نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

تغيير المعاني أيضا على الحدوث أو هل قلتم هو مريد بإرادات في محل كما قلتم هو متكلم بكلام يخلقه في محل وما الفرق بين البابين فإن الإرادة إن أوجبت حكما لمن قامت به فليوجب الكلام ، كذلك وإن كان المتكلم من فعل الكلام على أصلكم فاصطلحوا على أن المريد من فعل الإرادة ، ثم يرجع الحكم إلى الفاعل كما يرجع في كونه عدلا يخلق العدل فكيف التزمتم أبعد الأقسام قبولا عن كونه معقولا.

ثم قولكم : الإرادة لا تراد تحكم باطل فإن الإرادة من الحوادث وكل حادث اختص بمثل دون مثل فهو مراد ، وإن استغنى حادث عن الإرادة استغنى كل حادث ولا يؤدي إلى التسلسل في الإرادة فإن الإرادة الأخيرة تستند إلى خلق الباري ، فهي ضرورية الوجود مرادة بإرادة الباري تعالى وإرادته قديمة لا تراد أي لا تتخصص بوقت دون وقت.

وأما التمثل بالعقول المفارقة على رأي الفلاسفة غير سديد : فإنهم أثبتوا جواهر قائمة بذواتها قابلة للمعاني غير أنهم لم يحكموا بتحيزها وأنتم أثبتم إرادات من جنس إرادات الحوادث وهي أعراض لا في محل فقد أخرجتموها عن أخص أوصاف العرضية وما أجريتم فيها حكم الجوهرية (١).

وأما التمثل بمذهب جهم بن صفوان وهشام : فمثل محال والرد عليه كالرد عليكم والتمثل بمذهب الأشعري في تكليم البشر غير مستقيم على أصله فإن عنده كلام الله مسموع بسمع البشر كما أنه مرئي برؤية البشر ولم يجب من ذلك انتقال ولا تغير وزوال فطفتم على أبواب المذاهب وفزتم بأخس المطالب.

وأما المسألة الثالثة من شعب المسألة الكبرى هو القول في تعلق إرادة الباري بالكائنات كلها والمدار في هذه المسألة على تعين الجهة التي هي متعلق الإرادة فيرتفع النزاع والتشنيع بذلك فنذكر المذاهب أولا ثم نشرع في الدليل.

قالت المعتزلة القائلون بإرادات حادثة : إن الباري تعالى مريد لأفعاله الخاصة بمعنى أنه قاصد إلى خلقها على ما علم وتتقدم إرادته على المفعول بلحظة واحدة ومريد لأفعال المكلفين ما كان منها خيرا ليكون وما كان منه شرا لأن لا يكون وما لم يكن خيرا ولا شرا ولا واجبا ولا محظورا وهي المباحات فالرب تعالى لا يريدها ولا يكرهها ويجوز تقديم إرادته وكراهيته على أفعال العباد بأوقات وأزمان ولم يجعلوا

__________________

(١) انظر : بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٢ / ٥٠٦) ، وكذلك الجواب الصحيح (٥ / ١٥ ، ٥٢) ، ومنهاج السنة النبوية (١ / ٣٩٤).

١٤١

له حدا أو مردا.

ثم القدماء منهم قالوا : إن الإرادة الحادثة توجب المراد وخصصوا الإيجاب بالقصد إلى إنشاء الفعل لنفسه أم العزم في حقنا وإرادة فعل الغير فإنها لا توجب ولم يريدوا بالإيجاد إيجاب العلة المعلول ولا إيجاب التولد والإرادة عندهم لا تولد فإن القدرة عندهم توجب المقدور بواسطة السبب فلو كانت الإرادة مولدة بواسطة السبب استند المراد إلى سببين ولزم حصول مقدورين قادرين.

قالت المعتزلة الصفة القديمة إذا تعلقت بمتعلقاتها وجب عموم تعلقها إذ لا اختصاص للقديم بشيء فلو كانت الإرادة قديمة لتعلقت بكل مراد من أفعال نفسه ومن أفعال العباد ومن أفعال العباد أن يريد زيد حركة ويريد عمرو سكونا فوجب أن يكون القديم مريدا لإرادتيهما ومراديهما وما هو مراد يجب وقوعه فيؤدي إلى اجتماع الضدين في حالة واحدة.

قالت الأشعرية الصفة القديمة يجب تعلقها بكل متعلق على الإطلاق أم يجب عموم تعلقها بما يصح أن يكون متعلقا بها ، فإن كان الأول فهو غير مستمر في الصفات فإن العلم يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن من الأقسام ، والإرادة لا تتعلق إلا بالمتجدد من الممكنات والعلم أعم تعلقا ، والقدرة أخص من العلم والإرادة أخص من القدرة والعموم لا ينقص ولا يزيد وفيما لا يتناهى من المعلومات والمقدورات والمرادات فكل قسم لا يتناهى فيعم تعلق الصفة بما لا يتناهى مما يليق بكل قسم ويختص بكل صفة ولو كان الإيجاب بالقدرة على نعت الإيجاد لوجد كل ما تعلقت به القدرة فيوجد ما لا يتناهى وذلك محال ، بل الإرادة هي المخصصة بالوجود المتعلقة بحال متجدد ، وأما تعلق إرادة القديم بالضدين في حالة واحدة.

قالوا : لسنا نسلم أولا أن هاهنا إرادتين للضدين بل هو ما وقع في معلوم الرب تعالى أن يقع فهو المراد وصاحبه المريد وما علم أنه لا يقع فليس مرادا وصاحبه المتمني ويجوز تعلق الإرادة القديمة بمعنيين أحدهما تمن وشهوة والثاني إرادة.

ثم قالوا لم قلتم إن إرادة الإرادتين تقتضي إرادة المرادين حتى يلزم الجمع بين الضدين فإنه تعالى إنما أراد إرادتيهما من حيث وجودهما وتجددهما لا من حيث مراديهما وهو كإرادته للقدرة لا تكون إرادة للمقدور وقدرته على الإرادة لا تكون قدرة على المراد على أصلكم كعلمه بعلم زيد وظن عمرو وشك خالد وجهل بكر لا يكون اعتقادا لمعتقداتهم حتى يوصف بمتعلقات صفاتهم.

والسر في ذلك أن الإرادة القديمة لم تتعلق إلا بوجه واحد وهو المتجدد من

١٤٢

حيث هو حادث متجدد متخصص بالوجود دون العدم ووقت دون وقت والإرادتان تشتركان في التجدد فتنتسبان إليها من جهة التجدد والتخصص وهما من هذا الوجه ليسا ضدين فلم تتعلق الإرادة بالضدين ولو قيل تتعلق الإرادة بالإرادتين جميعا من حيث الوقوع والتجدد وبأحد المرادين وهو الواقع منهما في المعلوم وتتعلق بعدم وقوع الآخر فهي إرادة لوقوع أحدهما وكراهة لوقوع الآخر كان ذلك أيضا صوابا قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، أي يريد خلاف العسر كما قال : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) [يونس : ١٨] ، أي بما يعلم خلافه حتى لا يكون النفي داخلا في الإطلاقات (١).

قالت المعتزلة : قد تقرر في العقول أن مريد الخير خير ومريد الشر شرير ومريد العدل عادل ومريد الظلم ظالم فلو كانت الإرادة الأزلية تتعلق بالكائنات كلها لكان الخير والشر مرادا فيكون المريد موصوفا بالخيرية والشرية والعدل والظلم وذلك قبيح في حق القديم سبحانه قال الله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١].

