نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

منظومة وأصوات مقطعة ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن الصوت أعمّ من الكلام فإن كل كلام عنده صوت وليس كل صوت كلاما ثم الصوت إذا قام به سمي المحل مصوتا ولا يرجع حكم الصوت إلى فاعل الصوت حتى يقال الباري تعالى إذا خلق أصواتا في محل هو مصوت والكلام الذي هو أخص كيف يرجع حكمه إليه حتى يقال هو متكلم بكلام يخلقه في محل بل يرجع حكم الصوت من حيث هو معنى من المعاني إلى المحل ويرجع حكم الفعل من حيث هو فعل من الأفعال إلى الفاعل كذلك الكلام الذي هو أخص منه فيا عجبا بأن صار أخص صار حكمه أعم أو ليست الحركة إذا قامت بمحل سمي بها متحركا سواء كانت الحركة ضرورية أو اختيارية ثم إذا خصصت الحركة بأن كانت أصواتا تسمع أو حروفا تفهم أو كلمات تعقل انقطع حكمها عن المحال وعاد ما يجب اختصاصه بالمحل إلى الفاعل الذي لا ينسب إليه إلا الأعم فعرف من هذه الوجوه أن اختصاص الكلام بالمحل الذي قام به لم يبطل ومن الدليل على ذلك أن من سمع كلاما من الغير علم على القطع والبتات أنه المتكلم به ولا يقف معرفة ذلك على معرفة كونه فاعلا بل ربما لا يخطر بباله كونه فاعلا أصلا وعن هذا انتسب إليه القول فيقال قال ويقول وهو قائل وبخطاب الأمر والنهي يخاطب قل ولا تقل ويفرق الفارق ضرورة فرقا معقولا بين قولهم قل وبين قولهم افعل فإن مساق قولهم قل هو بعينه مساق قولهم تحرك واسكن وقم واقعد وإن كان المعنى في الموضعين مخلوقا مكتسبا بالوجهين كما عرفت ثم رجع أخص وصف الحركة إلى المحل الذي قامت به الحركة كذلك القول ينبغي أن يرجع أخص وصفه إلى المحل الذي قام به وهذا قاطع لا جواب عنه ونحرر هذا المعنى.

ونقول : العرضية أعم من الكونية والكونية أعم من الحركية والحركة أعم من الصوت والصوت أعم من الحروف والحروف أعم من الكلام ثم يجب وصف المحل بكونه موصوفا بعرض وذلك العرض بعينه كون والكون بعينه حركة والحركة بعينها صوت والصوت حرف والحرف كلام فيجب أن يوصف المحل بكونه ذا كلام ومتكلما كما وجب وصفه بكونه ذا حركة ومتحركا ومن جعل المعنيين معنى واحدا وسمى النسبتين نسبة واحدة كان عن المعقول خارجا.

ومما يتمسك به في دفع قولهم المتكلم من فعل الكلام إن الله تعالى لو خلق في المبرسم وبعض الممرورين إن قال بلسانه قمت وقعدت لم يخل الحال من أحد أمرين إما أن يقال يكون المتكلم بهذه الحروف المنظومة والأصوات المقطعة هو خالقها وفاعلها فيلزم أن يكون البارئ قائلا قمت وقعدت وإما أن يقال المتكلم بهذه

١٦١

الكلمات هو صاحب البرسام دون غيره فقد بطل قولهم إن المتكلم ليس من قام به الكلام بل من فعل الكلام دون غيره.

ثم إنا نلزمهم عليه عجائب أخر نشرحها هاهنا فإنه قد وقع الاتفاق على أن المعجزات من فعل الله تعالى غير مكتسبة لجنس الحيوان والبشر ثم من المعجزات ما هو نطق وقول يخلقه الله في جماد أو حيوان مثل تكليم الشاة المسمومة «لا تأكل مني فإني مسمومة» ومثل تسبيح الحصى في يد الرسول عليه‌السلام وشهادته برسالته ومثل مكالمته الضب ومثل منطق الطير وتأويب الجبال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] إلى غير ذلك مما قد استفاضت الأخبار الصحيحة بها فكل ذلك فعل الله تعالى فالمتكلم عندهم من فعل الكلام فيجب أن يكون الباري تعالى متكلما بها إذ كان فاعلا لها وهو محال ثم إن النجارية وافقت الأشعرية على أن الباري خالق أعمال العباد فيلزمهم أن يقولوا هو قائل بقولهم متكلم بكلامهم إذا كان فاعلا لها.

ومما نلزمهم أن القادر على الحقيقة من يكون قادرا على الضدين والكلام معنى له أضداد فإذا قالوا المتكلم من فعل الكلام يلزمهم أن يقولوا الساكت من فعل السكوت حتى لو خلق سكوتا في محل كان ساكتا ولو خلق أمرا في محل كان آمرا ولو خلق خبرا في محل كان مخبرا ثم من الأوامر ما يكون خيرا ومنه ما يكون شرا ومن الأخبار ما يكون صدقا ومنه ما يكون كذبا فيلزمهم إضافة الكل إلى الله تعالى وهو محال وأما ما أوردوه على قدم الكلام واتحاده فنفرد لهذين الإشكالين مسألتين ونتكلم عليهما بما فيه مقنع إن شاء الله تعالى لكنا نعارضهم هاهنا بما التزموه مذهبا.

فنقول : من المعلوم الذي لا مرية فيه أن النطق اللساني مركب من حروف والحروف مقطعات من أصوات وما من حرف يتفوه به الإنسان وينطق به اللسان إلا ويفنى عقيب ما وجد وينعدم كما يتجدد ويعقبه حرف آخر إلى أن يصير مجموع الحرفين والثلاث وأكثر كلمة ويصير مجموع الكلمتين والثلاث وأكثر كلاما مفهوما مشتملا على معنى من المعاني معلوم لو لا ذلك المعنى لم يسم الحروف والكلمات كلاما فإذا كل الحروف والكلمات محالها اللسان وكل المعاني والمفهومات محالها الجنان وبمجموع الأمرين سمي الإنسان ناطقا ومتكلما حتى لو وجدت الحروف اللسانية منه دون المعاني الجنانية سمي مجنونا لا متكلما إلا بالمجاز ولو وجدت المعاني الجنانية منه دون الألفاظ اللسانية سمي مفكرا لا متكلما إلا بالمجاز وإن كان بين الموضعين فرق وهو كالفرق بين المؤمن بلسانه دون قلبه وبين المؤمن بقلبه دون لسانه غير أنا

١٦٢

نسامحهم هاهنا حتى يتضح الحق من السقيم ، ثم نعطي كل قسم حقه.

