الوقت لا نشك أن الشيء يقع ضرورة من غير أن تتغير ذاتنا أو يحدث أمر أو سبب لم يكن وهذا كما يقدره الخصم في العقل الفعال وفيضه ، فإنه يقول هو عام الإفاضة واهب للصور على الإشاعة من غير تخصيص ثم يثبت له نوع خصوص بالإضافة إلى القوابل والشرائط التي تتكون فتحصل استعدادا في القوابل

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (١ / ٣٥٢) ، (٣ / ٢١٨).

٢٩

فيختص الفيض بقابل مخصوص على قدر مخصوص فخصوص الفيض بسبب خارج عن ذات المفيض لا يقدح في عموم الفيض باعتبار ذاته على أن الإيجاب الذاتي عند الخصم فيض ذاتي هو وجود عام لا خصوص فيه ولكنه إنما يفيض منه واحد ثم من الواحد يفيض عقل ونفس وفلك ومن كل عقل ونفس عقل ونفس حتى ينتهي بالعقل الأخير ثم يفيض منه الصور على الموجودات السفلية وتنتهي بالنفس الناطقة.

فنقول ما الموجب لحصر الموجودات في هذه الذوات ولا خصوص في الفيض وإن تناهى الموجودات عددا ومكانا كتناهي الموجودات بداية وزمانا.

فإن قلتم : إن الخصوص عندنا يرجع إلى قبول الحوامل فيقدر الفيض بمقدارها.

قيل : وكلامنا في أصل الحوامل لم ينحصر في عدد معلوم فلم انحصرت السماوات في سبع أو تسع ولم انحصرت العناصر في أربعة ، ولم انحصرت المركبات في عدد معلوم ولم تناهت هذه الموجودات فهلا ذهبت السماوات إلى غير نهاية مكانا كما ذهبت حركاتها إلى غير نهاية زمانا.

فإن قلتم : منعنا من ذلك برهان عقلي على أن العالم متناه مكانا.

قلنا : ومنعنا عن ذلك أيضا ذلك البرهان بعينه كما بينا وكل ما ذكرتموه في العناية الإلهية التي أوجبت ترتيب الموجودات على نظامها الأكمل نقدره نحن في الإرادة الأزلية التي اقتضت تخصيص الموجودات على النظام الذي علمه أو ليس لم يكف على أصلكم مجرد وجود مطلق حتى خصصتم بالوجوب ولم يكف الوجوب حتى خصصتم بالتعقل ولم يكف التعقل حتى خصصتم بالعناية ثم عدتم فقلتم هذه صفات إضافية أو سلبية لا توجب تكثرا في ذاته وتغيرا فما سميتموه تعقلا نحن نقول هو علم أزلي وما سميتموه عناية نحن نقول هو إرادة أزلية فكما أن العناية عندكم ترتبت على العلم فعندنا الإرادة إنما تتعلق بالمراد على وفق العلم فلا فرق بين الطريقين إلا أنهم ردوا معاني الصفات إلى الذات وعند المتكلمين معاني الصفات لا ترجع إلى الذات فالأولى بالمناظرة في هذه المسألة أن يدفع الخصم إلى تعيين محل النزاع وتبيين مذهبه فيستفيد بذلك بطلان مذهب الخصم فإنه يقول أول ما صدر عن الباري تعالى فهو العقل الأول لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ، ثم العقل أوجب عقلا آخر ونفسا وجسما فهو فلك الأفلاك وبتوسط كل عقل عقلا ونفسا وفلكا حتى انتهت الأفلاك بالفلك الأخير الذي يديره العقل الفعال الذي هو واهب الصور في العالم وبتوسط العقول السماوية والحركات الفلكية حدثت العناصر وبتوسطها حدثت المركبات وآخر الموجودات هي النفس الإنسانية لأن الوجود ابتدأ من

٣٠

الأشرف فالأشرف حتى بلغ إلى الأخس وهو الهيولي ثم ابتدأ من الأخس فالأخس حتى بلغ الأشرف فالأشرف وهو النفس الناطقة الإنسانية (١).

فيقال لهم هذه الموجودات السفلية على هيئتها وأشكالها من أنواعها وأصنافها التي تراها أوجدت دفعة واحدة أم على ترتيب فإن وجدت دفعة واحدة بطل الترتيب الذي أوجده في وجود الموجودات وإن حصلت على ترتيب شيئا بعد شيء فأنى تحقق سبق ذاتي وتأخر ذاتي بين المعلول الأول والمعلول الأخير.

