نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

قال النافون : الكلام على المذهب ردا وقبولا إنما يصح بعد كون المذهب معقولا ونحن نعلم بالبديهة أن لا واسطة بين النفي والإثبات ولا بين العدم والوجود وأنتم اعتقدتم الحال لا موجودة ولا معدومة وهو متناقض بالبديهة ثم فرقتم بين الوجود والثبوت فأطلقتم لفظ الثبوت على الحال ومنعتم إطلاق لفظ الوجود فنفس المذهب إذا لم يكن معقولا فكيف يسوغ سماع الكلام والدليل عليه.

ومن العجائب أن ابن الجبائي قال لا توصف بكونها معلومة أو مجهولة وغاية الاستدلال إثبات العلم بوجود الشيء فإذا لم يتصور له وجود ولا تعلق العلم به بطل الاستدلال عليه وتناقض الكلام فيه.

ثم قالوا : ما المعني بقولكم الافتراق والاشتراك قضية عقلية إن عنيتم به أن الشيء الواحد يعلم من وجه ويجهل من وجه ، فالوجوه العقلية اعتبارات ذهنية وتقديرية ولا يقتضي ذلك صفات ثابتة لذوات وذلك كالنسب والإضافات مثل القرب والبعد في الجوهرين فإن عنيتم بذلك أن الشيء الواحد تتحقق له صفة يشارك فيها غيره وصفة يمايز بها غيره فهو نفس المتنازع فيه ، فإن الشيء الواحد المعين لا شركة فيه بوجه والشيء المشترك العام لا وجود له البتة.

وقولهم : إن نفي الحال يؤدي إلى حسم باب الحد والحقيقة والنظر والاستدلال بالعكس أولى فإن إثبات الحال التي لا توصف بالوجود والعدم وتوصف بالثبوت دون الوجود حسم باب الحد والاستدلال فإن غاية الناظر أن يأتي في نظره بتقسيم دائر بين النفي والإثبات فينفي أحدهما حتى يتعين الثاني ومثبت الحال قد أتى بواسطة بين الوجود والعدم فلم يفد التقسيم والإبطال علما ولا يتضمن النظر حصول معرفة أصلا ثم الحد والحقيقة على أصل نفاة الأحوال عبارتان عن معبر واحد فحد الشيء حقيقته وحقيقته ما اختص في ذاته عن سائر الأشياء ولكل شيء خاصية بها يتميز عن غيره وخاصيته تلزم ذاته ولا تفارقه ولا يشترك فيها بوجه وإلا بطل الاختصاص وأما العموم والخصوص في الاستدلال فقد بينا أنه راجع إلى الأقوال الموضوعة لها ليربط شكلا بشكل ونظيرا بنظير والذات لا تشتمل على عموم وخصوص البتة بل وجود الشيء وأخص وصفه واحد.

قال المثبتون نحن لم نثبت واسطة بين النفي والإثبات ، فإن الحال ثابتة عندنا ولو لا ذلك لما تكلمنا فيها بالنفي والإثبات ولم نقل على الإطلاق إنه شيء ثابت على حياله موجود فإن الموجود المحدث إما جوهر وإما عرض وهو ليس أحدهما بل هو صفة معقولة لهما فإن الجوهر قد يعلم بجوهريته ولا يعلم بحيزه وكونه قابلا للعرض

٨١

والعرض يعلم بعرضيته ولا يخطر بالبال كونه لونا أو كونا ثم يعرف كونه لونا بعد ذلك ولا يعرف كونه سوادا أو بياضا إلا أن يعرف والمعلومان إذا تمايزا في الشيء الواحد رجع التمايز إلى الحال ، وقد يعلم ضرورة من وجه ويعلم نظرا من وجه كمن يعلم كون المتحرك متحركا ضرورة ثم يعلم بالنظر بعد ذلك كونه متحركا بحركة ولو كان المعنيان واحد لما علم أحدهما بالضرورة والثاني بالنظر ولما سبق أحدهما إلى العقل وتأخر الآخر ومن أنكر هذا فقد جحد الضرورة ونفاة الأعراض أنكروا أن الحركة عرضا زائدا على المتحرك وما أنكروا كونه متحركا وأنتم معاشر النفاة وافقتمونا على أن الحركة علة لكون الجوهر متحركا وكذلك القدرة والعلم وجميع الأعراض والمعاني والعلة توجب المعلول لا محالة ، فلا يخلو إما أن توجب ذاتها وإما شيئا آخر وراء ذاتها ويستحيل أن يقال توجب ذاتها فإن الشيء الواحد من وجه واحد يستحيل أن يكون موجبا وموجبا لنفسه وإن أوجب أمرا آخر فذلك الأمر إما ذات على حيالها أو صفة لذات ويستحيل أن تكون ذاتا على حيالها فإنه يؤدي إلى أن تكون العلة بإيجابها موجدة للذوات وتلك الذوات أيضا علل وهو محال فإنه يؤدي إلى التسلسل فيتعين أنه صفة لذات وذلك هو الحال التي أثبتناها فالقسمة العقلية ألجأتنا إلى إثباتها والضرورة حملتنا على ألا نسميها موجودة على حيالها ومعلومة على حيالها وقد يعلم الشيء مع غيره ولا يعلم على حياله كالتأليف بين الجوهرين والمماسة والقرب والبعد فإن الجوهر الواحد لا يعلم فيه تأليف ولا مماسة ما لم ينضم إليه جوهر آخر وهذا في الصفات التي هي ذوات وأعراض متصورة فكيف في الصفات التي ليست بذوات بل هي أحكام الذوات.

وأما قولكم : إنه راجع إلى وجوه واعتبارات عقلية.

فنقول : هذه الوجوه والاعتبارات ليست مطلقة مرسلة بل هي مختصة بذوات فالوجوه العقلية لذات واحدة هي بعينها الأحوال فإن تلك الوجوه ليست ألفاظا مجردة قائمة بالمتكلم بل هي حقائق معلومة معقولة لا أنها موجودة على حيالها ولا معلومة بانفرادها بل هي صفات توصف بها الذوات فما عبرتم عنه بالوجوه عبرنا عنه بالأحوال فإن المعلومين قد تمايزا وإن كانت الذات متحدة وتمايز المعلومين يدل على تعدد الوجهين والحالين وذلك معلومان محققان تعلق بهما علمان متمايزان أحدهما ضروري والثاني مكتسب وليس ذلك كالنسب والإضافات فإنها ترجع إلى ألفاظ مجردة ليس فيها علم محقق متعلق بمعلوم محقق.

وقولهم : الشيء الواحد لا شركة فيه والمشترك لا وجود له باطل فإن الشيء

٨٢

المعين من حيث هو معين لا شركة فيه وهذه الصفات التي أثبتناها ليست معينة مخصصة بل هي صفات يقع بها التخصيص والتعيين ويقع فيها الشمول والعموم وهو من القضايا الضرورية كالوجوه عندكم ومن رد التعميم والتخصيص إلى مجرد الألفاظ فقد أبطل الوجوه والاعتبارات العقلية أليست العبارات تتبدل لغة فلغة وحالة فحالة وهذه الوجوه العقلية لا تتبدل بل الذوات ثابتة عليها قبل التعبير عنها بلفظ عام وخاص على السواء ومن ردها إلى الاعتبارات فقد ناقض وردها إلى العبارات فإن الاعتبارات لا تتبدل ولا تتغير بعقل وعقل والعبارات تتبدل بلسان ولسان وزمان وزمان.

وقولهم حد الشيء وحقيقته وذاته عبارات عن معبر واحد والأشياء إنما تتميز بخواص ذواتها ولا شركة في الخواص.