فنقول : لو لا مطابقة الألفاظ اللسانية معانيها النفسانية لم يكن كلاما أصلا بل لو لا سبق تلك المعاني في النفس على العبارات في اللسان لم يمكن أن يعبر عنها ولا أن يدل عليها ويوصل إليها وهذا في حقنا ظاهر فما قولكم في حق الباري سبحانه أفيخلق حروفا وكلمات في محل ولا دلالة لها على معان وحقائق أم لها دلالة ، فإن كان الأول فهو من أمحل المحال وإن كان الثاني حقا ، فما مدلول تلك العبارات وأين ذلك المدلول ولا جائز أن يقال مدلولها علم الباري تعالى وعالميته فإن العلم لا اقتضاء فيه والمدلول هاهنا يجب أن يكون اقتضاء وطلبا والعلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به وخلاف المعلوم لا يقتضيه العلم وقد يكون من القول ما يقتضي خلاف المعلوم والعلم من حيث هو علم يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل والاقتضاء والطلب لا يتعلق بالواجب والمستحيل وكذلك الإرادة لا تصلح أن تكون مدلولة لها فإن الإرادة وإن تخيل فيها اقتضاء وطلب فلا يتخيل فيها خبر واستخبار ووعد ووعيد وقد تحقق في العبارات هذا المعنى وكذلك القدرة لا تصلح أن تكون مدلولة لها فإنها بخاصيتها بعيدة عن الاقتضاء والطلب أعني طلب الفعل من الغير فلا بد إذا من مدلول قطعا ويقينا وإلا خلت العبارات عن المعاني وطاحت في أدراج الأماني كسير السواني وذلك المدلول يجب أن يختص بالقائل اختصاص وصف وصفة حتى تستقيم الدلالة وتتضح الأمارة ثم ذلك المدلول أهو واحد وحدة الموصوف أو كثير كثرة العبارات أو هو قديم قدم الموصوف أو محدث حدوث العبارات فذلك محل الاشتباه في الموضعين ومجال النظر في الطرفين وملتطم الأمواج عند التقاء البحرين.

١٦٣

القاعدة الثالثة عشرة

في أن كلام الباري واحد (١)

ذهبت الأشعرية إلى أن كلام الباري تعالى واحد وهو مع وحدته أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ، وذهبت الكرامية إلى أن الكلام بمعنى القدرة على القول معنى واحد وبمعنى القول معان كثيرة قائمة بذات الباري تعالى وهي أقوال مسموعة ، وكلمات محفوظة تحدث في ذاته عند قوله وتكلمه ولا يجوز عليها الفناء ولا العدم عندهم ، وذهبت المعتزلة إلى أن الكلام حروف منظومة وأصوات مقطعة شاهدا وغائبا لا حقيقة للكلام سوى ذلك ، وهي مخلوقة قائمة بمحل حادث إذا أوجدها الباري تعالى سمعت من المحل وكما وجدت فنيت ، وشرط أبو عليّ الجبائي البنية المخصوصة التي يتأتى منها مخارج الحروف شاهدا وغائبا ، ولم يشترط ذلك ابنه أبو هاشم في الغائب.

قالت الأشعرية : إذا قام الدليل على أن الكلام معنى قائم بذات الباري تعالى ، وكل معنى أو صفة له فهي واحدة ، وكل ما دلّ على أن علمه وقدرته وإرادته واحدة ، فذلك يدل على أن كلامه واحد ، وذلك أنه لو كان كثيرا لم يخل إما أن يكون أعدادا لا تتناهى وإما أن يكون أعدادا متناهية فإن كان أعدادا لا تتناهى فهو محال لأن ما حصره الوجود من العدد فهو متناه وإن اقتصر على عدد دون عدد فاختصاصه بالبعض دون البعض يستدعي مخصصا والقديم لا اختصاص له والصفة الأزلية إذا كانت متعلقة وجب عموم تعلقها بجميع المتعلقات لأن نسبتها إلى الكل وإلى كل واحد نسبة واحدة فلئن تعلقت بواحدة تعلقت بالكل ، وإن تخلفت عن واحدة تخلفت عن الكل وخصومنا لو وافقونا على أن الكلام في الشاهد معنى في النفس سوى العبارات القائمة باللسان ، وأن الكلام في الغائب معنى قائم بذات الباري تعالى سوى العبارات التي نقرؤها باللسان ونكتبها في المصاحف لوافقونا على اتحاد المعنى لكن لما كان الكلام لفظا مشتركا في الإطلاق لم يتوارد على محل واحد فإن ما يثبته الخصم كلاما فالأشعرية تثبته وتوافقه على أنه كثير وأنه محدث مخلوق وما يثبته الأشعري كلاما

__________________

(١) انظر : العقيدة الأصفهانية (ص ٩٦) ، وتبيين كذب المفتري (ص ٣٠٢) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٨٨ ، ٨٩).

١٦٤

فالخصم ينكره أصلا ، فكيف يصح منه كلامه في وحدته وكونه أزليا قديما ، ولكن ليس يتكلم الخصم في هذه المسألة إلا على سبيل الإلزام وإيراد الإشكال.

قالت المعتزلة : لو كان كلامه تعالى واحدا لاستحال أن يكون مع وحدته أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ووعدا ووعيدا فإن هذه حقائق مختلفة وخصائص متباينة ومن المحال اشتمال شيء واحد له حقيقة واحدة على خواص مختلفة نعم يجوز أن يكون معنى واحدا يشمل معاني مختلفة كالجنس والنوع فإن الحيوانية معنى واحد يشمل معاني مختلفة وكذلك الإنسانية تشمل أشخاصا مختلفة لكن لا يتصور وجود المعنى الجنسي إلا في الذهن ، ويستحيل أن يتحقق في الوجود شيء واحد هو أشياء مختلفة وحقيقة واحدة هي بعينها حقائق مختلفة حتى تكون حقيقة واحدة علما وقدرة وإرادة وسوادا وحركة فإن ذلك يرفع الحقائق ويؤدي إلى السفسطة فنسبة الأمر والنهي والخبر والاستخبار والوعد والوعيد وهي حقائق مختلفة إلى الكلام كنسبة العلم والقدرة والإرادة والسواد والحركة وهي حقائق مختلفة إلى شيء واحد وذلك محال ، وإذا كان لكل واحد من أقسام الكلام حقيقة خاصة فليكن لكل واحد منهما صفة خاصة وإن قلتم إن الكلام اسم جنس يشمل أنواعا صحيح غير أن الجنس لا يتحقق له وجود ما لم يتنوع بفصل يميز نوعا عن نوع والنوع لا يتحقق له وجود ما لم يتشخص بعارض يميز شخصا عن شخص وذلك كالعرض المطلق من حيث هو عرض لا يتحقق له وجود ما لم يتنوع بكونه لونا واللون لا يتحقق له وجود ما لم يتعين بكونه سوادا معينا وإلا فالعرض ليس له ذات على انفراده قائم بجوهر ثم يكون هو بعينه علما وقدرة ولونا وسوادا وطعما وأنتم أثبتم الكلام قائما بذات الباري تعالى على هذا المنهاج أنه حقيقة واحدة هي بعينها أمر ونهي وخبر واستخبار وذلك محال (١).

قالت الأشعرية : حكي عن بعض متقدمي أصحابنا أنه أثبت لله خمس كلمات هي خمس صفات الخبر والاستخبار والأمر والنهي والنداء ، فإن سلكنا هذا المسلك اندفع السؤال وارتفع الإشكال لكن المشهور من مذهب أبي الحسن أن الكلام صفة واحدة لها خاصية واحدة ولخصوص وصفها حد خاص وكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا خصائص ، أو لوازم تلك الصفة كما أن علمه تعالى صفة واحدة تختلف معلوماتها وهي غير مختلفة في أنفسها فيكون علما بالقديم والحادث والوجود والعدم وأجناس المحدثات وكما لا يجب تعدد العلم بعدد المعلومات ، كذلك لا يجب تعدد الكلام بعدد المتعلقات وكون الكلام أمرا ونهيا أوصاف الكلام لا أقسام الكلام كما

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ١١٤).

