نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

غير النهاية لا يوجب تكثيرا في ذاته وإنما قلنا إن تعقله لذاته أمر سلبي لأن العقل هو المجرد عن المادة وتجريده عن المادة سلب المادة عنه فلزم أن يكون عالما لتجرده عن المادة وعلائقها إذ المادة هي التي كانت حجابا عن التعقلات فلما ارتفع الحجاب صار العقل مدركا عند ارتفاع الحجاب المحسوس إدراك الحس المحسوس وعند ارتفاع الحجاب المعقول إدراك العقل المعقول وليس يختص ذلك بتعقل الباري تعالى بل كل عقل ونفس إذا تجرد عن المادة عقل وأدرك بمقدار تجرده ثم ذات العقل الأول لا يحتجب عن ذاته أبدا فهو عاقل بنفسه أبدا وكل عقل ونفس مفارق للمادة فحكمه كذلك إلا أن من المواد ما يكون في ألطف ما يكون كالأجسام السماوية فكان حجابها لعقولها ونفوسها أقل تأثيرا إلى أن يصل في الدرجة العليا إلى ما لا يخالط مادة البتة فيكون أكمل الأشياء تعقلا وإدراكا ومن المواد ما يكون في أكثف ما يكون كالأجسام الأرضية فكان حجابها لإدراكاتها أكثر تأثيرا إلى أن ينزل في الدرجة السفلى إلى ما لا يفارق مادة البتة فيكون أكثر الأشياء خمودا وجمودا والعقل الأول وإن فارق المادة من كل وجه إلا أن ذاته باعتبار ذاته ممكن الوجود فلم يخرج عن الإمكان وطبيعة الإمكان عدمية مادية لم يصل تعقله إلى درجة العلة الأولى إذ هو أجل الأشياء إدراكا لا أجل الأشياء كمالا إذ هو يرى عن طبيعة الإمكان والعدم.

قالت الصفاتية : الباري تعالى يعلم ذاته ويعلم ما يلزم منه بعلمين أم بعلم واحد فإن قلتم المعلومان يستدعيان علمين فقد ناقضتم مذهبكم وزريتم علينا وإن قلتم بعلم واحد فيعلم الذات من حيث يعلم اللازم ويعلم اللازم من حيث يعلم الذات فيجب أن تكون الذات لازما واللازم ذاتا لأنه إنما يلزم منه ما يلزم لعلمه بذاته وهو من حيث ذاته يعلم اللازم فيوجد منه الذات كما يوجد منه اللازم أو كان لا يوجد منه اللازم كما لا يوجد منه الذات وإن كان يعلم الذات لا من حيث يعلم اللازم فقد تعدد الاعتبارات فتكثر الذات بتكثر الوجوه والاعتبارات على ما سنفرد مسألة في العلم الأزلي خاصة وتحقيق تعلقه بالمعلومات لكن الذي يختص بمسألتنا هذه إلزام الوجوه والاعتبارات في الصفات التي أثبتموها وقولكم تجرده عن المادة أمر سلبي أي هو مفارق ليس في مادة أصلا لا لشيء جرده عن المادة بل لذاته وبذاته ولا يوجب تكثرا في الذات.

قلنا : من المعلوم أن قولنا عالم يشعر بتبين المعلوم وقولنا ليس في مادة يشعر بنفي المادة عنه والمفهومان متغايران لفظا ومعنى فكيف يقال أحدهما هو الثاني بعينه لعمري يصح أن يقال أحدهما سبب لوجود الثاني على معنى أن المادة إذا ارتفعت ارتفع الحجاب فأدرك الشيء وعقله ، كالمرآة المصدية إذا صقلت وارتفع الصدأ تمثلت

١٢١

صورة المحسوس فيها كذلك إذا ارتفعت المادة يتبين الشيء المعقول في الذهن والعقل وإذا تبين المعقول ارتفعت الحجب كلها وكلا الوجهين صحيح إما أن يكون أحدهما عين الثاني حتى يكون إطلاقا بالترادف وذلك خطأ ظاهر وما ذكرتموه من تفريع مذهبكم على هذه القاعدة نتكلم عليها بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى ونقول إذا كان الوجود من حيث هو وجود يعم الواجب والممكن فالذات القائم بالنفس من حيث إنه ذات قائم بالنفس يعم الواجب والممكن فما الذي يخص الواجب من أمر وراء ذاته حتى يتميز عن سائر الذوات فإن لم يكن له ما يخصه فليس له ما يعمه وإن كان التخصيص وقع بالذات فهلا قلتم وقع التخصيص بالوجود دون الوجوب وإن وقع التخصيص بأمر دون أمر فذلك الأمر الذي خصص وعين هو الصفة عندنا إلا أنا بحكم الشرع أطلقنا اسم العلم والقدرة والإرادة على ذلك وأنتم ما خالفتمونا في العلم والقدرة بل قلتم هو تعالى عالم لذاته وذاته علم وإن كان الذات من حيث هو ذات شاملا شمول الوجود والتخصيص إنما يقع بأمر وصفة وبالجملة كل أمر عام وجودي إذا تخصص فإنما يتخصص بأمر خاص وجودي فيلزم هناك اثنينية من المعنى عام وخاص وسواء كان العام جنسا والخاص فصلا وسواء لم يكن الأمر كذلك.

فإن قيل : قد يتخصص الشيء بالفصول السلبية والسلب لا يوجب الاثنينية.

قيل هذا خطأ وقع للمنطقيين منكم حيث ظنوا أن السلب يجوز أن يكون فصلا ذاتيا.

والبرهان على استحالة ذلك أن الفصل لا يتحقق ما لم يتحقق في المفصول اشتراك ما في أعم وصف فيكون الفصل أعني ما به تميز عن غيره من المشتركات أخص وصف الشيء والشيء إنما يتميز عن غيره بأخص وصفه وسلب صفة وشيء آخر عنه وبما يطلقه على أخص وصفه لا أن يكون نفسه أخص وصفه.

فلما ضاق على بعض الفلاسفة التعبير عن الفصول الذاتية بعبارات ناصة عليها أوردوا فصولا سلبية على أن تطلع الطالب على نفس المطلوب ظن بعضهم أن السلوب تصلح أن تكون فصولا ذاتية وذلك خطأ بيّن ثم ارتكبوا على مقتضى ذلك أن جعلوا وجوب الوجود أمرا سلبيا وفصلوا به ذات واجب الوجود عن سائر الذوات ولم يفطنوا لإمكان الوجود الذي في مقابلة وجوب الوجود أنه يلزم أن يكون فصلا إيجابيا ويا ليت شعري كيف يتأكد الوجوب بالسلب وكيف يضعف الوجود بالإيجاب وكيف يكون سلب الغير تأكيدا لذات الوجود الواجب وإيجاب الذات لا يكون تأكيدا وبالجملة كلما يتميز عن غيره فإنما يتميز بأخص وصفه وأخص وصف

١٢٢

الشيء الموجود لا يكون إلا أمرا وجوديا.

فإن قيل هذا خبر ما عندنا في الوجود وعمومه وخصوصه وقد لزم عليه ما لزم فما خبر ما عندكم حتى لا يلزم المحال الذي لزم.