قال المثبت هب أن الأمر كذلك لكن خاصية كل شيء معين غير وخاصية كل نوع محقق غير وأنتم لا تحدون جوهرا بعينه على الخصوص بل تحدون الجوهر من حيث هو جوهر على الإطلاق فقد أثبتم معنى عاما يعم الجواهر وهو التحيز مثلا وإلا لكان كل جوهر على حياله محتاجا إلى حد على حياله ولا يجوز أن يجري حكم جوهر في جوهر من التحيز وقبول الأعراض والقيام بالنفس فإذا لم نجد بدا من إدراج أمر عام في الحد وذلك يبطل قولكم إن الأشياء إنما تتمايز بذواتها ويصح قولنا إن الحدود لا تستغني عن عمومات ألفاظ تدل على صفات عموم الذوات وصفات خصوص وتلك أحوال لها وجوه واعتبارات عقلية أو ما شئت فسمها بعد الاتفاق على المعاني والحقائق.

قال النافون : غاية تقريركم في إثبات الحال هو التمسك بعمومات وخصوصات ووجوه عقلية واعتبارات ، أما العموم والخصوص فمنتقض عليكم بنفس الحال فإن لفظ الحال يشمل جنس الأحوال وحال هي صفة لشيء تخص ذلك الشيء لا محالة فلا يخلو إما أن يرجع معناه إلى عبارة تعم وعبارة تخص فخذوا منا في سائر العبارات العامة والخاصة كذلك وإما أن ترجع إلى معنى آخر وراء العبارة فيؤدي إلى إثبات الحال للحال وذلك محال ولا يغني عن هذا الإلزام قولكم الصفة لا توصف فإنكم أول من أثبت للصفة صفة حيث جعلتم الوجود والعرضية واللونية والسوادية أحوالا للسواد ، فإذا أثبتم للصفات صفات فهلا أثبتم للأحوال أحوالا أما الوجوه والاعتبارات قد تتحقق في الأحوال أيضا فإن الحال العام غير والحال الخاص غير وهما اعتباران في الحال وحال يوجب أحوالا غير وحال هي موجبة الحال غير أليس قد أثبت أبو هاشم حالا للباري سبحانه توجب كونه عالما قادرا والعالمية والقادرية حالتان فحال توجب وحال هي غير موجبة مختلفان في

٨٣

الاعتبار ، واختلاف الاعتبارين لا يوجب اختلاف الحالين للحال.

هذا من الإلزامات المفحمة ومن جملتها أخرى وهي أن الوجود في القديم والحادث والجوهر والعرض عندهم حال لا يختلف البتة بل وجود الجوهر في حكم وجود العرض على السواء فيلزمهم على ذلك أمران منكران إبهام شيء واحد في شيئين مختلفين أو شيئان مختلفان في شيء واحد وواحد في اثنين واثنان في واحد محال أما أحدهما أن شيئا واحدا كيف يتصور في شيئين فإن حال الوجود من حيث هو وجود واحد ومن بداية العقول أن الشيء الواحد لا يكون في شيئين معا بل في جميع الموجودات على السواء وفي ما لم يوجد بعد لكنه سيوجد على السواء وهو من أمحل المحال.

والمنكر الثاني : إذا كان الوجود حالا واحدا واجتمعت فيه أجناس وأنواع وأصناف فيلزم أن تتحد المتكثرات المختلفة فيه ولزم تبدل الأجناس من غير تبدل وتغير في الوجود أصلا وذلك كتبدل الصورة بعضها ببعض في الهيولى عند الفلاسفة من غير تبدل في الهيولى وذلك التمثيل أيضا غير سديد ، فإن الهيولى عندهم لا تعرى عن الصورة إلا أن من الصور ما هو لازم للهيولى كالأبعاد الثلاثة ومنها ما يتبدل كالأشكال والمقادير المختلفة والأوضاع والكيفيات وبالجملة وجود مجرد مطلق عام غير مختلف كيف يتصور وجوده وما محله فإن كان الجوهر محلا له فقد بطل عمومه العرض فإن عنيتم العرض فقد بطل عمومه الجوهر ، وإن لم يكن ذا محل وهو من أمحل المحال.

وعن هذه المطالبة إلحاقة بلوح الحق ولا نبوح به لأنّا بعد في مدارج أقوال الفريقين فيقول النافي كيف يتصور وجود على الحقيقة التي لا تتبدل ولا تتغير إنما تتغير أنواعه بعضها إلى بعض فيصير الجوهر عرضا والعرض جوهرا والوجود لا يختلف وذلك تجويز قلب الأجناس فالأول سريان الوجود الواحد في أجناس وأنواع مختلفة والثاني اتحاد أنواع وأجناس مختلفة في وجود واحد.

وقال المثبتون : إلزام الحال علينا نقضا غير متوجه فإن العموم والخصوص في الحال كالجنسية والنوعية في الأجناس والأنواع فإن الجنسية في الأجناس ليس جنسا حتى يستدعي كل جنس جنسا ويؤدي إلى التسلسل ، وكذلك النوعية في الأنواع ليست نوعا حتى يستدعي كل نوع نوعا فكذلك الحالية للأحوال لا تستدعي حالا فيؤدي إلى التسلسل وليس يلزم على من يقول الوجود عام أن يقول للعام عام ، وكذلك لو قال العرضية جنس فلا يلزمه أن يقول للجنس جنس ، وكذلك لو فرق فارق بين حقيقة الجنس والنوع وفصل أحدهما عن الثاني بأخص وصف لم يلزمه أن يثبت اعتبارا عقليا في الجنس هو كالجنس ووجها عقليا هو كالنوع ، فلا يلزم الحال علينا بوجه لا من حيث العموم والخصوص ولا من حيث الاعتبار والوجه وأنتم معاشر

٨٤

النفاة لا يمكنكم أن تتكلموا بكلمة واحدة إلا وإن تدرجوا فيها عموما وخصوصا ألستم تنفون الحال ولم تعينوا حالا بعينها هي صفة مخصوصة مشار إليها بل أطلقتم القول وعممتم النفي وأقمتم الدليل على جنس شمل أنواعا أو على نوع عمّ أشخاصا حتى استمر دليلكم ومن نفى الحال لا يمكنه إثبات التماثل في المتماثلات إجراء حكم واحد فيها جميعا فلو كانت الأشياء تتمايز بذواتها المعينة بطل التماثل وبطل الاختلاف وذلك خروج عن قضايا العقول (١).

وأما قولكم : الوجود لو كان واحدا متشابها في جميع الموجودات لزم حصول شيء في شيئين أو شيئين في شيء.

فنقول : يلزمكم في الاعتبارات والوجوه العقلية ما لزمنا في الوجود والحال فإن الوجه كالحال والحال كالوجه ولا ينكر منكر أن الوجود يعم الجوهر والعرض لا لفظا مجردا بل معنى معقولا ومن قال كل موجود إنما تمايز موجودا آخر بوجوده لم يمكنه أن يجري حكم موجود في موجود آخر حتى أن من أثبت الحدوث لجوهر معين لم يتيسر له إثبات الحدوث لجوهر آخر بذلك الدليل بعينه بل لزمه أن يفهم على كل جوهر دليلا خاصا وعلى كل عرض دليلا خاصا ولا يمكنه أن يقسم تقسيما في المعقولات أصلا لأن التقسيم إنما يتحقق بعد الاشتراك في شيء والاشتراك إنما يتصور بعد الاختصاص بشيء ومن قال هذا جسم مؤلف فقد حكم على جسم معين بالتأليف لم يلزمه جريان هذا الحكم في كل جسم ما لم يقل كل جسم مؤلف لو اقتصر على هذا أيضا لم يفض إلى العلم بأن كل جسم محدث فأخذ الجسمية عامة والتأليف عاما واستدعاء التأليف للحدوث عاما حتى لزمه الحكم بحدوث كل جسم مؤلف عاما فمن قال الأشياء تتمايز بذواتها المعينة كيف يمكنه أن يجري حكما في محكوم خاص فألزمتمونا قلب الأجناس وألزمناكم رفع الأجناس ودعوتمونا إلى المحسوس ودعوناكم إلى المعقول وأفحمتمونا بإثبات واحد في اثنين واثنين في واحد وأفحمناكم بنفي الواحد في الاثنين والدليل متعارض والدّست قائم فمن الحاكم (٢).