١٦٥

أن كون الجوهر قائما بذاته قابلا للعرض متحيزا ذا مساحة وحجم أوصاف نفسية للجوهر وإن كانت معانيها مختلفة كذلك كون الكلام أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا أوصاف نفسية للكلام ، وإن كانت معانيها مختلفة ، وليس اشتمال معنى الكلام على هذه المعاني كانقسام العرض إلى أصنافه المختلفة وانقسام الحيوان إلى أنواعه المتمايزة فأقسام الشيء غير وأوصاف الشيء غير ، وكل ما في الشاهد للكلام من الأقسام فهو في الغائب للكلام أوصاف والذي يحقق ذلك أن المعنى قد يكون واحدا في ذاته ويكون له أوصاف هي اعتبارات عقلية ثم الاعتبارات العقلية قد تكون من جهة النسب والإضافات وقد تكون من جهة الموانع واللواحق أليست الإرادة قد تسمى رضى إذا كان فعل الغير واقعا على نهج الصواب وقد تسمى هي بعينها سخطا إذا كان الفعل على غير الصواب كذلك يسمى أمرا إذا تعلق بالمأمور به ويسمى نهيا إذا تعلق بالمنهي عنه وهو في ذاته واحد وتختلف أساميه من جهة متعلقاته حتى قيل إن الكلام بحقيقته خبر عن المعلوم وكل عالم يجد من نفسه خبرا عن معلومه ضرورة فإن تعلق بالشيء الذي وجب فعله سمي أمرا وإذا تعلق بالشيء الذي حرم فعله سمي نهيا وإن تعلق بشيء ليس فيه اقتضاء وطلب سمي خبرا واستخبارا فهذه أسامي الكلام من جهة متعلقاته كأسامي الرب تعالى من جهة أفعاله.

ثم نقول ليس بيد الخصم في هذه المسألة إلا مجرد الإلزام على مذهب من قال بوحدة الكلام ، وإلا فمن أنكر أصل الكلام النفسي كيف يسمع منه القول في الوحدة ولكن العجب من هذا الملزم أنه التزم ما هو أمحل المحال في وحدة الحال التي هي مصححة الأحوال فإنه قال عالمية الباري سبحانه وقادريته حال وله حال توجب كونه عالما قادرا فقد أثبت حالا لها خصوصية العلم والقدرة وهي واحدة في نفسها وراء الذات ، فكيف يستبعد ممن يثبت كلاما هو أمر ونهي وخبر وهو في نفسه واحد مختلف الاعتبار والفلاسفة الذين هم أشد إنكارا للكلام الأزلي ووحدته أثبتوا عقلا واحدا في ذاته ووجوده وتفيض منه صور لا تتناهى مختلفة ربما تختلف أساميه باختلاف الصور والفيض عندهم كالتعلق عند المتكلم والعقل الأول كالكلام في وحدته واختلاف الكلام بالأمر والنهي كاختلاف الفيض بالصور.

وأوضح من ذلك مذهبهم في المبدأ الأول لا يتكثر بتكثر الموجودات اللازمة والصفات والأسماء إما إضافة وإما سلب وإما مركبة من إضافة وسلب فهلا قالوا في الكلام كذلك ، وهلا أثبتوا كلاما أزليا على منهاج إثباتهم له عناية أزلية حتى يكون هو المبدأ وإليه المنتهى تقديرا في أفعاله الخاصة ، ويكون أمره المبدأ وإليه الرجعى تكليفا على

١٦٦

أفعال عباده فيكون له الخلق في الأول والأمر في الثاني ويرجع الكل إليه (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣].

قالت المعتزلة : إثبات صفات نفسية لذات واحدة غير مستحيل لكن إثبات خواص مختلفة وصفات متضادة لشيء واحد هو المستحيل ومن المعلوم أن الأمر والنهي يتضادان ولهما خاصيتان مختلفتان فإثبات ذلك لكلام واحد محال ونحن لا ننكر اختلاف الأسامي لشيء واحد لاختلاف الوجوه والاعتبارات لكنا ننكر اختلاف الخواص المتباينة لشيء واحد ولا نشك أن كون الكلام أمرا ونهيا ليس من جملة النسب والإضافات فإن الصفات الإضافية تتحقق عند الإضافة ولا يتحقق عند رفع الإضافة ويتطرق إليها التبدل والتغير وليس كون الكلام أمرا ونهيا مما يتحقق عند الإضافة بل هما من أخص أوصاف الكلام سواء لاحظنا جانب المتعلق أو لم نلاحظ وكذلك لو رفعنا المتعلق عن الوهم لم يخرج الكلام عن كونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا والعلم بالقديم والحادث علم بالشيء على ما هو به وهو صفة صالحة لدرك ما يعرض عليه سواء كان قديما أو حادثا وجودا أو عدما والذي يوازيه في تعلقه تعلق الأمر بمأمور معين وتعلقه بمأمور آخر فاختلاف المأمورين كاختلاف المعلومين ثم اختلاف المعلومين لا يستدعي اختلاف العلمين كذلك اختلاف المأمورين لا يستدعي ولا يستدعي اختلاف الأمرين لكن كلاما هو في نفسه أمر وهو في نفسه نهي اختلاف وصفين متضادين لشيء واحد وهو محال ونظيره العرض في شموله أقسام الأعراض المختلفة الخواص إذ يستحيل أن يكون للعرض ذات محققة على حيالها وهي في ذواتها علم وقدرة وحياة ولون وكون وقولكم : إن الكلام مختلف الأوصاف لا مختلف الأقسام غير صحيح ، بل الأمر والنهي والخبر والاستخبار أقسام الكلام والكلام منقسم إلى ذلك إذ كل قسم ممتاز بخاصيته وحقيقته عن القسم الآخر واسم الكلام كالجنس لها لا كالموصوف بها ومن أمحل ما ذكرتموه قولكم ما هو أقسام في الشاهد فهو أوصاف في الغائب والحقائق كيف تتبدل والمعقولات كيف تتفاوت وهل ذلك إلا رفع الحقائق وحسم الطرائق.

وأما إلزام الحال فالجواب عنه أن المصحح للمختلفات المتضادات لشيء واحد غير وثبوت المختلفات المتضادات لشيء واحد غير فإن الحياة مصححة للعلم والجهل والقدرة والعجز والإرادة والكراهة إلى غير ذلك من المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة ولا يلزم ذلك ثبوت المختلفات المتضادات لحي واحد ونحن إذا أثبتنا حالا فهي مصححة أو في حكم المصحح ولم نثبت مختلفات متضادة لشيء واحد فهذا هو الفرق.

١٦٧

وربما يجيب المتفلسف عن إلزام الفيض المختلف عن العقل الواحد فيقول : أنا أقول كما أن العقل واحد ففيض العقل أيضا واحد لكن القوابل والحوامل تختلف فيختلف الفيض باختلاف المفيض كالشمس إذا أشرقت على زجاجات مختلفة الألوان أعطت كل زجاجة لونا خاصا لائقا بلونها القابل فتعدد الصور واختلافها إنما حصل من جانب المفيض لا من جانب الفائض وأنتم أثبتم كلاما واحدا وهو في نفسه أمر ونهي وخبر واستخبار فتعدد الخواص واختلافها فيها إنما حصل من جانب المتعلق لا من جانب المتعلق فلم تستقم التسوية بين البابين بالتعلق والفيض.