قالت الأشعرية : هذه المقدمة التي ذكرتموها من المشهورات في عادات الناس لا من الأوليات في قضايا العقول ، وإنما يختص اطرادها في بعض الصور دون البعض إذ لا يقال في سياق ذلك أن مريد الجهل جاهل ومريد العلم عالم ومريد الطاعة مطيع ولا يقال مريد الحركة متحرك ومريد الصلاة مصل ثم يقال في الشاهد مريد العبادة عابد ولا يقال في الغائب مريد العبادة عابد.

ثم السر في ذلك أن الإرادة الحادثة قد تكون ضرورية وقد تكون كسبية والضرورية منها لا توصف بالخيرية والشرية والتكليفية إذ لا تكليف إلا على المكتسب وقد توصف بالخيرية والشرية الجبرية كما يقال الملك يريد الخير طبعا وجبرا والشيطان يريد الشر طبعا وجبرا وأما الإرادات الكسبية فتتوجه على المريد فيها وبها التكليف فيوصف بالظلم والعدل والخير والشر والطاعة والمعصية كما وصف سائر الحركات ثم لم يلزم من ذلك طردها في الغائب فلم يصح الاستدلال.

والسر في ذلك أن الإرادة الأزلية لم تتعلق بالمراد من أفعال العباد من حيث هو مكلف به إما طاعة وإما معصية وإما خيرا وإما شرا بل لا يتعلق به من حيث هو فعل العبد وكسبه على الوجه الذي ينسب إليه فإن إرادة فعل الغير من حيث هو فعله تمن

__________________

(١) انظر : حجج القرآن للرازي (ص ٨٢).

١٤٣

وشهوة وإنما يتعلق به من حيث هو متجدد متخصص بالوجود دون العدم متقدر بقدر دون قدر وهو من هذا الوجه غير موصوف بالخير والشر ، وإن أطلق لفظ الخير على الوجود من حيث هو وجود فذلك إطلاق بمعنى يخالف ما تنازعنا فيه فالباري تعالى مريد الوجود من حيث هو وجود والوجود من حيث هو وجود خير فهو مريد الخير وبيده الخير ، وأما الوجه الذي ينسب إلى العبد هو صفة لفعله بالنسبة إلى قدرته واستطاعته وزمانه ومكانه وتكليفه وهو من هذا الوجه غير مراد للباري تعالى وغير مقدور له ولما تقرر عندنا بالبراهين السابقة أنه تعالى خالق أعمال العباد كما هو خالق الكون كله وإنما هو خالق بالاختيار والإرادة لا بالطبع والذات فكان مريدا مختارا لتجدد الوجود وحدوث الموجود ثم الوجود خير كله من حيث هو وجود فكان مريد الخير وأما الشر فمن حيث هو موجود فقد شارك الخير فهو من ذلك الوجه خير ومراد وعلى هذا لا يتحقق في الوجود شر محض فهو تعالى مريد الوجود ومريد الخير والعبد يريد الخير والشر وعن هذا قال الحكماء : الشر داخل في القضاء والإرادة بالعرض لا بالذات وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول فإن الشر عندهم إما عدم وجود أو عدم كمال الوجود وإنما الداخل في القضاء والإرادة بالقصد الأول هو الوجود وكمال الوجود ثم قد يكون الوجود على كمال أول ومتوجه إلى كمال ثان وقد يكون على كمال مطلق كالعقول المفارقة التي هي تامة كاملة بأعيانها في الخير المحض الذي لا شر فيه وما هو على كمال أول أي هو بالقوة على كمال إلى أن يصير الفعل على كمال ثان فيقع من مصادمات أحوال السلوك من المبدأ إلى الكمال أحوال هي شرور ومضار كما تقع أحوال هي سرور ومنافع ، والإرادة الأزلية والعناية الربانية تتعلق بالأمرين والقسمين جميعا ولكن أحد المتعلقين على سبيل التضمن والاستتباع والعرضية ويسمى ذلك مرادا ومقصودا بالقصد الثاني والمتعلق الثاني على سبيل الوضع والأصالة والذاتية فيسمى ذلك مرادا ومقصودا بالقصد الأول هذا كما يعلم أن المقصود الكلي من إنزال المطر من السماء نظام العالم وانتظام الوجود وذلك هو الخير مطلقا ثم إن خرب بذلك بيت عجوز قد أشرف على الانهدام أو ماتت العجوز وقد بلغت إلى شرف الموت كان ذلك شرا بالإضافة لا بالأصالة وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول ووجود خير كلي مع شر جزئي أقرب إلى الحكمة من لا وجود له لا يقع الشر الجزئي فإن عدمه مما يورث الفساد في نظام كل الموجودات فهو أكثر شرا وأشد ضرا.

قالت المعتزلة : كل آمر بالشيء فهو مريد له والرب تعالى آمر عباده بالطاعة فهو مريد لها إذ من المستحيل أن يأمر عبده بالطاعة ثم لا يريدها والجمع بين اقتضاء

١٤٤

الطاعة وطلبها بالأمر بها ، وبين كراهية وقوعها جمع بين نقيضين وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه في حالة واحدة إذ لا فرق بين قول القائل آمرك بكذا وأكره منك فعله وبين قوله آمرك بكذا وأنهاك عنه ، وإذا وقع الاتفاق بأن الله تعالى آمر عباده بالطاعة وجب أن يكون مريدا لها كارها لضدها من المعصية ، وإذا كان الآمر بالشيء مريدا له كان الناهي عن الشيء كارها له.

والذي يحقق ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي من المأمور حصول المأمور به والإرادة تقتضي تخصيص المأمور به بالوجود ومن المحال اقتضاء الحصول لشيء واقتضاء ضد ذلك منه فلو قلنا إن الباري تعالى أمر أبا جهل بالإيمان وأراد منه الكفر أدى ذلك إلى اقتضاء الإيمان منه بحكم الأمر واقتضاء الكفر منه بحكم الإرادة وهو محال ويخرج على هذه القاعدة استروا حكما إلى العلم فإنه يجوز أن يأمر بخلاف المعلوم لأن العلم ليس فيه اقتضاء وطلب وإنما هو يتعلق بالمعلوم على ما هو به بخلاف الإرادة فإنها مقتضية فيرد الأمر على خلاف العلم ولا يرد على خلاف الإرادة.

قالت الأشعرية : لسنا نسلم أن كل آمر بالشيء مريد حصوله بل كل آمر بالشيء عالم بحصوله مريد له حصولا وكل آمر يعلم حصول ضده لا يكون مريدا لحصوله ، فإن الإرادة على خلاف العلم تعطيل لحكم الإرادة وتغيير لأخص وصفها ، وقد بينا أن أخص وصفها التخصيص ، وحكمها إنما يتعلق بالمتجدد من المقدورات والمتخصص من المقدورات فإذا علم الآمر أن المأمور به لا يحصل قط ولا يتجدد ولا يتخصص قط فيستحيل أن يريده فإنها توجد ولا متعلق لها يتعلق ولا أثر لتعلقها وذلك محال ولو كانت الإرادة خاصيتها أن تتعلق بالممكن فقط كالقدرة لكان جائزا أن تتعلق بخلاف المعلوم.

ومن العجب : أن متعلق القدرة أعم من متعلق الإرادة ، فإن الجائز الممكن من حيث هو ممكن متعلق القدرة والمتجدد من جملة الممكنات هو متعلق الإرادة والمتجدد أخص من الممكن.