قال الحاكم المشرف على نهاية أقدام الفريقين أنتم معاشر النفاة أخطأتم من

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (٢ / ٢٢٦ ، ٦١٥ ، ٦٢٦ ، ٦٦٦) ، والإشارات والتنبيهات لابن سينا (ص ١٨٩).

(٢) انظر : المواقف (٣ / ٦٠ ، ٦٢) ، وقال الإيجي الدست : فارسيّ معرب ، بمعنى اليد ، يطلق على التمكن في المناصب والصدارة ، وقال ابن منظور في اللسان (١ / ٧١٧) ، والدست معرب فقيل الدست الصحراء ، وهو بعيد.

٨٥

وجهين من حيث رددتم العموم والخصوص إلى الألفاظ المجردة وحكمتم بأن الموجودات المختلفة تختلف بذواتها ووجودها فكلامكم هذا ينقض بعضه بعضا ويدفع آخره أوله وهذا إنكار لأخص أوصاف العقل أليس هذا الرد حكما عاما على كل عام وخاص بأنه راجع إلى اللفظ المجرد أليست الألفاظ لو رفعت من البين لم ترتفع القضايا العقلية حتى البهائم التي لا نطق لها ولا عقل لم تعدم هذه الهداية فإنها تعلم بالفطرة ما ينفعها من العشب فتأكل ثم إذا رأت عشبا آخر يماثل ذلك الأول ما اعتراها ريب في أنه مأكول كالأول فلو لا أنها تخيلت من الثاني عين الحكم الأول وهو كونه مأكولا وإلا لما أكلت وتعرف جنسها فتألف به وتعرف ضدها فتهرب منه ولقد صدق المثبتون عليكم أنكم حسمتم على أنفسكم باب الحد وشموله للمحدودات وباب النظر وتضمنه للعلم.

وأنا أقول لا بل حسمتم على العقول باب الإدراك وعلى الألسن باب الكلام فإن العقل يدرك الإنسانية كلية عامة لجميع نوع الإنسان مميزة عن الشخص المعين المشار إليه وكذلك العرضية كلية عامة لجميع أنواع الأعراض من غير أن يخطر بباله اللونية والسوادية وهذا السواد بعينه وهذا مدرك بضرورة العقل وهو مفهوم العبارة متصور في العقل لا نفس العبارة إذ العبارة تدل على معنى في الذهن محقق هو مدلول العبارة والمعبر عنه لو تبدلت العبارة عربية وعجمية وهندية ورومية لم يتبدل المعنى المدلول ثم ما من كلام تام إلا ويختص معنى عاما فوق الأعيان المشار إليها بهذا وتلك المعاني العامة من أخص أوصاف النفوس الإنسانية فمن أنكرها خرج عن حدود الإنسانية ودخل في حريم البهيميّة بل هم أضل سبيلا.

وأما الخطأ الثاني وهو رد التمييز بين الأنواع إلى الذوات المعينة وذلك من أشنع المقالات فإن الشيء إنما يتميز عن غيره بأخص وصفه.

قيل له أخص وصف نوع الشيء غير وأخص وصف الذات المشار إليها غير فن الجوهر يتميز عن العرض بالتحيز مطلقا إطلاقا نوعيا لا معينا تعيينا شخصيا والجوهر المعين إنما يمتاز عن جوهر معين بتحيز مخصوص لا بالتحيز المطلق وقط لا يمتاز جوهر معين عن عرض معين بتحيز مخصوص إذ الجنس لا يميز الوصف عن الموصوف والعرض عن الجوهر والعقل إنما يميز بمطلق التحيز فعرف أن الذوات إنما تتمايز بعضها عن بعض تمايزا جنسيا نوعيا لا بأعم صفاتها كالوجود بل بأخص أوصافها بشرط أن تكون كلية عامة ولو أن الجوهر مائز العرض بوجوده كما مائزه بتحيزه لحكم على العرض بأنه متحيز وعلى الجوهر بأنه محتاج إلى التحيز لأن الوجود

٨٦

والتحيز واحد فما به يفترقان هو بعينه ما فيه يشتركان وما به يتماثلان هو بعينه ما فيه يختلفان ويرتفع التماثل والاختلاف والتضاد رأسا ويلزم أن لا يجري حكم مثل في مثل حتى لو قام الدليل على حدوث جوهر بعينه كان هو محدثا ويحتاج إلى دليل آخر في مثل ذلك الجوهر ويلزم أن لا يسلب حكم ضد عن ضد وخلاف عن خلاف حتى لو حكم على الجوهر بأنه قابل للعرض لم يسلب هذا الحكم عن العرض إذ لا تماثل ولا اختلاف ولا تضاد وارتفع العقل والمعقول وتعدد الحس والمحسوس.

وأما وجه خطأ المثبتين للحال : فهو أنهم أثبتوا لموجود معين مشار إليه صفات مختصة به وصفات يشاركه فيها غيره من الموجودات وهو من أمحل المحال فإن المختص بالشيء المعين والذي يشاركه فيه غيره واحد بالنسبة إلى ذلك المعين فوجود معين وعرضيته ولونيته وسواديته عبارات عن ذلك المعين المشار إليه فإن الوجود إذا تخصص بالعرضية فهو بعينه عرض والعرضية إذا تخصصت باللونية فهي بعينها لون وكذلك اللونية بالسوادية والسوادية بهذا السواد المشار إليه فإن الوجود إذا تخصص بالعرضية فهو بعينه عرض والعرضية إذا تخصصت باللونية فهي بعينها لون وكذلك اللونية بالسوادية والسوادية بهذا السواد المشار إليه فليس من المعقول أن توجد صفة لشيء واحد معين وهي بعينها توجد لشيء آخر فتكون صفة معينة في شيئين كسواد واحد في محلين وجوهر واحد في مكانين ثم لا يكون ذلك في الحقيقة عموما وخصوصا فإن مثل هذا ليس يقبل التخصيص إذ يكون خاصا في كل محل فلا يكون البتة عاما وإذا لم يكن عاما لم يكن خاصا أيضا فيتناقض المعنى.

والخطأ الثاني أنهم قالوا : الحال لا يوصف بالوجود ولا بالعدم والوجود عندهم حال فكيف يصح أن يقال الوجود لا يوصف بالوجود وهل هو إلا تناقض في اللفظ والمعنى وما لا يوصف بالوجود والعدم كيف يجوز أن يعم أصنافا وأعيانا لأن العموم والشمول يستدعي أولا وجودا محققا وثبوتا كاملا حتى يشمل ويعم أو يعين ويخص وأيضا فهم أثبتوا العلة والمعلول ثم قالوا العلة توجب المعلول وما ليس بموجود كيف يصير موجبا وموجبا ، فالعملية عندهم حال والعالمية عندهم أيضا حال فالموجب حال والموجب حال والحال لا يوجب الحال لأن ما لا يتصف بالوجود الحقيقي لا يتصف بكونه موجبا.

الخطأ الثالث : أنا نقول معاشر المثبتين كل ما أثبتموه في الوجود هو حال عندكم فأرونا موجودا في الشاهد والغائب هو ليس بحال لا يوصف بالوجود والعدم فإن الوجود الذي هو الأعم الشامل للقديم والحادث عندكم حال والجوهرية والتحيز

٨٧

وقبوله العرض كلها أحوال فليس على مقتضى مذهبكم شيء ما في الوجود هو ليس بحال وإن أثبتم شيئا وقلتم هو ليس بحال فذلك الشيء يشتمل على عموم وخصوص الأخص والأعم عندكم حال فإذا لا شيء إلا لا شيء ولا وجود إلا لا وجود وهذا من أمحل ما يتصور.