وأما كلامنا في المبدأ ووجوب الصفات له فأبعد في باب التنزيه عن الكثرة وأعلى في منهاج التقديس عن اختلاف الخواص له والصفات كلها راجعة إلى ذات واحدة هي واجبة الوجود بذاتها ووجودها مستند الموجودات كلها من غير أن يثبت له منها كمال أو يحدث له صفة وهو تعالى بكمال جلاله عديم الاسم والصفة من حيث ذاته ، وإنما يقال له اسم وصفة من حيث آثاره فقط وآثاره فاعليته الصادرة عنه لا معا بل على ترتيب الأول والثاني والراجعة إليه لا بغتة بل على تدريج الثاني والأول من غير أن يحدث كمال في ذاته لم يكن أو يستكمل من حادث كمالا كان جل جلاله بذاته وتقدست أسماؤه لصفاته.

قالت الأشعرية : نحن لا نثبت الحقائق المختلفة والخواص المتباينة لكلام واحد إنما يلزمنا التضاد بين أمرين يتقابلان من كل وجه فيتضادان فأما إذا لم يتقابلا بل اختلفت المتعلقات واختلفت الوجوه فلا يبعد اجتماعهما في حقيقة واحدة ونحن لو قلنا الأمر بالشيء والنهي عن ضده أو الأمر بالشيء والنهي عنه شيء آخر أو أمر شخص واحد بشيء ونهي شخص آخر عن ذلك الشيء لا يستحيل وكذلك إذا اختلف الزمان والمكان والوجه والاعتبار لم يحصل التضاد فلم يلزم الاستحالة وهذا إن ألزم علينا التضاد وإن ألزم علينا الاختلاف بين الحقيقتين دون التضاد فالجواب عنه أن اجتماع مثل ذلك في شيء واحد من وجوه مختلفة غير مستحيل فإن الجوهر يوصف بأنه متحيز وقابل للأعراض وذو حجم ومساحة ونهاية وهي صفات وأحوال ووجوه واعتبارات مختلفة وما استحال اجتماعها في حقيقة الجوهرية وقد قدمنا الفرق بين الأقسام وبين الأوصاف وقولهم إن كون الكلام أمرا ونهيا وخبرا أقسام الكلام إذ يقال الكلام ينقسم إلى كذا أو إلى كذا وكل قسم إنما يتميز عن قسم بأخص وصفه في قول صحيح في الكلام شاهدا فإن الكلام القولي في اللسان أو النطق النفساني في الذهن من جملة الأعراض التي يستحيل بقاؤها ولا تتحد ذاته وتتعدد جهاته بل ذاته متعددة بتعدد جهاته فما هو أمر بشيء غير وما هو نهي عن شيء غير ويضاد الأمر

١٦٨

نهي عن ذلك الشيء بعد اتحاد جهاته فتعدد الكلام بتعدد المتعلقات فصارت تلك الجهات أقساما وانفصل كل قسم عن قسم بأخص وصف له بعد الاشتراك في حقيقة الكلامية كالعلوم المختلفة إذا تعلقت بمعلومات مختلفة كانت أقساما مختلفة وامتاز كل علم عن قسمه بأخص وصفه بعد الاشتراك في حقيقة العلمية ثم إذا خصص الكلام بعلم قديم أو عالمية أزلية لم يلزم اتحاد الخصائص في ذات واحدة بل العلم الأزلي في معنى علوم مختلفة نائبا مناب الكل من غير أن تتكثر ذاته أو تختلف خواصه وكذلك الكلام الأزلي في حكم الأمر والنهي والخبر والاستخبار نائبا مناب الكل من غير أن تتكثر ذاته أو تختلف خواصه وهذا معنى قولنا الأقسام في الكلام الشاهد كالأوصاف في الكلام الغائب ، ثم بم تنكرون على من يقول الكلام معنى واحد حقيقته الخبر عن المعلوم ثم التعبير عن ذلك المعنى إذا كان المعلوم محكوما فعله بالأمر أو محكوما تركه بالنهي وإن كان في وقت قد وجد المعلوم وانقضى كان التعبير عنه عما كان وإن كان في وقت لم يوجد المعلوم بعد وسيوجد كان التعبير عنه عما سيكون فالأقسام المذكورة ترجع إلى التعبيرات بحسب الوجوه والاعتبارات وإلا فالكلام الأزلي واحد لا كثرة فيه باختلاف الخواص وتضاد المعاني فكان قبل خلق آدم التعبير عن معلوم الخلافة في ثاني الحال (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

وبعد إرسال نوح وانقراض عصره كان التعبير عن معلوم الرسالة في ماضي الحال (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] ، ولو عبر عن حال موسى قبل وجوده بالواد المقدس كان على صيغة الخبر عما سيكون وإذا عبر عن حاله وهو بالواد المقدس كان على صيغة الأمر (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] ، فالاختلافات كلها راجعة إلى التعبيرات عن الكلام الذي هو وفق المعلوم حتى لو قدرنا لأنفسنا نطقا عقليا سابقا على وجود المخاطب باقيا على ممر الدهور كان المعبر عنه على حقيقة واحدة لا يتبدل والتعبيرات عنه على أقسام مختلفة لا تتماثل ولو قدرنا لنفوسنا نطقا عقليا مطابقا لإدراك عقلي عاليا على الدهر والزمان بحيث نسبتهما إلى الماضي والحاضر والمستقبل نسبة واحدة لم يشك أن الاختلاف لم يرجع إلى كثرة معان في ذاته بل يرجع إلى ما يختلف بالأزمان ألم تسمع الله تعالى وتقدس يخبر في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عن حال عيسى عليه‌السلام عما سيكون في القيامة بقوله عز من قائل : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، أو ليس عبّر في المستقبل بالماضي وبعد لم

١٦٩

تقم القيامة ولم يحشر الناس ولم يحضر عيسى عليه‌السلام ، ولكن لما كان القول الحق متعاليا عن الزمان كان ما سيوجد كأن قد وجد وكان نسبة الخطاب إليه وهو في ذلك الوقت كنسبته إليه ، وهو في هذا الوقت ومن أمكنه أن يرفع الزمان من صميم قلبه هان عليه إدراك المعاني العقلية وسهل عليه معرفة تعلق العلم الأزلي بالمعلومات والأمر الأزلي بالمأمورات وعلم أن الاختلاف راجع إلى العبارات والتعبيرات انظر كيف نشير إلى لمحات الحقائق على لسان الفريقين وإن كانا بمعزل عن دقائق الطريقين وأنى لهم تصور نزول الروحانيات وتشخصها بالجسمانيات كما أخبر التنزيل عنه (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ، وكيف يستقيم على مذهب المتكلم تمثل الروح بالشخص البشري إبان تعدم الروح ويوجد الشخص وليس ذلك من التمثل في شيء أو بأن يستعمل الروح شخصا موجودا بشريا ولم يكن ذلك تمثلا أيضا بل تناسخا وإذا لم يمكنه تقرير التمثل والتشكل أعني تمثل الروحاني بالجسماني كيف يمكنه تصور الأمر الأزلي بتمثل اللسان العربي تارة ، واللسان السرياني طورا ، حتى يجب أن يقال كلام الله كما يجب أن يقال : «هذا جبريل جاءكم ليعلمكم دينكم» (١) ثم لباس جبريل يتبدل ولا تتبدل حقيقته التي هو بها جبريل ولباس الكلام الأزلي يتبدل ولا تتبدل حقيقته التي هو بها كلام وأمر ونهي واحد أزلي (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، حق في حق المشرك المستجير و (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤] صدق في حق الكليم المستنير فبين الكلامين فرق ما بين القدم والفرق بين السمعين صرف ما بين الولاية والصرف ولو كان الكلام في الموضعين حروفا منظومة أصواتا مقطعة بطل الاصطفاء على الناس وحصل التساوي واستماع الناس والخناس ، ولكان حكم الكليم في خطابه يا موسى حكم الطريد في طرده يا فرعون ولكان الذي لا يسمع من موسى أسعد حالا من موسى إذ سمع من الشجرة التي هي جماد وفي الموضعين الكلام حروف وأصوات.