ثم قال بعض المخالفين إن خلاف المعلوم غير مقدور وهو أعم فخلاف المعلوم كيف يكون مرادا وهو أخص ، ثم نقول من رأيي الآمر بالشيء لا يكون مريدا لمأمور به من حيث إنه مأمور به قط سواء كان المأمور به طاعة أو غيره ، وقد علم الأمر حصولها ، وسواء كان الآمر بخلاف ذلك فإن جهة المأمور به هو كسب المأمور وقد بينا أن ذلك أخص وصف للفعل سمي به المرء عابدا مطيعا مصليا وصائما مزكيا حاجا غازيا مجاهدا والفعل من هذا الوجه لا ينسب إلى الباري تعالى فلا يكون مريدا له من هذا الوجه بل ينسب إليه من حيث التجدد والتخصيص وما لم يكن الفعل فعلا

١٤٥

للمريد لا يكون مرادا له فما كان من جهة العبد من الذي سميناه كسبا ، ووقع على وفق العلم والأمر كان مرادا ومرضيا أعني مرادا بالتجدد والتخصيص مرضيا بالثناء والثواب والجزاء وما وقع على وفق العلم وخلاف الأمر كان مرادا غير مرضي أعني مرادا بالتجدد غير مرضي بالذم والعقاب وهذا هو سر هذه المسألة ومن اطلع عليها استهان بتهويلات القدرية وتمويهات الجبرية فعلى هذا لم يكن الباري تعالى مريدا للشرور والمعاصي والقبائح من حيث إنها شرور ومعاصي وقبائح ولا هو مريد للخيرات والطاعات والمحاسن من حيث إنها كذلك بل هو مريد لكل ما تجدد وحدث في العالم من حيث إنها متخصصة بالوجود دون العدم ومتقدرة بأقدار دون أقدار ومتأقتة بأوقات دون أوقات ثم ذلك الموجود قد يقع منتسبا إلى استطاعة العبد كسبا على وفق الأمر فسمي طاعة مرضية أي مقبولة بالثناء ناجزا والثواب أجلا وقد يقع على خلاف الأمر فيسمي معصية غير مرضية أي مردود بالذم ناجزا وبالعقاب أجلا ولو لا قدرة العبد في الشيء لكان الفعل فعلا متجددا مختصا بما خصصته الإرادة من غير أن يقال هو خير أو شر إيمان أو كفر فالأفعال كلها من حيث تجددها واختصاصها مرادة للباري تعالى وهي متوجهة إلى نظام في الوجود وصلاح العالم وذلك هو الخير المحض وكانت وجوهها إلى الخير وظهورها من الخير وكان بيده الخير ، وكل ما ورد في القرآن من إرادة الخير المخصوص بأفعال العباد مثل قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، ولكن يريد ليظهركم إلى غير ذلك فهو محمول على أحد معنيين إما ثناء ومدح في الحال ، وإما على ثواب ونعمة في المال ، وإلا فالإرادة الأزلية لا تتعلق إلا بما هو متجدد من حيث أنه متجدد فلا متجدد إلا وهو فعل للباري تعالى من حيث أنه متجدد وذلك لا ينسب إلى العبد كما بينا في خلق الأعمال ، فاختصت الإرادة بأفعال الله سبحانه على الحقيقة دون الوجوه التي تنسب إلى العبد واختص الأمر بأفعال العباد حقيقة دون الوجوه التي تنسب إلى الحق تعالى فلم يجب تلازم الأمر والإرادة ، وقد يرد الأمر بمعنى الإرادة والإرادة بمعنى الأمر فيكون الإطلاق باشتراك في اللفظ فكأن المشركين تمسكوا بهذا اللفظ حيث أخبر التنزيل عنهم (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٤٨] ، أرادوا بذلك المشيئة بمعنى الأمر ، وعن هذا طالبهم بإخراج العلم بذلك وإظهار الحجة عليهم من كتبهم ، وقال :

١٤٦

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ، إذ لم يرد بذلك أمر ولا وجدوا في كتبهم بذلك تكليفا فرد عليهم بإثبات المشيئة بمعنى التخصيص بالوجود والتصريف للأمور فقال تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩].

وقد تمحل أبو الحسن وأصحابه أمثلة في جواز تعلق الإرادة على خلاف الأمر منها أن نبيا لو علم من أحد الأمة أنه لو أمر بعشر خصال من الخير توانى فيها ، ولو أمر بعشرين خصلة ثم حط عشرة منها لم يقصر فيأمره بالعشرين على إرادة امتثال العشرة فهو مأمور بخلاف المراد ومراد بخلاف المأمور ، ومثل هذا قد وقع ليلة المعراج حيث أمر النبي بخمسين صلاة ثم ردت إلى خمس ومنها أن رجلا لو اشتكى عند السلطان من عبيده بعصيانهم عليه ، وقلة مبالاتهم فيستحضرهم الملك فيأمرهم المالك بشيء فهو يريد مخالفتهم إياه تصديقا لمقاله فذلك أمر على خلاف الإرادة ومنها أن الرب تعالى أمر خليله إبراهيم بذبح الولد وهو يريد أن لا يحصل إذ لو أراد لحصل.

وللخصوم عن هذه الأمثلة اعتذارات ، ولنا عنها غنية ، وبما سبق من التحقيق كفاية ومن غرق في بحر الحقيقة لم يطمع في شط ومن تعالى إلى ذروة الكمال لم يخف من حط.

وقد تمسكت المعتزلة بكلمات من ظواهر الكتاب منها قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وقوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء : ٢٧] وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] وقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ، وقوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] ، وقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٤٨] ، وقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وأجابت الأشعرية بتأويلات وتخصيصات.

وأحسن الأجوبة أن نقول : إرادة الله ومشيئته أو رضاه ومحبته لا تتعلق

١٤٧

بالمعاصي قط من حيث إنها معاص كما لا تتعلق قدرته تعالى بأفعال العباد من حيث هي أكسابهم ، فيرتفع النزاع ويندفع التشنيع وخرج ما قدرناه من التحقيق وإن شئت حملت كل آية على معنى يشعر به اللفظ ويدل عليه الفحوى.

أما قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر أي لا يرضاه لهم دينا وشرعا فإنه وخيم العاقبة كثير المضرة كمن يشتري عبدا معيبا فيقول له لا أرضاه هذا لك عبدا ومما يتقوى به هذا المعنى أن الرضى والسخط يتقابلان تقابل التضاد ثم السخط لم يكن محمولا إلا على ذم في الحال وعقاب في المال كذلك الرضى محمول على الثناء في الحال وثواب في المال.

وأما قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٧] ، وسائر الآيات في الإرادة محمولة على كلمة ذكرها الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنه أن الله تعالى أراد بنا شيئا وأراد منا شيئا ، فما أراده بنا أظهره لنا ، وما أراده منا طواه عنا ، فما بالنا نشتغل بما أراده منا عما أراده بنا ، ومعنى ذلك أنه أراد بنا ما أمرنا به ، وأراد منا ما علمه فكانت الإرادة واحدة يختلف حكمها باختلاف وجه تعلقها بالمراد ، وهي إذا تعلقت بثواب سميت رضى ومحبة ، وإذا تعلقت بعقاب سميت سخطا وغضبا ، وكذلك إذا تعلقت بالمراد على وجه تعلق العلم به قبل أراد منه ما علم وإذا تعلقت بالمراد على وجه تعلق الأمر قيل أراد به ما أمر وإذا تعلقت بالصنع مطلقا بالتخصيص والتعيين من غير التفات إلى كسب العبد حتى يكون أراد منه وأراده به قيل أراد الكائنات بأسرها ولم يقل أراد منها وأراد بها بل أرادها على ما هي عليه من التجدد والتخصيص بالوجود دون العدم فإذا أفعال العباد من حيث إنها أفعالهم إما أن يقال تتعلق الإرادة بها لا على الوجه الذي ينسب إلى العباد بل على الوجه الذي انتسب إلى الخلق إيجادا وتخصيصا وإما أن يقال تعلقت الإرادة بها على الوجهين المذكورين إنه أراد بنا وأراد منا وأراد بنا دينا وشرعا واعتقادا ومذهبا وأراد منا ما علم سابقة وعاقبة وفاتحة وخاتمة ودل على صحة هذا المعنى قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ، أي لما لم يشأ الهداية لحق القول على مقتضى العلم السابق.

وقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، أي لأمرهم بالعبادة وقيل ليخضعوا ويستسلموا كما قال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي

١٤٨

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣].

قالت الفلاسفة : النظام في الوجود أو في العالم متوجه إلى الخير لأنه صادر عن أصل الخير والخير ما يتشوق كل شيء إليه ويتميز به وجود كل شيء والأول لما علم نظام الخير على الوجه إلا بلغ في الإمكان فاض منه ما عقله نظاما وخيرا على الوجه إلا بلغ فيضا تاما على أتم تأدية وذلك هو العناية الأزلية والإرادة السرمدية فكان الحيز داخلا في القضاء الإلهي دخولا بالذات لا بالعرض ثم الشر على وجوه فيقال شر لمثل النقص الذي هو الجهل والعجز والتشويه في الخلقة ويقال شر لمثل الوجع والألم والمرض ويقال : شر لمثل الظلم والزنا والسرقة وبالجملة الشر بالذات هو العدم ولا كل عدم بل عدم منقص طباع الشيء من الكمالات الثابتة النوعية والطبيعية والشر المطلق لا وجود له وكذلك الشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظة ، ولو كان له حصول لكان شرا مطلقا عاما ذاتيا موجودا ، وإذا تحقق له وجود فقد حصلت فيه خيرية من جهة وجوده إذ الوجود من حيث هو وجود خير فتحقق أن الشر المطلق لا وجود له إلا في اللفظ والذهن والوجود على كماله الأقصى أن يكون بالفعل وليس فيه أمر ما بالقوة أصلا فلا يلحقه شرا وأما الشر بالعرض فله وجود ما وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة وذلك لأجل المادة فيلحقها الأمر يعرض لها في نفسها وأول وجودها هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه فجعلها أردأ مزاجا وأعصى جوهرا لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية لا لأن الفاعل قد حرم بل لأن المنفعل لم يقبل فربما يؤدي ذلك إلى أن يصدر من تلك البنية أخلاق ردية وربما تستولي نفس حيوانية على نفس إنسانية ، فيصدر عن الشخص أفعال قبيحة ، واعتقادات فاسدة ، وأما الأمر الطارئ على الشخص من خارج فأحد شيئين أما ما يقع للمكمل وأما ما يصادم حق الكمال ومثال ذلك في النوع الإنساني العادات القبيحة التي يتربى عليها الصبي من أول نشوئه والاعتقادات الفاسدة التي يتعلم الصبي من المعلمين والأبوين وإلا فأصل الفطرة كان على استعداد صالح لو لا المانع وعليه دلت الإشارات النبوية كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فالشر إذا داخل في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات إذا وقع فبالحري أن يجازى مجازاة الهلاك والفساد على وجود العلة العارضة فالباري تعالى مريد للخير إرادة بالذات إذ هو مصدر للخيرات ومريد للشر إرادة بالعرض وليس مصدر الشرور وانقسمت الأمور إذا توهمت موجودة إلى خير مطلق

١٤٩

وإلى شر مطلق وإلى خير ممزوج بشر والأخير إما أن يتساوى فيه الخير والشر أو يغلب أحدهما أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع وفي الخلقة وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه والغالب أو المساوئ فلا وجود له أصلا فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن شر فالأحرى به أن يوجد فإن لا يكون أعظم شرا من كونه فواجب أن يقتضي وجوده من حيث يقتضي منه الوجود لئلا يفوت الخير الكلي بوجود الشر الجزئي وأيضا لو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إليه بالعرض فكان منه أعظم حالا في نظام الخير الكلي كمثل النار فإن الكون إنما يتم بأن تكون فيه نار ولن يتصور وجودها إلا على وجه تحرق وتسخن ولم يكن بد من المصادفات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فتحرقه فالأمر الدائم والأكثر حصول الخير من النار أما الدائم فلأن أنواعا كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بالنار وأما الأكثر فإن أكثر أنواع الأشخاص في كنف السلامة عن الاحتراق ، فما كان يحسن أن يترك المنافع الدائمة الأكثرية لأعراض شرية أقلية فإرادات الباري تعالى الخيرات الكائنة على مثال هذه الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال أرادها بالذات وبالقصد الأول وأراد الشرور الكائنة غير أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال : أرادها إرادة بالعرض وبالقصد الثاني فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل يقدر ولو لم يقرر الأمر على ما قررناه للزم أن يكون مصدر الخير غير مصدر الشر وذاك مذهب الثنوية.

قال المتكلمون : لا تنازعكم في اصطلاحكم على أن الخير المحض ما هو أو أن الخير المحض ممن هو وأن النظام في العالم متوجه إلى كمال في الوجود وإنما النزاع بيننا في الخيرات التي تتعلق بأفعال العباد وإكسابهم مثل الاعتقادات الفاسدة والجهالات الباطلة والأخلاق الرديئة والأفعال القبيحة أهي حاصلة بإرادتنا دون إرادة الباري أم هي مرادة له عزوجل وما سوى ذلك من الصور القبيحة والحيوانات المؤذية والآفات السماوية والعاهات الأرضية وما يتبعها من الهموم والغموم والآلام والأوجاع ، فلا نزاع فيها أهي خيرات أم شرور ولا نقول هي خيرات ومصالح وتحت كل منها شر ومع كل بلاء ومحنة لطف وفي كل فتنة وآفة صلاح ولكل حيوان يؤذي خاصية ومودع في كل جسم من الأجسام منفعة ومضرة وكل مضرة فبالنسبة إلى شيء آخر منفعة لكنا نلزمكم أمرا كليا فإن عندكم الوجود كله بما فيه من الروحاني والجسماني صادر عن الأول على الترتيب المذكور صدور اللوازم عن الشيء وما كان على سبيل اللوازم فهو بالقصد الثاني أشبه منه بالقصد الأول فما الفرق بين الشرور الواقعة في

١٥٠

الكائنات وكونها مقتضية بالعرض وبين أصل الكون والكائنات وحصولها على سبيل اللزوم ، فليس إذا في الوجود شيء هو مقتضى بالذات حتى يكون شيء آخر هو مقتضى بالعرض ، وما ذكرتموه من حد الخير أنه يتشوقه الكل يبطل قاعدتكم في الإرادة فإن الباري لا يتشوق الخير بل يتشوقه الكل فهو الخير المحض وهو المراد لا المريد وما سواه فليس بخير ولا مراد إذ لا يتشوقه الباري تعالى فلم يرده ويرجع الكلام إلى شبه الطامات ، وقولكم إنه إذا علم النظام وأبدعه فقد أراده فجعلتم الإرادة مركبة من سلب وإضافة أما السلب فمن جهة أنه عالم أي غير محتجب عن ذاته بذاته وأما الإضافة فمن جهة أنه مبدأ النظام الخير والنظام في الوجود تابع ولازم لكونه عالما والشر في الوجود لازم وتبع للنظام فما الفرق بين لازم ولازم وعندكم الجزئيات معلومة تتبع الكليات والكليات معلومة تبعا لعلمه وهي معلومة على منهاج كونها معلومة فالشر والقبائح يجب أن تكون مرادة على منهاج كونها معلومة وقولكم الشر المحض ليس بموجود أصلا فإن الوجود اشتمل على الخير أو هو خير كله.