قلنا وجه الخلاص من هذه الإلزامات المفحمة والتقسيمات الملزمة للتكثر أن نجعل الوجود من الأسماء المشتركة المحضة التي لا عموم لها من حيث معناها وإنما اللفظ المجرد يشملها كلفظ العين فيطلق الوجود على الباري تعالى لا بالمعنى الذي يطلق على سائر الموجودات وذلك كالوحدة والقدم والقيام بالذات وليس ثم خصوص وعموم ولا اشتراك ولا افتراق كذلك في كل صفة من صفاته يقع هذا الاشتراك لكن إذا سلكتم أنتم هذه الطريقة أفسد عليكم باب التقسيم الأول للوجود وبطل قول أستاذكم في أنا لا نشك في أصل الوجود وأنه ينقسم إلى واجب لذاته وواجب لغيره ، فإن المشتركات في اللفظ المجرد لا تقبل التقسيم المعنوي ولذلك لم يجز أن يقال : إنها عين وإنها تنقسم إلى الحاسة الباصرة وإلى الشمس وإلى منبع الماء إذ هي مختلفة بالحقائق والمعاني والله المستجار سبحانه ما يكون لنا أن نقول فيه بغير حق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٢٣

القاعدة العاشرة

في العلم الأزلي خاصة (١)

وإنه أزلي واحد متعلق بجميع المعلومات على التفصيل كلياتها وجزئياتها وذهب جهم بن صفوان وهشام بن الحكم إلى إثبات علوم حادثة للرب تعالى بعدد المعلومات التي تجددت وكلها لا في محل بعد الاتفاق على أنه عالم لم يزل بما سيكون والعلم بما سيكون غير والعلم بالكائن غير.

وذهبت قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط ، ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات وهي غير معلومة عنده أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال.

وذهب قوم منهم إلى أنه يعلم الكليات دون الجزئيات ، وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعا على وجه لا يتطرق إلى علمه تعالى نقص وقصور.

أما الرد على الجهمية هو أنا نقول : لو أحدث الباري لنفسه علما فإما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في ذاته ولا في محل والحدوث في ذاته يوجب التغيير والحدوث في محل يوجب وصف المحل به والحدوث لا في محل يوجب نفي الاختصاص بالباري تعالى وبمثل هذا نرد على المعتزلة في إثبات إرادات لا في محل.

وبرهان آخر نقول لو قدر معنى من المعاني لا في محل كان قائما بذاته غير محتاج إلى محل يقوم به ففي احتياج العلم إلى محل إما أن يكون معنى يرجع إلى ذات كونه علما فيجب أن يكون كل علم غير محتاج إلى محل وإما أن يكون لأمر زائد على ذات كونه علما فيجب أن يكون فعلا لفاعل فوجب أن يكون فعل الفاعل يوجب نفي الاحتياج في كل عرض وكل معنى وليس الأمر كذلك ثم فعل الفاعل لا يوجب أن ينتسب إليه المفعول بأخص وصفه الذاتي بل إنما ينتسب إليه من حيث كونه فعلا فقط حتى يسمى فاعلا صانعا أما أن يضاف إليه حكم العلمية حتى يصير عالما فمحال وأيضا فإن فعل الفاعل لا يخرج الشيء عن حقيقته فلا يجوز أن يقلب الجوهر عرضا والعرض جوهرا فإن القدرة إنما تتعلق بما يمكن وجوده وهذا من المستحيل فنفي الاحتياج إلى محل في حق الجوهر لا يجوز أن يثبت بالقدرة كما أن إثبات الاحتياج إلى

__________________

(١) انظر : المقصد الأسنى للغزالي (ص ١٢٠) ، والبرهان المؤيد للرفاعي (ص ١٨٠).

١٢٤

المحل في حق العرض لا يجوز أن يثبت بالقدرة وما ليس يمكن لا يكون مقدورا وما ليس بمقدور يستحيل أن يوجد.

قال هشام : فقد قام الدليل على أن الباري سبحانه وتعالى عالم في الأزل بما سيكون من العالم فإذا وجد العالم هل بقي علمه علما بما سيكون أم لا فإن لم يكن علما بما سيكون فإذا قد تجدد له حكم أو علم فلا يخلو أن يحدث ذلك المتجدد في ذاته أو في محل أو لا في ذاته ولا في محل ولا يجوز أن يحدثه في ذاته كما سبق من استحالة كونه محلا للحوادث ولا يجوز أن يحدثه في محل لأن المعنى إذا قام بمحل رجع حكمه إليه فبقي أنه يحدثه لا في محل وإن كان علمه بما سيكون باقيا على تعلقه الأول فكان جهلا ولم يكن علما وأيضا فإنه قد تجدد له حكم بالاتفاق وهو كونه عالما بوجود العالم وحصوله في الوقت الذي حصل وتجدد الحكم يستدعي تجدد الصفة كما أن تحقق الحكم يستدعي تحقق الصفة ألستم تلقيتم كونه ذا علم من كونه عالما فلذلك نتلقى تجدد العلم من تجدد كونه عالما حتى لو قيل كان عالما في الأزل بكون العالم كان محالا وكان العلم جهلا بل لو لم يكن العالم معلوم الكون في الأزل فصار معلوم الكون في الوقت الذي حصل فلم يكن الباري عالما بالكون في الأزل ثم صار عالم الكون في الوقت المحصل فدل ذلك على تجدد العلم.

قال : ولا نشك بأن علمنا بأن سيقدم زيد غدا ليس علما بقدومه بل العلم بأن سيقدم غير والعلم بقدومه غير ويجد الإنسان تفرقة ضرورية بين حالتي علميه وهذه التفرقة راجعة إلى تجدد علم في حال القدوم ولم تكن قبل ذلك.

وأما قولكم : إن العلم من جملة المعاني وهي لذواتها محتاجة إلى محل وإنها في ذواتها مختصة بمن له أحكامها فصحيح إلا أنا بضرورة التقسيم التزمنا كونه لا في محل إذ لا وجه لنفي التفرقة بين الحالتين ولا وجه لتجدد المعنى في الأزلي القديم ولا في الجسم الحادث فبالضرورة قلنا هو معنى لا في محل له ولا ينحى به نحو الجوهر من كل وجه حتى يقال هو قائم بالنفس ومتحيز أو قابل للعرض وإنما يختص حكمه بالفاعل لأن الفاعل هو الذي أوجده علما لنفسه فصار علما به ولأن الباري تعالى لا في محل والعلم لا في محل فاختصاص ما لا محل له بما لا محل له أولى من اختصاص بما له مكان ومحل.

وللمتكلمين في جواب شبهة هشام وجهم طرق وللفلاسفة طرق أيضا : قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه على طريقته لا يتجدد لله تعالى حكم ولا يتعاقب عليه حال ولا يتجدد له صفة بل هو تعالى متصف بعلم واحد قديم متعلق بما لم يزل ولا يزال وهو محيط بجميع المعلومات على تفاصيلها من غير تجدد وجه العلم أو تجدد

١٢٥

تعلق أو تجدد حال له لقدمه والقدم لا يتغير ولا يتجدد له حال وإضافة العلم الأزلي إلى الكائنات فيما لا يزال كإضافة الوجود الأزلي إلى الكائنات الحاصلة في الأوقات المختلفة وكما لا تغير ذاته بتغير الأزمنة لا يتغير علمه تتجدد المعلومات ، فإن العلم من حقيقته أن يتبع المعلوم على ما هو به من غير أن يكتسب منه صفة ولا يكسبه صفة والمعلومات وإن اختلفت وتعددت فقد تشاركت في كونها معلومة ولم يكن اختلافها لتعلق العلم بها بل اختلافها لأنفسها وكونها معلومة ليس إلا تعلق العلم بها وذلك لا يختلف وكذلك تعلقات جميع الصفات الأزلية فلا نقول يتجدد عليها حال بتجدد حال المتعلق فلا نقول الله تعالى يعلم العدم والوجود معا في وقت واحد فإن ذلك محال بل يعلم العدم في وقت العدم ويعلم الوجود في وقت الوجود والعلم بأن سيكون هو بعينه علم بالكون في وقت الكون إلا أن من ضرورة العلم بالوجود في وقت الوجود العلم بالعدم قبل الوجود ويعبر عنه بأنه علم بأن سيكون.

