نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

وحدث الصوت ، وإن كان من قلع انقطع الجسمان وانفلت الهوى بشدة وحدث الصوت ووصل الموج إلى الهوى الراكد الذي في الصماخ وانفعل به وهو مجاور للعصبة المفروشة في أقصى الصماخ الممدودة مد الجلد على الطبل فيحصل فيه طنين فتشعر به القوة المودعة في تلك العصبة فيصل إلى القوة الخيالية فيتصرف الخيال فيه تقديرا فيصل إلى القوة النفسانية فتتصرف النفس فيه تفكيرا فيصل إلى القوة العقلية فيتصرف العقل فيه تمييزا وللمعنى صعود من المحسوس المسموع إلى المعقول المعلوم صعودا من الكثرة إلى الوحدة ونزول من المعقول المعلوم إلى المحسوس المسموع نزولا من الوحدة إلى الكثرة والعرفان مبتدئ من تفريق ونقض وترك ورفض ممعن في جمع هو جمع صفات الحق للذات المريدة للصدق ثم انتهى إلى الوحدة ثم وقوف وهذا من حيث الصعود والعرفان مبتدئ من توحيد وتفكير وتمييز وتصوير ممعن في معرفة هي معرفة صفات الخلق ثم انتهى إلى الكثرة ثم وقوف وهذا من حيث النزول.

وصار أبو الهذيل والشحام وأبو علي الجبائي : إلى أن الكلام حروف مفيدة مسموعة مع الأصوات غير مسموعة مع الكتابة وصار الباقون من المعتزلة إلى أن الكلام حروف منتظمة ضربا من الانتظام والحروف أصوات مقطعة ضربا من التقطيع وهل يجوز وجود حروف من غير أصوات كما جاز وجود أصوات من غير حروف فيه خلاف بينهم.

وصار أبو الحسن الأشعري إلى أن الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية ، وبذات المتكلم ، وليس بحروف ولا أصوات ، وإنما هو القول الذي يجده العاقل من نفسه ويجيله في خلده ، وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاما حقيقيا تردد أهو على سبيل الحقيقة ، أم على طريق المجاز ، وإن كان على طريق الحقيقة فإطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك (١).

قالت الأشعرية : العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاما وقولا يجول في قلبه تارة إخبارا عن أمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتدئها إلى منتهاها على وفق ثبوتها وتارة حديثا مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم ومشاهدتهم ثم يعبر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة ، وتارة نطقا عقليا إما بجزم القول إن الحق والصدق كذا وإما بترديد الفكر أنه هل يجوز أن يكون الشيء

__________________

(١) انظر : مقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٦٠٤ ، ٦٢٥) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٩٦) ، ومنهاج السنة النبوية (٣ / ٢٢٥) ، والعقيدة الأصبهانية (ص ٩٦) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٢٨٣).

١٨١

كذا أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى أن كل صانع يحدث مع نفسه أولا بالغرض الذي توجهت إليه صنعته ثم تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان وسبيله سبيل السوفسطائية كيف وإنكاره ذلك مما لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه ثم لم يعبر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار فوجد أن المعنى معلوم بالضرورة ، وإنما الشك في أنه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير والتمييز بينه وبين العلم هين إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء وهي أقسام معلومة وقضايا معقولة وراء التبيين والتمييز بينه وبين الإرادة أسهل وأهون فإن الإرادة قصد إلى تخصيص وأما التقدير والتفكير والتدبير فكل ذلك عبارات عن حديث النفس ، وهو الذي يعني به من النطق النفساني ومن العجب أن الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كل معنى ولا يجد نفسه قط خاليا عن حديث النفس حتى في النوم فإنه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتى يتكلم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق.