قالت المعتزلة : إذا أثبتم كلاما أزليا فإما أن تحكموا بأن كلام الله أمر ونهي

__________________

(١) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (١ / ٢١٠) ، والبيهقي في الكبرى (١ / ٤٦٦) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (١ / ٤٠) ، وعزاه للبزار وقال : فيه الضحاك بن نبراس ، قال البزار : ليس به بأس ، وضعفه الجمهور.

١٧٠

وخبر واستخبار في الأزل وإما أن لا تحكموا به ، فإن حكمتم به فقد أحلتم من وجوه أحدها أن من حكم الأمر أن يصادف مأمورا ولم يكن في الأزل مخاطب متعرض لأن يحث على أمر ويزجر عن آخر ويستحيل كون المعدوم مأمورا.

والوجه الثاني : أن الكلام مع نفسه من غير مخاطب سفه في الشاهد والنداء لشخص لا وجود له من أمحل ما ينسب إلى الحكيم.

والثالث : أن الخطاب مع موسى عليه‌السلام غير الخطاب مع النبي عليه‌السلام ومناهج الكلامين مع الرسولين مختلفة ويستحيل أن يكون معنى واحد هو في نفسه كلام مع شخص على معان ومناهج وكلام مع شخص آخر على معان ومناهج آخر ثم يكون الكلامان شيئا واحدا ومعنى واحدا.

والرابع : أن الخبرين عن أحوال الأمتين مختلف لاختلاف حال الأمتين وكيف يتصور أن تكون حالتان مختلفتان ، فيخبر عنهما بخبر واحد وكيف يكون الخبر أمرا ونهيا وكيف يكون أمر ونهي خبرا واستخبارا ووعدا ووعيدا وأنكم إن حكمتم بأن الكلام واحد فقد رفعتم أقسام الكلام ولا يعقل كلام إلا وأن يكون إما أمرا ونهيا وإما خبرا واستخبارا وردكم أقسام الكلام إلى أوصاف واعتبارات تارة وإلى تعبيرات وعبارات أخرى غير سديد أما الاعتبارات العقلية فباطلة لأن المعقول من أقسام الكلام ذوات مختلفة وحقائق متباينة فإن القصة التي جرت ليوسف وإخوته صلوات الله عليهم أجمعين غير القصة التي جرت لآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى فالخبر عما جرى في حق شخص كيف يكون عين الخبر الذي جرى في حق شخص آخر والأوامر والنواهي التي توجهت على قوم في دور نبي مخصوص غير الأوامر التي توجهت على قوم آخر في دور آخر فكيف يمكنكم القول باتحاد الأخبار كلها على اختلافها في خبر واحد والقول باتحاد الأوامر على تفاوتها في أمر واحد ثم كيف يمكنكم الجمع بين معنى الخبر وحقيقته أنه خبر عما كان أو سيكون من غير اقتضاء وطلب وبين معنى الأمر وحقيقته أنه اقتضاء وطلب لأمر لم يكن حتى يكون فليس في الخبر حكم واقتضاء وليس في الأمر خبر وإنباء وبين النوعين فرق ظاهر فكيف يمكن القول باتحادهما نعم هما يتحدان في حقيقة الكلامية لكنهما يختلفان بالنوعية كالحيوانية والإنسانية والعرضية واللونية فمن رد الكلام بأنواعه وأقسامه إلى الخبر فقد أبطل الاقتضاء وعطل الحكم والطلب ومن رد الكلام إلى الأمر فقد أبطل معنى الخبر وعطل القصص ومن المعلوم أن النوعين موجودان في جنس الكلام ومذكوران في الكتب الإلهية وأما من رد الاختلاف والكثرة فيهما إلى العبارات فقد أبعد النجعة فإن

١٧١

العبارات إن طابقت المعاني خبرا لمخبر وأمرا لمأمور ونهيا عن منهي فقد تعددت المعاني تعدد العبارات وإن لم تطابق فليست هي تعبيرات عنها وإنما هي عبارات لا معنى لها وذلك كلام المجانين وإما أستر وأحكم إلى تمثل الروحاني بالجسماني وتشكل الملك بالبشر وظهور المعنى بالعبارات فذلك في أسماعنا شبه طامات وكلمات فارغة فما التمثل والتشكل وكيف الظهور والتبين حققوا لنا ذلك إن كانت العبارة مشتملة على حقيقة وإلا فالمعلومات لا تحتمل أمثال هذه المجازفات والذي عندنا أن جبريل شخص لطيف يتكاثف فيتراءى للبصر كالهوى اللطيف الذي لا يراء فيتكاثف فيتراءى سحابا أو نقول بإعدام وإيجاد لا يتمثل ويتشخص وبالجملة جوهر واحد لا يصير جواهر إلا بانضمام جواهر إليه ونحن لا نعقل من الجواهر إلا المتحيز والمتحيزان لا يتداخلان فلا معنى لما تمسكتم به.

قالت الأشعرية : ذهب شيخنا الكلابي عبد الله بن سعيد إلى أن كلام الباري في الأزل لا يتصف بكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف فإذا أبدع الله العباد وأفهمهم كلامه على قضية أمر ، وموجب زجر أو مقتضى خبر اتصف عند ذلك بهذه الأحكام فهي عنده من صفات الأفعال بمثابة اتصاف الباري تعالى فيما لا يزال بكونه خالقا ورازقا فهو في نفسه كلام لنفسه أمر ونهي وخبر وخطاب وتكليم لا لنفسه بل بالنسبة إلى المخاطب وحال تعلقه وإنما يقول كلامه في الأزل يتصف بكونه خبرا لأنا لو لم نصفه بذلك خرج الكلام عن أقسامه ولأن الخبر لا يستدعي مخاطبا ، فإن الرب تعالى مخبر لم يزل عن ذاته وصفاته وعما سيكون من أفعاله وعما سيكلف عباده بالأوامر والنواهي.

وعند أبي الحسن الأشعري كلام الباري تعالى لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا ، والمعدوم على أصله مأمور بالأمر الأزلي على تقدير الوجود ثم قال في دفع السؤال إذا لم يبعد أن يكون المأمور به معدوما لم يبعد أن يكون المأمور معدوما ، وعضد ذلك بأنا في وقتنا مأمورون بأمر الله تعالى الذي توجه على المأمورين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا لم يبعد أن يتأخر وجود المأمور عن الأمر بسنة لم يبعد أن يتأخر عنه بأكثر ولم يزل (١).