ونقول : ما نسبة المعلول الأخير إلى المعلول الأول من حيث الزمان وهما وإن كانا في ذواتهما غير زمانين إلا أن النفس الإنسانية حدثت حدوثا لم تكن قبل ذلك موجودة فتحقق لها أول فما نسبة أولية النفس إلى العقل الأول فإن كان بينهما نفوس غير متناهية حدثت في أزمنة غير متناهية كان غير المتناهي محصورا بين حاصرين وذلك محال وإن كانت متناهية فبطل قولهم إن الحوادث لا تتناهى إذ لو كانت الحركات السماوية غير متناهية كانت الموجودات السفلية غير متناهية أيضا ، وحصل من نفس بيان المذهب بطلانه ثم هم منازعون في الترتيب الذي ذكروه فإن أصحابهم قد اختلفوا في المبادئ اختلافا ظاهرا فمنهم من قال أول الموجودات هو العنصر ثم العقل ثم النفس ثم الجسم ومنهم من قال العقل ثم النفس ثم الهيولي ثم الأفلاك ثم العناصر ثم المركبات كما سيأتي بيان ذلك.

شبهة من شبه برقلس ، قال : الباري سبحانه جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده وجوده قديم لم يزل فيلزم أن يكون وجود العالم قديما لم يزل قال ولا يجوز أن يكون مرة جوادا ومرة غير جواد فإنه يوجب التغير في ذاته قال ولا مانع من فيض وجوده إذ لو كان مانع لما كان من ذاته إذ المانع الذاتي مانع أبدا وقد تحقق الجود بإيجاد الموجود فهو خلف ولو كان المانع من غيره كان الغير هو الحامل لواجب الوجود وواجب الوجود لا يحمل على شيء ولا يمنع من شيء.

شبهة أخرى تقارب هذه الشبهة قال ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعا بالفعل أو لم يزل صانعا بالقوة فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء فيجب أن تتغير ذات الصانع لمغير وذلك باطل.

شبهة أخرى قال : كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (٢ / ١٩٩).

٣١

من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غيرها وكل علة من جهة ذاتها فمعلولها من جهة ذاتها ، وإذا كانت ذاتا لم تزل فمعلولها لم يزل.

والجواب : قلنا ما المعنى بقولك الباري تعالى جواد بذاته وما معنى الجود فإن عندنا وعندكم الجود ليس صفة ذاتية زائدة على الذات بل هو صفة فعلية والصفات عندكم إما أن تكون سلوبا كالقديم والغنى فإن معنى القديم نفي الأولية ومعنى الغنى نفي الحاجة وإما أن تكون إضافات كالخالق والرازق على اصطلاحنا والمبدئ والعلة الأولى على اصطلاحكم وليس لله صفة وراء هذين المعنيين ، فالجود من قسم الإضافة لا من قسم السلب فلا فرق إذا بين معنى المبدئ وبين معنى الجود ومعناهما الفاعل الصانع فكأنكم قلتم صانع بذاته وهو محل النزاع ومصادرة على المطلوب الأول فإن الخصم يقول : ليس فاعلا لذاته وفعله ليس قديما لم يزل وفيه وقع الخلاف غيرت العبارة من الفعل إلى الجود وجعلته دليل المسألة ، وإذا كان معنى الجود راجعا إلى الفعل والإيجاد فقوله مرة هو جواد ومرة غير جواد كقوله مرة فاعل ومرة غير فاعل ، وذلك أيضا محل النزاع فلم يجب أن يقال : إنه يوجب التغير.