فالحق في المسألة : إذا أن الإنسان يجد من نفسه تصور أشياء كلية عامة مطلقة دون ملاحظة جانب الألفاظ ولا ملاحظة جانب الأعيان ، ويجد من نفسه اعتبارات عقلية لشيء واحد وهي إما أن ترجع إلى الألفاظ المحددة ، وقد أبطلناه وإما أن ترجع إلى الأعيان الموجودة المشار إليها وقد زيفناه فلم يبق إلا أن يقال هي معان موجودة محققة في ذهن الإنسان والعقل الإنساني هو المدرك لها ومن حيث هي كلية عامة لا وجود لها في الأعيان فلا موجود مطلقا في الأعيان ولا عرض مطلقا ولا لون مطلقا بل هي الأعيان بحيث يتصور العقل منها معنى كليا عاما فتصاغ له عبارة تطابقه وتنص عليه ويعتبر العقل منها معنى ووجها فتصاغ له عبارة حتى لو طاحت العبارات أو تبدلت لم تبطل المعنى المقدر في الذهن المتصور في العقل فنفاة الأحوال أخطئوا من حيث ردها إلى العبارات المجردة وأصابوا حيث قالوا ما ثبت وجوده معينا لا عموم فيه ولا اعتبار ومثبتو الأحوال أخطئوا من حيث ردوها إلى صفات في الأعيان وأصابوا من حيث قالوا هي معان معقولة وراء العبارات وكان من حقهم أن يقولوا هي موجودة متصورة في الأذهان بدل قولهم لا موجودة ولا معدومة وهذه المعاني مما لا ينكرها عاقل من نفسه غير أن بعضهم يعبر عنها بالتصور في الأذهان وبعضهم يعبر عنها بالتقدير في العقل وبعضهم يعبر عنها بالحقائق والمعاني التي هي مدلولات العبارات والألفاظ وبعضهم يعبر عنها بصفات الأجناس والأنواع والمعاني إذا لاحت للعقول واتضحت فليعبر المعبر عنها بما يتسير له فالحقائق والمعاني إذا ذات اعتبارات ثلاث اعتبارها في ذواتها وأنفسها واعتبارها بالنسبة إلى الأعيان واعتبارها بالنسبة إلى الأذهان وهي من حيث هي موجودة في الأعيان يعرض لها أن تتعين وتتخصص وهي من حيث هي متصورة في الأذهان يعرض لها أن تعم وتشمل فهي باعتبار ذواتها في أنفسها حقائق محضة لا عموم فيها ولا خصوص ومن عرف الاعتبارات الثلاث زال إشكاله في مسألة الحال ويبين له الخلق في مسألة المعدوم هل هو شيء أم لا والله الموفق (١).

__________________

(١) انظر : المواقف (١ / ٤٠٥) ، الإشارات لابن سينا (ص ٢٦٧ ، ٢٧٤).

٨٨

القاعدة السابعة

في المعدوم هل هو شيء أم لا؟ وفي الهيولى

وفي الرد على من أثبت الهيولى بغير صورة الوجود (١)

والشيء أعرف من أن يحد بحد أو يرسم برسم لأنه ما من لفظ يدرجه في تحديد الشيء إلا وهو أخفى من الشيء والشيء أظهر منه ، وكذلك الوجود ، ولو أدرجت في التحديد ما أو الذي أو هو فذلك عبارة عن الوجود والشيئية فتعريفه بشيء آخر محال ، ولأن الشيء المعرف به أخص من الشيئية والوجود وهما أعم من ذلك الشيء فكيف يعرف شيئا بما هو أخص منه وأخفى منه ومن حد الشيء أنه الموجود فقد أخطأ ، فإن الوجود والشيئية شيئان في الخفاء والجلاء ، ومن حده ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فقد أخطأ ، فإنه أدرج لفظ ما في الحدود ومعناه أنه الشيء الذي يعلم فقد عرفه بنفسه ، لعمري قد يختلف الاصطلاح والمواضعة فالأشعرية لا يفرقون بين الوجود والثبوت والشيئية والذات والعين ، والشحام من المعتزلة أحدث القول بأن المعدوم شيء وذات وعين ، وأثبت له خصائص المتعلقات في الوجود مثل قيام العرض بالجوهر وكونه عرضا ولونا وكونه سوادا وبياضا وتابعه على ذلك أكثر المعتزلة غير أنهم لم يثبتوا قيام العرض بالجوهر ولا التحيز للجوهر ولا قبوله للعرض ، وخالفه جماعة فمنهم من لم يطلق إلا اسم الشيئية ومنهم من امتنع من هذا الإطلاق أيضا مثل أبي الهذيل ، وأبي الحسين البصري ، ومنهم من قال الشيء هو القديم وأما الحادث فيسمى شيئا بالمجاز والتوسع وصار جهم بن صفوان إلى أن الشيء هو المحدث والباري سبحانه مشيّئ الأشياء.

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (١ / ٩٦ ، ٢٦٦) ، والتبصير في الدين (ص ٨٤) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص ١٤٣) ، وشرح قصيدة ابن قيم لابن عيسى (٢ / ١٨٣) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ٣١٧) ، والجواب الصحيح لابن تيمية (٤ / ٣١٥) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (١ / ٣٥) (٥ / ٤٤ ، ٤٦) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ٧٧) ، ومنهاج السنة لابن تيمية (٨ / ١٨ ، ٢٠) ، والنبوات له (ص ٨٤) ، وكذلك بيان تلبيس الجهمية (١ / ٥١٨) (٢ / ٣٢٢) ، والإشارات والتنبيهات لابن سينا (ص ٤٧٥ ، ٤٨٣) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٥٢).

٨٩

قال نفاة الشيئية عن العدم : قد تقرر في أوائل العقول أن النفي والإثبات يتقابلان والمنفي والمثبت يتقابلان تقابل التناقض حتى إذا نفيت شيئا معينا في حال مخصوص بجهة مخصوصة لم يمكنك إثباته على تلك الحال وتلك الجهة المخصوصة ومن أنكر هذه القضية فقد أنكر تلك الحقائق كلها ، وإذا كان المنفي ثابتا على أصل من قال إن المعدوم شيء فقد رفع هذه القضية أصلا وكان كمن قال لا معقول ولا معلوم إلا الثبوت فحسب ، وذلك خروج عن القضايا الأولية وتحديد ذلك أن كل معدوم منفي وكل منفي ليس بثابت فكل معدوم ليس بثابت.

قال من أثبت المعدوم شيئا كما تقرر في العقل تقابل النفي والإثبات فقد تقرر أيضا تقابل الوجود والعدم ، فنحن وفرنا على كل تقسيم عقلي حظه ، وقلنا إن الوجود والثبوت لا يترادفان على معنى واحد والمعدوم والمنفي كذلك.

قالت النفاة : الآن صرحتم بالحق حيث ميزتم بين قسم وقسم ، فالثبوت عندكم أعم من الوجود ؛ فإن الثبوت يشمل الموجود والمعدوم فهلا قلتم في المقابل كذلك وأن المنفي أعم من المعدوم حتى يكون صفة عمومه حالا أو وجها للمنفي ثابتا كما كان صفة خصوص المعدوم حالا للمعدوم أو وجها ثابتا فيتحقق أمر ثابت ويرتفع المقابل العقلي ، وإن لم يثبتوا فرقا بين المنفي والمعدوم ، ثم قالوا كل معدوم شيء ثابت لزمهم أن يقولوا كل منفي شيء ثابت فرجع الإلزام عليهم رجوعا ظاهرا وهو رفع التقابل بين النفي والإثبات.

قال المثبتون : إذا حققتم الكلام في النفي والإثبات والموجود والمعدوم وميزتم بين الخصوص والعموم فيه عاد الإلزام عليكم متوجها من وجهين أحدهما أنكم أثبتم في المعدوم خصوصا وعموما أيضا حتى قلتم منه ما هو واجب كالمستحيل ، ومنه ما هو جائز كالممكن ، ومنه ما يستحيل لذاته كالجمع بين المتضادين ، ومنه ما يستحيل لغيره كخلاف المعلوم ، فهذه التقسيمات قد وردت على المعدوم فأخذتم المعدومية عامة وخصصتم بهذه الخصائص فلولا أن المعدوم شيء ثابت وإلا لما تحقق فيه العموم والخصوص ، ولما تحقق التميز بين قسم وقسم.