والحق أن هذا الإشكال لا يختص بمسألة الأمر بل هو جار في كل صفة أزلية تتعلق بمتعلقها أزلا أنها كيف تتعلق بالمعدوم أليس الله تعالى عالما قادرا والعالم معدوم وكيف يتعلق العلم والقدرة بنفي محض وعدم صرف فعلى تقدير الوجود فكيف

__________________

(١) انظر : الغنية في أصول الدين النيسابوري (ص ١٠٦).

١٧٢

يتصور التقدير في حق الباري والتقدير ترديد الفكر وتصريف الخواطر وذلك من عمل الخيال والوهم أم يتعلق بالوجود حقيقة والوجود محصور متناه ونحن نعتقد أن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى وإنما يتصور ذلك فيما لم يوجد ويمكن أن يوجد أم تقرر أن العلم صفة صالحة لدرك كل ما يعرض عليه من غير قصور والقدرة صالحة لإيجاد كل ما يصح وجوده من غير تقاصر ثم ما يصح أن يعلم ويجوز أن يوجد لا يتناهى فعلى هذا المعنى نقول المعلومات والمقدورات لا تتناهى والمتعلق من حيث المتعلق راجع إلى صلاحية الصفة للكل ومن حيث المتعلق راجع إلى صحة المعلوم والمقدور وكذلك قولنا في السمع والبصر وكونه سميعا بصيرا بل الجمع بين المسألتين هاهنا أظهر فإن السمع لا يتعلق بالمعدوم وكذلك البصر فلا يكون المعدوم مسموعا ومبصرا بل إنما يصير مدركا بهما حيث يصح الإدراك وهو حال الوجود فقط لا قبله تحقيقا كان أو تقديرا كذلك الأمر الأزلي يتعلق بالمأمور به حتى يصح التعلق وهو حال الوجود المتهيأ لقبوله من كونه حيا عاقلا بالغا متمكنا من الفعل كسائر الصفات على السواء فليس يختص السؤال بمسألة الكلام ووجه الحال ما قد سبق التقرير به.

وقولهم : إن كلاما لا تحقق له أقسام الكلام غير معقول.

قلنا : وما أقسام الكلام فإن المتكلمين حصروها في ستة وسائر الناس زادوا أقساما : مثل النداء والدعاء ، وزادوا في كل قسم من الأمر والنهي أقساما مثل أمر الندب وأمر الإيجاب ونهي التنزيه ونهي التحريم ، وفي كل قسم من الخبر والاستخبار أقساما مثل الخبر عن الماضي والمستقبل والمواجهة والمغايبة وغير ذلك ، ومن تصدى ليردها إلى ستة فقد قضى بتداخل أقسام منها في أقسام ولغيره أن يتصدى لردها إلى قسمين الخبر والأمر أما الاستخبار فلا يتصور في حقه تعالى على موجب حقيقة الاستفهام بل حيث ورد فمعناه التقرير والإخبار كقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) [القصص : ٧١](أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) [النمل : ٦٠] ، ومعنى الكل راجع إلى تقرير الخطاب للمخاطب أن الأمر لا يتصور إلا كذلك ، وأما الوعد والوعيد فظاهر أنهما خبران يتعلق أحدهما بثواب فسمي وعدا ، وتعلق الثاني بعقاب فسمي وعيدا كما أمكن أن يرد النداء إلى الخبر يا زيد يا عمرو أي أدعو زيدا.

وأما القسم الثاني : وهو الأمر فهو والنهي لا يجتمعان لكن كلام الله تعالى إذا تعلق بمتعلق خاص على صيغة الأمر ، ولم يتصل بتركه زجرا كان ندبا ، وإن اتصل به زجرا سمي ذلك إيجابا وكذلك النهي إذا لم يرد على فعله وعيد سمي تكريها وإن ورد سمي تحريما ثم هما يشتركان في كونهما أمرا ونهيا وإن رد الأمر والنهي إلى معنى واحد

١٧٣

وهو الأمر كان ذلك أيضا له وجه فإن النهي أمر بأن لا تفعل فرجع أقسام الكلام كلها إلى خبر وأمر ، ثم كما أمكن رد أقسام الكلام إلى قسمين من غير نقصان في حقيقة الكلام كذلك أمكن رد القسمين إلى قسم واحد حتى يكون كلامه على ما قررناه واحدا وقد ورد التنزيل بتسميته أمرا بحيث يتضمن جميع الأقسام في قوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر : ٥٠] ، وفي قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، فالخلق والأمر يتقابلان كالفعل والقول وعن هذا أمكن الاستدلال بهذه الآية حتى يقال : إن أمر الباري غير مخلوق ، فإنه لو كان مخلوقا لكان تقدير قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) [الأعراف : ٥٤] ، وهذا من فاسد الكلام وقد ورد أيضا في القرآن ما يدل على أن الأمر سابق على الخلق وذلك السبق لن يتصور إلا أن يكون أزليا وذلك قوله سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، والمتكون متأخر والأمر متقدم والتقدم على الحادث المطلق لا يكون إلا بالأزلية فتحقق من هذه الجملة أن كلامه تعالى واحد إن سميته أمرا فهو خلاف الخلق ومقابله وإن سميته خبرا فهو وفق العلم سواء وإنه إذا تعلق بالمأمور فيكون تعلقه مشروطا بشرائط ، كما كان تعلق سائر الصفات مشروطا بشرائط وقد عرفت الفرق بين تعلق الصلاحية والصحة وبين تعلق الفعل والحقيقة واندفع الإلزام بهذا الفرق.

وقولهم : إن الاختلاف والكثرة في الأخبار والأوامر لا يرجع إلى العبارات فقط إذ العبارات لا بدّ وأن تطابق المعنى صحيح لكن تلك المعاني المختلفة كالمعلومات المختلفة التي يحيط بها علم واحد وإن تلك المعلومات المختلفة إن فرضت في الشاهد استدعت علوما مختلفة وإن شملها اسم العلمية كذلك الأخبار المختلفة والأوامر المختلفة وإن استدعت في الشاهد كلمات ومعاني مختلفة فقد أحاط بها معنى واحد هو القول الحق الأزلي واختلاف الزمان بالماضي والمستقبل والحاضر لا يؤثر في نفس القول (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] كاختلاف الحال في المعلومات التي وجدت وستوجد لا يؤثر في نفس العلم وهذا المعنى عسير الإدراك جدا لتكرر عهدنا بخلاف ذلك في الشاهد ولو لاحظنا جانب العقل وإدراكه المعقول وجردناه عن المواد الجسمانية والأمثلة الخيالية وصادفنا إدراكا كليا عقليا لا يختلف باختلاف الأزمنة ولا يتغير بتغاير الحوادث ، وكذا لو استيقظنا من نوم يقظتنا هذه بمنام وطلعت نفوسنا على مشرق المعاني والحقائق رأت عالما من المعقولات وأشخاصا من الروحانيات تحدثه بأخبار وتكلمه بأحاديث ، لو عبر المعبر عنها بعبارات لسانه لما وسعه يوم واحد لشرحها وبيانها ، ولو كتبها بقلمه لم تسعه

١٧٤

مجلدة واحدة لنظمها وبيانها ، وكل ذلك قد يراه في منامه في أقل من لحظة واحدة ، ويعلم يقينا أنه رآه حين رآه وسمع ما سمع كأنه شيء واحد ومعنى واحد ، لكن التعبير عنه استدعى أوراقا وصحائف طباقا وكيف لا والمرء يجد من نفسه وجدانا ضروريا أنه إذا سئل عن إشكال في مسألة اعتراه وجوابه وحله جملة في أقل من لحظة ، ثم يأتي في شرح ذلك بلسانه بعبارات حتى يمتلئ أذان وأسماع كثيرة إن سمعها ووعاها أو يستثبته بقلمه حتى يسود بياضا كثيرا إن سطرها وزبرها والمعنى في الأصل كان واحدا والشرح منبسطا والحب يكون واحدا والسنبلة متكثرة (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ، ومن وجد بمشام صدقه شمائم الروحانيات ووقع في أطراف رياض المعقولات وإن كان محوما عليها غير واغل في خميلتها علم قطعا أن العقل أحدي الإدراك والنفس وحداني القول وإنما التكثر في عالم الحس يتصور والاختلاف في عالم العبارات يتحقق وإذا كانت عقولنا ونفوسنا على هذا النمط من التوحيد فكيف الظن بقدس الإحاطة الأزلية ووحدانية الكلمة السرمدية.