وإنما هل الشبهة فيه من وجهين : أحدهما أن الفعل إنما امتنع في الأزل لا لمعنى يرجع إلى الفاعل بل لمعنى راجع إلى نفس الفعل حيث لم يتصور وجوده فإن الفعل ما له أول والأزل ما لا أول له واجتماع ما لا أول له مع ما له أول محال فهو تعالى جواد حيث يتصور الجود ولا يستحيل الموجود أليس لو عين الشخص في زماننا فيقال : يجب أن يوجد أزلا لأن الباري سبحانه جواد لذاته كان السؤال محالا لأن الموجود المعين استحال وجوده فيما لم يزل فاستحالة وجود الموجود هو المانع لفيض الوجود لا منعا يكون ذلك حملا أو زجرا بل هو ممتنع في ذاته وهكذا لو أوجد ما أوجده أولا آخرا أو أوجد جميع الموجودات معا من غير ترتيب واحد على واحد كل ذلك غير جائز عند الخصم ولم يقدح في كونه جوادا هذا كما يقدره المتكلم أن الباري سبحانه يوصف بالقدرة على ما يجوز وجوده وأما ما يستحيل وجوده فلا يقال الباري تعالى ليس قادرا عليه بل يقال المستحيل في ذاته غير مقدور فلا يتصور وجوده (١).

وهذا هو الجواب أيضا عن قولهم : لو لم يكن صانعا فصار صانعا كان صانعا بالقوة فصار صانعا بالفعل وتغيرت ذاته.

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٢٦٦) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ١٨٢) ، والفصل لابن حزم (٢ / ١٣٥) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١٣٦) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٦٣٠).

٣٢

فإنا نقول : إنما لم يكن صانعا لم يزل لأن الصنع فيما لم يزل مستحيل الوجود وإذا استحال وجود الشيء في نفسه ولذاته لم يكن مقدورا فلا يكون مصنوعا قط ، وإذا استحال وجود الشيء لمعنى آخر كان جائزا في ذاته فإذا زال ذلك المعنى تحقق الجواز فصار مقدورا فيكون مصنوعا والصنع لم يزل إنما استحال لنفي أولية الأزل وإثبات أولية الصنع فكان الجمع بينهما محالا فإذا نفيت الأزلية تعينت الأولية فتحقق الجواز فصح المقدور فوجد المصنوع.

وكذلك الجواب عن الشبهة الثالثة أنه علة لذاته فإن معنى كونه علة أي مبدئ لوجود شيء وإنما الممتنع وجود المعلول مع العلة معية بالذات فإن ذلك يرفع العلية والمعلولية وكذلك نقول : يستحيل وجود المعلول مع العلية معية بالزمان فإن ذلك يوجب كون العلة زمانية قابلة للتغير وذلك محال أيضا فيجب أن يتقدم في الوجود لأن وجود الباري سبحانه وجود لذاته غير مستفاد من غيره ، ووجود العالم مستفاد منه والمفيد أبدا يتقدم في الوجود.

أما الوجه الثاني في حل الشبهة : أن نطالبهم أولا فنقول : بما عرفتم أنه سبحانه يجب أن يكون جوادا لذاته قالوا : لأن موجودا ما يفعل أكمل من موجود لا يفعل وإن تصدر عنه موجودات أشرف من أن لا تصدر.

قيل له : لو عكس الأمر عليكم أن الموجود الذي لا يفعل أكمل فما جوابكم عنه إذ ليس هذا من القضايا الضرورية خصوصا في موجود يكون كماله بذاته ولا بغيره وإنما يصدر عنه فعل لو صدر لا لغرض ولا ليكتسب به حمدا ولا أمرا ما يتعلق بالتناقل ، لعمري لو كان موجودان أحدهما كماله بذاته والآخر كماله من غيره شهد العقل بالضرورة أن الذي كماله بالذات أشرف من الذي كماله لغيره والموجود الذي لو لم يفعل فعلا كان ناقصا فليس بكامل الذات بل هو ناقص مستكمل من غيره فلم يصح أن يكون واجب الوجود لذاته.

وأما حل الشبهة الثانية نقول ما المعنىّ بقولكم إذا لم يكن صانعا فصار صانعا فقد تجدد أمر.

فنقول تجدد في ذات الصانع أمر أم تجدد أمر في غير ذاته والأول غير مسلم والثاني مسلم وهو محل النزاع.

وقولهم : كان صانعا بالقوة أيضا مشترك فإن القوة يراد بها الاستعداد المجرد ويراد بها القدرة والأول غير مسلم والثاني مسلم وهو محل النزاع ولا يحتاج إلى مخرج إلى الفعل.

٣٣

وأما حل الشبهة الثالثة قال كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها غير مسلم بل هو باطل على أصله بالعقل الأول فإنه لا يجوز عليه التحرك والاستحالة وليس علة من جهة ذاته بل هو معلول الواجب الوجود وعلة من جهة كونه واجبا به لا بذاته وكذلك العقول المفارقة لا تقبل الحركة والاستحالة وليست عللا من جهة ذواتها.

