نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : ٦٥] ، ثم قال : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٦٧] ، أثبت التوحيد ثم النبوة ، وأما صالح بعده قال : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : ٧٣] ، ثم قال : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٧٣] ، وأما لوط فإنه كان يدعو الناس بدعوة الخليل ، وما جرى بينه وبين قومه عبدة الأوثان والكواكب من أظهر ما يتصور وقال : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ، ٩٦] وقال : (لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) [الأنعام : ٧٤] ، (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ، ثم أثبت الرسالة فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) [مريم : ٤٣] ، وكانت الدعوة جارية على لسان أولاده إلى زمن موسى عليه‌السلام وكان من شأنه مع فرعون ما كان إذ قال له فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣](فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩] ، حتى حقق عليه التوحيد بتعريف وحدانيته استدلالا من أفعاله عليه في جواب وما رب العالمين قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣](قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) [الشعراء : ٢٤] ، وفي جواب (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ٤٩ (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُثُمَّ هَدى) [طه : ٤٩ ، ٥٠] ، ثم قال بعد ما قرر التوحيد (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٠٤] ، فمن كان منكرا للتوحيد وجبت البداية معه بإثباته ومن كان مقرا به وجبت به البداية مع بإثبات النبوة كحال عيسى مع بني إسرائيل إذ قال : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٠٥] ، ولما كانت دعوة سيد البشر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل ورسالته أرفع وأجل كان يبتدئ تارة مع عبدة الأصنام بإثبات التوحيد ، ثم بالنبوة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] ، أثبت احتياجهم ضرورة إلى فاطر وشاركهم في

٢٤١

ذلك من قبلهم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] ، كما قرر احتياجهم إلى الخالق في وجودهم قرر احتياجهم إلى رازق في بقائهم (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة : ٢٢] ، الآية ثم قرر بعد ذلك نبوته (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، الآية بمعناها دالة على التوحيد وبظاهر لفظها البليغ ونظمها الأنيق دالة على صدق دعواه وتحديه ولربما يبتدئ بدعوى الرسالة ثم يضمنها حقائق التوحيد (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) [الأعراف : ١٥٨] ، الآية حتى كانت الآية بعذوبة ألفاظها ورطوبة عباراتها الخارجة عن نظم الشعراء ونثر الفصحاء الخارقة لعاداتهم الجارية وعباراتهم الفائقة أوضح دلالة على رسالته وصدق لهجته وكانت معانيها الحقيقية وحقائقها المعنوية دالة على التوحيد واقترنت الدلالتان اقترانا لا يمكن للمستمع الاستمهال وليس ذلك أمرا بالتقليد ، فإن التقليد قبول قول الغير من غير حجة ، وفيها تقرر حجتان مفحمتان ، وإنما لم يلزم تكليف ما لا يطاق إذا لم يكن المستمع متمكنا من الاستماع والنظر والتدبر في كل ما يستمعه ويعقله حتى لو أنكره ظهر عناده وبطل استرشاده ، هذا هو طريق الدعوة النبوية والحجة العقلية لا كما زعمت المعتزلة أن المستمع إذا استمهل وجب على النبي إمهاله فيلزمهم أن لا تثبت لنبي ما رسالة ولا يستمر لرسول ما دعوة فإن كل عاقل إذا استمهل وأمهل تعطلت النبوة في الحال وصار منتظرا مدة الإمهال حتى يعود إليه الدعوة وإن يلزم العود إليه وبعد لم تثبت عنده نبوته بل يعود جبريل عليه‌السلام ويقول : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، فيقوم إلى المستجيب فيقول أنت أمهلتني وأنا بعد في مهلة النظر والنظر طريق المعرفة فتريد تصدني عن الطريق فأنت قبل معرفتي من أنت؟ مضل ضال قاطع للطريق فيتخاصمان ويقتتلان ويئول الإلزام إلى النبي قولا وفعلا فيلزم المعتزلة القول بأن أول واجب على العاقل قتال النبي عليه‌السلام وقتله وهذا مما لا محيص لهم عنه.

وأما الجواب عن ردهم الخوارق إلى الخواص والتنجيم وعلم السحر والطلسمات قلنا : لا ينكر العاقل حصول العجائب من الخواص والعزائم لكن أمثال هذه الغرائب ليست تخلو قط عن حيل كسبية تنضاف إليها من مباشرة فعل وجمع الشيء إلى شيء واختيار وقت وتعزيم قول وإعداد آلة واستعداد مادة ، وبالجملة من

٢٤٢

مزاولة فعل وقول من جهة المدعي بحيث يتبين للناظر أن ذلك ليس فعلا لله تعالى أنشأه في الحال تصديقا لدعوته بخلاف المعجزة ، فإن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عظاما رفاتا رماما تجتمع فتحيا شخصا وتتشخص حيا من غير معالجة من جهة المتحدي ولا مزاولة أمر عنه لا يكون ذلك إلا فعلا وصنعا من الله تعالى يظهر منه قصده إلى تصديق رسوله فإنا قد ذكرنا أن الفعل بتخصيصه ببعض الجائزات يدل على إرادة الفاعل ، فإذا فعله عقيب دعوته مقترنا بدعواه وهو صادق في نفسه دل على قصده إلى تصديقه وتخصيصه لرسالته ، ولو قدر ظهور مثل تلك المعجزة على يد كاذب لم يجز أن تقترن بدعواه النبوة ، بل يصرف عنه داعيه الدعوى ضرورة حتى لا ينقلب الدليل شبهة ولا ينحسم الطريق على قدرة الله تعالى في إظهار التصديق بالآيات وكما إذا اختص الفعل بوقت وقدر وشكل دل على إرادة مخصصة بذلك الوقت والقدر والشكل ، ولن يقدر وقوعه اتفاقا ، كذلك إذا اختص الفعل بوقت تحدي المتحدي دل ذلك على أنه إنما أراد تخصيصه بالصدق ، وكما لم يختلف وجه الدليل العقلي على أصل الإرادة بأصل التخصيص لم يختلف وجه الدليل على وجه تعلق الإرادة بتخصيص التصديق فافهم هذه الدقيقة ، هذا كمن علم أن له عند الله دعوة مستجابة فدعا واستجيب له علم ضرورة أن المجيب أراد تخصيصه بتلك الإجابة كرامة له وإنعاما عليه ، ولم يقدح في علمه ذلك تجويز المجوز ، إن ذلك ربما يقع اتفاقا بسبب آخر فإذا كان مثل ذلك معلوما في الجزئيات لكل شخص شخص عرف مواقع نعم الله تعالى على عبده وكان بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه ، فما ظنك بحال من اصطفاه الله تعالى من خليقته واجتباه من بريته وقد تبين أنه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨].

قال المنكرون : ولنا أسئلة أخرى وجب عليكم الجواب عنها.