ومن مذاهب المعتزلة : أن المفكر قبل ورود السمع يجد من نفسه خاطرين أحدهما يدعوه إلى معرفة الصانع وشكر المنعم وسلوك سبيل المحاسن والخيرات والثاني يدعوه إلى خلاف ذلك ثم يختار ما فيه النجاة ويجتنب عما فيه الهلاك وذلك الخاطران الداعيان المحدثان المخبران عن كلام النفس وحديثها فكيف يسوغ لهم إنكار ذلك وأيضا فإن الإنسان في مراتب نظره واستدلاله يضع قولا ويرفع قولا ويقسم كليا ويبطل أحد القسمين فيتعين له الثاني فتقسيمه هو بعينه حديث النفس وتعيينه أحد القسمين هو بعينه حكم العقل وربما أخذ القلم وكتب مجلدة من حديث فكره وشحن ديوانا من حديث نفسه ولسانه ساكت لا ينطق.

وصدق من قال :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا (١)

__________________

(١) انظر : الصواعق المرسلة لابن قيم (١ / ٣٤٤ ، ٣٤٥) ، وشرح قصيدة ابن قيم لابن عيسى (ص ٢٧٠) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص ١٩٨) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٩٧) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (٣ / ١٢٢) ، وأصول الدين للأسفراييني (ص ١٠٢) ، والغنية في أصول الدين لأبي سعيد النيسابوري (ص ١٠٢) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٢٨٤) ، ولمع الأدلة للجويني (ص ١٠٤).

١٨٢

فالعبارة والإشارة والكتابة دلالة بقرائنها تدل على أن لها مدلولا خاصا متميزا عن العلم والإرادة ولكل عبارة خاصة مدلول خاص متميز عن سائر المدلولات وهذا أوضح ما تقرر فإن دلالات العبارات على النطق دلالة المواضعة والتوقيف ويختلف بالأمم والأمصار ودلالة الإحكام على العلم دلالة العقل فلا يختلف ذلك بالأمم والأمصار ومدلول العبارات مع اختلافها مدلول واحد فإن المعنى الذي يفهم من قولك الله هو بعينه المعنى الذي يفهم من خذ أي وتنكري وسرنا وند إلى غير ذلك من الألفاظ فعلم من ذلك أن الكلام الذي في نفس الإنسان قول محقق ونطق موجود هو أخص وصف لنفس الإنسان حتى تميز به عن سائر الحيوانات ومن أنكره فقد خرج عن حد الإنسانية ودخل في حريم البهيمية ، وكفر أخص نعم الله تعالى على نوع الإنسان.

قالت المعتزلة : نحن لا ننكر الخواطر التي تطرأ على قلب الإنسان وربما نسميها أحاديث النفس إما مجازا وإما حقيقة غير أنها تقديرات للعبارات التي في اللسان ألا ترى أن من لا يعرف كلمة بالعربية لا يخطر بباله كلام العرب ومن لا يعرف العجمية لا يطرأ عليه كلام العجم ومن عرف اللسانين تارة تحدث نفسه بلسان العرب وتارة بلسان العجم فعلم على الحقيقة أنها تقديرات وأحاديث تابعة للعبارات التي تعلمها الإنسان في أول نشوئه والعبارات هي أصول لها منها تصدر وعليها ترد حتى لو قدرنا إنسانا خاليا عن العبارات كلها أبكم لا يقدر على نطق لم نشك أن نفسه لا تحدثه بعربية ولا عجمية ولا لسان من الألسن وعقله يعقل كل معقول وإن كان يعرى عن كل مسموع ومنقول فعلم أن الكلام الحقيقي هو الحروف المنظومة التي في اللسان والمتعارف من أهل اللغة والعقلاء أن الذي في اللسان هو الكلام ومن قدر عليه فهو المتكلم ومن لم يقدر عليه فهو الأعجم الأبكم فعلم من ذلك أن الكلام ليس جنسا ونوعا وفي نفسه ذا حقيقة عقلية كسائر المعاني بل هو مختلف بالمواضعة والاصطلاح والتواطؤ حتى لو تواطأ قوم على نقرات وإشارات ورمزات لحصل التفاهم بها كما حصل التفاهم بالعبارات.