ومما يعتمد في إثبات حدث العالم أن نفرض الكلام في النفوس الإنسانية ونثبت تناهيا عددا ثم ترتب عليها تناهي الأشخاص الإنسانية وترتب عليها حدوث الأمزجة وتناهيها ثم ترتب عليها تناهي الحركات الدورية الجامعة للعناصر ثم ترتب عليها تناهي المتحركات والمحركات السماوية فثبت حدث العالم بأسره وهي أسهل الطرق وأحسنها.

فنقول قد تقرر في أوائل العقول أن كل عدد أو معدود موجود بالفعل إذا كان غير متناه بالفعل فإنه لا يقبل الزيادة والنقصان وإن الزائد لا يكون مثل الناقص قط ولا يمكن أن يكون شيء أكبر من مقدار غير متناه لموجود وجود وغير المتناهي لا يتضاعف بما لا يتناهى وإن ما يتناهى من طرف يتناهى من سائر الأطراف ، والنفوس الإنسانية عند القوم موجودات بالفعل مجتمعة في الوجود وهي قابلة للزيادة والنقصان فإن الزمان الذي نحن فيه قد اشتمل على أشخاص إنسانية متناهية ولكل شخص نفس إذا أضفت تلك النفوس إلى ما مضى من الأشخاص التي بقيت نفوسها كانت الأوائل منها أنقص وهي مع الزيادة أزيد وكذلك في كل زمان وساعة تتزايد النفوس أبدا وما قبل الزيادة في كل وقت يستحيل أن يكون غير متناه وذلك لأن نسبة ما مضى إلى الحاصل كنسبة الناقص إلى الزائد وحيث ما تمادى إلى الأول صار أنقص كما إذا تمادى إلى الآخر صار أزيد ومثل هذا مستحيل فيما لا يتناهى موجودا بالفعل محصورا في الوجود نعم ربما يظن في الموجودات المتعاقبة في الوجود أنها لا تتناهى أولا قبل آخر وآخر بعد أول وأنها إذا جازت غير متناهية آخرا جازت غير متناهية أولا وهذا الظن وإن كان خطأ عند العقل إلا أن الخيال ربما يعين هذا الرأي لكن الفرض إذا كان في موجودات غير متناهية مجتمعة في الوجود لا متعاقبة أعدادا ومعدودات بالفعل لا بالقوة فيلزمها ضرورة ألا تقبل الزيادة والنقصان إذ لو قبلت وهي غير متناهية لكان الزائد مثل الناقص.

والذي يوضحه أن كل جملة موجودة الآحاد بالفعل إذا زيد عليها عدد معلوم أو نقص منها عدد محصور صار ما لا يتناهى أكثر مما كان أو أنقص.

فنقول : إذا دخل ما لا يتناهى في الوجود من النفوس فالباقي من النفوس التي لم

٣٤

تدخل في الوجود بعد أما إن كانت متناهية أو غير متناهية فإن لم تكن متناهية فقد تضاعف ما لا يتناهى بما لا يتناهى وذلك محال وإذا كانت متناهية فإذا زيدت على غير المتناهي صارت الجملة أكثر من المقدار الأول وقد علم أن غير المتناهي الموجود لا يكون شيء أكثر منه وهذا أكثر منه فهو خلف ثم يلزم أن يكون الباقي على نسبة عددية إذ هي موجودة بالفعل أما نسبة النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك من النسب وإذا كانت الجملة غير متناهية بالفعل استحال تقدير النسبة إليه فإن ما لا يتناهى لا نصف له ولا ثلث ولا ربع وإذا تحققت النسبة دل ذلك على أن الجملة محصورة معدودة متناهية وليس يلزم على ما ذكرناه كون العدد غير متناه ، فإنا لا نسلم ذلك في عدد معلوم موجود ، ومعنى قولنا إن العدد لا يتناهى أنه في التقدير الوهمي لا يتناهى أي الوهم يعجز عن بلوغ حد ونهاية فيه فيحكم العقل أنه لا نهاية له وكما أن العدد على الإطلاق معلوم من غير ربط بمعدود ، وكذلك النصف والثلث والربع على الإطلاق معلوم من غير نسبة إلى ما لا يتناهى إنما المستحيل إثبات أعداد موجودة غير متناهية فإن كل موجود معدود فهو محدود ، وإذا تحقق بطلان النفوس غير المتناهية وكانت كل نفس متعلقة ببدن تحقق بطلان الأبدان غير المتناهية وكانت كل نفس متعلقة ببدن تحقق بطلان الأبدان غير المتناهية ثم إذا تناهت الأبدان والنفوس الإنسانية تناهت الامتزاجات العنصرية ، فتناهت الحركات الدورية السماوية فتناهت المتحركات العلوية فتناهت المحركات الروحانية فتناهى العالم بأسره فكان له أول من ابتداء ، فأما تقدير عدم عليه يمكن أن يكون قبله فهو تقدير خيالي كتقدير خلاء وراء العالم يمكن أن يكون فيه فالخلاء بالنسبة إلى العالم مكانا كالعدم بالنسبة إليه زمانا وتقدير بينونة وراء العالم غير متناهية كتقدير أزمنة قبل العالم غير متناهية (١).