فنقول أثبتم ترتيبا في الوجود حتى قضيتم بأن الوجود في بعض الموجودات أول وأولى وفي بعضها لا أول ولا أولى فهلا أثبتم فيه تضادا أيضا حتى تحكموا بأن الوجود في بعض الموجودات خير كله وفي بعضها شر كله وقد سمعتم من أصحاب الشرائع إثبات الملائكة الروحانيين وذلك خير كله وإثبات الشياطين وهذا شر كله ، وأصحاب الأصلين النور والظلمة يقرءون عليكم السلام للإلزام وأصحاب الكلام يلزمونكم إثبات موجودات في العالم غير مستندة إلى الموجد كأنها وقعت اتفاقا لا قصدا أو حدثت فلتة لا إرادة واختيارا فإن كانت لا مستند لها فهي مخلوقة لا خالق لها وإن كان مستندها خيرا محضا فكيف يصدر الشر من الخير وإن كان مستندها شرا محضا فالشر المحض لا وجود له عندكم فما الجواب وكيف الخروج عن عهدة الخطاب.

ونقول نرى العالم الجسماني مملوء بالبلايا والمحن والرزايا والفتن ومشحونا بالآفات والعاهات والطوارق والحسرات ومتموجا بالجهالات وفاسد الاعتقادات وأكثر الخلق على الأخلاق الذميمة والخصال اللئيمة واستيلاء القوة الشهوية والغضبية على العقلية حتى لا تكاد تجد في قرن من القرون إلا واحدا يقول بالحكمة الإلهية التي هي التشبه بالإله عندكم أو فرقة يسيرة ترتسم بالمراسيم الشرعية التي هي امتثال الأوامر الإلهية عندنا بل أكثرهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١] ، (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)

١٥١

[الأعراف : ١٠٢] ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [السبأ : ١٣] ، فكيف يستمر لكم معاشر الفلاسفة إن الشر في العالم بمطلقه لا يوجد وبأكثره لا يتحقق وقد صادفتم الوجود على خلاف ما قررتم ، فاعتبروا النفوس الإنسانية والغالب على أحوالها من العلم والجهل وعلى أخلاقها من الحسن والقبيح وعلى أقوالها من الصدق والكذب وعلى أفعالها من الشر والخير تعلمون أن الشر في العالم الجسماني أغلب وأكثر خصوصا في النفوس الإنسانية وبالجملة فحيث ما وجدنا الفطرة والتقدير الإلهي غالبا على الاختيار والاكتساب البشري كان الغالب هو الخير والصلاح ، وحيث ما وجدنا الاختيار والاكتساب غالبين كان الغالب هو الشر والفساد ، فعاد الأمر إلى أن لا شر في الأفعال الإلهية ، فإن وجد فيها شر فبالإضافة إلى شيء دون شيء وإنما يدخل الشر في الأفعال الإنسانية الاختيارية وهي أيضا من حيث إنها تستند إلى إرادة الباري سبحانه خير ومن حيث إنها تستند إلى اكتساب العبد تكتسب اسم الشر ، غير أن الشرائع قد وردت بإثبات الشياطين وإثبات رأسهم إبليس اللعين وليس يمكن إنكار ذلك بعد ثبوت الصدق في أقوالهم وأخبارهم بالبينات الواضحة والمعجزات الباهرة وقد اعترف بوجودها قدماء الحكماء قالوا ما من شيء جزئ في العالم إلا ويتحقق له في عالم آخر أمر كلي فبالحرارة الجزئية استدل على نار كلية وبالعقل الجزئي يستدل على عقل كلي وكذلك ساير الأمور فالبشر الجزئي في العالم يستدل على شر كلي وكذلك أثبت المجوس وأصحاب الاثنين للعالم أصلين هما منبع الخير والشر والنفع والضر وهم النور والظلمة كما سبق ذكر مذاهبهم ، وقد استوفيناها في كتابنا الموسوم بالملل والنحل وبالجملة الفلاسفة منازعون في ثلاثة أحوال : أولها نفي محض موجود وهو أصل الشر بالذات لا بالعرض والثاني كون الخير في النوع الإنساني أكثر وأغلب ، والثالث : إثبات موجودات لا مستند لها على طريق الإيجاد بالذات وبالقصد الأول وما لم تثبت هذه الأصول لم يتم لهم ما ذكروه والله أعلم وأحكم.

القول في الكلام حصرناه في ثلاث قواعد إحداها : إثبات كون الباري تعالى متكلما بكلام أزلي ، والثانية : في أن كلامه واحد ، والثالثة : في حقيقة الكلام شاهدا وفي أحكامه.

١٥٢

القاعدة الثانية عشرة

في كون الباري متكلما بكلام أزلي (١)

ولما لم نجد في الملة الإسلامية من يخالفنا في كون الباري تعالى متكلما بكلام قدمنا هذه المسألة وإن جرت العادة بتقديم المسألة الأخيرة ولم يخالفنا في ذلك إلا الفلاسفة والصابئة ومنكرو النبوات وطرق متكلمي الإسلام تختلف.

فطريق الأشعرية : أن قالوا دل العقل على كون الباري تعالى حيا والحي يصح منه أن يتكلم ويأمر وينهى كما يصح منه أن يعلم ويقدر ويريد ويسمع ويبصر ، فلو لم يتصف بالكلام أدى إلى أن يكون متصفا بضده وهو الخرس والعي والحصر وهي نقائض ويتعالى عنها.

والذي يتحقق هذه الطريقة قولهم : قد ثبت بدليل العقل أنه ملك مطاع ، ومن حكم الملك أن يكون منه أمر ونهي ، كما دل تردد الخلق في صنوف التغايير والحوادث والجائزات على كون الباري تعالى قادرا عالما دل تردد الخلق في صنوف الأمر والنهي على أمر الباري ونهيه وكما جرى في ملكه تقديره جرى على عباده تكليفه وكما تصرف في الموجودات الجبرية جبرا وقهرا تصرف في الموجودات الاختيارية تكليفا وتعريفا.

وقد سلك الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني رحمه‌الله منهاجا آخر فقال : دلت الأفعال بإتقانها وإحكامها على أنه تعالى عالم ويستحيل أن يعلم شيئا ولا يخبر عنه ، فإن الخبر والعلم يتلازمان ، فلا يتصور وجود أحدهما دون الثاني ومن لا خبر عنده عن معلومه لا يمكنه أن يخبر غيره عنه ، ومن المعلوم أن الباري يصح منه التكليف والتعريف والإخبار والتنبيه والإرشاد والتعليم ، فوجب أن يكون له كلام وقول يكلف ويعرف ويخبر وينبه بذلك فإذا ثبتت هذه الدلائل كونه متكلما.

فنقول : إما أن يقال هو متكلم لنفسه أو متكلم بكلام ثم إن كان متكلما بكلام فإما أن يكون كلامه قديما أو حادثا ، وإن كان حادثا فإما أن يحدث في ذاته أو في محل

__________________

(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم لابن عيسى (١ / ٢٩٥ ، ٢٩٨) ، وشفاء العليل لابن قيم (١٥٣) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٨٨ ، ١٠٤) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٦٠١ ، ٦٠٣) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٨٠) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٢٩٩).