والذي يوضح الحق في ذلك هو أنا لو علمنا قدوم زيد غدا بخبر صادق أو غيره وقدرنا بقاء هذا العلم على مذهب من يعتقد جواز البقاء عليه ثم قدم زيد ولم يحدث له علم بقدومه لم يفتقر إلى علم آخر بقدومه إذا سبق له العلم بقدومه في الوقت المعين ، وقد حصل ما علم وعلم ما حصل إذ لو قدرنا أنه لم يتجدد له علم ولم تتجدد له غفلة وجهل استحال أن يقال لم يعلم قدومه بل يجب أن يقال تنجز ما كان متوقعا وتحقق ما كان مقدرا وحصل ما كان معلوما.

وقولهم : إن الإنسان يجد تفرقة بين حالتيه قبل قدومه وحال قدومه فتلك التفرقة ترجع إلى تجدد العلم فليس ذلك على الإطلاق بل يرجع في حق المخلوقين إلى إحساس وإدراك لم يكن فكان وفي حق الخالق لا تفرقة بين المقدر والمحقق والمنجز والمتوقع بل المعلومات بالنسبة إلى علمه تعالى على وتيرة واحدة وقال هذا العلم المتجدد يحصل عندكم قبل الوجود المتجدد بلحظة فإذا تقدمه بلحظة كان أيضا علما لما سيكون لا علما بالكائن فهو والعلم الأزلي بما سيكون سواء وإذا جاز تقدمه جاز قدمه.

ثم ألزم عليهم إلزام لا محيص لهم عنه وهو أن هذه العلوم المتجددة هل هي معلومة قبل كونها موجودة أم ليس يتعلق العلم بها فإن كانت معلومة أفبعلم الأزلي وعالميته أم بعلوم أخر سبقتها قبل وجودها فإن كان الأول فجوابنا عن الكائنات في كونها معلومة بعلم الأزل جوابكم عن العلوم المتجددة وإن كان الثاني فكانت محتاجة إلى علوم أخر والكلام في تلك العلوم كالكلام في هذه ويؤدي إلى التسلسل وقد ألزم أصحاب الإرادات الحادثة لا في محل هذا الإلزام واعتذروا بأن قالوا الإرادة لا تراد

١٢٦

وهذا العذر لا يصح على قاعدة هشام وجهم فإن الإرادة وإن كانت لا تراد فهي بخلاف العلم لأن العلم يعلم فيلزم القول بالتسلسل وهذا الإلزام قد أفحم الكرامية في مسألة محل الحوادث.

وقالت المعتزلة على طريقتهم : الباري تعالى عالم لذاته أزلا بما سيكون ونسبة ذاته أو وجه عالميته إلى المعلوم الذي سيكون كنسبته إلى المعلوم الكائن الموجود والعالم منا بما سيكون عالم على تقدير الوجود وبما هو كائن عالم على تحقيق الوجود فالمعلومات بعلم واحد جائز تقديرا أو تحقيقا وعندهم يجوز تقدير بقاء العلم ويجوز تعلق العلم الواحد بمعلومين ولا استحالة فيه شاهدا أو غائبا ثم أن بعضهم يقول يرجع الاختلاف في الحالتين إلى التعلق لا إلى المتعلق بخلاف ما قال الأشعري إن الاختلاف يرجع إلى المتعلق لا المتعلق والتعلق وقال بعضهم يرجع الاختلاف في الحالتين إلى حالتين.

وقد مال أبو الحسن البصري إلى مذهب هشام بعض الميل حتى قضى بتجدد أحوال الباري تعالى عند تجدد الكائنات مع أنه من نفاة الأحوال غير أنه جعل وجوه التعلقات أحوالا إضافية للذات العالمية وهو في جميع مقالاته ينهج مناهج الفلاسفة ويرد على شيوخه من المعتزلة بتصفح أدلتهم ردا شنيعا.

وقالت الفلاسفة : على طريقهم واجب الوجود ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل وذلك محال بل كما أنه مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها وأشخاصها ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه التغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعلمها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات بل هو إنما يعقل كل شيء على نحو كلي فعلي لا انفعالي ومع ذلك لا يعزب عنه شيء شخصي (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) وأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنها مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد منها ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار معلوما من جهة ما يكون واجبا بسببه فتكون الأسباب بمصادماتها تتأدى إلى أن يوجد منها الأمور الجزئية فالأول يعلم الأسباب ومطابقتها فيعلم ما يتأدى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية أعني من حيث لها صفات وأحوال تستعد بها لأن تكون

١٢٧

كلية وإن تخصصت فبالإضافة إلى زمان ومكان وحال متشخصة فيعقل ذاته ونظام الخير والموجود في الكل منه ونفس مدركة الكل سبب لوجود الكل منه ومبدأ له وإبداع وإيجاب وإيجاد ، فلا يتبع علمه معلوما بل يسبقه ولا يكتسب عنه صفة بل يكسبه ولا يتغير بتغير المعلوم بل يغيره ولا يتعلق بأمر معين من حيث هو معين شخصي حتى لو زال الشخص زال العلم بوجوده وهذا كمن عرف أن القمر إذا اجتمع مع الذنب في برج كذا وكانت الشمس في برج مقابل وقع ثم الكسوف فعلمه هذا قبل وجود الكسوف وبعده وفي حال الكسوف على وجه ليس يتغير بحدوث الكسوف وكذا كل علم كلي ثم الجزئي مندرج تحت الكلي على سبيل التضمن فيصير الكل معلوما له على هذا الطريق فمن قال منهم : إنه لا يعقل إلا ذاته أراد به أنه يعقل كونه مبدأ وعقله ذلك هو الموجب لحصول ما يصدر عنه ومن قال منهم إنه يعقل الكليات دون الجزئيات أراد ما قررناه ومن قال منهم : إنه يعقل الكليات والجزئيات أراد ما عقله مقصودا أي مبدأ وما يصدر عنه إلا أن ذلك على وجه فهذا كلام القوم ونحن نتكلم على ذلك بالاعتراض وبتصفح على كل مسألة منها بالاستعراض.

فنقول أولا : إطلاق لفظ العقل والعاقل غير مصطلح عليه عندنا فنغير لفظ العقل إلى العلم ونطلق لفظ العالم بدل العاقل إذ ورد السمع بكون الباري تعالى عالما ولم يرد بكونه عاقلا فنطالبكم بالدليل على كون الباري تعالى عالما فيما عرفتم ذلك والدليل ما أرشدكم إليه والبرهان لم يقم عليه ، فإن المتكلم يستدل بحصول الإحكام والإتقان في الأفعال على كون الصانع عالما وأنتم ما سلكتم هذه الطريقة ولا استقام ذلك على قاعدتكم فإن العلم عندكم لم يتعلق بالجزئيات أو تعلق على وجه كلي فهو إذا متعلق بالكليات والأحكام إنما يثبت في الجزئيات المحسوسة أما الكليات المعقولة فهي مقدرة في الذهن فما فيه الإحكام ليس بمعلوم على الوجه الذي يقتضيه الإحكام وما هو معلوم فلم يشاهد إحكام فيه فبطل الاستدلال من هذا الطريق.

قالوا : طريقنا في ذلك إنما هو يرى من المادة وعلائقها فغير محتجب عن ذاته لأن الحجاب هو المادة والمقدس عن المادة هو عالم لنفسه بنفسه إذ لا حجاب.