منها أن الخارق للعادة إذا تكرر وتوالى صار معتادا بالاتفاق فما يؤمنكم في الحالة الأولى أنه من المتكررات المعتادة في ثاني الحال ، وإن لم يوجد في سابق الأحوال ، ألستم تشترطون أن يكون الخارق في زمن التكليف فإن في آخر الزمان تنخرق العادات كلها فتتكور الشمس وتتكدر النجوم وتسير الجبال وتنشق السماء وتزلزل الأرض فلو ادعى مدع أن هذه وأمثالها معجزاتي وهي بالاتفاق خوارق لا تندرج تحت قوة البشر ولا يتوصل إليه بالحيل ، بل تمحضت فعلا لله تعالى فلا يكون ذلك دليلا على دعوى هذا المدعي فالعاقل في زمن التكليف ، ربما يتوقع أن تتوالى الآيات فلا يحصل له العلم بكونها آية على صدقه ما لم يأمن التوالي والتعاقب ، بل

٢٤٣

يورثه ذلك توقفا وتربصا.

ومنها أن العقلاء كما يجوزون وقوع أمثاله في ثاني الحال كذلك يجوزون وقوع أمثاله في سالف الأيام أو في قطر آخر من الأقطار أو ظهور ذلك بفعل فاعل آخر وإن كانوا عاجزين عن معارضته فربما لا يعجز غيرهم فعجزهم لا يدل على صدقه.

ومنها أن الشك في صدقه لكل واحد من الناس فيجب أن يكون الرافع للشك لكل واحد واحد وعلى مقتضى ذلك يلزم أن يخصص كل واحد وكل جمع غيب أو حضور بمعجزة خاصة وليس ذلك شرطا على أصلكم بل عندكم المعجزة الواحدة لجماعة من أهل الخبرة والبصيرة كافية ويلزم التصديق على غيرهم من أهل التقليد ، ولا يجب استمرار المعجزة في كل زمن بل لو استمرت خرجت عن الإعجاز والتحقت بالمعتاد فما ذا يلزمنا تصديق الأنبياء الماضين ، ولم نجد في زماننا ما يدل على صدقهم وبما يلزم أهل الأقطار في زمانه ولم يشاهدوا ما ظهر على يده من الآيات وهذا مشكل.

ومنها أنكم إذا جوزتم الإضلال على الله تعالى ، فما يشعركم أنه يظهر الآيات على يدي كاذب ولا يظهرها على وفق صادق فلا ذلك يضره في الإلهية ولا هذا ينفعه في الربوبية ، وكثير من الأنبياء قد خلت دعوتهم من المعجزة فمضوا على أمر الله دعاة للخلق من غير التفات إلى طلب الآيات منهم ، ومن غير انكباب على طلب الآيات من الله تعالى فما بالكم ربطتم صدق الرسول بالمعجزات هذا الربط.

ومنها قولهم : هل للخلق طريق إلى معرفة صدق الرسل سوى المعجزات الخارقة للعادات فإن منعتم ذلك فقد حصرتم القول وحسمتم الطريق على الله تعالى وذلك تعجيز وإن جوزتم ذلك فهلا وجب ذلك وجوب المعجزة فما الذي جعل المعجزة أولى بالدلالة من ذلك الدليل؟

ومنها قولهم : إنكم لا تخلون عن دعوى علم ضروري في وجه دلالة المعجزة فتارة تدعون الضروري من حيث القرينة الحالية وهي اقتران التحدي بالمعجزة ، وتارة تدعون ذلك من حيث دلالتها على قصد المخصص إلى التخصيص ، وتارة تدعون ذلك من حيث إنها نازلة منزلة التصديق بالقول وتارة تدعون ذلك من حيث سلامتها عن المعارضة فهلا ادعيتم الضرورة في أصل الدعوى أنه يعلم صدقه ضرورة.

ولئن قلتم إن قوله خبر يحتمل الصدق والكذب فيقال لكم والاحتمالات تتوجه إلى هذه الوجوه أيضا فبطل دعواكم الضرورة فيها خصوصا والمنازع فيها على رأس الإنكار (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ٢] ،

٢٤٤

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [الأنعام : ٤] ، ما نسبتهم إلى العناد الصرف نسبوك إلى الجور المحض فما وجه الخلاص ولات حين مناص.

قال أهل الحق : أما الجواب عن السؤال الأول أن المعتاد إنما لم يكن دليلا لأنه لا اختصاص له بدعوى المدعي وغير المعتاد يختص بدعواه اختصاص دلالة أما من حيث القرينة كحمرة الخجل وصفرة الوجل وأما من حيث إن اختصاص الفعل بدعواه كاختصاصه بوقت معين ثم اختصاصه بوقت معين دليل قصد المخصص بالوقت واختصاصه بدعواه دليل قصد المخصص إلى التصديق ، والوجهان حاصلان بنفس الاقتران ولو توالى الخارق بعد ذلك لم ترتفع هذه الدلالة فإن اعتياده في ثاني الحال لم يرفع القرينة الأولى ولا أبطل الاختصاص الأول وقال بعضهم المعجزة كما سلمت عن المعارضة تسلم عن الاعتياد في ثاني الحال ، ولهذا لم يعهد من معجزات الأنبياء ما كان خارقا في الأول ثم صار معتادا في الثاني الحال ، وإنما هو إلزام تجويزي عقلي فيندفع بما ذكرناه منعا للإلزام.

وأما الجواب على السؤال الثاني فهو يقارب ما ذكرناه من تحقيق وجه دلالة المعجزة ، وبالجملة التجويزات الخيالية والوهمية مدفوعة بالدلائل العقلية والقرائن القطعية ، وقد قررنا أن المعجزة ذات دلالة عقلية وهو اختصاصها بتحدي المدعي واقتضاء الاختصاص قصدا إلى التخصيص وجواز حصول مثل ذلك في قطر من الأقطار أو في وقت من الأوقات لا تخرج الدلالة عن كونها دالة لأنه لم يوجد اقتران يدل على الاختصاص واختصاص يدل على قصد التصديق والمعجزة أيضا ذات دلالة من حيث القرينة وجواز حصول مثله لا يرفع دلالة القرينة كمن عرف قطعا بحكم قرينة اطراد العادة أن ماء الفرات لم ينقلب دما عبيطا وهو جار جريانه في الأول مع أنه يجوز عقلا أو وهما من قضية قدرة الله تعالى أنه قلبه دما جاريا أو يبس النهر عن الجريان وهذا التجويز لا يدفع العلم الضروري وكذلك يجوز عقلا أن تكون الصفرة في الوجه غير دالة على الوجل لكن إذا اقترنت بها حال وسبب للوجل علم ضرورة أنها صفرة الوجل لا صفرة المرض.

ونقول : نعلم ضرورة أن الصعود إلى السماء والمشي على الماء وإحياء الموتى وقلب العصا حية تسعى ، وأمثال ذلك نقض لعادة البشر فإذا اقترنت بتحدي الرسالة أو تصديق قول ما كانت آية وحجة على البشر وإن لم تكن نقضا لعادة الملائكة والجن والمعتبر في كون الآية حجة أن يكون ذلك نقضا لعادة من كانت الآية حجة عليه والعادة عادة له وكذلك لو ادعى النبي مدا وجزرا في جيحون كان ذلك حجة

٢٤٥

لأنه نقض لعادتها ، وإن كان معتادا لأهل البصرة ، وكذلك لو قال : آية صدقي أن ينبت الله نخيلا بخراسان كان ذلك آية معجزة له.