١٥٣

أو لا في محل ولا قائل بكونه متكلما لنفسه من المعتزلة وغيرهم إذ لو كان يعم تعقله أزلا وأبدا ، ولا قائل بكلام يخلقه لا في محل لأن في نفي المحل نفي الاختصاص ، وفيه إبطال التفرقة بين ما يقوم بنفسه وبين ما لا يقوم بنفسه ومن قال هو متكلم بكلام يحدثه في ذاته كما صارت إليه الكرامية فقد سبق الرد عليهم ومن قال هو متكلم بكلام يخلقه في محل كما صار إليه المعتزلة فقد خالف قضية العقل فإن الكلام لو قام بمحل لكان المحل متصفا به دون غيره من الفاعل وغيره كما لو تحرك متحرك بحركة يخلقها الله لم يرجع أخص وصفها إلى الفاعل ، وكذلك سائر الأعراض فبقي أنه متكلم بكلام قديم أزلي يختص به قياما ووصفا وذلك ما أثبتناه.

قالت الفلاسفة والصابئة : قولهم الحي يصح منه الاتصاف بالكلام لأنه لو لم يتصف به لا تصف بضده وكثيرا يطردون هذا الدليل في سائر الصفات ، وهي دعوى مجردة لا برهان عليها إلا الاسترواح إلى الشاهد ونحن نورد عليكم نقضا لهذه القاعدة حتى يتبين أن اعتذاركم عن النقض اعتذارنا عن هذه الدعوى ، وذلك أن الحي يصح منه الاتصاف بالحواس الخمس ثم الثلاث منها كالشم والذوق واللمس يصح في الشاهد ويصح وصفه بها والاتصاف بها كما يصح منه الاتصاف بالسمع والبصر والكلام ثم لم يجز طرد ذلك كله في الغائب ولا يقال إنه لو لم يتصف بها كان موصوفا بضدها بل يجب أن يقال يتعالى الحق عنها وعن أضدادها كذلك قولنا في السمع والبصر والكلام واعتذاركم إن اتصال الأجرام بتلك الحواس شرط في الشاهد ، كذلك اعتذارنا أن البنية واتصال الأجرام واصطكاكها شرط في الشاهد ، فلا يجوز أن يوصف الحي بها ولا بضدها جميعا وكثيرا ما يكون من الصفات كمالا في الشاهد ونقصانا في الغائب فبقيت الحجة الأولى عرية عن البرهان ، وأما قولكم إن الرب تعالى ملك مطاع ذو أمر ونهي فمسلم لكنكم معاشر المتكلمين أنتم منازعون في إثبات الكلام له هو أمر ونهي على وجه يتصف به إما قياما بذاته وإما قياما بغيره ، فإنا نقول : هو ملك مطاع وله أمر ونهي لا على طريق قولي بل على طريق فعلي وهو تعريف المأمور خبرا أن الفعل المأمور به واجب الإقدام عليه بأن يخلق له معرفة ضرورية أن الأمر كذلك إما أن يتكلم بكلام يخلقه في محل أو يتكلم أزلا وأبدا بكلام يسمع في حال ولا يسمع في حال فهو من أمحل المحال وهذا لأن تصريفه تعالى جواهر الخلائق بالفعل على وجه ينقاد له طوعا وكرها لما خلقه له وقدره فيه نازلا منزلة القول ألستم تقرءون في كتابكم (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ

١٥٤

كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، ثم ذلك ليس خطابا قوليا بل تصريفا وتسخيرا بحيث لو عبر عن تلك الحالة من التصريف والانقياد كان ذلك أمرا بالإتيان وجوابا بالطاعة لا بالعصيان وعلى ذلك المنهاج سيرة العباد في البلاد وتيسيره السير فيها حالة لو عبر عنها بالقول لكان خطابا لهم (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) [سبأ : ١٨] ، وكذلك كل موجود أبدعه الباري تعالى بلا زمان وبلا مادة ولا آلة بحيث لو عبّر عن حال الإيجاد والإبداع كان ذلك أمرا بالتكون كما قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، وإلا فالخطاب القولي مستحيل أن يتوجه إلى العدم ، وهذا في المبدأ كذلك نقول في حال الكمال أعني كمال حال الإنسان من النبوة والرسالة أو كمال حال الملائكة من الروح والواسطة فهم يصلون إلى حال في النفوس الشريفة والمناسبات اللطيفة بين الأرواح المجسدة المشخصة وبين الروحانيات البسيطة المجردة بحيث لو عبر عن تلك الحالة كان ذلك وحيا وتنزيلا وخطابا وسؤالا وجوابا وتقريبا وإيجابا وقالوا أيضا لو قدر للباري تعالى كلام فلم يخل من أحد الأمرين أما إن كان من جنس كلام البشر أو لم يكن فإن كان لم يخل أيضا من أحد الأمرين أما إن كان من جنس الكلام اللساني أو من جنس النطق النفساني ويستحيل أن يكون كلامه مثل الكلام في اللسان فإن هذا مركب من حروف منظومة والحروف تقطيع أصوات والأصوات اصطكاك أجرام والباري سبحانه تعالى عن أن يكون جرما أو مركبا من جرم وجسم وإن قدر كلامه يخلقه في محل لم يكن ذلك الكلام قولا له بل فعلا ونحن نوافقكم في التعريفات الفعلية على أن هذا التقدير يستحيل أيضا فإن ذلك المحل إما أن يشتمل على مخارج الحروف أولا يشتمل فإن اشتمل وجب أن يتحقق فيه حياة فيكون ذا بنية وهيئة إنسانية فيكون إنسانا فيكون الباري تعالى متكلما بلسان بشر فيكون قد تصور بصورة البشر فيلزم أن يقال إنه يسمع بسمعه ويبصر ببصره كما نطق بلسانه ويأخذ بيده ويمشي برجله وهذا هو الحلول الذي ذهب إليه أصحابه وإن لم يشتمل على مخارج الحروف كانت أصواتا مجردة لا حروفا منظومة فلا يكون كلامه من جنس كلامنا بل الأصوات الحادثة من حفيف الشجر ودوي الماء وصوت الرعد يكون كلاما له وذلك خلاف الكلام المتعارف فإن قيل إن كلامه من جنس النطق النفساني فهو باطل أيضا فإن النطق النفسي على وجهين أحدهما ما هو مأخوذ في اللسان عربيا وعجميا وغير ذلك إلى ما

١٥٥

يعلم من المعلمين فيكون ذلك تقديرات حروف في الخيال وتصويرات كلمات في الوهم ويستحيل أن يكون كلامه تعالى من جنس المأخوذات والثاني ما هو مركوز في طبيعة النفس من التمييز والتفكير بحيث يعبر عنه باللسان فيكون هو مأخوذ اللسان وذلك أيضا مستحيل لأن ذلك يقتضي ترديد الخواطر وتقليب الأفكار والابتداء من مبدأ والانتهاء إلى منتهى وذلك كله محال فثبت أنه لا يجوز أن يكون من جنس كلام البشر وما كان خارجا عن كلام البشر لا يجوز أن يثبت بالاستدلال على كلام البشر لأن غير الجنس لا يدل على الجنس فيخرج على هذا قولكم إن كل عالم يجد من نفسه خبرا عن معلومه فإن هذا وإن سلم في الشاهد فكيف يستمر لكم طرده في الغائب مع تسليمكم أن الخبرين لا يتماثلان إلا في اسم الخبرية وكذلك قولكم إن كل ملك مطاع يجب أن يكون صاحب أمر بالتكليف فإنه مسلم في الشاهد على ما ذكرنا غير مطرد في الغائب على المنهج الذي هو معتاد في الشاهد وهذا الإلزام ليس يختص بمسألة الكلام بل متوجه على من يجمع بين الشاهد والغائب في معنى لا يشتركان فيه جنسا ومماثلة ويكون حكمه حكم من يجمع بين قرص الشمس ومنبع الماء لا في معنى يشتركان فيه جنسا ومماثلة بل بمجرد اسم العين المطلق عليهما بالاشتراك.