قيل هذه مصادرة على المطلوب الأول فإن معنى قولكم غير محتجب عن ذاته أي هو عالم بذاته والكلام فيه كالكلام في الأول وتقريره إنما هو يرى من المادة فهو عالم فلم قلتم إنما هو يرى عن المادة عالم ونفي المادة كيف يناسب العالمية والعلم هذا كمن نفى التناهي والانقسام والأين والكيف عنه لم يجب من ذلك أن يكون عالما فنفي الجسمية والهيولائية عنه ليس يقتضي أن يكون عالما ولم نجد لعامتكم برهانا

١٢٨

على ثبوت كونه عالما بالمعلومات سوى التجرد عن المادة وعلائقها وليس ذلك حدا أوسط في برهان أن ، ولا في برهان لم.

قال أبو علي بن سينا : البرهان على أن كل مجرد عن المادة فهو عقل بذاته هو بدليل أن كل ماهية مجردة عن المادة فلا مانع لها من حيث ذاتها عن مقارنة ماهية أخرى مجردة فيمكن أن تكون معقولة أي مرتسمة في ماهية أخرى مجردة وارتسامها هو مقارنتها ولا معنى للعقل إلا أنه مقارنة ماهية مجردة لماهية مجردة ولذلك إذا ارتسمت في القوة العاقلة منا ماهية مجردة كان نفس الارتسام فيها هو نفس شعورها بها وإدراكها لها وذلك هو العقل والتعقل إذ لو كان يحتاج إلى هيئة وصورة غير الصورة المرتسمة لكان الكلام في تلك الصورة كالكلام في هذه الصورة ويتسلسل ، وإذا كان نفس تلك المقارنة هو العقل فيلزم منه أن كل ماهية مجردة فلا مانع لها من ذاتها أن تعقل.

قلت : ما زدت في البيان إلا أنك جعلت المقارنة حدا أوسط ولسنا نشك أنك ما عنيت بهذه المقارنة مقارنة الجسم ولا مقارنة الجوهر العرض ولا مقارنة الصورة المادة بل عنيت به كما فسرت التمثيل والارتسام وعنيت بالتمثيل والارتسام التعقل فقد صادرت على المطلوب الأول أقبح المصادرة فكأنك قلت الدليل على كونه عالما أنه لا يمتنع على إنيته وذاته أن يكون مرتسما بصورة أي عالما فبان أنك أدرجت لفظ المقارنة حتى أخفيت الحال ، ثم فسرت المقارنة حتى أبديت الحال زالت المصادرة عنك كل الزوال (١).

وأما استشهادك بالقوة العاقلة منا فإنما ينفعك مع من لا ينازعك في أن العقل هل يعقل بذاته ذاته وإن عقل أفبعقل غير ذاته أم بعقل هو ذاته أما من نازعك في إثبات كونه عقلا وعاقلا أي علما وعالما فلا ينفعه هذا الاستشهاد.

وأما اقتباس كونه عاقلا من كونه معقولا فهو من أمحل المطلوبات وهو كمن قال لا يمتنع عليه أن يعلم فلا يمتنع عليه أن يعلم والعرض في ذاته ممتنع أن يعقل ويعلم عند القوم فكيف يصح القياس وهب أنه يعلم فلم ينبغي أن يعلم ثم أخذ ما يحب مما لا يمتنع من أبعد القياسات وأمحل المحالات فإن سلمنا لكم كونه تعالى عالما بذاته وعلمه بذاته نفس علمه بعلمه فلم قلتم أن علمه بذاته الذي هو نفس العلم فعلمه بمعلوماته هو علمه بذاته ما هو مبدأ ، وهو مبدأ كل موجود ، أفيتعلق علمه بذاته ثم

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٧٧) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١٢١ ، ١٤٨) ، ومعارج القدس للغزالي (ص ١٦٦) ، والمواقف (٢ / ٥٣).

١٢٩

يتعلق نفس ذلك العلم بمعلوماته على النسق الذي حصل أم يتعلق علمه بذاته ويتعلق علم آخر بمعلوماته ويلزم على الأول أن يقال لا يعلم إلا ذاته إذ لا صورة عنده غير ذاته ولا ارتسام لعقله إلا تعقله فإن العقل عندكم مقارنة ماهية لماهية والمقارنة هو ارتسام ماهية بماهية فعلى هذا التفسير لم يقترن بوجوده غير وجوده ولا ارتسم في عقليته غير عقليته وسائر اللوازم كما هي مفارقة لذاته يجب أن يكون معقوليتها مفارقة لمعقولية ذاته ويلزم على القسم الثاني التكثر الصريح فإن عقله لذاته وعقله للعقل الأول إن كانا شيئا واحدا من وجه واحد فيلزم أن تكون ذاته هو العقل الأول والعقل الأول ذاته وإن لم يكن ذلك على وجه واحد فقد تعدد وتكثر وجوه الذات.

ثم نقول إذا كان عقله وعلمه علما فعليا لا انفعاليا وإنما يلزم منه ما يلزم لعلمه بذاته فيجب أن يكون كل معلوم مفعولا له وهو معلوم لعلمه فانظروا أي شيء يلزم من ذلك.

قال ابن سينا إنه تعالى عالم بالأشياء لا من الأشياء بل الأشياء منه ومن علمه.

قيل له : فإذا بطل تقريرك الثاني أن العقل لا معنى له إلا ارتسام ماهية بماهية فهلا قلت العقل رسم ماهية في ماهية أو هلا قسمت الأمر فقلت من العقول ما يرتسم ومن العقول ما يرسم ومنها ما لا يرسم ولا يرتسم فعقله للعقل الأول رسم وليس بارتسام وعقله لذاته ليس برسم ولا ارتسام وعقل العقل والنفس له ارتسام وليس برسم فعقولنا مثلا تصورات وعقول المقارنات تصويرات وتصورات وعقل الباري تعالى لذاته ليس بتصور ولا تصوير وعقله للعقل الأول تصوير لا تصور.

قال ابن سينا : الرب تعالى عالم بالموجودات ولكن علمه بها علم لزومي عن علمه بذاته غير مفصل للصور فإنه يعلم ذاته وإنما يعلم ذاته كما هو عليه وهو أنه مبدأ للموجودات كلها بأسرها فيدخل علمه بالموجودات تحت علمه بذاته من غير أن تترتب للموجودات صورة في ذاته حتى يلزم منه كثرة فإن العلم بلوازم الشيء إذا لم يكن متجها نحو تلك اللوازم قصدا بل حاصلا من العلم بلزومها فلا يكون زائدا على نفس العلم بالملزوم ولا فيه كثرة مترتبة فترتبه حسب ترتيب تلك اللوازم ونحن نجد من أنفسنا مثل هذا العلم بالأشياء الكثيرة من غير أن يتمايز لها صورة في ذاتها وهو إنا إذا سألنا عن مسألة نكون قد علمناها وأتقناها لكنا في تلك الحالة معرضون عنها فمع السؤال عنها نجد من أنفسنا التفاتا إلى جوابها ويقينا لنا بحصول ذلك العلم المشتمل على جميع الجواب من غير أن يكون في ذلك العلم تفصيل لصور الأشياء التي تنتقش في نفوسنا حين أخذنا في الجواب ثم يأتي التفصيل مع الأخذ في الجواب مرتبا وليس

١٣٠

ذلك استعداد بحتا ويقينا بالاستعداد بل يقينا بحصول العلم لا بالاستعداد وإنما يتيقن المعلوم لا المجهول وأما علم العقل الأول بالباري تعالى فلا يكون لازما لعلمه بذاته فإن مبدأه قبل ذاته لا لازما عنه فلا يكون العلم بما هو قبل ذاته لازما من نفس علمه بذاته فيكون علما آخر على حده والمعلوم ليس نفس العالم ولا لازما منه فيكون زائدا لا محالة على نفس العالم فتحصل فيه كثرة بسبب هذا العلم.