ولو سأل سائل هل يمكن تقدير عالم آخر وراء هذا العالم ووراء ذلك العالم عالم آخر إلى ما لا يتناهى كان السؤال محالا كذلك لو سأل هذا هل يمكن تقدير هذا العالم أو عالم آخر قبله بزمان وقبل ذلك القبل بزمان إلى ما لا يتناهى كان السؤال أيضا محالا فليس قبل العالم إلا موجده ومبدعه قبلية الإيجاد والإبداع لا قبلية الإيجاب بالذات ولا قبلية الزمان كما ليس فوق العالم إلا مبدعه فوقية الإبداع والتصرف لا فوقية الذات ولا فوقية المكان والله المستعان.

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (٢ / ٢٠٨).

٣٥

القاعدة الثانية (١)

في حدوث الكائنات بأسرها بأحداث له سبحانه

وفيها الرد على المعتزلة والثنوية والطبائعيين والفلاسفة وفيها تحقيق الكسب والفرق بينه وبين الإيجاد والخلق.

مذهب أهل الحق من أهل الملل وأهل الإسلام : أن الموجد لجميع الكائنات هو الله سبحانه فلا موجد ولا خالق إلا هو ، والفلاسفة جوزوا صدور موجود من غير الله تعالى بشرط أن يكون وجود ذلك الغير مستندا إلى وجود آخر ينتهي إلى واجب الوجود بذاته ، ثم هم مختلفون في أنه هل يجوز أن يصدر عنه أكثر من واحد فذهب أكثرهم إلى أنه واحد من كل وجه فلا يصدر عنه إلا واحد.

ثم اختلفوا في ذلك الواحد فقال بعضهم : هو العقل وقال بعضهم : هو العنصر ثم العقل.

واختلفوا في الصادر عن المعلول الأول فقال بعضهم : هو النفس وقال بعضهم : هو عقل آخر ونفس وفلك هو جسم وكذلك يصدر عن كل عقل عقل حتى انتهى بالعقل الذي هو مدبر فلك القمر الفعّال الواهب للصور على مركبات العالم.

ومن قدماء الأوائل من جوّز صدور شيء متكثر من واجب الوجود واختلفوا فيه فمنهم من قال : هو الماء ، ومنهم من قال : هو النار ، ومنهم من قال : هو الهواء ، ومنهم من قال : هو أجسام لطيفة بسيطة تركبت أو أجزاء صغار اجتمعت فحدث العالم ، ومنهم من قال : هو العدد ، ومنهم من قال : هو المحبة والغلبة على ما قررنا تفصيل مذاهبهم في الإرشاد إلى عقائد العباد.

وأما المجوس : فلهم تفصيل مذهب في حدوث الكائنات وسبب امتزاج النور والظلمة وسبب الخلاص لكن اتفقوا على نسبة الخير والصلاح إلى النور ونسبة الشر والفساد إلى الظلمة.

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٢٦٣ ، ٢٧٥ ، ٢٧٤ ، ٢٨١) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ١١٣) ، ومنهاج السنة لابن تيمية (١ / ١٨٠) ، والعقيدة الأصفهانية (ص ٣١) ، وكشف الأوهام والالتباس (ص ٤٨ ، ١٤٨) ، والمواقف للإيجي (٣ / ٢٥٣).