والوجه الثاني : أنكم اعترفتم بأن المنفي والمعدوم معلوم وقد أخبرتم عنه وتصرفتم بأفكارهم فيه ، فما متعلق العلم وما معنى التعلق إذا لم يكن شيئا ثابتا أصلا.

قالت النفاة : نحن لا نثبت في العدم خصوصا وعموما بل الخصوص والعموم فيه راجع إلى اللفظ المجرد وإلى التقدير في العقل بل العلم لا يتعلق بالمعدوم من حيث هو معدوم إلا على تقدير الوجود فالعدم المطلق يعلم ويعقل على تقدير الوجود المطلق في

٩٠

مقابلة العدم المخصوص أعني عدم شيء بعينه فإما أن يشار إلى موجود محقق ، فيقال : عدم هذا الشيء وإما أن يقدر في العقل فيقال : عدم ذلك المقدار كالقيامة تقدر في العقل ثم تنفي في الحال أو تثبت في المآل فالعدم إذا لا يخص ولا يعم ولا يعلم من غير وجود أو تقدير وجود فكان العلم يتعلق بالموجود ثم من ضرورته أن يصير عدم ذلك الشيء معلوما فيخبر عنه بأنه منفي ، ويعبر عن أنه ليس بشيء في الحال ، وإن كان شيئا في ثاني الحال على أنا نلزمكم الوجود نفسه والصفات التابعة للوجود عندكم مثل التحيز للجوهر وقبوله للعرض وقيامه بالذات ، ومثل احتياج العرض إلى الجوهر وقيامه به فنقول : الوجود منفي من الجوهر أم ثابت ، فإن كان ثابتا فهو تصريح بقدم العالم وتقرير أن لا إبداع ولا اختراع ولا أثر لقادرية الباري سبحانه وتعالى أصلا وإن كان منفيا ، فكل منفي عندكم معدوم وكل معدوم ثابت فعاد الإلزام عليكم جذعا.

ونقول : قد قام الدليل على أن الباري سبحانه أوجد العالم بجواهره وأعراضه ، فيقال : أوجد عينها وذاتها أم غير ذاتها؟ فإن قلتم : أوجد ذاتها وعينها فالعين والذات ثابتة في العدم عندكم وهما صفتان ذاتيتان لا تتعلق بهما القدرة والقادرية ولا هي من آثارهما وإن قلتم أوجد غيرها فالكلام في ذلك الغير كالكلام فيما نحن فيه.

قال المثبتون : أما قولكم في العلم يتعلق بالوجود أو بتقدير الوجود ، فإنه ينتقض بعلم الباري سبحانه بعدم العالم في الأزل فإنه لا وجود للعالم في الأزل ، ولا تقدير الوجود من وجهين أحدهما أن تقدير العلم في الأزل محال والثاني أن التقدير من الباري سبحانه محال فإنه ترديد الفكر بوجود شيء وعدمه فإن قدر في ذاته فهو محال ، وإن فعل فعلا سماه تقديرا فهو محال في الأزل ، ولا بدّ للعلم من متعلق وهو معلوم محقق فوجب أن يكون شيئا ثابتا.

وقولكم : العلم يتعلق بوجود الشيء في وقت وجوده ، ثم يلزم من ضرورته العلم بعدمه قبل وجوده يلزمكم حصر العلم في معلومات هي موجودات والموجودات متناهية فيجب تناهي المعلومات ، وأنتم لا تقولون به ثم تلك اللوازم إن كانت معلومة فهي كالموجودات على السواء في تعلق العلم بها وإن لم تكن معلومة فقد تناهى العلم والمعلومات.

وأما قولكم : إن الوجود منفي أم ثابت؟ فعلى أصلنا الوجود منفي ، وليس بثابت وليس كل منفي ومعدوم عندنا ثابتا ، فإن المحالات منفيات ومعدومات وليست أشياء ثابتة ، بل سر مذهبنا أن الصفات الذاتية للجواهر والأعراض هي لها لذواتها لا تتعلق بفعل الفاعل وقدرة القادر إذ أمكننا أن نتصور الجوهر جوهرا أو عينا وذاتا

٩١

والعرض عرضا وذاتا وعينا ولا يخطر ببالنا أنه أمر موجود مخلوق بقدرة القادر والمخلوق والمحدث إنما يحتاج إلى الفاعل من حيث وجوده إذا كان في نفسه ممكن الوجود والعدم وإذا ترجح جانب الوجود احتاج إلى مرجح فلا أثر للفاعل بقادريته أو قدرته إلا في الوجود فحسب فقلنا ما هو له لذاته قد سبق الوجود وهو جوهريته وعرضيته فهو شيء ما هو له بقدرة القادر هو وجوده وحصوله وما هو تابع لوجوده فهو تحيزه وقبوله للعرض وهذه قضايا عقلية ضرورية لا ينكرها عاقل.

وعلى هذه القاعدة يخرج الجواب عن أثر الإيجاد فإن تأثير القدرة في الوجود فقط ، والقادر لا يعطيه إلا الوجود والممكن في ذاته لا يحتاج إلى القادر إلا من جهة الوجود ألسنا نقول أن إمكان الممكن من حيث إمكانه أمر لذاته وهو من هذا الوجه غير محتاج إلى الفاعل وليس للفاعل جعله ممكنا لكن من حيث ترجيح أحد طرفي الإمكان كان محتاجا إلى الفاعل فعلم يقينا أن الأمور الذاتية لا تنسب إلى الفاعل بل ما يعرض لها من الوجود والحصول ينسب إلى الفاعل ونقول إن الفاعل إذا أراد إيجاد جوهر ، فلا بد أن يتميز الجوهر بحقيقته عن العرض حتى يتحقق القصد إليه بالإيجاد وإلا فالجوهر والعرض في العدم إذا كان لا يتميز أحدهما عن الثاني بأمر ما وحقيقة ما وذلك الأمر والحقيقة لم يكن شيئا ثابتا لم يتجرد القصد إلى الجوهر دون العرض وإلى الحركة دون السكون والبياض دون السواد إلى غير ذلك والتخصيص بالوجود إنما يتصور إذا كان المخصص معينا مميزا عند المخصص حتى لا يقع جوهر بدل عرض ولا حركة بدل سكون ولا بياض بدل سواد فعلم بذلك أن حقائق الأجناس والأنواع لا تتعلق بفعل الفاعل وأنها في ذواتها إن لم تكن أشياء منفصلة لم يتصور الإيجاد والاختراع ، ولكان حصول الكائنات على اختلافها اتفاقا وبحثا.