قلت فرقت فرقا بين علمه بذاته وبين علمه بالأشياء حتى سميت الأول ذاتيا والثاني علما لزوميا أفتعني بالعلوم اللزومية معلومات له بعلم واحد على طريق اللزوم فذلك صحيح أو تعني بذلك علوما أخر لزومية لعلمه بذاته فما المتصور بتلك العلوم وما محلها وكيف تتعلق هي بالمعلومات وما معنى أنها غير مفصلة للصور والعلم لا يكون قط إلا مفصلا فإنه معنى يتعلق بالمعلوم على ما هو به فهو مفصل بالنسبة إلى معلومه وقولك إنه يعلم ذاته كما هو عليه وهو مبدأ للموجودات فيا عجبا من إطلاق الذات والعلم بالذات والمبدأ للموجودات فإن كانت هذه الثلاثة الاعتبارات عبارة عن معبر واحد حتى يقال ذاته علمه وعلمه هو مبدئيته وكونه مبدأ أمر إضافي فكونه ذاتا وعلما يجب أن يكون أمرا إضافيا وإن كان ثم اعتبار واعتبار حتى يكون من حيث إنه مبدأ إضافي ومن حيث إنه علم سلبي ومن حيث إنه ذات لا سلبيا ولا إضافيا فقد تعددت اعتبارات ثلاثة فذاته ثالث ثلاثة ونقول ما المانع من تعلق العلم الأزلي بالمعلومات على نسق واحد حتى لا يكون منه ما هو بالقصد الأول وهو العلم بالملزوم ولا منه ما هو بالقصد الثاني وهو العلم باللازم إن كان العلم والذات لا يتأثر ولا يتكثر باللوازم والسلوب حتى يقال معنى كونه عالما (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) من غير أن ينسب إليه بعض المعلومات بالذات والبعض بالعرض من غير أن تتغير ذات العالم بالمعلوم كما لم تتكثر ذاته بتكثر اللوازم وأما التمييز في عقولنا إنما هو بحسب إمكان الجهل والغفلة والنسيان وإلا فلو قدرنا علما لم يطرأ عليه ضده البتة لم يخف عليه شيء البتة ولعلمنا مبادئ وكمالات فمبادئها النظر والاستدلال والتفكير والتدبير وكماله أنه لا يخفى علينا المنظور فيه وإنما يطلق العلم على الباري تعالى بحسب الكمال لا بحسب المبدأ كما أن مبدأ أفعالنا المعالجة والمزاولة والاكتساب والمجاهدة وكمالها بأن لا يتعذر علينا شيء وتطلق القدرة على الباري تعالى بحسب الكمال لا بحسب المبدأ وكما أن العفو والعطف منا بحسب المبدأ هو انحصار القلب على حال المعطوف عليه وبحسب الكمال هو الإنعام والملاحظة والإكرام

١٣١

والملاطفة فإذا كان هذا معنى الصفات فلا فرق في تلك النسبة وهو أن لا يخفى عليه شيء من الكلي والجزئي والذاتي والعرضي وإذا فرقتم بين قسم وقسم فقد حكمتم بتعدد الاعتبار وتكثر الجهات والآثار ومن قال إن علم المعلول الأول بالأول لا يكون لازما لعلمه بذاته لأن مبدأ المعلول الأول قبل ذاته فلا يكون العلم بما هو قبل ذاته لازما لعلمه بذاته فيكون علما آخر على حده يتوجه على مساق كلامه أن كل من علم شيئا من حاجته وافتقاره لا يلزمه العلم بالمحتاج إليه لأن المحتاج إليه قبل ذاته وقبل حاجة ذاته بل إنما يعلمه بعلم آخر وليس الأمر كذلك بل العلم ربما يلزم من العلم ولا يستدعي لزوم العلم من العلم أو بالعلم لزوم المعلوم من المعلوم وإنما وقع له هذا الغلط من غلط آخر وهو أنه اعتقد أن المعلول الأول لزم وجوده من علم العلة الأولى به وعلمه به لزوم من علم العلة الأولى بذاتها فظن أن كل شيء علم وأنه بذاته لزم من علمه بذاته علم بغيره ولزم من علمه بغيره وجوده وهذا محال على أنه أثبت للمعلول الأول علمين علم بذاته وعلم آخر بعلته فيكون قد صدر من العلة الأولى شيء هو جوهر قائم بنفسه قام به معنيان مختلفان محققان ليس يلزم من أحدهما الثاني فقد خالف بذلك أصله الممهد أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ولا يغنيه عذره أن أحد الشيئين له لذاته والثاني من علته فإن علم المعلول بذاته غير وعلمه بالعلة غير وليس أحد العلمين له لذاته والثاني من علته ثم هو يعلم ذاته ويعلم معلوله الثاني فقد تكثرت الذات بعلوم زائدة على الذات على أنه عقل فعّال وإنما عقليته لأنه صورة مجردة عن المادة وإنما فعاليته لأنه صورة واهبة للصور فلم تتكثر ذاته بتكثر معلوماته من الصور ولا تتغير بتغير لوازمه من الموجودات فهلا كان الأمر في واجب الوجود كذلك.

وأما من قال منهم : إنه يعلم الأمور على وجه كلي لا يتطرق إليه التغير فنقول كل موجود شخصي في هذا العالم يستدعي كليا خاصا بذلك الشخص فإن كلية الشخص الإنساني وهو كونه إنسانا ليس بكون كلية شخص حيوان آخر بل الكليات تتكثر بحسب تكثر الشخصيات فإذا كان لا يعلم الشخصي إلا من نحو كليته حتى لا يتغير العلم بالكلية ويتغير العلم بالجزئية فيلزم أن يتكثر العلم بكليته كما يتكثر بشخصيته وإن اجتمعت الكليات كلها في كل واحد فيلزم أن لا يكون المعلوم إلا ذلك الكلي الواحد ثم ذلك الكلي الواحد لازم له في وجوده فيكون العلم به لازما للعلم بذاته فهو رجوع إلى محض مذهب من قال إنه لا يعلم إلا ذاته فما زاد هذا القائل على مذهبه إلا إطلاق لفظ الكلية وهي معلومة لزوما كما كانت الجزئيات معلومة لزوما فلم يستفد من هذه الزيادة شيئا ومن عرف مبادئ الموجودات عرف ما

١٣٢

يتأدى منها وما يحصل بها نظرا من العلة إلى المعلول ومن عرف أخص أوصاف الموجودات عرف الأعم نظرا من الملزوم إلى اللازم وبين البابين بون عظيم بعيد.

وما تمثل به ابن سينا من حديث خسوف القمر : فهو دليل عليه فإن من علم مثل ذلك العلم أعني إذا كان كذا يكون كذا فيكون علمه مشروطا وهي قضية شرطية فلا يكون علمه علما محققا حتى يقول إن كان الأمر كذا فهو كذا فصار الأمر جزئيا بعد ما كان كليا ، ويتعالى علم الباري تعالى عن القضايا الشرطية بل علمه أعلى من أن يكون كليا أو جزئيا أو متغيرا بتغير الزمان أو متكثرا بتكثر المعلومات انظروا كيف عاد تنزيه القوم تشبيها وكيف صار تحقيق القوم تمويها.