وأما الجواب عن السؤال الثالث : أن نقول كل من عارضه شك في صدق المتحدي وجب إراحته لكن المعجزة إذا ظهرت لأهل الخبرة وحصل لهم العلم بذلك وهم جم غفير فأحرى أن لا يبقى شك لأهل الصناعات الأخر وإن أشد الناس إنكارا من كان عنده خبرة وبصيرة بخواص الأشياء وأحوال أهل المخرقة والتخيل وإذا ظهرت المعجزة على خلاف ما توهموه فهم أولى الناس بالقبول وأما العامة فالتخيلات والمخاريق إذا أورثت لهم شكا في الحال فأولى أن لا يعتريهم ريب في مقال أصحاب المعجزات فيلزمهم الإقرار بتصديقه ويلزم غيرهم من العامة إذا سمعوا منهم جلية الأمر الاعتراف به من غير توقف ولا ريب ولا يجب على النبي عليه‌السلام تتبع آحاد الناس وإفراد كل واحد بمعجزة خاصة وإذا تقرر صدقه فنسبة قوله إلى من صح عنده كنسبته إلى غيره إما في زمانه وهو في قطر آخر باستفاضة الخبر إليه والمواترة عليه وإما في غير زمانه بالنقل والاستفاضة والشيوع.

وأما الجواب عن السؤال الرابع نقول : نحن نجوز الإضلال على الله تعالى ولكن بشرط أن لا يقع خلاف المعلوم وبشرط أن لا يتناقض الدليل والمدلول ولا يلتبس الدليل والشبهة وبشرط أن لا يؤدي الأمر إلى التعجيز وبشرط أن لا يؤدي إلى التكذيب في القول ونذكر لكل واحد وجها ومثالا فنقول إذا علم الرب تعالى أنه يرسل رسولا يهتدي به قوم فهو كما يعلم أنه ينصب دليلا يستدل به قوم فلو أضلهم بعين ذلك الدليل وقع الأمر على خلاف المعلوم وذلك محال وكذلك إذا أخبر أنه يرسل رسولا يهتدي به ثم إذا أضل كل من بعث إليه تناقض الخبر وانقلب الصدق كذبا وذلك محال فإن الكذب لا يجوز على الله تعالى وإنما لا يجوز ذلك عليه لأن الكذب إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو يعلمه على ما هو به وكل من علم شيئا كان له خبر عن معلومه والخبر عن المعلوم خبر عن ما هو به فلا يجتمع في العالم خبران متناقضان وإذا علم الرب تعالى صدق النبي وأخبر عن صدقه فقد صدقه ومن صدقه فلا يجوز أن يكذبه ومن وجه تناقض الدليل أن جهة الدلالة في القرينة وفي الفعل لا تختلف فإذا دل الشيء على شيء لا يجوز أن يدل على خلافه فإن ذلك غير مقدور كما أن جهة التخصيص إذا دلت على الإرادة لم تدل على خلاف ذلك فجهة التخصيص بالتصديق لا تدل على خلاف قصد المخصص بالتصديق فإرسال رسول وإخلاؤه عن دليل الصدق وإظهار معجزة والقصد بها إلى إضلال الخلق وإظهار خارق للعادة على يدي كاذب في معارضة دعوى النبي كل ذلك محال لما ذكرناه أنه يؤدي

٢٤٦

إلى محال كإخلاء النظر الصحيح التام عن الإفضاء إلى العلم فإنه إذا تم وجب وجود العلم لا محالة وكنصب دلالة التوحيد لتدل على الشرك والإضلال على الإطلاق يجوز أن يضاف إلى الله تعالى بمعنى أنه يخلق ضلالا في قلب شخص لكنه إذا أدى إلى محال فهو محال ، فلا يفعله لتناقضه واستحالته ولا لقبحه وبشاعته.

وأما الجواب عن السؤال الخامس نقول لا ينحصر طريق التعريف في المعجزات ، بل يجوز أن يخلق لهم علما ضروريا بصدق النبي فلا يحتاج المذكر إلى طلب المعجزة ليعرف بها صدقه أو ينصب لهم أمارات أخر غير خارقة للعادة لكن يتبين لواحد بحكم قرينة الحال والمقال صدقه والقرائن لا تنحصر في طريق واحد ، ورب قرينة أورثت علما لشخص ولم تورث علما لغيره أو يخبر من استأهله لسماع كلامه فيعلم صدقه كما أخبر الملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، وإذا ثبت صدقه عندهم إما بالخبر أو بتعليم الأسماء لزم تصديقه على كل من خلف بعدهم ، وإذا أخبر من ثبت صدقه بدليل ما عن صادق آخر يخلفه وجب تصديقه وكذلك الخبر عن كل صادق بشارة لمن بعده وإعلاما للخلق بآيات في خلقه وصورته وقوله وفعله وجب على كل من سمع ذلك تصديقه بإخبار الأول ولهذا أخبر التنزيل عن مثل هذه الحالة على لسان عيسى عليه‌السلام (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ، وعلى لسان موسى عليه‌السلام (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] ، الآية وعلى لسان الخليلعليه‌السلام (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) [البقرة : ١٢٩] ، الآية وأماراته في التوراة والإنجيل أكثر من أن تحصى ، ولقد كان لموسى عليه‌السلام بيت صور ـ أعني صور الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ـ يدخله فيطالع الصور كل سبت فلو لم يظهر النبي معجزة قط كان ما مضى من الدلائل كافيا له فلهذا اقتصرت معجزاته على إظهار الأمر للأميين من العرب دون أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإنهم كانوا محجوجين بما ثبت عندهم من الإخبار عن الصادقين.

وأما الجواب عن السؤال السادس فنقول : كل علم نظري لا بدّ وأن يستند إلى علم ضروري ولكن الضروري ربما يكون بعيد المبدأ وإنما يستند إليه النظري بعد نظريات كثيرة وربما يكون قريب المبدأ فيستند إليه في أول المرتبة والعلم بصدق النبوات إن عددناه من جنس العلوم الحاصلة بقرائن الأحوال فهو في أول المرتبة يصل إليه فيقال هذا المتحدي إما أن يكون صادقا وإما أن يكون كاذبا وبطل أن يكون