ومن الدليل على ذلك أن الله تعالى سمى تغريد الطير وأصوات الحكل ودبيب النمل كلاما وقولا حتى قال سليمان بن داود عليهما‌السلام (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل : ١٦] ، (قالَتْ نَمْلَةٌ) [النمل : ١٨] ، وقال الهدهد : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النمل : ٢٢] ومثل ذلك يجري مجازا في الجمادات أيضا : (قالَتا أَتَيْنا

١٨٣

طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] ، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [الرعد : ١٣] ، ويعبر عن أحوال دلالاتهم على وجود الصانع بالتسبيح والتأويب وعن استعدادهم لقبول فعله وصنعه بالطوع والرغبة قولا وذلك كله يدل على أن الكلام ليس نوعا من الأعراض ذا حقيقة عقلية كسائر الأعراض بل نطلقه على النطق الذي في اللسان بحكم المواضعة والمواطأة والإنسان قد يخلو عنه وعن ضده وتبقى حقيقة إنسانيته فإنه إنما يتميز عن الحيوانات بصورته وشكله لا بنفسه أو عقله ونطقه ، وقوله وأنتم يا معشر الأشاعرة انتهجتم مناهج الفلاسفة حيث حددتم الكلام بالنطق النفسي كما حدوا الإنسان بقولهم الحيوان الناطق ، وجعلوا النطق أخص وصف الإنسان تميز به عن سائر الحيوانات وجعلوه الفصل الذاتي ويلزمكم على مساق ذلك أن تكون النفس الناطقة هي الإنسان من حيث الحقيقة والبدن يكون آلة وقالبا لها ، ثم يلزم منه أن يكون الخطاب والتكليف على النفس والروح دون البدن والجسد وأن يكون المعاد للأرواح والنفوس والثواب والعقاب لها وعليها ، وذلك طي لمسالك الشريعة وغي في مهالك الطبيعة (١).

قالت الأشعرية : الذي يشعر به نفس الإنسان معان مختلفة الحقائق وراء التمييز العقلي والتصوير الخيالي فإن التمييز العقلي حكم جزم بأن الأمر كذا وإن الحق في القضية كذا والتصوير الخيالي تقدير ما سمعه من العبارة من العربية والعجمية كما ذكرتم وليس فيه حكم ونفي الأمر الأوسط وهو التدبير النفساني الذي لا يعدمه كل ذي عقل ونفس من الإنسان سواء عدم النطق اللساني أو لم يعدم.

ومن البرهان على ذلك سوى الإحساس الذي لا ينكره إلا معاند جاحد أن كل عاقل مكلف بالنظر والاستدلال حتى يحصل لنفسه المعرفة بوحدانية الصانع ولن يتأتى الفكر والنظر إلا بترديد الخاطرين في جهات الإمكان وتدبير الأوائل التي هي بداية العقل بالثواني والثوالث في ترتيب المقدمات القياسية والتمييز فيها بين اليقيني والجدلي والخطابي والشعري ثم التدرج من ذلك الترتيب المخصوص والشكل الموصوف المعين إلى النتيجة التي هي المطلوبة وهذا التردد لن يتأتى إلا بأقوال عقلية ونطق نفساني يكون اللسان معبرا عنها تارة بالعربية وتارة بالعجمية

__________________

(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم (ص ٦٤) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص ١٨٤) ، وغاية المرام للآمدي (ص ١٠٦) ، والمواقف للإيجي (٣ / ٣٨٥ ، ٤٠٥).

١٨٤

إن كان منطقيا وبالإشارة والإيماء إن كان أبكم ، فعلم من ذلك أن الذي حصل في الخيال غير والذي حصل في النفس غير وأن الذي حصل في العقل غير ومن أمكنه التمييز بين هذه الاعتبارات سهل عليه تقدير النطق النفساني والقول بأن ذلك المعنى جنس ونوع من المعاني له حقيقة لا تختلف والذي في الخيال واللسان ليس جنسا ونوعا حقيقيا ثابتا بل يختلف ذلك بحسب الاصطلاح والمواضعة وعلى إمكان التعبير من حال إلى حال ومن شخص إلى شخص ومكان إلى مكان وذلك ليس كلاما حقيقيا ولا نوعا متنوعا ويتبعه الذي في الخيال من الصور والأشكال عن الحروف والكلمات التي في السمع وعن المبصرات والمدركات التي في البصر لكن المعاني التي في النفس حقائق موجودة تتردد فيها النفس بنطقها الذاتي وتمييزها العقلي وهذا لا ينكره إلا من أنكر نفسه وعدم حديثه وحسه.