قالت الصفاتية : إن الإشكال في هذه المسألة على جميع المذاهب من جهة أنهم تصوروا تعلق العلم بالمعلوم على وجه يتطرق إليه الزمان الماضي والمستقبل والحال حتى يقال علم ويعلم وهو عالم وسيعلم فظنوا أن العلم زماني يتغير بتغير الحوادث ومن تحقق أن العلم من حيث هو علم لا يستدعي زمانا بل هو في نفسه تبين وانكشاف وذلك إذا كان صفة للحادث وإحاطة وإدراكا إذا كان صفة للقديم فهو مع وحدته محيط بكل الأشياء ومع إحاطته واحد ومن تحقق كونه واحدا سهل عليه الإشكال.

فالبرهان على أن علمه شيء واحد : أنه لو كان كثيرا لم يخل إما أن يتعدد بتعدد المعلومات كلها والمعلومات من حيث إن لها صلاحية المعلومية من الواجب والجائز والمستحيل لا تتناهى على التقدير فيلزم أن تكون العلوم المتعلقة بها لا تتناهى على التحقيق وقد قام الدليل على أن أعدادا في الوجود المحقق بالفعل لا تتناهى مستحيل وإنما حصره الوجود فهو متناه بالضرورة وإما أن يتعدد بعدد مخصوص فيستدعي مخصصا خاصا والقديم لا مخصص فإذا علمه تعالى واحد فهو متعلق بجميع المعلومات والمعلومات لا تتناهى فعلمه متعلق بما لا يتناهى ولا يفرض اختصاصه بمعلوم معين كالعلم الحادث فإن الاختصاص والانحصار نقص وقصور من حيث إنه لا يختص إلا بمخصص والدليل على ذلك أن ما من علم يفرض إلا ويصح تعلق علم واحد منا به ثم لا يثبت لنا العلم بالمعلوم إلا ضروريا أو كسبيا وعلى أي الوجهين فرض ثبوته فالله تعالى موجده ومبدعه فإذا وجد كان عالما به وإذا وجب كونه عالما بالعلم فهو عالم بالمعلوم إذ يستحيل أن يعلم العلم ولا يعلم المعلوم فلزم أن يكون العلم القديم متعلقا بكل معلوم وإنما اقتصر العلم الحادث على بعض المعلومات لجواز طريان الضد عليه وإلا فالعلم من حيث هو علم لم يمتنع عليه التعلق بكل معلوم وكذلك كل صفة قديمة فإن متعلقاتها لا تتناهى فقد أطلقت الأشعرية بأن معلومات الله تعالى في كل معلوم لا

١٣٣

تتناهى وأشاروا بذلك إلى التقديرات الجائزة في حق كل معلوم إذ ما من وقت من الأوقات وحين من الأحيان إلا ويجوز وقوع الحادثة فيه على البدل وكذلك ما من عرض إلا ويجوز اختصاصه بكل جوهر على البدل.

قال المعترض تلقيتم وحدة العلم الأزلي من استحالة علوم غير متناهية يحصرها الوجود ومن أن الاختصاص بعدد مخصوص ، ثم ارتكبتم مثله في العلم الواحد حيث قلتم إنه واحد متعلق بمعلومات لا تتناهى فقد أثبتم له تعلقات حقيقية أو تقديرية لا تتناهى وما حصره الوجود كيف يشتمل على تعلقات غير متناهية فإن قلتم إنها على التقدير المفروض لا تتناهى فالتقدير فكيف يتصور في حق القديم سبحانه وإن قلتم إنها على التحقيق الموجود فالتحقيق للمتعلق كالتحقيق للمتعلق فلم لا يجوز علوم غير متناهية ثم التناهي بعدد مخصوص كالتناهي بالواحد ، فإن أوجب اختصاص العدد مخصصا كذلك يستدعي اختصاص الوحدة مخصصا وهو كما أن كثرة نوع الإنسان في الوجود استدعى مكثرا ووحدة نوع الشمس في الوجود استدعت موحدا ثم معلومات الله تعالى مجملة أم مفصلة فإن قلتم إنها مجملة على معنى أنه يعلم ما لا يتناهى من حيث إنها لا تتناهى من غير أن ينفصل معلوم عن معلوم فهو علم واحد تعلق بمعلوم واحد وما ينفصل به بقي مجهولا وإن قلتم إنها مفصلة على معنى أنها تتميز في علمه بخصائص صفاتها فالجمع بين التفصيل ، ونفي النهاية مستحيل فما الجواب عن هذه المشكلات؟

قالت الصفاتية : لسنا نعني بالتعلقات علائق حسية ولا حبائل خيالية ولا ينفي التناهي عن المعلومات أعدادا من المعلومات غير متناهية حاصرة في الوجود بل نعني بالتعلق والمتعلق أن الصفة الأزلية صالحة لدرك ما يعرض عليها على وجه لا يستحيل فيعبر عن تلك الصلاحية نحو الدرك بالتعلق ويعبر عن جهة العرض عليه حتى يدركه بالمتعلق ثم وجوه الجائزات على التقدير غير متناهية فالمتعلقات غير متناهية فالتعلقات غير متناهية فالعلم القديم صفة متهيئة لدرك ما يعرض عليها على وجه الجواز دون الاستحالة والقدرة الأزلية صفة متهيئة لإيجاد ما يعرض عليها على وجه الجواز دون الاستحالة فالمعنى بالعرض جهة الإمكان وتعيين الآحاد على البدل والمعنى بالمعروض عليه جهة الصلاحية إما نحو الإدراك وإما نحو الإيجاد وهذا كما أن الصور المتعاقبة على الهيولي عند القوم لا تتناهى على البدل وإنها فائضة على الهيولي من واهب الصور وذات واهب الصور واحدة إلا أنها على صفة لها صلاحية الفيض حتى ما يتهيأ الهيولي لقبول الصورة فتعرض الإمكان على القدرة كتهيؤ الهيولي لقبول الصور وصلاحية الصفة له نحو الإدراك والإيجاد كصلاحية الواهب لفيض الصورة ثم الواهب واحد

١٣٤

ومع وحدته على كمال يفيض منه صور لا تتناهى على البدل فذات الواهب واحدة ولكنه في حكم ما لا يتناهى والصورة لا تتناهى ولكنها في حكم الواحد ثم ما حصره الوجود فهو متناه وما قدره المقدر غير متناه فإن التقدير تعبير عن الصلاحيّتين أو نبأ عن الاستعدادين واستعمال لفظ الصلاحية في جانب القديم توسع وفي جانب الحادث حقيقة فإن القديم بالإعطاء أجدر والحادث بالقبول أولى ثم جهات الإمكان لا تتناهى وهي تشترك كلها في جهة الإمكان المحتاج إلى من يخرجه من وجه الإمكان إلى عين الوجود فوجوه الممكنات كلها إلى القديم سبحانه وهو تعالى من حيث العلم يحيط به ويدركها بوجه واحد وهو صلاحية العلم نحو الإدراك ويوجدها ويخترعها بوجه وهو صلاحية القدرة نحو الإيجاد وتخصصها بمثل دون مثل بوجه وهو صلاحية الإرادة نحو التخصيص ويتصرف فيها بتكليف وتعريف بوجه وهو صلاحية الكلام نحو الأمر والنهي ثم هل تشترك هذه الحقائق والخصائص في صفة واحدة أم في ذات واحدة فتلك الطامة الكبرى على المتكلمين حتى فر القاضي أبو بكر الباقلاني رضي الله عنه منها إلى السمع ، وقد استعاذ بمعاذ والتجأ إلى ملاذ والله الموفق.