٢٤٧

كاذبا لحصول الخارق للعادة على يده وعلى وفق دعواه من غير أن يعارضه معارض واقتران هذه المعاني معا يستعقب علما ضروريا بصدقه فيدعي الضرورة هاهنا لا في أول الدعوى وإن عددناه من جنس العلوم الحاصلة بوجه دليل التخصيص بالتصديق فالعلم الحاصل به كالعلم الحاصل بكونه مريدا فإن التخصيص يدل على أنه مريد وهذا التخصيص بعينه يدل على أنه مريد هذا المراد بعينه وكون المنازع على رأس الإنكار لا يدفع الضرورة الواقعة في العلم فإنه بعد ظهور الآية معاند عنادا ظاهرا واعلم أن النبوة والرسالة إنما يمكن إثباتها بعد إثبات كون الباري تعالى آمرا ناهيا مكلفا واجب الطاعة ومن لم يثبت كونه آمرا ناهيا لم يمكنه إثبات النبوة وأول أمر يتوجه منه تعالى على عباده فإنما يتوجه أولا على رسوله بالدعوة إلى التوحيد بأنه لا إله غيره أي لا خالق ولا آمر غيره على عباده باستماع دعوته والنظر في معجزته والنبي يصح أولا صدقه في جميع أقواله ثم يؤدي رسالته ولا يتصور نبي قط إلا وأن تكون آية الصدق معه لأن حقيقة النبوة هو صدق القول مع ثبوت الآية فلو قدر نبي خاليا عن الآية فكأنه لا نبوة له بعد لكن الآيات قد تكون آيات مخصوصة على كل مسألة وقول يدعي ذلك وذلك مثل دلالته على التوحيد بأن الإله واحد في خلقه وأمره لا شريك له وقد تكون الآيات عامة تدل على صدق قوله في جميع أقواله وأحواله وتلك الآيات قد تكون من جنس الأقوال كآيات الكتاب وقد تكون من جنس الأفعال كآيات الإحياء وقلب الجماد حيوانا وبالجملة فدلالة الصدق لا تنفك عن حالة ومقالة طرفة عين وذلك هو المعني بالعصمة الواجبة للأنبياء عليهم‌السلام ، لأن العصمة لو ارتفعت بطلت الدلالة وتناقضت الدعوى خصوصا فيما أرسلوا به إليهم وكلف الناس تصديقه في أقواله ومتابعته في أفعاله والأصح أنهم معصومون عن الصغائر عصمتهم عن الكبائر فإن الصغائر إذا توالت صارت بالاتفاق كبائر وما أسكر كثيرة فقليله حرام لكن المجوز عليهم عقلا وشرعا مثل ترك الأولى من الأمرين المتقابلين جوازا وجوازا وحظرا وحظرا ، ولكن التشديد عليهم في ذلك القدر يوازي التشديد على غيرهم في كبائر الأمور وحسنات الأبرار سيئات المقربين وتحت كل زلة يجري عليهم سر عظيم ، فلا تلتفت إلى ظواهر الأحوال وانظر إلى سرائر المآل.

٢٤٨

القاعدة العشرون

في إثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)

وبيان معجزاته ووجه دلالة الكتاب العزيز على صدقه وجمل من الكلام في السمعيات من الأسماء والأحكام وحقيقة الإيمان والكفر والقول في التكفير والتضليل وبيان سؤال القبر والحشر والبعث والميزان والحساب والحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار وإثبات الإمامة وبيان كرامات الأولياء من الأمة وبيان جواز النسخ في الشرائع وأن هذه الشريعة ناسخة للشرائع كلها وأن محمدا المصطفى صلى الله عليه خاتم الأنبياء وبه ختم الكتاب وإذا حققنا القول في النبوات وبيان صدقهم بالمعجزات فالأنبياء عليهم‌السلام ممن ورد اسمه في الكتاب ومن لم يرد واجبو الطاعة ويجب على كل مكلف الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإنما ثبت صدق من تقدم على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسما فاسما وشخصا فشخصا بما ظهر عليه من الآيات وبما أخبر من ثبت صدقه عندنا وإنما يتحقق ختم الأنبياء عندنا بخبر النبي الصادق عليه‌السلام وبما أخبر القرآن أنه خاتم النبيين ومن أنكر نبوته من أهل الكتاب وغيرهم من المشركين فلا متمسك لهم إلا القول بإحالة النسخ والقدح في وجه المعجزة.

قال أهل الحق : الدليل على صدق نبينا عليه‌السلام الكتاب الذي جاء به (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥] ، ووجه دلالته

__________________

(١) انظر : الصواعق المرسلة لابن قيم (١ / ٣٢٧ ، ٣٢٩) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص ١٦٥) ، والجواب الصحيح لابن تيمية (١ / ٤٢٠ ، ٤٢٤) (٢ / ٤٣ ، ٤٥ ، ٤٩) (٥ / ٢٦١ ، ٤١٢) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ٢٢١) ، والفصل في الملل والنحل (٢ / ٨٧) (٤ / ٦٧) (٥ / ٧٠ ، ٧٣ ، ٨٦) ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص ٨٣) ط. دار الكتب العلمية ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (٢ / ٣٤٥ ، ٣٤٦) (٤ / ٢٣٧) (٦ / ٤٣٣) (٧ / ١٠٥ ، ٤٦٦) (٨ / ٢٨٢) ، والنبوات له (ص ١٦ ، ٢٧ ، ١١٢ ، ١٦٢) ، والعقيدة الأصفهانية (ص ١٢٠) ، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ١٢٠ ، ٢٤٩) ، والبرهان المؤيد للرفاعي (ص ٢٢) ، وأعلام النبوة للماوردي (ص ٢٢ ، ٨٧ ، ٩٣ ، ٩٦) ، والمواقف للإيجي (٣ / ٣٥٠ ، ٣٥٨ ، ٣٧٦ ، ٣٨٩ ، ٥٦٦ ، ٥٧٢) ، والتبصير في الدين للأسفراييني (ص ١٥١) ، والتمهيد للباقلاني (ص ١٥٦) ، وإيثار الحق لمحمد القاسمي (ص ٧٢).

٢٤٩

على صدقه من حيث لفظه البليغ ومعناه المبين فنقول كما تميز نوع الإنسان عن أنواع الحيوانات بالنطق المعبر عن الفكر وصار ذلك شرفا وكرامة له كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] ، كذلك تميز لسان العرب ولغتهم من سائر الألسن واللغات بأسلوب آخر من عذوبة اللسان ورطوبة اللفظ وسهولة المخارج والتعبير عن متن المعنى الدائر في الضمير بأوضح عبارة وأصح تفسير وصار ذلك شرفا وكرامة لهم كما قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] ، وكذلك تميز لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لسان العرب بأسلوب آخر من الفصاحة المبينة والبلاغة الفائقة والبراعة المطابقة لما في ضميره من المعاني المبينة والحقائق الرزينة كما لا يخفى على من أنصف واعتبر واختبر كلماته واستبصر وصار ذلك شرفا وكرامة كما قال : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أفصح العرب وأنا أفصح من نطق بالضاد» وكذلك تميز القرآن عن سائر كلماته بأسلوب آخر خارج عن جنس كلام العرب وعن كلماته أيضا وبنوع آخر من الفصاحة والجزالة والنظم والبلاغة ما لم يعهده العرب في نظمهم ونثرهم وسجعهم وشعرهم بحيث لو قوبل أفصح كلماتهم بسورة واحدة من القرآن كان التفاوت بينهما أكثر من التفاوت بين لسان العرب وبين سائر الألسن ولو خاير مخاير بين كلمات النبي نفسه وبين ما نزل عليه من الكتاب المهيمن على الكتب كلها كان الفرق بينهما فرق ما بين القدم والفرق والصرف بينهما صرف ما بين الولاية والصرف فعلم ضرورة وقطعا أن الذي جاء به وحي يوحى إليه وتنزيل ينزل عليه دلالة له على صدقه ومعجزة له على فصحاء العرب وبلغاء أهل اللسان وشعراء ذلك الزمان فتحدى بذلك تحدي التعجيز عن الإتيان بمثله كتابا وقرآنا (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) [القصص : ٤٩] ، ثم ثنى ذلك فقال فأتوا بحديث مثله ولما عجزوا عن الإتيان بمثله نزل عن ذلك حين قال القوم إنه افتراه فقال (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] ونزل عن العشر إلى سورة مثله فقال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣] ، ولما ظهر عجزهم