٣٦

وأما المعتزلة والقدرية : فأثبتوا للقدرة الحادثة تأثيرا في الإيجاد والأحداث من الحركات والسكنات وبعض الاعتقادات والاعتمادات والنظر والاستدلال من نفسه أنها تتوقف على البواعث والدواعي وورود التكليف بمباشرتها والكفّ عنها.

ووافقنا الفلاسفة على أن جسما ما أو قوة في جسم لا يصلح أن يكون مبدعا لجسم.

ووافقنا المجوس على أن الظّلمة لا يجوز أن تحدث بإحداث النور.

ووافقنا المعتزلة على أن القدرة الحادثة لا تصلح لإحداث الأجسام والألوان والطعوم والروائح وبعض الإدراكات والحياة والموت ولهم اختلاف مذهب في المتولدات وإنما أوردنا هذه المسألة عقيب حدث العالم لأن الدليل لما قام على أن الممكن بذاته من حيث إمكانه استند إلى الموجد وأن الإيجاد عبارة عن إفادة الوجود فكل موجود ممكن مستند إلى إيجاد الباري سبحانه من حيث وجوده ، والوسائط معدات لا موجبات وهذا هو مدار المسألة(١).

ولنا في هذا المعنى كلام مع الفلاسفة على مقتضى قواعدهم ومع المجوس على موجب أصلهم باعتبار أنه موجود ، ومع المعتزلة على موجب عقائدهم.

أما الكلام على الفلاسفة فنقول كل موجود بغيره ممكن باعتبار ذاته لو جاز أنه يوجد شيئا فأما أن يوجده باعتبار أنه موجود بغيره أو باعتبار أنه ممكن بذاته أو باعتبارهما جميعا لكن لا يجوز أن يوجد باعتبار أنه موجود بغيره إلا بشركة من ذاته إذ لا تعزب ذاته عن ذاته ولا يخرج وجوده عن حقيقته وهو باعتبار ذاته ممكن الوجود والإمكان طبيعته طبيعة عدمية فلو أثر في الوجود لأثر بشركة العدم وهو محال.

وهذا البرهان إنما نقلناه عن قولهم في الجسم إنه لا يؤثر في الجسم إيجادا وإبداعا ؛ إذ الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر لأثر بشركة من المادة والمادة لها طبيعة عدمية ، فلا يجوز أن توجد شيئا فالجسم لا يجوز أن يوجد أيضا فإمكان الوجود كالمادة ونفس الوجود كالصورة ، كما أن الجسم لا يؤثر من حيث صورته إلا بشركة من المادة كذلك الموجود بغيره الممكن باعتبار ذاته لا يؤثر من حيث وجوده إلا بشركة من إمكان الوجود فلا موجد على الحقيقة إلا بوجود واجب بذاته من كل وجه لا يشوبه إمكان ولا

__________________

(١) انظر : شفاء العليل لابن قيم (ص ١٢٢ ، ١٢٣) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٢٠٧ ، ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢٢٢) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٨٧ ، ٩٧) ، ومنهاج السنة لابن تيمية (٣ / ٢٠٩) ، المواقف للإيجي (٢ / ١١٤ ، ١١٦ ، ١١٩ ، ١٢٥ ، ١٢٩) ، والغنية في أصول الدين (ص ١١٩ ، ١٢٤).

٣٧

عدم من وجه والوسائط إن أثبتت فإنها معدات لا موجدات.

فإن قيل الممكن باعتبار ذاته إنما يوجب غيره أو يوجد باعتبار وجوده بغيره وحين لاحظنا جانب الوجود نقطع نظرنا عن الإمكان والعدم ، فإن الإمكان قد زال بثبوت الوجود وحصل الوجوب بدل الإمكان فلا التفات إلى الإمكان أصلا فلم يؤثر بشركة الإمكان.

والجواب قلنا : إذا كان الوجود من حيث هو وجود مؤثرا من غير ملاحظة إلى وجه الإمكان والجواز فليؤثر وجود كل موجود حتى لا يكون العقل بالإيجاب أولى من النفس أو الجسم ، وحتى يكون الجسم مؤثرا في الجسم باعتبار صورته ، لا من حيث مادته فإن الوجود من حيث هو وجود لا يختلف وإنما الاختلاف في كل موجود إنما يرجع إلى الفواصل.