وقولهم : يجوز أن يحصل التفاهم بالنقرات والرمزات كما يحصل بالعبارات (١).

قلنا : وهذا من الدليل القاطع على أن الذي في اللسان كلام مجازي ، فإن التفاهم حاصل بغيره والفهم نطق نفساني دون العلم العقلي فإن الإنسان يجوز أن يفهم باطلا وينكره بعقله ، فالفهم غير ذلك فالفهم غير والعلم غير ، وذلك الفهم مدلول كلام القائل فقط وهو نطق مجرد نفساني ومحاورة فكرية إذ يديره في خلده فيجيب عنه تسليما له واعتراضا عليه وربما يكون معنى في الذهن يبسط ويشرح في العبارة وربما يكون معاني كثيرة تقبض وتختصر في اللفظ وبالجملة مدلولات العبارات والإشارات نطق نفساني بخلاف مدلولات أصوات البهائم وتغريد الطير ، فإنها وإن حصل بها التفاهم الخيالي فلم يحصل بها الفهم النفساني حتى تتصرف فيما سمعته بالكلية والجزئية والموجبة والسالبة والذاتية والعرضية فقد عدمت تلك النفوس ما هو من خواص النفس الإنسانية وعدمت أيضا ما هو من خواص العقل الإنساني من الاعتبارات الكلية التي له ، والأحكام الجزئية التي إليه وبالجملة فهي عادمة الكليات واجدة الجزئيات فلم تكن أصواتهم وألحانهم قولا ونطقا وما ورد في التنزيل من نسبة الكلام إلى أمثالهم فهو محمول على أحد وجهين أحدهما : أنه أعطاهم عقلا وأنطقهم حقيقة بحرف وصوت ، وجعل ذلك معجزة لذلك النبي الذي هو في زمانه ، والثاني : أنه أجرى على لسانهم وهم لا يعرفون كلاما ففهمه نبي ذلك الزمان من غير أن يشعر به المتكلم من الوحش

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ١٠١) ، والصواعق المرسلة لابن قيم (٢ / ٦٤٥).

١٨٥

والطير ، كما أجرى على ذراع الشاة «لا تأكل مني فإني مسموعة» (١).

وأما نسبة صاحب هذه المقالة إلى الفلاسفة والتشنيع عليه بأنه يؤدي إلى كون النفس جوهرا روحانيا غير جسم وأن الخطاب يتوجه عليه وأن الثواب والعقاب له فهو سؤال لا يستحق الجواب والمعاني العقلية إذا لاحت حسية كالشمس وجب اعتقادها ولزم اعتقالها من غير التفات إلى مذهب دون مذهب وقد قالت الفلاسفة النفس الإنساني عندنا بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات أنه كمال أول لجسم طبيعي متحرك آلي ذي حياة بالقوة وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك أنه جوهر غير جسم هو كمال أول لجسم طبيعي محرك له بالاختيار عن مبدأ نطقي عقلي بالفعل وبالقوة فالذي بالفعل هو خاصة النفس الملكية والذي بالقوة هو فصل النفس الإنساني فالنطق فصل ذاتي على كل حال سواء كان بالقوة والاستعداد أو كان بالفعل والوجود ومن عدم المعنيين كان فصله الذاتي عجمة إما صاهل أو ناهق أو هادر أو فصل آخر.