قالت المعتزلة : أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة على التحقيق ، ولها مفتتح ومختتم وأنه معجزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دالة على صدقه ، ولا تكون المعجزات إلا فعلا خارقا للعادة ، وكان السلف يقولون : يا رب القرآن العظيم ، يا رب طه ، يا رب يس ، وإنما سمي القرآن قرآنا للجمع من قولهم : قرأت الناقة لبنها في ضرعها والجمع إنما يتحقق في المفترق والكلام الأزلي لا يوصف بمثل هذه الأوصاف ، ومما أجمعت عليه الأمة أن كلام الله تعالى بين أظهرنا نقرأه بألسنتنا ونمسه بأيدينا ونبصره بأعيننا ونسمعه بآذاننا ، وعليه دلت النصوص ، (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] ، والصفة الأزلية كيف توصف بما وصفنا.

قالت الأشعرية : أنتم أول من خالف هذا الإجماع فإن عندكم كلام الله تبارك وتعالى حروف وكلمات أحدثها في محل وكما وجدت فنيت والذي كتبناه بأيدينا فعلنا ، والذي قرأنا بألسنتنا كسبنا ، وكذلك نثاب على فعل ذلك ونعاقب على تركه ، فليس الكلام الذي بين أظهرنا كلام الله وما كان كلاما لله فليس بين أظهرنا ولا كان دليلا ومعجزة ولا قرأناه ولا سمعناه بل الذي نقرأه مثل ذلك أو حكاية عن ذلك كمن يروي شعر امرئ القيس بعد موته ، وعن هذه الشنعة صار أبو علي الجبائي إلى أنه

١٧٥

يحدث كلاما لنفسه عند قراءة كل قارئ وعند كتابة كل كاتب وقد جحد الضرورة وكابر العقل فإن العاقل لا يشك أن الذي يسمعه من القارئ حروف وكلمات تخرج عن مخارجها على اختياره ، وليس يقارنه أمثالها حتى يكون كل حرف حرفين وكل كلمة كلمتين وكل آية آيتين ، وإن كان فما محلها وقد اشتغلت المخارج بحروفها ومن المحال اجتماع حرفين وكلمتين في محل واحد في حالة واحدة والحروف لا وجود لها إلا على التعاقب واجتماع حرفين وكلمتين في محل واحد غير معقول ولا مسموع ولا محسوس من جهة القارئ فهو محال.

ثم نقول القول الحق : إنا لا ننكر وجود الكلمات التي لها مفتتح ومختتم وهي آيات وأعشار وسور ويسمى الكل قرآنا وما له مبتدأ ومنتهى لا يكون أزليا وهو من هذا الوجه معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمى ما يقرأ باللسان قرآنا وما يكتب باليد مصحفا لكن كلامنا في مدلول هذه الكلمات ومقروء هذه القراءة أهي صفة أزلية لا حادثة وواحدة لا كثيرة أم هي هذه فقط ولا مدلول لها ولا مقروء ولا مكتوب وبالاتفاق بيننا وبين الخصم كلام الله تعالى غير ما حل في اللسان من تحريك الشفتين واللسان والحلق بل هو معنى آخر وراء ذلك فنحن نعتقد أن ذلك المعنى واحد أزلي وأنتم تعتقدون أنه مثل هذا كثير حادث فانقطع الاستدلال بما يعرفه أهل الإجماع وكما أن كلامه أزلي واحد عندنا وليس ذلك بين أظهرنا كذلك هو كلام آخر في محل آخر ، وليس ذلك بين أظهرنا عند الخصم فصار الاتفاق بالمقدمات المشهورة المعهودة لا اليقينية المقبولة المشهودة وتبين أن إطلاق لفظ القرآن على القراءة والمقروء باشتراك اللفظ وقد يسمى الدليل باسم المدلول ويطلق لفظ العلم على المعلوم كقوله تبارك وتعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥] ، أي بمعلومه وقال : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] ، عني به الصلاة والقراءة فيها.

والجواب الحق : أن الآيات التي جاء بها جبريل عليه‌السلام منزلا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام الله كما أن الشخص الذي تمثل به جبريل وتراءى وظهر له سمي جبريل حتى يقول هذا كلام الله وهذا جبريل لأن ما أشير إليه بهذا وهذا هو مظهره ، وأنت تقول : كلامك هذا صحيح وغير صحيح ولا تشير إلى مجرد العبارة دون المعنى ، بل تشير إلى العبارة على أنها مظهر المعنى وإلا فالصحة والفساد إنما يدخلان على المعنى دون اللفظ ، والصواب والخطأ يرد على اللفظ دون المعنى وقد تكون العبارة سديدة لغة ونحوا ويكون المعنى غير سديد وبالعكس من ذلك ثم يشار إلى العبارة ويراد

١٧٦

بها المعنى كذلك قولنا هذا كلام الله وكلام الله بين أظهرنا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] ، وقوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] ، (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] ، راجع إلى العبارة (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٩] ، راجع إلى المعنى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ، ٧٨] ، ولو كان الكتاب من حيث هو كتاب هو القرآن لما قال (فِي كِتابٍ) وفي آية أخرى (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة ٢ ، ٣] ، فتارة كان القرآن في كتاب وتارة كان الكتاب في القرآن ومن أدرك الطرفين على حقيقتهما سهل عليه التمييز بين المعنيين ثم احترام الكتاب لأجل المكتوب كاحترام البيت لأجل صاحب البيت.

قالت السلف والحنابلة : قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله وأن ما نقرأه ونسمعه ونكتبه عين كلام الله فيجب أن يكون الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله ولما تقرر الاتفاق على أن كلام الله غير مخلوق فيجب أن تكون الكلمات أزلية غير مخلوقة ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين أحدهما : القدم والثاني : الحدوث والقولان مقصوران على الكلمات المكتوبة والآيات المقروءة بالألسن فصار الآن إلى قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات ، وقد حسن قول ليس منهما على خلاف القولين ، فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات دون التعرض لصفة أخرى وراءها وكانت المعتزلة على إثبات الحدوث والخلقية لهذه الحروف والأصوات دون التعرض لأمر ، وراءها فأبدع الأشعري قولا ثالثا وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازا لا حقيقة وهو عين الابتداع فهلا قال ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله تعالى دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الخبرية (١).