٢٥٠

وبان خزيهم أنذرهم صاحب التنزيل وحذرهم المتحدي بالدليل (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] ، وكيف لا يكون التعجيز ظاهر ظهور الشمس والكتاب يقرأ عليهم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] ، الآية أفلم يكن بليغ من بلغاء العرب وفصيح من فصائحهم يتصدى لمعارضة هذه الدعوى العريضة الواسعة لنوعي الجن والإنس وقد خيروا بين معارضة القرآن والخروج بالسيف والسنان فكيف اختاروا الأشد على الأضعف وآثروا ما فيه بذل المهج والنفوس واستحلال النساء واسترقاق الأولاد واستباحة الأموال على أهون الأمور وأيسر ما في المقدور وهو معارضة سورة واحدة أفلا يكون ذلك عجزا ظاهرا ونكولا واضحا وإن استراب في ذلك مستريب تشكيكا لنفسه في مظان القطع واليقين وتسبيعا للغزالة بالطين فالنقد حاضر لم يبدل ولسان القرآن على رأس التحدي كما ورد في الخبر «القرآن حي يجري كما يجري الليل والنهار» ولسان المعارض عي عن المعارضة من مدة خمس مائة سنة وزيادة وبلغاء العرب قد اجتمعت لهم متانة الشعر في العصر الأول ولطافة الطبع من العصر الأخير أو لم يفدنا عجز الأولين والآخرين دلالة ظاهرة على أن مضمون القرآن حق وأن قول من أتى به صدق كيف ولو اعتبرت سورة بسورة اعتبار متأمل فيها منصف صادف كل سورة على حيالها اشتملت على صنف من الفصاحة وضرب من البلاغة والجزالة ولم تشاركها في ذلك سورة أخرى وربما تكون القصة واحدة والتعبير عنها مختلف اختلافا لا يخل بالمعاني ويكون أسلوب النظم والبلاغة نوعا آخر يباين الأولى واختبر هذا المعنى في قصة مثناة وبالخصوص في قصة موسى عليه‌السلام في سورة المص وقصته في سورة طه فمن ذا الذي يقدر على مثل ذلك من البشر وكيف يصل إلى غايته القوة المنطقية الإنسانية ولهذا لما فطنت البلغاء من العرب لبديع النظم والجزالة فيه قالوا (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ٢٤] هذا من حيث اللفظ.

وأما من حيث المعنى فما اشتمل عليه القرآن من غرائب الحكم وبدائع المعاني التي عجزت الحكماء والأوائل عن الإتيان بمثلها نوع آخر من الإعجاز خصوصا ممن نشأ يتيما بين الأميين من العرب ولم يقرأ كتابا ولم يدرس علما ولا تلقف من أستاذ ولا تعلم من معلم فلو لا أنه وحي محض ويوحى عليه وتنزيل نزل إليه وإلا فمن أين

٢٥١

لطبع مجرد يجود بمثله وأيضا فما يشتمل عليه القرآن من قصص الأنبياء والمرسلين كيف جرت دعوتهم ومن أين أجاب كلمتهم ومن نكل عنهم إلى أي حال آل أمرهم فمن لم يسمع ذلك من أحد ولا خط كتابا بيمينه ولا طالع كتب الأنبياء والتواريخ والأخبار معجز ظاهر ودليل على أن الحق باهر وهذا في قصة الماضين فما قولك في الإخبار عن الغيوب مما سيكون في ثاني الحال مما رأيناه طابق الحال وصدق المقال إذ أخبر أنه يظهره على الدين كله وقد أظهر وأخبر أنه غلبت الروم وقد تحقق وغير ذلك من الأخبار وكذلك ما اشتمل عليه القرآن من أنواع العبادات والمعاملات من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص والديات وأحكام السياسات إعجاز ظاهر إذ جمع فيها بين إصلاح المعاش ونجاة المعاد وبناها على قوانين كلية تجمع شمل العامة وتناظر عقل الخاصة ومن قرأ الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل والزبور تبين له الفرق الظاهر بينها وبين القرآن ؛ إذ كل ما اشتملت عليه من الحقائق العقلية والأحكام الشرعية على بسطها اشتمل عليه القرآن بأوضح عبارة وأوضح إشارة على اختصاصه ومن أراد أن يتخطى عما أقررناه إلى مفردات الحروف وكيفيات تركيبها وما فيها من الحكم والمعاني قضى منها العجب وبالجملة القرآن بصورة ألفاظه وعباراته معجز وبمعنى حقائقه وعجائبه معجب وهو دليل ظاهر على حقيقة ذاته وصدق المتحدي بآياته.

قال أهل الزيغ والباطل لنا على مساق ما ذكرتموه من إعجاز القرآن سؤالان أحدهما أن القرآن بمعنى المقروء والمكتوب صفة قديمة عندكم والقديم لا يكون معجزا وبمعنى القراءة هو فعل القارئ وتلاوته وفعل العبد لا يكون معجزا.

فإن قلتم : إن الرب تعالى يخلقه في الحال من غير كسب النبي قيل وفي أي محل يخلقه أفي لسانه ومن المعلوم أن الحرف والصوت القائم بلسانه ومخارج حروفه مقدورة له والمعجزة لا تكون مقدورة للعبد أم في محل آخر من شجرة أو لوح أو قلب ملك فالمعجزة ذلك المخلوق لا ما نطق به النبي فما هو معجزة لم نسمعه وما سمعناه ليس بمعجزة فما الجواب عن هذا السؤال؟.

والثاني : أنكم قلتم وجه إعجاز القرآن فصاحته وجزالته ونظمه وبلاغته فما حدود هذه المعاني أولا حتى نبين حقائقها فنتكلم عليها أهي بأفرادها معجزة أم بمجموعها وقد رأيناكم اختلفتم في أن القرآن معجزة من جهة صرف الدواعي أم من جهة ما اشتمل عليه من بديع النظم والفصاحة ومن قال بالقسم الثاني اختلف في أن الفصاحة بديعة أم الجزالة أم النظم ومن المعلوم الذي لا مرية فيه أن المعجز يجب أن يكون ظاهرا لكل من هو في حقه معجز ظهورا لا يستراب فيه البتة ومن قال منكم إنه

٢٥٢

معجز من حيث الفصاحة فقط جوز أن يكون في كلام العرب مثله من حيث النظم والجزالة ومن قال بالثاني فقد جوز المماثلة في الأول فلم يظهر ظهور انقلاب الجماد حيوانا والبحر يبسا والحجر الصلد عينا نضاخة إلى غير ذلك من معجزات الأنبياء عليهم‌السلام إذ ظهرت على قضية لم يبق للتردد فيها مجال.