قالت النفاة : العلم الأزلي يتعلق بالمعلومات كلها كما هي فيتعلق بوجود العالم حتى يتحقق له الوجود ويتعلق باستحالة وجوده أزلا وجواز وجوده قبل وجوده لكن المتعلق الحقيقي هو الوجود وسائر المعلومات من ضرورة ذلك التعلق ، ولا يستدعي ذلك التعلق في حق الباري سبحانه تقديرا وهميا وترديدا خياليا هذا كمن عرف وحدانية الباري سبحانه وتعالى في الإلهية عرف أن ما سواه ليس بإله ولا يستدعي تعدد علوم بكل مخلوق أنه ليس بإله ومن عرف أن زيدا في الدار عرف أنه ليس بموضع آخر سواها ولا يستدعي ذلك أن يتعدد علمه بأنه ليس في دار عمر وبكر وخالد بل يقع ذلك معلوما لزوما ضرورة ومثل هذه المعلومات لا تتناهى ويستحيل أن يقال هذه المعلومات أشياء ثابتة حتى يكون عدم زيد في مكان كذا أو عدم كل

٩٢

جوهر في حيز كذا أو عدم كل عرض في محل كذا إلى ما لا يتناهى أشياء ثابتة في العدم فإن ذلك خروج عن قضايا العقل وتيه في مفازة الجهل وأما إلزام الوجود من حيث هو وجود والتحيز وقبول العرض وجميع الصفات التابعة للحدوث فمتوجه ، والاعتذار بأنه منفي وليس بثابت ولا شيء نقض صريح لمذهبهم فإن كل معلوم أمكن الإخبار عنه وتعلق العلم به فهو شيء ثابت عندهم ويا ليت شعري إذا لم يمكن الإخبار عن الوجود ولم يمكن تعلق العلم به فمن أي شيء يخبر وعن أي شيء يعلم وليس ذلك كالمحال الذي تمثلوا به على أن المحالات مما يعلم ويخبر عنها فهلا كانت أشياء حتى يلزم أن يكون عدم الإلهية أشياء ما والعالم بما فيه من الجواهر والأعراض أشياء ثابتة في الأزل وكما لا تتناهى المعلومات لا تتناهى الأشياء بأجناسها وأنواعها وأصنافها والعياذ بالله من مذهب هذا مآله ، وأما كلامكم في الصفات الذاتية أنها لا تحصل بفعل الفاعل ، وإنما الوجود من حيث هو وجود متعلق بالقدرة فشيء ما سمعوه ولم يفهموه وما أحسنوا إيراده لأنهم لم يتحققوا إصداره.

وأجابت النفاة بأن قالوا : وجود الشيء وعينه وذاته وجوهريته وعرضيته عندنا عبارات عن معبر واحد وما أوجده الموجد فهو ذات الشيء والقدرة تعلقت بذاته كما تعلقت بوجوده وأثرت في جوهريته كما أثرت في حصوله وحدوثه والتميز بين الوجود وبين الشيئية مما لا يئول إلى معنى ومعنى بل إلى لفظ ولفظ وهم على اعتقاد أن الأجناس والأنواع والعموم والخصوص فيها راجع إلى الألفاظ المجردة أو الوجوه العقلية والتقديرات الوهمية وألزموا عليهم الصفات التابعة للحدوث كالتحيز وقبول العرض وقيام العرض بالمحل فإنها ليست من آثار القدرة ، ثم لم يثبتوها قبل الحدوث فهلا قالوا الصفات الذاتية كلها تتبع الحدوث أيضا وربما عكسوا عليهم الأمر في التابع والمتبوع وألزموهم القول بأن التحيز يقع بالقدرة والوجود يتبعه.

وأجابوا عن سؤال التخصيص والتمييز بالمعارضة وهو أن الجواهر والأعراض لو ثبتت في العدم بغير نهاية لم تحقق القصد إلى بعضها بالتخصيص وليس يندفع الإشكال بهذا الجواب بل يزيده قوة ولزوما.

والحق أن هذه المسألة مبنية على مسألة الحال ، وقد دارت رءوس المعتزلة في هاتين المسألتين على طرفي نقيض فتارة يعبرون عن الحقائق الذاتية في الأجناس والأنواع بالأحوال وهي صفات وأسماء ثابتة للموجودات لا توصف بالوجود ولا بالعدم وتارة يعبرون عنها بالأشياء ، وهي أسماء وأحوال ثابتة للمعدومات لا تخص بالأخص ولا تعم بالأعم وذلك أنهم سمعوا كلاما من الفلاسفة وقرءوا شيئا من كتبهم

٩٣

وقبل الوصول إلى كنه حقيقته مزجوه بعلم الكلام غير نضيج وذلك أنهم أخذوا من أصحاب الهيولى مذهبهم فيها فكسوه مسألة المعدوم وأصحاب الهيولى هم على خطأ بيّن من إثبات الهيولى مجرد عن الصورة كمن سنرد عليهم ، وأخذوا من أصحاب المنطق والإلهيين كلامهم في تحقيق الأجناس والأنواع والفرق بين المتصورات في الأذهان والموجودات في الأعيان وهم على صواب ظاهر دون الخنائي من المعتزلة لا رجال ولا نساء لأنهم أثبتوا أحوالا لا موجودة ولا معدومة ، والصورة كالمتصور وينهدم بنيانهم بأوهى نفخة كما يتضح الحق لأوليائه بأدنى لمحة.

فنقول : إذ أشار مشير إلى جوهر بعينه فنسألكم هل كان هذا الجوهر قبل وجوده شيئا ثابتا جوهرا جسميا من حيث هو هذا أم كان جوهرا مطلقا شيئا عاما غير متخصص بهذا؟ (١).

فإن قلتم كان بعينه جوهرا فيجب أن تحقق الإشارة إليه بهذا ويكون ذلك المشار إليه هو هذا ؛ لأن هذا لا يشاركه فيه غير هذا وإن كان قبل وجوده جوهرا مطلقا لا هذا ، فلم يكن ذلك هذا ، فلم يكن هذا شيئا والمطلق من حيث هو مطلق لا هذا ولم يكن هذا ذاك ولا ذاك هذا فما هو ثابت في العدم لم يتحقق له وجود وما تحقق له وجود لم يكن ثابتا.

وما ذكروه أن الصفات الذاتية لا تنسب إلى الفاعل بل الذي ينسب إلى الفاعل هو الوجود ، قيل ما ثبت للشيء الغير المعين من الصفات التي هو بها قد تعين غير وما ثبت للشيء المعين من الصفات التي هو بها وقد تفنن وتنوع غير والأول لا يسمى صفات ذاتية إلا بمعنى أنها عبارات عن ذاته المعينة فيكون وجوده وجوهريته وعينه وذاته عبارات عن معبر واحد وكما يحتاج في وجوده إلى الموجد يحتاج في ذاته وعينه وجوهريته وجواز الوجود هو بعينه جواز الثبوت وهو بعينه أن يكون عينا وبجوهريته في أن يكون جوهرا لا يستغني عن الموجد وإلا فيلزم أن تستغني الأشياء كلها عن الموجد من جميع وجوهها وصفاتها إلا الوجود فحسب على أنه حال لا يوصف بالوجود وأيضا فإن الوجود ليس يفتقر إلى الموجد وإلا فيلزم وجود القديم بل وجود مخصص هو بصفة الإمكان يفتقر إلى الموجد ثم الموجد الممكن من حيث هو عام لا يتحقق له وجود بل وجود ممكن هو بصفة كذا وكذا ويتحقق له وجود فيثبت أن المعين المشار إليه هو المفتقر إلى الموجد لكن لا يتحقق له وجود إلا ويريده الموجد

__________________

(١) انظر : المواقف للإيجي (١ / ٥٠٢) (٢ / ٣٧٤).

٩٤

وليس يريده الموجد إلا ويعلمه قبل إيجاده فيتخصص وجوده وجودا عرضا جوهرا في علم الموجد فالمعلوم يتخصص مرادا والمراد يتخصص وجودا هو بعينه جوهر إلا أنه في ذاته يكون شيئا فيخصصه الوجود بعد الشيء حتى تتخصص الشيئية الخارجة جوهرا وتتخصص الجوهرية العامة الخارجة بهذا الجوهر وأيضا فإن الوجود أعم صفات الموجودات وإيجاد الأعم لا يوجب وجود الأخص فلو كان البياض مثلا منتسبا إلى الموجد من حيث وجوده فقط لكان يكون موجودا لا بياضا بل لو عكس الأمر وقلب الحال فقيل أوجده سوادا أو بياضا وانتسبت البياضية إلى الموجد فقط ولكن من ضرورة وجود الأخص وجود الأعم كان أمثل من حيث العقل ولذلك نقول إن البياض يضاد السواد ببياضيته فإذا انتفى السوادية انتفى الوجود إذ ليس من قضية العقل انتفاء السوادية وبقاء الوجود وعند القوم أن المعدوم عادم لوجوده كما أن الموجود واجد لوجوده فيلزم على ذلك أن لا يوجد بياض ولا يعدم سواد ولا يتحقق جوهر ولا يتخصص عرض.