قالت السلف : لا يظن الظان أنا نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١٠٧) ، وتبيين كذب المفتري لأبي هلال العسكري (ص ١٥٠) ، وشرح قصيدة ابن قيم (ص ٢٧٧) ، والعقيدة الأصفهانية (ص ٥٨) ، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطي (ص ٤٢) ، وخلق أفعال العباد للبخاري (ص ٤٤) ، والمناظرة لأهل البدع في القرآن ، والرد على ابن عقيل الحنبلي ، كلاهما لابن قدامة الحنبلي بتحقيقنا.

١٧٧

بألسنتنا وصارت صفات لنا فإنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها وتعلقها بأكسابنا وأفعالنا وقد بذلت السلف أرواحهم وصبروا على أنواع البلايا والمحن من معتزلة الزمان دون أن يقولوا : القرآن مخلوق ، ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي أفعالنا وأكسابنا ، بل هم عرفوا يقينا أن الله تعالى قولا وكلاما وأمرا ، وإن أمره غير خلقه بل هو أزلي قديم بقدمه كما ورد ذلك في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، وقوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] ، وفي قوله سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، فالكائنات كلها إنما تتكون بقوله وأمره وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، وقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) [البقرة : ٣٠] ، (وَإِذْ قُلْنا) [البقرة : ٣٤] ، (قالَ اللهُ) هذا كله قول قد ورد في السمع مضافا إلى الله تعالى أخص إضافة من الخلق فإن المخلوق لا ينسب إلى الله تعالى إلا من جهة واحدة وهو الخلق والإبداع والأمر ينسب إليه لا على تلك النسبة وإلا فيرتفع الفرق بين الأمر والخلق والخلقيات والأمريات.

قالوا : من جهة المعقول العاقل يجد من نفسه فرقا ضروريا بين قال وفعل وبين أمر وخلق ولو كان القول فعلا كسائر الأفعال بطل الفرق الضروري فثبت أن القول غير الفعل وهو قبل الفعل وقبليته قبلية أزلية ، إذ لو كان له أول لكان فعلا سبقه قول آخر ، ويتسلسل ، ثم لما أجمعت السلف على أن هذا القرآن هو كلام الله تعالى لم يرد مناهج إجماعهم ولم يبحث أنهم أرادوا القراءة أو المقروء والكتابة أو المكتوب ، كما أنهم إذا وصلوا إلى تربة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحيوا وصلوا وسلموا تسليما من غير تصرف في أن المشار إليه شخصه أم روحه.

وحققوا زيادة تحقيق فقالوا : قد ورد في التنزيل أظهر مما ذكرناه من الأمر وهو التعرض لإثبات كلمات الله تعالى حيث قال عز من قائل : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ١١٥] ، ثم قال : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) [يونس: ١٩] ، وقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] ، وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ

١٧٨

يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] وقال : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [السجدة : ١٣] ، (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [غافر : ٦] ، فتارة يجيء الكلام بلفظ الأمر وتثبت له الوحدة الخالصية التي لا كثرة فيها (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] ، وتارة يجيء بلفظ الكلمات وتثبت لها الكثرة البالغة التي لا وحدة فيها ولا نهاية لها (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ، فله إذا أمر واحد وكلمات كثيرة ولا يتصور إلا بحروف فعن هذا قلنا : أمره قديم وكلماته كثيرة أزلية والكلمات مظاهر الأمر للأمر والروحانيات مظاهر الكلمات والأجسام مظاهر الروحانيات والإبداع والخلق إنما يبتدئ من الأرواح والأجسام أما الكلمات والحروف فأزلية قديمة فكما أن أمره لا يشبه أمرنا وكلماته وحروفه لا تشبه كلماتنا وهي حروف قدسية وعلوية وكما أن الحروف بسائط الكلمات والكلمات أسباب الروحانيات والروحانيات مدبرات الجسمانيات وكل الكون قائم بكلمة الله محفوظ بأمر الله تعالى ولا يغفل عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف فإن له شأنا وهم يسلمون الفرق بين القراءة والمقروء والكتابة والمكتوب ويحكمون بأن القراءة التي هي صفتنا وفعلنا غير المقروء والذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار وأحكام وأوامر وليس المقروء من قصة آدم وإبليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون وليس أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة فلا بد إذا من كلمات تصدر من كلمة وترد على كلمة ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات وتلك الحروف لا تشبه حروفنا وتلك الكلمات لا تشبه كلامنا كما ورد في حق موسى عليه‌السلام سمع كلام الله كجر السلاسل وكما قال المصطفى صلوات الله عليه في الوحي : «أحيانا يأتيني كصلصلة الجرس وهو أشد عليّ ثم يفصم عني وقد وعيت ما قال» والله أعلم.

١٧٩

القاعدة الرابعة عشرة

في حقيقة الكلام الإنساني والنطق النفساني (١)

ذهب النظام إلى أن الكلام جسم لطيف منبعث من المتكلم ويقرع أجزاء الهوى فيتموج الهوى بحركته ويتشكل بشكله ثم يقرع العصب المفروش في الأذن فيتشكل العصب بشكله ، ثم يصل إلى الخيال فيعرض على الفكر العقلي فيفهم ، وربما يقول الكلام حركة في جسم لطيف على شكل مخصوص ، ثم تحير في أن الشكل إذا حدث في الهوى أهو شكل واحد يسمعه السامعون أم أشكال كثيرة ، وإنما أخذ مذهبه في هذه المسألة وغيرها من المسائل من مذهب الفلاسفة غير أنه لم يفهم من كلامهم إلا ضجيجا ولم يورده نضيجا.

وأما الفلاسفة فالنطق عندهم : يطلق على نطق اللسان وهو حروف منظومة بأصوات مقطعة في مخارج مخصوصة نظما يعبر عن المعنى الذي في النفس بحكم الاصطلاح والمواضعة أو بحكم التوقيف والمصادرة ويطلق النطق على التمييز العقلي والتفكير النفساني والتصوير الخيالي وهو معان في ذهن الإنسان مختلفة الاعتبار ، فإن اعتبرت بمجرد العقل كان تمييزا صحيحا بين الحق والباطل ويلزمه أن يكون معاني كلية مجردة متحدة متفقة فإن اعتبرت بمجرد النفس كان تفكيرا وترديدا بين الحق والباطل حتى يظفر بالحد الأوسط فيطلع على الدليل المرشد والعلة والسبب ، ويلزمها أن تكون ذاتية كلية أو جزئية بسيطة أو مركبة ، ويلزمها أن تكون ذاتية أو عرضية موجبة أو سالبة موجهة أو مطلقة يقينية أو غير يقينية منتجة أو غير منتجة وإن اعتبرت بمجرد الخيال كانت تقديرا أو تصويرا فتارة تصوير المحسوس بالمعقول وتارة تقدير المعقول في المحسوس ويلزمها أن تكون من جانب المحسوس عربيا أو عجميا أو هنديا أو روميا أو سريانيا أو عبرانيا ومن جانب المعقول أن يكون بسيطا في صورة مركبة ومركبا على نعت بسيط وذاتيا مع عرضي ويقينا مع وهم وأول ما يرد على السمع حرف وصوت يحصل في الهوى بسبب تموج يقع بحركة شديدة تحدث من قرع بعنف أو قلع بحدة ، فإن كان من قرع اصطك الجسمان وانضغط الهوى بشدة

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ١٠٣ ، ١٠٨).

١٨٠