فإن قيل : العقل الأول إنما يوجب شيئا آخر بسبب اعتبارات في ذاته فهو من حيث وجوده بواجب الوجود يوجب عقلا أو نفسا ومن حيث إنه ممكن بذاته يوجب جسما هو صورة ومادة وقولكم إن جهة الإمكان غير ملتفت إليها أصلا باطل فإن جهة الوجوب يناسب وجود العقل والنفس وجهة الإمكان يناسب وجود المادة والصورة وإنما حملنا على إثبات هذا الإيجاب لأن الواحد لا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد فإنه لو صدر عنه اثنان لكل عن جهتين ، ولو ثبت أن له جهتين لتكثرت ذاته وقد دل البرهان على أن واجب الوجود لن يتكثر.

والجواب قلنا : ولو كان العقل إنما أوجب عقلا أو نفسا باعتبار أنه واجب بغيره لا وجب الجسم جسما أو نفسا باعتبار أنه واجب بغيره ، فإن قضية الوجوب بالغير لا تختلف إلا أن يكون أحدهما بغير واسطة والثاني بواسطة وإلا فمن حيث إن الجسم ذو مادة لا يمتنع عليه الإيجاد من حيث إنه واجب بغيره ، وكما أن العقل من حيث إنه ذو إمكان في ذاته لم يمتنع عليه بالإيجاب والإيجاد من حيث أنه واجب بغيره فقولوا إن الجسم يجوز أن يوجد جسما أو قوة في جسم ، يجوز أن توجب جسما أو صورة الجسمية يجوز أن توجب جسما وهذا مستحيل بالاتفاق.

ثم نقول هاهنا مقتضيات أربعة : عقل ونفس وفلك ومادة ، وهي جواهر مختلفة متمايزة بالحقائق تستدعي مقتضيات أربعة مختلفة بالحقائق أيضا فعليكم أن تثبتوا في المعلول الأول هذه الحقائق بحيث يناسب كل واحد واحد ، وإلا فيلزم أن يصدر عن شيء واحد أشياء وذلك محال عندكم وعليكم أيضا أن تثبتوا أن تلك الاعتبارات المقتضية لا ترجع إلى إضافات وسلوب فإن كثرة الإضافات والسلوب وإن لم توجب

٣٨

كثرة في الذات إلا أنها لا توجب أشياء ، فإن ذات واجب الوجود واحدة من كل وجه إلا أنها لا تتكثر بالإضافات والسلوب والصفات الإضافية والسلبية لا توجب أشياء متعددة إذ لو أوجبت لأضيف إلى واجب الوجود جميع الموجودات إضافة واحدة من غير وسائط وذلك محال عندكم فهم بين أمرين متناقضين إن أثبتوا في المعلول الأول صفات إيجابية مختلفة الحقائق فقد ناقضوا مذهبهم حيث قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإن قالوا هذه الصفات التي ثبتت إضافية أو سلبية لزمهم أن يثبتوا مقتضيات متعددة لواجب الوجود وذلك أيضا يناقض مذهبهم.

وهذا إلزام إفحام لا محيص عنه ، ثم نفصّل القول بعد الإجمال فنقول إذا كان المقتضي مفصلا معلوما مختلف الأنواع يجب أن يكون المقتضى مفصلا معلوما مختلف الحقائق وما أثبتم إلا أمرين أحدهما كونه واجبا بغيره والثاني كونه جائزا بذاته وكونه واجبا بغيره أوجب عقلا أو نفسا وكونه ممكنا بذاته أوجب صورة ومادة فقد أثبتم صدور موجودين جوهرين قائمين بذاتيهما من وجه واحد وذلك أيضا يناقض مذهبهم.

وأراد من تلبس منهم أن يعتذر عن هذين الإلزامين فقال : إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كما ذكرنا إلا أن العقل الأول إنما يكثر باعتبارات ذاته لا بما استفاد من غيره لأن الإمكان له من ذاته لا من غيره والوجود له من غيره لا من ذاته فلم يستفد الكثرة من واجب الوجود لعمري لما حصل العقل حصلت له اعتبارات أربعة أحدها : كونه واجبا بغيره والثاني : كونه عقلا ، والثالث : كونه واحدا في ذاته ، والرابع : كونه ممكنا في ذاته فأوجب من حيث هو عقل عقلا ومن حيث هو موجود بواجب الوجود نفسا ، ومن حيث هو واحد صورة ومن حيث هو ممكن مادة وهذه الاعتبارات لما كانت مختلفة الحقائق أوجبت جواهر مختلفة الأنواع.