قال أهل الحق : أما السؤال الأول فنقول القديم يستحيل أن يكون معجزة والمكتسب للعبد كذلك وللقرآن وجوه من المعجزات ولكل وجه وجوه من التقديرات فيجوز أن يقال إن التلاوة من حيث إنها تلاوة معجزة وتقدير الإعجاز فيها من وجهين أحدهما أن يخلق الله تعالى هذه الحروف المركبة وتلك الكلمات المنظومة في لسان التالي من غير أن يكون قادرا عليها ومحركا لسانه بقدرته واستطاعته فتمحض فعلا لله تعالى ويظهر إعجازه في نظمه المخصوص ويجوز أن يخلق الله في نفس النبي كلاما منظوما فيترجم عنه بلسانه ويكون تحريك اللسان مقدورا له لكن الكلام المعجز ما اشتمل عليه الضمير ونعت في الصدور كما قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٦ ، ١٧] ، أي في صدرك وقلبك فإذا قرأناه أي جمعناه فاتبع قرآنه ويجوز أن يخلق الله ذلك الكلام في قلب الملك أو في لسانه فيلقيه وحيا إلى قلب النبي ويعبر عنه النبي بلسانه كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠] ، أي تنزيلا ووحيا وكما قال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] ، ويجوز أن يكون قد خلق هذه العبارات المنظومة بعينها في اللوح المحفوظ فيقرأ جبريل عليه‌السلام منه ويقرأها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسمع النبي منه كما لو يسمع الواحد منا ويكون المعجز هو الكلام المنظوم وجبريل مظهر والنبي مظهر كما أن واحدا منا يقرأه ويكون مظهرا لكن إظهار جبريل إظهارنا ليدل على صدق النبي عليه‌السلام وهذا كما خلق الله تعالى الناقة في الصخرة ثم أظهرها منها عند دعوة صالح عليه‌السلام فيكون إظهار المعجزة مقرونا بالدعوى والتحدي لا إظهار المعجز كخلق المعجز في الدلالة على الصدق وينبغي أن ننبه هاهنا على هذه الدقيقة وهي أنا إذا روينا شعر الشاعر فنحس من أنفسنا قدرة على التلفظ بذلك الشعر ولا نحس من أنفسنا قدرة على نظم ذلك بل ربما يكون الراوي عديم الطبع في إنشاء الشعر فضلا عن نظم مخصوص فما المقدور منه وما غير المقدور فنقول إذا قرأنا شعرا من كتاب أو سمعناه من لسان وحفظناه ارتسم الخيال في القلب

٢٥٣

والنفس بذلك الشعر وتمكن منه ثم عبر بلسانه عنه فيكون المسموع والمحفوظ من حيث إنه سمعه وحفظه مقدورا له لكن النظم المرتب في المحفوظ والمسموع غير مقدور له وهو كما لو ألقى من لا يعرف الكتابة أصلا لوحا منقورا فيه سور منظومة على تراب ناعم حتى انتقش بها نقشا مطابقا كان الإلقاء مقدورا له والنقش غير مقدور له إذ ليس يعرف الكتابة أصلا فالارتسام في النفس والخيال كالانتقاش في التراب سواء فيبقى نظم الشعر نقشا بعد نقش زمانا بعد زمان أبد الدهر وكذلك ارتسام قلب النبي من إلقاء القرآن إليه وحيا وتنزيلا كانتقاش التراب الناعم بالنقش المنقور في اللوح فيكون المرتسم قلبه والمعبر عنه لسانه والرسم غير مقدور له بل تمحض ذلك ابتداعا من الله تعالى فهذا هو طريق وجوده معجزا.

وعلى طريقة أخرى ظهور كلام الباري تعالى بالعبارات والحروف والأصوات وإن كان في نفسه واحدا أزليا كظهور جبريل بالأشخاص والأجسام والأعراض وإن كان في نفسه ذا حقيقة أخرى متقدما على الشخص فإنه لا يقال انقلبت حقيقته إلى حقيقة الجسمية في شخص معين لأن قلب الأشخاص محال وإن قيل انعدمت حقيقة ووجدت حقيقة أخرى فالثاني ليس بجبريل فلا وجه إلا أن يقال ظهر به ظهور المعنى بالعبارات أو ظهور روح ما بشخص ما فكما صارت العبارات شخص المعنى كذلك صارت صورة الأعرابي شخص الملك وقد عبر القرآن عن مثل هذا المعنى (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ، فكذلك يجب أن تفهم عبارات القرآن.

والجواب عن السؤال الثاني فنحقق أولا حقائق الفصاحة والجزالة والنظم والبلاغة ونميز بين كل واحد منها ثم نبين أن الإعجاز في كل واحد أو في المجموع فنقول أولا قولا على سبيل المباحثة والبسط ليتضح الغرض والمعنى به ثم نقول قولا ثانيا على سبيل التحديد والضبط المنحصر الغرض والمعنى فيه اللفظ قد يكون دالا على المعنى دلالة مطلقة إما وضعا وإما مجازا وقد يكون دالا على المعنى بشرط أن يكون مفصحا عن كنه حقيقته معبرا عن غرض المتكلم وإرادته والقسم الأول مثل قولنا تحرك الجسم فإنه يطلق على حركة الجمادات والنبات والحيوان والإنسان والسماء والأرض وكل ما هو قابل للحركة ثم إذا وضع اللفظ لموضوع خاص عبر عن تلك الحركة بعبارة أخص كما ورد في القرآن (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) [الطور : ٩ ، ١٠] ، فإن المور أخص دلالة من السير وهما أخص من

٢٥٤

الحركة وذلك أن المور حركة لطيفة لجسم لطيف وذلك كالشعاع يذهب شعاعا بخلاف السير فكان المور المضاف إلى السماء والسير المضاف إلى الجبال مفصحا عن متن الغرض مبينا عن المعنى اللائق به وكان أفصح من تحركت السماء وسارت وجاءت وذهبت ثم هو مع فصاحته لفظ جزل لأنه متلاقي التركيب متقارب المخارج سهل التلفظ به مطابق المعنى وذلك هو معنى الجزالة وقد توجد الجزالة والفصاحة في لفظ واحد وقد توجد في ألفاظ كثيرة وجمل من الكلام غير يسيرة ولا بدّ من نظير تلك الكلمات.

فالنظم يطلق على مطلق التركيب والترتيب لكنه ينقسم اقساما فقد يقع ركيكا وقد يقع رقيعا ما دونها درجة ما تتحقق في المحاورة المعتادة وفوقها ما تتحقق في المكاتبة والمراسلة وفوقها درجة ما تذكر في الخطابة والمواعظ وفوقها درجة ما ينتظم به الشعر وليس فوقها درجة للنظم عند العرب فهو على أقسام لا تنضبط ولذلك سمي الشعر نظما وما سواه نثرا ثم إذا اجتمعت الفصاحة والجزالة والنظم أطلق عليها اسم البلاغة من بلوغ الكلام درجة الكمال هذا قولنا على سبيل المباحثة والبسط.

أما قولنا على سبيل التحديد والضبط فنقول الفصاحة عبارة عن دلالة اللفظ على المعنى بشرط إيضاح وجه المعنى وإيضاح الغرض فيه والجزالة عبارة عن دلالة اللفظ على المعنى بشرط قلة الحروف واختصارها وتناسب مخارجها وربما يجتمع المعنيان فيكون اللفظ فصيحا جزلا معا فتجتمع معان كثيرة في ألفاظ يسيرة كما يقال نفل الحر ونصيب المفضل ومثاله في القرآن (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وربما يتباينان.

والنظم ترتيب الأقوال بعضها على بعض ثم الحسن فيه يتقدر بقدر تناسب الكلمات في أوزانها وتقاربها في الدلالة على المعنى وذلك أنواع وأصناف.