قال المتكلمون : الطريقة المختارة عندنا في إثبات الصفات الاستدلال بالدلائل التي نجدها في الشاهد ، فإنا بالأحكام استدللنا على العلم ، وبوقوع الأفعال على القدرة ، وبالاختصاص ببعض الجائزات على الإرادة ، كذلك نستدل بالتكاليف على العباد ذوي العقول والاستطاعة على أن الباري تعالى آمر ناه وله الأمر والنهي والوعد على إتيان المأمور به ، والوعيد على فعل المنهي عنه ، وهذا لا يتصور من جنس الفعل ، وإنما يتحقق من جنس القول ، فيستدل بالوجوه التي في الصنائع والأفعال على أنه تعالى خالق وبالوجوه التي في الشرائع والأحكام على أنه تعالى آمر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] ، ووجه الاستدلال من الشرائع والأحكام أن التكليف اقتضاء وطلب المأمور به والاقتضاء قضية معقولة وراء العلم والقدرة والإرادة ، أما وجه المباينة بينها وبين العلم أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به وليس في تعلقه اقتضاء المعلوم بل هو تبيين وانكشاف ومن خاصيته أن يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل والاقتضاء والأمر لا يتعلق بالواجب والمستحيل وأما وجه مباينته للقدرة أن القدرة صالحة للإيجاد فقط ، وإنما تتعلق بالممكن ويستوي في تعلقه كل ممكن في ذاته والاقتضاء والأمر والنهي لا يتعلق بكل ممكن ليحصل وجوده ، وأما

١٥٦

وجه مباينته الإرادة أن الإرادة صالحة للتخصيص ببعض الجائزات فقط وإنما تتعلق بالمتجدد من جملة الممكن ويستوي في تعلقه كل متجدد متخصص والاقتضاء والطلب يختلف من جهة تجدده وقد بينا أن من الأشياء ما يراد ولا يؤمر به ، ومنها ما يؤمر به ولا يراد بل الإرادة من حيث الحقيقة لا تتعلق إلا بفعل المريد والأمر والاقتضاء لا يتعلق من حيث الحقيقة إلا بفعل الغير فكيف تتحدان حقيقة وخاصية فثبت أن مدلول التكاليف من حيث الحدود والأحكام قضية وراء العلم والقدرة والإرادة وذلك ما عبرنا عنه بالقول والكلام وعبر التنزيل عنه بالأمر والخطاب ومن وجه آخر نقول الحركات الاختيارية التي اختصت بتصرفات الإنسان ثلاث : حركة فكرية وهي من تصرفات عقله وفكره وحركة قولية وهي من تصرفات نفسه ولسانه وحركة فعلية وهي من تصرفات بدنه والقوى البدنية وما من حركة من هذه الحركات إلا ولله فيها حكم بالأمر والنهي فإن الفكرية تشتمل على حجة وشبهة وصواب وخطأ وحق وباطل والقولية تشتمل على صدق وكذب وإقرار وإنكار وحكمة وسفه والفعلية تشتمل على خير وشر وطاعة ومعصية وصلاح وفساد وقد قام الدليل على أن الباري تعالى حكم عدل وله حكم وقضية في كل حركة من هذه الحركات وذلك الحكم إما أن يكون فعلا من الأفعال وإما أن يكون قولا من الأقوال واستحال أن يكون فعلا يفعله فإن كل فعل فهو مسبوق بحكمه بل ذلك الفعل دليل على حكمه وحكمه مدلول فعله وكما أن الحركات الضرورية دلت باختصاصها ببعض الجائزات دون البعض على علمه وإرادته وقدرته كذلك الحركات الاختيارية دلت باختصاصها ببعض الأحكام دون البعض على حكمه وأمره وقضيته وقولكم إن التصريف بالفعل نازل منزلة التكليف بالقول مسلم فيما يرجع إلى أفعال غير اختيارية للإنسان لكن الأفعال الاختيارية لما استدعت ممن له الخلق والأمر حكما واقتضاء وطلبا فكل فعل وتصريف من الخالق يدل على حكمه واقتضائه وذلك بعينه هو غرضنا ومرادنا.

فنقول ذلك الفعل من وجه إحكامه دل على علم الفاعل ومن وجه وقوعه دل على قدرته ومن وجه اختصاصه دل على إرادته ومن وجه تردده بين الجواز والحظر والإباحة دل على أن للباري تعالى فيها حكما وقضية ثم ذلك الحكم قد يكون أمرا وقد يكون نهيا وقد يكون إباحة فقد سلمتم المسألة من حيث منعتموها.

فنقول إثبات الكلام والأمر والنهي يبنى على جواز انبعاث الرسل فإن من أحال كونه متكلما يلزمه أن ينكر كونه مرسلا رسولا ومن جوز على الله تعالى أن يبعث رسولا فذلك الرسول يبلغ رسالات الله لا محالة ورسالاته أوامره ونواهيه وحملها على

١٥٧

فعل يفعله في محل بحيث يفهم من ذلك الفعل أنه يريد من المكلف فعلا ويكره فعلا تسليم المسألة فإن تلك الإرادة التي تتعلق بفعل الغير حتى يفعله إرادة تضمنت اقتضاء وحكما وإلا كانت تمنيا وتشهيا وذلك الذي يسمى أمرا ونهيا وسميتموه إرادة وكراهية فإذا مدلول ذلك الفعل الذي أشاروا إليه هو الذي يسميه الشرع كلاما وأمرا ونهيا وعلى منهاج الحكم الفلسفية إذا انتهى الإبداع والخلق إلى غاية تهيأت الأمزجة المعتدلة لقبول النفس الناطقة التي تفكر بالروية وتتصرف بالاختيار وكان من المختارين بهذه النفس على روية الحق والصواب واختيار الأفضل والاجتناب عن الأرذل ومنهم من يتوانى ويكسل حتى يبطل ذلك الاستعداد ويستعمله في جانب الباطل والخطأ واختيار الأرذل والاجتناب عن الأفضل وجب أن يكون من عند الحكيم حكم على هذه النفس الناطقة وهي ملتبسة في هذا البدن الجسماني وحكم عليها وهي مفارقة له فذلك الحكم الأول هو الذي نعني به بأنه أمر ونهي وهذا الحكم الثاني هو الذي نعني به أنه وعد ووعيد ومن نفى هذا الحكم فقد نفى كونه ملكا مالكا لملكه فيكون له خلق ولا يكون له أمر ويكون في جانب المخلوق كله جبرا ولا يكون اختيارا ثم يلزم أن تكون النفوس الناطقة كائنة فاسدة لا معاد لها ولا كمال ولا جزاء على أفعالها ولا ثواب وذلك يبطل قضية الحكمة ونحن نرى من النفوس الحيوانية ما لا يتفاهم بعضها من بعض إلا بإحدى من الحواس الأربع وهي اللمس والذوق والشم والبصر ومنها ما يتفاهم بها وبالسمع أيضا ثم منها ما يكون له مجرد الصوت من غير لحن ومنها ما يكون له مع صوته لحن ثم من أصحاب الألحان ما يكون من ذوات الحروف المقطعة ومنها ما لا يكون إلى أن يبلغ الأمر والحال إلى ترصيع الكلمات من الحروف وترتيب الحروف في الكلمات فيكون ذلك دلالة على ما في النفوس الناطقة وليس كل مرتبة من هذه المراتب من جنس المرتبة التي قبلها لكنها كمالات النفوس بعد كمالات إلى أن تبلغ إلى النفس الناطقة الإنسانية فيحدس منها أن مرتبتها لما كانت فوق مرتبة سائر النفوس دل ذلك على أن مرتبة النفوس الروحانية والأرواح الملكية فوق مرتبة هذه النفوس في التفاهم وكما لا تكون المرتبة التي للناطقة من جنس المرتبة التي للطير والبهائم كذلك لا تكون المرتبة التي للملائكة الروحانية من جنس المرتبة التي لنا بل تكون أشرف وألطف غير أنا بهذا الجنس استدللنا على ذلك النوع كما استدللنا بنوع من الحدس في الأمور الغائبة على نوع من الحدس في أمور الغيب إلى أن يصل الكمال إلى حد من الخليقة فيقف الترتيب في المراتب فيستدل بذلك على أن أمر من له الخلق والأمر فوق الأوامر النطقية الإنسانية والفكر العقلية وأنه بوحدته فكر في معنى كل