والعجب كل العجب من مثبتي الأحوال أنهم جعلوا الأنواع مثل الجوهرية والجسمية والعرضية واللونية أشياء ثابتة في العدم لأن العلم قد تعلق بها والمعلوم يجب أن يكون شيئا حتى يتوكأ عليه العلم ثم هي بأعيانها أعني الجوهرية والعرضية واللونية والسوادية أحوال في الوجود ليست معلومة على حيالها ولا موجودة بانفرادها فيا له من معلوم في العدم يتوكأ عليه العلم وغير معلوم في الوجود ولو أنهم اهتدوا إلى مناهج العقول في تصورها الأشياء بأجناسها وأنواعها لعلموا أن تصورات العقول ماهيات الأشياء بأجناسها وأنواعها لا تستدعي كونها موجودة محققة أو كونها أشياء ثابتة خارجة عن العقول أو ما لها بحسب ذواتها أو أجناسها وأنواعها في الذهن من المقومات الذاتية التي تتحقق ذواتها بها لا تتوقف على فعل الفاعل حتى يمكن أن تعرف هي والوجود لا يخطر بالبال فإن أسباب الوجود غير وأسباب الماهية غير ولعلموا أن إدراكات الحواس ذوات الأشياء بأعيانها وأعلامها تستدعي كونها موجودة محققة وأشياء ثابتة خارجة عن الحواس وما لها بحسب ذواتها من كونها أعيانا وأعلاما في الحس من المخصصات العرضية التي تحقق ذواتها المعينة بها هي التي تتوقف على فعل الفاعل حتى لا يمكن أن توجد هي عرية عن تلك المخصصات فإن أسباب الماهية غير وأسباب الوجود غير ولما سمعت المعتزلة من الفلاسفة فرقا بين القسمين ظنوا أن المتصورات في الأذهان هي أشياء ثابتة في الأعيان فقضوا بأن المعدوم شيء وظنوا بأن وجود الأجناس والأنواع في الأذهان هي أحوال ثابتة في الأعيان فقضوا بأن

٩٥

المعدوم شيء وأن الحال ثابت ساء سمعا وساء إجابة ولو لا إني التزمت على نفسي في هذا الكتاب أن أبين مصادر المذاهب ومواردها واشتراك منتهى أقدام العقول في مسائل الأصول وإلا لما أهمني كشف الأسرار وهتك الأستار.

وأما أصحاب الهيولى فافترقت فيها على طريقين فرقتان أحدهما إثبات هيولى للعالم مجردة عن الصور وعدوها عن المبادئ الأول وهي ثالثها أو رابعها فقالوا المبادئ هي العقل والنفس والهيولى وقالوا المبادئ هو الباري سبحانه والعقل والنفس والهيولى وهي كانت مجردة عن الصور كلها فحدثت الصورة الأولى وهي الأبعاد الثلاثة فصارت جسما مركبا ذا طول وعرض وعمق ولم يكن لها قبل الصورة إلا استعداد لمجرد القبول فإذا حدثت الصورة صارت بالفعل موجودة وهي الهيولى الثانية ثم إذا لحقها الكيفيات الأربعة التي هي الحرارة والبرودة الفاعلتان والرطوبة واليبوسة المنفعلتان صارت الأركان التي هي النار والماء والهواء والأرض وهي الهيولى الثالثة ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض وهي الكون والفساد ويكون بعضها هيولى بعض.

الطريق الثاني : هو أنهم أثبتوا الهيولى غير مجردة عن الصورة قالوا هذا الترتيب الذي ذكرناه مقدر في العقل والوهم خاصة دون الوجود وليس في الوجود جوهر مطلق قابل للأبعاد ثم يلحقه الأبعاد ولا جسم عار عن الكيفيات ثم عرضت له الكيفيات وإنما هو عند ما نظرنا في ما هو أقدم بالطبع وأبسط في الوهم والعقل.

قال أصحاب الهيولى المجردة : أما إثبات الهيولى لكل جسم فأمر معقول محقق بالبرهان وذلك أن كل جسم قابل للاتصال والانفصال والتصور والتشكل بالصورة والأشكال ومعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال فإن القابل يبقى بطريان أحدهما والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال وبالعكس فظاهر أن هاهنا جوهر غير الصورة الجسمية يعرض له الاتصال والانفصال معا ثم قالوا ما من انفصال واتصال معين إلا ويمكن زواله وما من شكل وصورة وحيز وجهة إلا وهو عارض لذلك الجوهر فيمكن أن يتعرى عن جميع الصور كما أمكن أن يتعرى عن كل صورة بل يجب أن يكون مبدأ الأجسام المركبة جوهر غير مركب فإن كل مركب لو كان عن مركب لتسلسل إلى غير النهاية فتركب القميص من الغزل والغزل من القطن والقطن من الأركان والأركان من العناصر وهي الهيولى القابلة للصور والكيفيات فإذا انحلت التركيبات فهي البسائط وإذا انحلت البسائط فهي الهيولى المجردة عن كل صوره القابلة لكل صورة.

قال أصحاب الهيولى مع الصورة أما إثبات الهيولى جوهرا معقولا فمسلم للعقل

٩٦

وأما جواز تعريها عن الصور أو وجوب ذلك فهو المختلف فيه وما أوردتموه من المقدمات تحكمات فلم قلتم إنه إذا أمكن تعريها عن اتصال وانفصال معين أمكن تعريها عن كل اتصال وانفصال لأن الذي يتبدل ويتغير من الاتصال والانفصال عرض من باب الكم والاتصال الذي هو الأبعاد الثلاثة جوهر هو صورة جسمية فما هو عرض يجوز عليه التبدل وما هو جوهر لم يتبدل قط وليس العرض من قبيل الجوهر حتى يحكم عليه بحكم الثاني وكذلك كون الجسم في حيز مخصوص من قبيل الأعراض من باب الأين وكونه متحيزا صورة جسمية هو من قبيل الجواهر فلم يجز أن يقال إذا جاز عليه تبدل المكان المخصوص جاز عليه ألا يكون له حيز ومكان هذا جواب الحكيم للحكيم.

أما جواب المتكلم فيقول لم إذا جاز خلو الجوهر عن عرض جاز خلوه عن كل عرض؟.

قال لأن الجوهر هو القائم بذاته المستغني عن المحل فلو لم يجز خلوه عن الأعراض لبطل قيامه بذاته ولكان في وجوده محتاجا إلى العرض كما كان العرض في وجوده محتاجا إلى الجوهر وحينئذ يلتبس حد الجوهر بحد العرض ويختلط أحدهما بالآخر وذلك خروج عن المعقول.

فيقول المتكلم : الجوهر في قيامه بذاته يستغني عن محل يحل فيه بحيث يوصف المحل به ، والعرض في احتياجه من حيث ذاته يحتاج إلى محل يحل فيه بحيث يوصف المحل به ؛ لكن لا يجوز أن يخلو الجوهر عن كل الأعراض لا لأنه يحتاج إليها في قيامه بذاته جوهرا لكن في وجوده لا يتصور أن يكون خاليا عن كون في مكان مخصوص.

وقال أصحاب الصور : لو قدرنا الهيولى جوهرا قائما بذاته عريا عن الصور كلها حتى لا يكون له وضع وحيز وبعد واتصال ومقدار يقبل الانقسام ثم قدرناه حصل فيه المقدار مثلا فإما أن يصادفه المقدار دفعة أو على تدريج فإن صادفه دفعة حتى حصل ذا مقدار فيكون قد صادفه بحيث حتى انضاف إليه فيكون له حيث وحيز فيجب أن يكون ذا حيز أو لا حتى يصادفه حيث هو فيكون ذا صورة وإن صادفه على تدريج أو انبساط فكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات وكل ما له جهة فهو ذو وضع وعلى الوجهين جميعا لا يصادفه الاتصال والمقدار إلا أن يكون له حيث وحيز ووضع وقد فرض غير متحيز وذا وضع فهو خلف.