والبلاغة عبارة عن اجتماع المعاني الثلاثة أعني الفصاحة والجزالة والنظم بشرط أن يكون المعنى مبينا صحيحا حسنا ومن المعلوم أن القرآن فاق كلام العرب بمحاورتها ومراسلاتها وخطبها وأشعارها فصاحة وجزالة ونظما بحيث عجزت عن معارضتها عجز من لم يقدر عليها أولا وآخرا لا عجز من قدر في الأول وعجز في الآخر وإلا لكانوا يعارضونه بما تمهد عندهم من الكلام الأول فالقرآن معجز من حيث البلاغة التي هي عبارة عن مجموع المعاني الثلاثة والعرب قد أحست من أنفسها أن القرآن خارج عن جنس كلامهم جملة وكذلك كل من كان له أدنى معرفة بالعربية يعرف إعجازه إلا أن البلغاء يعرفون وجوه الإعجاز فيه على قدر مراتبهم في البلاغة

٢٥٥

ومن كان أفصح وأبلغ كانت معرفته أشد وأوضح كما أن من كان أسحر في زمن موسى كان علمه ومعرفته بإعجاز العصا أوفر ومن كان أحذق في الطب في زمن عيسى كانت معرفته بإعجاز إحياء الموتى وإبراء الأبرص والأكمه أكثر ومن كان أعلم في علم الطبيعة في زمن الخليل كان نفسه بإعجاز السلامة عن النار أشد وأصدق والاختلاف في وجوه الإعجاز لا يوهن وجه الإعجاز ولهذا لو اجتمع عند العالم بوجوه الإعجاز العلم بوجوه الحكم والمعاني الشريفة فيه كانت معرفته أكثر ولو ضم إلى ذلك العلم بوجوه تمهيد السياسات العامة والعبادات الخاصة والأمر بمكارم الأخلاق والنهي عن ذميمات الأفعال والحث على معالي الشيم والهمم كانت معرفته بالإعجاز في غاية الانتظام ونهاية الإبرام ومن ذا الذي يصل بفكره الضعيف وعقله المميز بمحاديات الوهم والخيال إلى الحكم المحققة في تركيب الحروف وترتيب الكلمات التي هي كالمواد والصور ومطابقتهما لعالم الخلق حتى ينطبق عالم الأمر على عالم الخلق وذلك العلم الأخص بالأنبياء عليهم‌السلام وهنالك تضل الأفهام وتكل الأوهام وتعود العقول البشرية عند الأسرار الإلهية هباء وتستحيل الحواس الإنسانية عند خواص الحكم الربانية عفاء (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ، ولقد قصر من قصد إعجاز القرآن في سورة طويلة وحصره في آيات مخصوصة انظر إلى أول آية نزلت كيف اشتملت على وجوه من البلاغة والحكم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق : ١ ، ٢] ، فمن أراد أن يعبر عن تقدير الخالقية عموما لجميع الخلق في العالم ثم خصوصا للإنسان المطابق خلقته بخلقة العالم بأسره كيف يعبر عنه بلفظ أفصح منه بيانا وأوجز لفظا وأشرف نظما وأبلغ عبارة ومعنى ثم انظر كيف خصص اسم الربوبية في حال تربيبه وكيف عمم الخلق أولا ثم خصص وكيف ابتدأ خلق الإنسان من العلق حيث كانت مرتبته في حال قبول صورة الوحي مرتبة العلق من قبول صورة الإنسان إلى أن انتهى إلى البلاغ السابع من قبول جميع القرآن (الرَّحْمنُ ١ عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ) [الرحمن : ١ ـ ٣] ، كما ينتهي إلى المرتبة السابعة حتى يقبل علم البيان (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٤] ، وكيف قرن (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ

٢٥٦

يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ـ ٥] ، فالحكمة في اقرأ واقرأ أولا وثانيا وربك الأكرم أبلغ لفظا ومعنى من اقرأ باسم ربك ثم عمم التعلم ثم خصص الإنسان كما عمم الخلق ثم خصص الإنسان وكيف اجتمعت الفصاحة في ألفاظ بأسفار وجوه المعاني وكيف اقترنت بهذه الجزالة على قلة حروفها وخفة كلماتها من غير إخلال في الدلالة وكيف انتظمت بأشرف تركيب من حيث اللفظ وأوضح ترتيب من حيث المعنى وكيف لاحت فيها البلاغة برطوبة الألفاظ ومتانة المعاني حتى كأنها جمعت علم الأولين والآخرين من تقرير العموم والخصوص وتقدم الأمر على الخلق وإضافة الهداية والخلق إليه (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] ، فتبين من هذه القرائن أن القرآن بجملته معجز وذلك في حق من لا يعرف دقائق البلاغة وحقائق المعاني وبعشر سور منه معجز في حق قوم وبسورة واحدة معجز في حق قوم وبآية واحدة معجز في حق قوم وتتقدر مقادير الإعجاز على قدر الدراية والتحقيق.

ومن العجب أن المعتزلة قالوا بوجوب النظر قبل ورود الشرع وبنوا ذلك على أن العاقل المفكر لا يخلو عن خاطرين يطريان على قلبه أحدهما يدعوه إلى النظر حتى يعرف الصانع فيشكر فيثاب على شكره والثاني يمنعه عن ذلك فيختار بعقله أحق الطريقين بالأمن ويرفض أحقهما بالخوف فيقال لهم إذا تحدى النبي بالرسالة وأخبر أنه رسول الله كان خبره محتملا للصدق والكذب فهلا طرأ الخاطران في تصديقه وتكذيبه ثم يحصل الخبر بالصدق أولى فإن فيه الأمن إذ لو كان صادقا فكذبه خسر ولو كان كاذبا فصدقه لم يخسر فإنه إن يكن كاذبا فعليه كذبه وفي طلب المعجزة منه خطر آخر وهو جعل الخبر أولى بالكذب فكأنه يكذبه في الحال إلى أن تظهر المعجزة فيصدقه في ثاني الحال وعند المعتزلة القرآن من جنس كلام العرب فإنهم يقدرون على مثله قدرتهم على كلامهم فلم يستمر لهم التمسك بإعجاز القرآن.

قال أهل الزيغ : إذا قال النبي إني رسول الله إليكم وإنه أنزل علي كتابا أقرأه عليكم فما المعني بالرسالة عن الله تعالى وما معنى قوله إني نبي الله أفترجع الرسالة والنبوة إلى صفة قائمة بذاته بها يستحق أن يخاطب الناس بالأوامر والنواهي عن الله تعالى أم ترجع إلى إخبار الله تعالى إنه رسولي فإن كان الأول فما حقيقة تلك الصفة وإن كان الثاني فكيف يتصور أن يكلم الله بشرا فإن الذي يسمعه البشر من الكلام حروف وأصوات وعندكم كلامه ليس بحرف ولا صوت وإن كان وحيا من الله تعالى فما معنى الوحي وكيف يتصور أن ينزل ملك على صورة البشر فإن كان الملك

٢٥٧

شخصا جسمانيا فيجب أن يكون على صورة بشر حتى يكلمه بكلام البشر وإن كان جوهرا روحانيا فكيف يتصور أن يتشخص ويظهر بشخص جسماني أليس نفس الدعوى إذا لم تكن معقولة في نفسها لم يجز مطالبته بالبرهان عليها فلا نزول الملك معقول ولا نزول القرآن الذي هو كلامه معقول بل هما مستحيلان عند العقلاء بأسرهم وأيضا فإنه ادعى بعد ذلك صعوده إلى السماء والجسماني الكثيف يستحيل أن يصعد والأجرام العلوية لا تقبل الخرق وإذا اشتمل كلامه على ما يستحيل في العقل حكم ببطلان أصل دعواه إلى غير ذلك مما ادعى أنه شاهد العوالم وأخبر عن حشر الأجسام والأحياء في القبور والميزان والصراط والحوض بعد ذلك فإن هذه غير معقولة بل قبولها على الوجه الذي يدعيه مستحيل.