١٥٨

كلام ونطق وخبر واستخبار وأمر ونهي ووعد ووعيد وأن سمعا يسمع كلامه فوق كل سمع هو مفطور للحرف والصوت كما أن سمعا يسمع الحروف والصوت فوق سمع هو مجبول بمجرد الصوت فنحن إذا لم نستدل بجنس على جنس بل بجنس على ما هو فوق الجنس فبطل استرواحهم إلى التقسيم الذي ذكروه.

ثم نقول آنفا ألستم تقولون إن واجب الوجود من حيث يعطي العقل في المعقول عاقل ومن حيث يعطي البدء في المبدأ قادر ومن حيث يعطي النظام على أتم وجوه الكمال مريد فهلا قلتم إنه من حيث يعطي النطق الروحاني للمفارقات والنطق النفساني لذوات القوالب آمر متكلم ثم هلا حملتم كلامه وأمره على ما حملتم علمه وقدرته وإرادته فيصير التنازع واحدا بيننا ويرجع الأمر إلى مسألة الصفات فما الذي عدا مما بدا وكيف اشتملت مسألة الكلام على محال لم تشتمل عليه مسألة العلم والقدرة عندكم.

قالت المعتزلة نحن نوافقكم على أن الباري تعالى متكلم لكن حقيقة المتكلم من فعل الكلام فهو فاعل الكلام في محل بحيث يسمع ويعلم أنه كلامه ضرورة لأنه لو كان المتكلم من قام به الكلام كما ذهبتم إليه وجب أن يكون كلامه إما قديما وإما حادثا وإن كان قديما ففيه إثبات القديمين ويرجع القول إلى مسألة الصفات ومما يختص بهذه المسألة من الاستحالة أنه لو كان قديما وهو أمر ونهي لزم أن يكون كلاما مع نفسه من غير مأمور ولا منهي ومن المحال الذي لا يتمارى فيه أن القول ب (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] ، ولا نوح ولا قومه إخبار عما ليس كما هو فهو مع استحالته كذب ومع كذبه محال وقوله (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] ، لموسى ولا موسى ولا طور ولا الوادي المقدس طوى خطاب المعدوم والمعدوم كيف يخاطب وكذلك جميع ما في القرآن من الأوامر والنواهي والأخبار فوجب أن يكون الكلام يحدث عند حدوث المخاطب في الوقت الذي يصل الخطاب إليه فيكون الكلام حادثا ثم إما أن يحدث في ذاته كما صارت إليه الكرامية فيكون محلا للحوادث وذلك باطل وإما أن يحدث لا في محل أو في محل ولا بدّ من محل فإنه حرف والحرف تقطيع صوت والصوت في الجسم متصور فتعين أنه في جسم.

قالت الأشعرية : بنيتم مذهبكم على قاعدتين إحداهما تسليمكم كون الباري تعالى متكلما والثانية أن حد المتكلم وحقيقته من فعل الكلام فأما الأولى فلو نازعكم الصابئ والفيلسوف في كونه متكلما فما دليلكم في ذلك عليهما وعندكم الكلام فعل

١٥٩

الباري تعالى كسائر الأفعال ولا يرجع إليه حكم الكلام إلا أنه فاعل صانع فما الدليل على أنه متكلم أعني يوصف بمعنى يقوم بمحل آخر فما الفرق بين مذهبكم وبين مذهب من قال إنه يخلق فعلا يفهم عند ذلك أنه تعالى يريد من العبد فعلا أو يكرهه ، وإن أضيف إليه الكلام كان مجازا كما قال تعالى خطابا للسماء والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، فلم يجز من حيث الحقيقة كلام هو اقتضاء وأمر وإيجاب من الله تعالى ولا تسلم وائتمار واستيجاب من السماء والأرض من حيث القول.

قالوا : طريقنا في إثبات كونه متكلما هو المعجزات الدالة على صدق قول الأنبياءعليهم‌السلام وهم الصادقون المخبرون عن الله تعالى أنه قال كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا.

قيل لهم : قد سددتم على أنفسكم هذه الطريقة بوجوه ؛ أحدها : أنكم زعمتم أنه لو لم يبعث الله رسولا كان على العاقل البالغ في عقله وجوب معرفة الله تعالى وعلى الباري تعالى وجوب ثوابه فلو لم يبعث الله رسولا فبم كنتم تثبتون كونه متكلما والثاني مصيركم إلى أن الكلام فعل من الأفعال فما دليلكم على أنه فعل ذلك الفعل الخاص ؛ إذ ليس كل مقدور فهو واقع بفعل الله تعالى والثالث زعمتم في الإرادة أنها مخلوقة لا في محل وفي الكلام أنه مخلوق في محل وفي الأمرين جميعا يرجع الحكم الأخص إلى الباري تعالى فما الفرق بين البابين.

ثم نقول : ليس يشك العاقل أن الكلام معنى من المعاني سواء كان ذلك المعنى عبارة منظومة من حروف منظومة وأصوات مقطعة أو كان صفة نفسية ونطقا عقليا من غير حرف وصوت وكل معنى قائم بمحل وصف المحل به لا محالة وذلك المعنى من حيث هو مخلوق مفعول ينسب إلى الفاعل ومن حيث هو معنى قام بمحل فينسب إلى المحل فمحل المعنى موصوف به لا محالة فالذي وصف الفاعل به هو وجه حدوثه منتسبا إلى قدرته حتى يقال محدث والذي وصف المحل به وجه تحققه منتسبا إلى ذاته القابلة له الموصوفة به وهذان وجهان معقولان ليس يتمارى فيهما عاقل فجعلهما وجها واحدا حتى يكون معنى كونه فاعلا هو معنى كونه موصوفا به خروج عن المعقول ومكابرة العقل ولا يرتفع المعنى المعقول بالاصطلاح على أن معنى المتكلم هو الفاعل للكلام.

ومما يدل على ذلك دلالة واضحة أن الكلام عند الخصم عبارة عن حروف

١٦٠