١٣٥

القاعدة الحادية عشرة

في الإرادة

وهي تتشعب إلى ثلاث مسائل أحدها : في كون الباري تعالى مريدا على الحقيقة ، الثانية : في أن إرادته قديمة لا حادثة ، والثالثة : أن الإرادة الأزلية متعلقة بجميع الكائنات(١).

أما الأولى : فالكلام فيها مع النظّام والكعبي والجاحظ والنجار ، فذهب النظام والكعبي إلى أن الباري تعالى غير موصوف بها على الحقيقة وإن ورد الشرع بذلك فالمراد بكونه تعالى مريدا لأفعاله فإنه خالقها ومنشئها ، وإن وصف بكونه مريدا لأفعال العباد فالمراد بذلك أنه أمر بها وإن وصف بكونه مريدا في الأزل ، فالمراد بذلك أنه عالم فقط.

وذهب النجار إلى أن معنى كونه مريدا أنه غير مغلوب ولا مستكره.

وذهب الجاحظ : إلى إنكار أصل الإرادة شاهدا وغائبا ، وقال : مهما انتفى السهو عن الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو مريد وإذا مالت نفسه إلى فعل الغير سمي ذلك الميلان إرادة ، وإلا فليس هي جنسا من الأعراض وهو الأولى بالابتداء وهو الأهم بالرد عليه.

فيقال له : إثبات المعاني والأعراض ، ثم التمييز بين حقيقة كل واحد منها إنما يبتنى على إحساس الإنسان نفسه ، وكما يحس الإنسان من نفسه علمه بالشيء وقدرته عليه يحس من نفسه قصده إليه وعزمه عليه ثم قد يفعله على موجب إرادته وقد لا يفعله على موجب إرادته وربما يريد فعل الغير من غير ميل النفس والتوقان إليه وكذلك يريد فعل نفسه من غير ميل وشهوة كمن يريد شرب الدواء على كراهية من نفسه ، وبالجملة الإحساس حاصل ورده إلى العلم بالفعل باطل فإن العلم تبين وإحاطة فقط وهو يطابق المعلوم على ما به من غير تأثير في المعلوم ولا تأثير منه وكذلك يتعلق بالقديم والحادث والقصد والإرادة يقتضي ويخصص فيؤثر ويتأثر ولذلك لا

__________________

(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم لإبراهيم بن عيسى (١ / ٧٣) ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (١ / ٢٩٧ ، ٣٨٠).

١٣٦

يتعلق إلا بالمتجدد والحادث فبطل مذهب الجاحظ.

وأما الرد على الكعبي والنظام بعد اعترافهما بكون الإرادة جنسا من الأعراض فالشاهد أن نقول : قام الدليل على أن الاختصاص ببعض الجائزات دون البعض في أفعال العباد دليل على الإرادة والقصد والدليل يطرد شاهدا وغائبا فإن الإحكام والإتقان لما دل على علم الفاعل شاهدا دل عليه غائبا والدليل العقلي لا ينتقض ولا يقتصر.

قال الكعبي : إنما دل الاختصاص على الإرادة في الشاهد لأن الفاعل لا يحيط علما بكل الوجوه في الفعل ولا بالمغيب عنه ولا بالوقت والمقدار فاحتاج إلى قصد وعزم إلى تخصيص وقت دون وقت ومقدار دون مقدار والباري تعالى عالم بالغيوب مطلع على سرائرها وأحكامها فكان علمه بها مع القدرة عليها كافيا عن الإرادة والقصد إلى التخصيص وإنه لما علم أنه يختص كل حادث بوقت وشكل وقدرة فلا يكون إلا ما علم فأي حاجة به إلى القصد والإرادة ، وأيضا فإن الإرادة لو تحققت فإما أن تكون سابقة على الفعل أو حادثة مع الفعل فإن كانت سابقة فهي عزيمة والعزم لا يتصور إلا في حق من يتردد في شيء ثم أزمع عليه أو انتهى عن شيء ثم أقبل إليه وإن كانت مقارنة فهي إما أن تحدث في ذاته أو في محل أولا في ذاته ولا في محل والأقسام الثلاثة باطلة بما سبق بطلانه فتعين أن الإرادة للقديم سبحانه لا معنى لها إلا كونه عالما قادرا فاعلا.

قيل له : قد سلمت في الأفعال وجوها من الجواز في تخصيصها ببعض الجائزات دون البعض فينظر بعد ذلك أهو من دلائل العلم ، أو من دلائل الإرادة.

فنقول : قد بينا بأن العلم يتبع المعلوم على ما هو به. سواء كان العلم محيطا بجميع الوجوه في الفعل وقتا ومقدارا وشكلا أو لم يكن فالعلم من حيث هو علم لا يختلف وإن قدر اختلاف في العلم حتى يكون أحد العلمين مخصصا دون الثاني فلنقدر مثل ذلك فيه حتى يكون أحدهما موجدا والثاني غير موجد ويقع الاجتزاء بالعلم عن القدرة كما وقع به عن الإرادة فيعود الكلام إلى مذهب الفلاسفة أن علمه تعالى علم فعلي فيوجد من حيث يعلم ويختار الأفضل من حيث يعلم وإن وجب أن تعطى كل صفة حظها من الحقيقة فالعلم ما يحصل به الإحكام والإتقان أما الإرادة ما يحصل بها التخصيص والقدرة ما يحصل بها الإيجاد والقضايا مختلفة فالمقتضيات إذا غير متحدة.

وأما قوله : إثبات الإرادة في الشاهد لامتناع الإحاطة بالمراد من كل وجه فباطل لأنا لو فرضنا الإحاطة بالفعل من كل وجه بإخبار صادق أو غيره من الطرق كان يجب أن يستغني عن الإرادة وليس الأمر كذلك وتقسيمه القول بأن الإرادة إما سابقة

١٣٧

وإما مقارنة.

قيل له : قد عرفت على هذا مذهب الصفاتية أن الإرادة أزلية فهي سابقة على المراد ذاتا ووجودا ومقارنة لحال التجدد تعلقا وتخصيصا ، والعلم يتبع الواقع ولا يوقع والقدرة توقع المقدور ولا تخصص والإرادة تخصص الواقع على حسب ما علم بما علم والصفة أزلية سابقة والمراد حادث متأخر وليس يلزم على ذلك أن يسمى عزما فإن العزم توطين النفس بعد تردد ولو كان المريد للشيء متمنيا أو مشتهيا أو مائلا لوجب أن يقال العالم بالشيء معتقد ساكن النفس متروّ ، ومتفكر فبطل الاستدلال من هذا الوجه وليس كل من علم شيئا أراده ولا كل من أراد شيئا قدر عليه بل كل من فعل شيئا فقد قدر عليه ومن قدر على فعل شيء أراده ومن أراده علمه فالإرادة تتبع العلم حتى يتصور أن يكون عالما ولا يكون مريدا ولا يتصور أن يكون مريدا ولا يكون عالما.

أما الرد على النجار : حيث قال : إنه مريد بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره فيقال له فسرت حكما ثابتا ينفي كمن يفسر كونه قادرا بأنه غير عاجز وكونه عالما بأنه غير جاهل وذلك مذهب المعطلة الفلاسفة ثم تجرد نفي العجز والكراهية لا يقتضي كون الذات مريدا فإن كثيرا من الأجسام ينفى عنها العجز والكراهية ولا يكون مريدا وكثير من المريدين كاره ، كمن شرب الدواء على كراهية من طبعه وهو مريد له فالكراهية تضاد الطوع وأما القصد فقد يجامع الكراهية.