انظروا بعين الاعتبار إلى هذا الاعتذار هل هو إلا تحكم محض لم يقم عليه دليل عقلي ولا شاهد حسي بل هو أقل رتبة من طرد الفقهاء أرادوا بناء أشرف الموجودات كمالا على اعتبارات كلها ترجع إلى عبارات فنطالبهم أولا بصحة هذه المناسبات ولا يجدون إلى إثباتها سبيلا.

ثم نقول كونه واجب الوجود بغيره أمر إضافي لا محالة لأن كون واجب الوجود مبدأ وعلة أو موجبا ومبدعا أمر إضافي لا تتكثر به الذات ، فإذا كان الإيجاب إضافة فيكون بين الموجب والموجب إضافة لا محالة ، والأمر الإضافي قد يتكثر ويتعدد ولا تتكثر به الذات فلو صح أن يكون موجبا في العقل الأول العقل الآخر لصح مثله في واجب الوجود بذاته فهلا كثرت الإضافات في حق واجب الوجود حتى تتحقق له

٣٩

نسبة إيجاب إلى موجب فتتكثر النسب الإضافية ولا تتكثر بها الذات وهذا كما يقدرونه في العقل الفعال الذي هو واهب الصور على العالم الجسماني فإنه ما من صورة تحدث في العالم إلا وهي من فيضه وسنخه (١) ، ثم تختلف الصور باختلاف الأنواع والأصناف إلى ما لا يتناهى ولا تختلف الصفات في الفائض بل هو نعت واحد والصور تختلف وتتكثر بحسب القوابل والحوامل ولو اختلفت النسب فإنما هي إضافات لا صفات حقيقية كذلك يجب أن يقال في واجب الوجود بذاته أنه ينسب إليه الكل نسبة واحدة من حيث وجودها الممكن ثم الاختلاف يحصل في القوابل أو تكون الإضافات والسلوب كثيرة وتتعدد الموجبات بحسب تلك ولا يوجب ذلك كثرة في الذات كما قالوا في المعلول الأول.

ونقول : كون العقل الأول عقلا أمر سلبي لأن معنى كونه عقلا أنه مجرد عن المادة والتجريد عن المادة سلب المادة ونفيها والنفي كيف يناسب وجود جوهر عقلي وهو عقل كيف والسلوب كثيرة فهلا أوجب بكل سلب جوهرا عقليا فإنه كما يسلب عنه المادة يسلب عنه الصورة ، أعني الصورة الجسمية ويسلب عنه الكيفية والكمية والوضع والحيز والمكان والزمان ولم يجب أن يقال يلزمه عنه بكل سلب جوهر عقلي ومثل هذه السلوب تتحقق في حق واجب الوجود أيضا ولا يوجب كل سلب جوهرا عقليا وإن سلم ذلك حصل غرضنا من إضافة الكل إليه (٢).

ثم نقول : لم صار كونه واجب الوجود بغيره أولى بإيجاب نفس من كونه مجردا عن المادة ولو عكس الأمر فجعل ما ذكرتموه بالغير موجبا للعقل ، وما ذكرتموه من التجرد عن المادة موجبا للنفس أي محال كان يلزم منه وأي خلل كان يحصل ، وهل هذا إلا تحكم بارد بني على تقليد أو تقليد استند إلى تحكم.

ونقول : عددتم اعتبارات أربعة وقضيتم بوحدة العقل في ذاته وقلتم إن الوحدة توجب نفسا أو جسما فبينوا ما هو المستفاد من الباري تعالى وما هو له من ذاته فإن الذي له من ذاته ليس إلا إمكان الوجود بقيت اعتبارات ثلاثة وإن كانت مستفادة من الأول استدعت ثلاثة مقتضيات وواجب الوجود واحد من كل وجه وإن كانت له لذاته أي من لوازم ذاته فقد بطل قولكم إن الذي له من ذاته هو الإمكان فقط ثم

__________________

(١) يعني من كرمه اللسان (١٣ / ٤٧٩).

(٢) انظر : شفاء العليل لابن قيم (١ / ١٤١) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١٢٤) ، والمواقف للإيجي (٢ / ١٧٣) ، ونعمة الذريعة في نصرة الشريعة للقسطنطيني (ص ١٥٩).

٤٠