قال أصحاب الهيولى : كل حادث في زمان فيجب أن يسبقه إمكان الوجود وذلك الإمكان أن يكون في نفس المقدر وإما أن يكون في شيء وبطل أن يكون في

٩٧

نفس المقدر فإن المقدر لو قدر عدمه لم ينعدم الإمكان فيتعين أنه في شيء ما خارج عن الذهن ولا يخلو إما أن يكون موجودا أو معدوما ومحال أن يكون معدوما فإن المعدوم قبل والمعدوم مع شيء واحد وليس الإمكان قبل هو الإمكان مع ، وإن كان موجودا فإما أن يكون قائما في موضوع ، وإما أن يكون قائما لا في موضوع فكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافا وإمكان الوجود بما هو إمكان أمر مضاف لما هو إمكان له ، فهو إذا أمر في موضوع عارض لموضوع ونحن نسميه قوة الوجود والذي فيه قوة وجود الشيء والموضوع والمادة والهيولى قالوا والإمكان قد يعرى عن الوجود لأنه لو تحقق وجود كل ممكن لحصلت موجودات بغير نهاية ، فالعلم قد سبقه إمكان الوجود وقد سبقه الهيولى التي فيها الإمكان والإمكان لم يكن في الأزل فالهيولى لم تكن في الأزل فتصور وجود العالم حيث تحقق الهيولى وتحقق الهيولى حيث تحقق الإمكان ، والإمكان والوجوب لا يجتمعان (١).

وهذا دليل أفلاطن إلهي في حدوث العالم بصورته وهيولاه قال : وكما تصور وجود موجودات كلية في العقل تصور وجود موجودات كلية في الخارج عن العقل وهي حقائق مختلفة تختلف بالخواص كالعقول السماوية.

وقال أصحاب الصور : هذا البرهان صحيح في الموجودات الزمانية لكن كما لا يتحقق إمكان إلا في مادة لا تتصور مادة إلا متصورة بصورة فإنها إن كانت عرية عن الصور كلها كان لا يتحقق نحوها قصد الفاعل حتى يفيض عليها الصور إذ لا حيث لها ولا وضع ولا أين وكما أن الإمكان ليس شيئا متقوما إلا بالهيولى والهيولى ليس شيئا متقوما إلا بالصورة فيقوم الهيولى بالصورة وتقوم الصورة بواهب الصورة وليس تنفك إحداهما عن الثانية بحال أصلا.

برهان آخر : لو قدرنا الهيولى موجودة متقومة فإما أن يقال هي واحدة أو كثيرة فإن كانت واحدة ثم صارت اثنين أفبانضمام آخر إليه أم بتكثير ذلك الواحد في نفسه من غير انضمام من خارج فإن قدر الأول فهما جوهران انضم أحدهما إلى الثاني ويكون الهيولى اثنين وما تحقق فيه الاثنينية قبل القسمة إما بالانفصال إذا كانا متصلين وإما بالعدد إذا كانا مقدارين وكل ذلك صورة وإن تكثر الواحد في نفسه من غير انضمام من خارج كان حين كان واحدا لم يقبل القسمة ثم صار قابلا للقسمة فتكون

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (٢ / ١٨٠) ، والمواقف للإيجي (١ / ٣٦١ ، ٣٨٠) ، ومنهاج السنة لابن تيمية (١ / ٢٧٩ ، ٢٨٨).

٩٨

له صورة الوحدة تارة وصورة التكثر تارة فيكون ذا صورتين ويلزم أن يكون بين الحالتين مادة مشتركة بها يقبل الوحدة تارة والكثرة أخرى فيكون للمادة مادة ويتسلسل وكذلك لو فرضنا اثنين جوهرين ثم خلعنا صورة الاثنينية فصارا شيئا واحدا فلا يخلو إما أن يتحدا وكل واحد منهما موجود أو أحدهما موجود والآخر معدوم أو كلاهما معدومان وحصل ثالث بالإيجاد فإن كان فهما إذا اثنان لا واحد وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود وإن عدما بالإيجاد حصل ثالث فهما غير متحدين بل لا بد من معدومين ويلزم أيضا في خلع صور الاثنينية مادة مشتركة كما لزم في لباس صورتها مادة مشتركة فيتحقق بهذه البراهين أن الهيولى قط لا تعري عن الصورة بل قوامها بالفعل يكون بالصورة وقوام الصورة من حيث ذاتها لا يكون بها بل بواهب الصورة فكانت الهيولى حافظة لها قبولا وكانت الصورة مقومة لها وجودا فالصورة لا تحدث إلا في الهيولى والهيولى لا تعرى عن الصورة وكل واحد منهما جوهر لأن الجسم مركب منهما والجسم جوهر والبسيطان جوهران والتمييز بينهما بالفعل غير متصور والفصل بينهما فصل بالعقل وفي المسألة بقايا من المباحثات بين الفريقين ، وذلك حظ الحكمة الفلسفية لاحظ الحقائق الكلامية وقد عرفت من هذه المباحثة أن مذهب المعتزلة في المعدوم شيء هو بعينه مذهب بعض الفلاسفة في أن الهيولى موجودة قبل وجود الصورة والله الموفق.

٩٩

القاعدة الثامنة

في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى

قد شرع المتكلمون في إثبات العلم بأحكام الصفات قبل الشروع في إثبات العلم بالصفات لأن الأحكام إلى الأذهان أسبق والمخالفون من المعتزلة في إثبات الصفات يوافقون في أحكام الصفات.

وسلكوا طريقين أحدهما النظر والاستدلال والثاني الضرورة والبديهة ، ثم منهم من يرى الابتداء بإثبات كونه قادرا أولى ومنهم من يثبت كونه عالما أولا ثم يثبت كونه قادرا مريدا ومنهم من يبتدئ بالإرادة ثم يثبت كونه قادرا عالما (١).

قال أصحاب النظر في إثبات كونه قادرا أولا : إن الدليل قد قام على أن الصنع الجائز ثبوته والجائز عدمه إذا وجد احتاج إلى صانع يرجح جانب الوجود فيجب أن يكون الصانع قادرا لأن من الأحياء من يتعذر عليه الفعل ومنهم من يتيسر فسبرنا جملة صفات الحي روما للعثور على المعنى الذي لأجله ارتفع التعذر وتحقق التأتي والتيسر فلم نجد صفة إلا القدرة أو كونه قادرا ، فكان الذي صحّح الفعل من الحي كونه قادرا هو علة لصحة الفعل والعلة لا تختلف حكمها شاهدا وغائبا وكذلك صادفنا إحكاما وإتقانا في الأفعال وسبرنا ما لأجله يصح الإحكام والإتقان من الفاعل فلم نجد إلا كونه عالما وكذلك رأينا الاختصاص ببعض الجائزات دون البعض مع تساوي الكل في الجواز وسبرنا ما لأجله يصح الاختصاص ، فلم نجد إلا كونه مريدا ثم لم يتصور وجود هذه الصفات إلا وأن يكون الموصوف بها حيا لأن الجماد لا يتصور منه أن يكون قادرا أو عالما فقلنا القادر حي وأيضا فإنا لو لم نصفه بهذه الصفات لزمنا وصفه بأضدادها من العجز والجهل والموت وتلك نقائص مانعة من صحة الفعل المحكم ويتعالى الصانع عن كل نقص.

ولخصومهم من المعطلة على هذه الطريقة أسئلة منها ما هو على الأشعرية

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٤٤) ، والإبانة للأشعري (ص ١٥٢) ، والتعرف للكلاباذي (ص ٣٦) ، والعقيدة الأصفهانية (١ / ١٠٠ ، ١٦٨) ، وبيان تلبيس الجهمية (٢ / ٢٣٥) ، والغنية في أصول الدين لأبي سعيد النيسابوري (ص ٩٥) ، والتبصير في أصول الدين للأسفراييني (ص ١٦٤).

١٠٠