قالوا ولا بد من إثبات النفس وإثبات جوهريته أولا حتى يصح إثبات النطق العقلي له ثانيا والأشعري إن وافق المعتزلة على أن نفي الروح والنفس جوهرا بلا عرض ولا يبقي زمانيين وهو الحياة فقط فهو كالمعتزلي إذا وافق الطبيعي منا على أن النفس ليس جوهرا روحانيا لا يقبل الاستحالة بل هو جسم قابل للكون والفساد وعرض تابع للمزاج ولا فرق بين قولهم مستحيل أي متغير حالا فحالا وبين قولهم لا يبقى زمانين أي موجود حالا فحالا.

وأما الفلاسفة الإلهيون فقد دلوا على وجود النفس من جهة إدراكها ومن جهة أحوالها أما الأفعال فأخص أفعالها بعد خروجها عن حد الاستعداد والانفعال التردد بين القضايا العقلية طلبا للدليل على المدلول وعثورا على العلة المقتضية للوجود أعني وجود المطلوب أو الاعتقاد بالوجود حتى يرد الثواني إلى الأوائل والثوالث إلى الثواني ويستدل بأمر خاص في ذهنه على أمر مستحضر ويتوصل بمعنى حاصل إلى معنى مستحصل وذلك من أخص أفعال النفس الإنسانية ليس لغيرها فيه نصيب وشركة

__________________

(١) انظر : مقالات الإسلاميين للأشعري (ص ٦٠٦) ، والإبانة له (ص ٧٧) ، وأعلام النبوة للماوردي (ص ١٩٥) ، وتبيين كذب المفتري للعسكري (ص ٢٩) ، والحديث رواه البخاري (٢ / ٩٢٣) ، ومسلم (٤ / ١٧٢١) ، والحاكم في المستدرك (٣ / ٢٤٢) (٤ / ١٢٢) ، وقوام السنة في دلائل النبوة (ص ٢١٥).

١٨٦

ومن خواص أفعالها أنها إذا خرجت من القوة إلى الفعل عقلا وعلما أو خلقا وعملا أخرجت غيره من النفوس الإنسانية من القوة إلى الفعل حتى تصير صورتها مشابهة لصورة المخرج كالمعلم للقراءة يخرج نفس الصبي من قوة الاستعداد إلى فعل القراءة حتى يصير قارئا مثله وكالمعلم للحكمة يخرج نفس المتعلم من قوة الصلاحية إلى فعل الحكمة حتى يصير حكيما مثله وكالمعلم للصناعات البشرية الخاصة بنوع الإنسان يخرج نفوس المتعلمين من القوة إلى الفعل حتى يصير صانعا مثله وليست هذه الخاصية أيضا لنوع من الحيوانات لأن ما لها بالطبع والفطرة فهي لمواليدها كذلك فهذا المعنى فضيلة النفس الإنسانية وانفصلت وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] ، الآية وكان له قوة القبول وقوة الأداء في طرفي العلم والعمل ومن خواص أفعالها أنها حيثما كثرت أفعالها ازدادت قوة وكمالا وغيرها من النفوس والأجسام وقواها الجسمانية حيثما كثرت أفعالها ازدادت ضعفا وكلالا.

ومن خواص قواها وأفعالها أن كل قوة جسمانية فهي متناهية الأثر إلى حد معلوم والقوة على ما لا يتناهى لا يتصور في الجسم بخلاف القوة العقلية النفسانية فإنها تقوى على ما لا يتناهى إذ ما يمكن أن تدركه النفس الناطقة من المحسوسات والمعقولات ليست محصورة فيستحيل أن يكون ذاتها ذاتا جسمانيا وقواها قوى جسمانية.