قال أهل الحق : النبوة ليست صفة راجعة إلى نفس النبي ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه ولا كسبه ولا استعداد نفسه يستحق به اتصالا بالروحانيات بل رحمة من الله تعالى ونعمة يمن بها على من يشاء من عباده ، وكما قال نوح عليه‌السلام (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠] ، إلى غيره من الأنبياء وسيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كما قال الأول (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] ، (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: ١٨٨] ، لعمري لا تعدم نفس النبي ومزاجه كمالية في الفطرة وحسنا في الأخلاق وصدقا وأمانة في الأقوال والأفعال قبل بعثه لأنه بها استحق النبوة أو وصل بسببها إلى الاتصال بالملائكة وقبول الوحي كما قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩] ، وكما قال القوم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، قال سبحانه : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، فشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شخص الرحمة ورحمة مشخصة ورسالته إلى الخلق رحمة ونعمة كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، (يَعْرِفُونَ

٢٥٨

نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) [النحل : ٨٣] ، والأنبياء خيرة الله في خلقه وحجة الله على عباده والوسائل إليه وأبواب رحمته وأسباب نعمته (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] ، (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) [آل عمران : ٣٣] الآية ، فكما يصطفيهم من الخلق قولا بالرسالة والنبوة يصطفيهم من الخلق فعلا بكمال الفطرة ونقاء الجوهر وصفاء العنصر وطيب الأخلاق وكرم الأعراق فيرقيهم مرتبة مرتبة حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة وكملت قوته النفسانية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكا وأنزل عليهم كتابا ولا تظن أن الملك يتجسد شخصا بمعنى أن يتكاثف بعد ما كان جسما لطيفا تكاثف الهواء اللطيف غيما كما ظنه قوم ولا أنه تعدم حقيقته ويوجد شخص آخر ولا أنه تنقلب حقيقته إلى حقيقة أخرى فإن كل ذلك محال بل الجواهر النورانية خصت بقوة الظهور بأي شخص أرادوا كما قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ، وكما قال (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ، ولا نجد له مثالا في هذا العالم إلا تمثل تعلق أرواحنا بأجسادنا غير أن التمثل يستدعي شخصا كاملا في الحال والتعلق يستدعي شخصا يتكون مرتبة فمرتبة سلالة ونطفة وعلقة ومما نذكره مثالا تمثل المعنى الذي في الذهن بالعبارات التي في اللسان وبالكتابة التي في اللوح غير أن اللفظ دليل على المعنى وكل دليل مظهر المعنى من وجه وكل مظهر دال على المعنى من وجه من غير حلول الأعراض في الجواهر ولا نزول الأجسام على الأجسام وإن تخطيت منه إلى ظهور صورة الشخص في المرآة الصقيلة ووقع الظل على الماء الصافي قارنت المعنى مثالا وإدراكا.

ألستم تقولون معاشر الصابئة المحيلين نزول الروحاني على الجسماني إن كل روحاني له هيكل يظهر به ويتصرف فيه ويستوي عليه وكل هيكل في العالم العلوي له شخص في العالم السفلي يظهر به ويتصرف فيه ويستوي عليه غير إنكم اتخذتم بصنعتكم أصناما آلهة وهي مظاهر تلك الهياكل التي هي مظاهر تلك الروحانيات.

ونحن معاشر الحنفاء أثبتنا أشخاصا ربانية مفطورة بوضع الخلقة على اصطفاء من الجواهر واجتباء من العنصر مناسبة لتلك الجواهر الروحانية مناسبة النور للنور والظل للظل وللنبي عليه‌السلام طرفان بشرية ورسالية (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ

٢٥٩

إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] ، فبطرف يقبل الوحي وبطرف يؤدي الرسالة والوحي هو إلقاء الشيء إلى الشيء بسرعة فكل صورة علمية يقبلها بطرفه الروحانية عن الملائكة الذين هم رسل ربهم إليه دفعة واحدة كوقوع الصورة في المرآة فهو وحي وأقرب مثال له إلينا المنام الصادق فإن الرائي يرى كأنه نزل بستانا واجتنى ثمارا وخاض في الماء وتحدث أحاديث كثيرة من سؤال وجواب وأمر ونهي بحيث لو أملاها ملأت أوراقا وشحنت صفائح صحائف وكل ذلك في غفوة كأنها لحظة وما ذاك إلا لأن الصور والفعلية القولية إذا كانت من عالم المعاني بواسطة تلك المنام لم يستدع زمانا ولا ترتيبا بحيث يستدعيها حال اليقظة بل وقعت دفعة واحدة في نفس الرائي حتى انتقشت فيه ثم عبر عنه بعبارات كثيرة وعبر المعبر عن صورها الخيالية إلى معانيها العقلية ولذلك صارت الرؤيا الصادقة جزءا من أجزاء النبوة كما صارت التؤدة والأناة وحسن السمت جزءا من أجزاء النبوة فالنبوة إذا جملة ذات أجزاء وتلك الجملة بمجموعها لا تتحقق إلا لمن اصطفاه الله تعالى لرسالته وبعض أجزائها قد ثبت للصالحين من عباده فيبلغون إلى ذلك الجزء بطاعتهم وعبادتهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» أما مجموعها من حيث المجموع فلا يصل إليه أحد بكسبه واستطاعته.

وأما نزول كلام الباري تعالى فمعنى نزول الملك به فليس يستدعي النزول انتقالا فإنك تقول نزلت عن كلامي ونزل الأمير عن حقه وقد ورد إلى الخبر نزول الرب تعالى إلى السماء الدنيا وورد في القرآن مجيئه وإتيانه وذلك لا يستدعي انتقالا كما حقق في التأويلات ثم الكلام الذي هو أمره الأزلي لا يطلق عليه النزول إلا بمعنى نزول الآيات الدالة عليه ثم الإلزام على الخصم إنما يظهر إذا أثبتنا له أمرا ونهيا وإثبات الأمر إنما يظهر إذا توافقنا على أنه تعالى ملكا ومالكا وله أن يتصرف في ملكه بالأمر والنهي والتكليف على من ثبت له اختيار وإذا حصل وفاقنا على هذه المراتب وعلمنا أن كل واحد من آحاد الناس لا يتأهل لقبول أمر الله تعالى وحيا له تعين بالضرورة واحدا اصطفاه من عباده (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] ، فدعواه نفسها من الجائزات العقلية وإذا كانت الدعوى مقرونة بدليل الصدق وجب التصديق ووجب أن لا يتراخى دليل الصدق عن نفس الخبر فإن المخاطب مكلف بالتصديق في الحال ولا يتراخى الوجوب عليه إلا أن يعرف الصدق بل التمكن كاف كما بينا ولكن التمكن إنما تحقق من جانب المكلف

٢٦٠