ثم نقول : كونه غير مغلوب ولا مستكره أمر مجمع عليه وإنما الكلام في أنا رأينا في الأفعال ما يدل على كون الصانع مريدا وهو اختصاص الأفعال ببعض الجائزات دون البعض وإهمال هذه القضية غير ممكن فما مدلول هذا الدليل.

فإن قلتم : مدلوله أنه غير مغلوب ولا مستكره (١).

فيقال : إنما استفدنا العلم بذلك من كونه قادرا على الكمال والاختصاص لم يدل على القدرة بل الوقوع دل عليها فلم يكن للاختصاص مدلول ونحن إنما أثبتنا العلم بالصفات من الدلائل وإذا ثبتت هذه المسألة أخذنا في المسألة الثانية وهو كون الرب تعالى مريدا بإرادة قديمة.

فنقول : قد قام الدليل على أن معنى المريد هو ذو الإرادة كما قام الدليل على

__________________

(١) انظر : شفاء العليل لابن قيم (ص ١٧٦) ، والمواقف للإيجي (٣ / ١٢٣) ، وإيثار الحق على الخلق (ص ٢٥٥).

١٣٨

أن معنى العالم هو ذو العلم فنقول إما أن يكون الرب سبحانه مريدا لنفسه أو بإرادة وإذا تحقق أنه مريد بإرادة فإما أن تكون الإرادة قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت حادثة فلا يخلو إما أن تكون حادثة في ذاته أو في محل أو لا في ذاته ولا في محل وقد سبق الرد على من قال بحدوث الإرادة في ذاته ويستحيل كون الإرادة في محل ويكون الرب تعالى مريدا بها فإن المعنى إذا قام بمحل وصف المحل به إذ لا معنى للقيام به إلا وصفه به وحينئذ لا يوصف غيره به إذ من المحال وصف الشيئين بمعنى واحد قام بأحدهما دون الثاني ويستحيل كون الإرادة لا في محل فإن الإرادة من جملة المعاني والأعراض واحتياج الأعراض إلى المحل صفة ذاتية لها ومن المحال ثبوتها دون الوصف الذاتي ولو لم تحل في محل لكانت قائمة بذاتها والقائم بالذات قابل للمعنى فحينئذ تكون الإرادة قابلة للمعنى فحينئذ تكون الإرادة قابلة للمعنى ولا يكون فرق بين الجوهر وبين حقيقة العرض حتى لو جوز استغناء العرض عن المحل في وقت من الأوقات جاز في كل وقت ولو جوز لجنس من الأجناس أو لنوع من الأنواع لجاز لكل نوع وجنس ولو جوز ذلك أيضا للزم تجويز قيام جوهر بمحل ، فإنه كما يستثنى الإرادة والغناء والتعظيم عن جنس من المعاني حتى لا يفتقر إلى محل جاز أن يستثنى جنس من الجوهر حتى يحتاج إلى محل وكل ذلك محال.

ثم نقول هب أنا ارتكبنا هذه الاستحالة وتصورنا إرادة لا في محل فمن المريد بها ومن المعلوم أن نسبتها إلى القديم والحادث على وتيرة واحدة.

فإن قيل : يوصف بها القديم لأن القديم لا في محل والإرادة لا في محل فهي به أولى.

قيل ولو قيل يوصف بها الحادث لأن الإرادة حادثة والجوهر حادث والحادث بالحادث أولى والمناسبات بين الحوادث تتحقق ولا مناسبة بين القديم والحادث بوجه ما ثم أخذتم قولكم لا في محل بالاشتراك فإن معنى قولنا القديم لا في محل أي لا في مكان ومعنى قولنا الإرادة لا في محل أي لا في متمكن وفرق بين المكان والمحل فلم توجد المناسبة شاملة للطرفين بمعنى متفق عليه مشترك فيه فلا مناسبة أصلا هذا كمن يقول الجوهر لا في محل والإرادة لا في محل فوصف الجوهر بها أولى ونقول قد قام الدليل على أن كل حادث اختص بالوجود دون العدم وبوقت وقدر دون وقت وقدر كان المحدث مرادا والإرادة شاركت جميع الحوادث في هذه القضية فإنها اختصت بوقت ومقدار من العدد دون وقت ومقدار فيستدعي إرادة أخرى والكلام فيها كالكلام في هذه فيجب أن يتسلسل والقول بالتسلسل باطل.

١٣٩

قالت المعتزلة : نعم إثبات إرادات لا في محل على خلاف وضع الأعراض والمعاني لكن الضرورة ألجأت إلى التزام ذلك.

قيل إنه لا وجه لإنكار الإرادة كما قال الكعبي ؛ لأنه يوجب أن تكون الأفعال غير اختيارية شبيهة بالأفعال الطبيعية عند أهل الطبائع ولا وجه لإثبات كونه مريدا لذاته لأن الصفات الذاتية وجب تعميمها فهي عامة التعلق وحينئذ وجب تعلق كونه مريدا بالفواحش والقبائح وذلك باطل كما سيأتي ولا وجه لإثبات إرادة قديمة لأنه يؤدي إلى إثبات إلهين قديمين كما سبق أن الاشتراك في القدم يوجب الاشتراك في الإلهية ولا وجه لإثبات كونها حادثة قائمة بذات الباري ولا لإثبات كونها قائمة بذات أخرى لما سبق من المعنى فتعين أنها لا في محل فالضرورة العقلية ألجأت إلى تعيين هذا القسم من الأقسام ونحن لم نبعد النجعة في ذلك مع إثبات الفلاسفة عقولا مفارقة للأجسام قائمة بذواتها وهي مبادئ الموجودات ومع إثبات جهم وهشام علوما حادثة لا في محل ومع إثبات الأشعرية تكليما لا في محل لأن ذلك الكلام الذي في ذات الباري تعالى لم ينتقل إلى سمع موسى عليه‌السلام ، والذي سمعه موسى لم يكن في محل فهم وإن لم يصرحوا بتكليم لا في محل كما صرحنا بتعظيم لا في محل غير أنهم أثبتوا كلاما مسموعا والصفة الأزلية لم تنتقل وسمع موسى قد امتلأ بالتكليم حتى يقال : إنه سمع كجر السلسلة.

وأما قولكم : إن حدثت إرادة فبإرادة أخرى تحدث وبتسلسل فغير مقبول لأن الإرادة لا تراد أليست إرادتنا لو كانت مرادة بإرادة أخرى أدت إلى التسلسل فلم تستدع الإرادة جنسها.

قالت الأشعرية : الضرورة التي ادعيتم ليست الضرورة العقلية التي يضطر العقل إلى التزامها من إبطال قسم وتعيين قسم ، فإنكم قدرتم من محال حتى ارتكبتم محالا والأقسام كلها بزعمكم محالات فلم التزمتم هذا المحال دون مذهب الكعبي في رده الإرادة إلى العالمية والقادرية كما رددتم كونه سميعا بصيرا إلى كونه عليما خبيرا على قول وهلا التزمتم مذهب النجار في رد الإرادة إلى صفة النفي كمن قال منكم إنه سميع بصير بمعنى أنه حي لا آفة به ، وهلا قلتم هو مريد لنفسه كما قال النجار على رأي ولا تلتزموا عموم التعلق إلا فيما يصح أن يكون قادرا على ما يصح أن يكون مقدورا له ، وهلا التزمتم مذهب الكرامية في إثبات إرادات في ذاته لأن المحذور من ذلك الالتزام هو التغيير بالحوادث والتغيير حاصل في الأحكام حسب حصوله في المعاني إذا لم يكن مريدا فصار مريدا عندكم فإذا لم يدل تغيير الأحكام على الحدوث لم يدل

١٤٠