وأما خواصها من جهة إدراكها فأخص إدراكاتها أنها تدرك ذاتها بذاتها وأن ذاتها لا تعزب عن ذاتها وتراها تغفل عن كل شيء تقديرا سوى ذاتها حتى النائم والسكران يغفل عن كل شيء سوى ذاته ثم المدرك من ذاته ليس بآلة جسمانية أو نفسانية لأنا فرضناها غافلة عن كل شيء سوى ذاتها والمدرك ليس جسما أو جزءا من جسم فإنا في الفرض المذكور أغفلناه عن كل شيء سوى ذاتها فهي مدركة ومدركة وعاقلة ومعقولة لا يحجبها عن ذاتها شيء البتة ونفس إدراكها نفسها لا كالحواس فإنها لا تدرك ذاتها بذاتها ولا كالمدرك بالآلات إذا أصابت الآلة آفة بطل إدراكه أو ضعف ولا كالمدرك بآلة إذا أدرك شيئا قويا لم يمكنه إدراك الضعيف بل هي تدرك الضعيف بعد القوي والخفي بعد الجلي ولا كما يضعف بامتداد الزمان ويبليه ممر الدهور والحدثان فإنه ربما يقوى في الكبير ويضعف في الصغير فهذه كلها من خواص النفس الإنسانية نحس من أنفسنا ضرورة أن الأمر كذلك من غير احتياج إلى برهان يقام عليه والمعاني الضرورية إذا احتال المرء فيها لطلب برهان عليها ازدادت خفاء وانتقصت جلاء.

ثم البرهان القاطع على أن النفس ليس بجسم ولا قوة في جسم أن العلم المجرد

١٨٧

الكلي لا يجوز أن يحل في جسم وكل ما لا يجوز أن يحل في جسم فإذا حل حل في غير جسم فالعلم المجرد الكلي إذا حل حل في غير جسم.

أما المقدمة فنثبتها بناء على أن كل جسم منقسم وما حل في منقسم يجب أن يكون منقسما ونثبتها بناء على أن كل جسم فمركب من مادة وصورة والمعنى الواحداني الكلي بالذات لا يحل في مركب ونثبتها بناء على أن كل جسم فهو ذو وضع وقدر وشكل وحيز وكل ما حل في ذي قدر ووضع فيكون له نسبة وقدر وهيئة ووضع والمعنى المعقول المجرد في نفس الإنسان مجرد عن القدر والوضع فتجرده إما أن يكون باعتبار محله أو باعتبار ما منه حصل وباطل أن يكون تجرده بما منه حصل فإن الإنسان يتلقى حد الإنسان وحقيقته من إنسان شخصي له قدر مخصوص لكن الحس تجرده نوع تجريد عن المادة فإن المادة لا تدخل في الحس بل التماثل الذي يطابقه يرتسم فيه والخيال يجرده تجريدا أشد فإن الحس يناله وهو حاضر والخيال يناله وهو غائب والفكر يجرده تجريدا أشد فإن الخيال يناله مع غيبوبته شخصيا جزيا والفكر العقلي يتصوره مجردا فيتصوره العقل كليا واحدا مبرأ من الوضع والقدر مجردا عن المادة والشكل فتجرده بما هو مجرد وتفرده عن العلائق المادية بما هو مفرد فدل إدراكه المعقول على هذا الوجه المذكور على أن ذات النفس الناطقة العاقلة لا تنقسم إلى جزء وجزء ولا تتركب من مادة وصورة ولا توصف بوضع ومقدار وشكل وحيز وذلك ما أردنا بيانه.

وأما امتياز النفس الإنسانية عن الأجسام وقواها وسائر النفوس المزاجية من جهة حالاتها فإحدى حالاتها حركاتها وهي على مراتب فمنها حركاتها من قوة الاستعداد العلمي والعملي إلى الكمال ولما لم تكن هيولى عقلها الهيولاني على مثل هيولى سائر الأجسام لم تكن حركاتها من القوة إلى الفعل على مثل تلك الحركات بل أولى صورة لبستها الهيولى الجسمانية هي الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق وأولى صورة لبستها الهيولى النفسانية هي الأحوال الثلاثة من العقل المستفاد والعقل بالملكة والعقل بالفعل على ترتيب الأول والثاني والثالث ، وإنما يتصور ذلك الترتيب إذا كان ثم تحرك من مبدأ إلى كمال ، وإنما تتصور الحركة حيث يتحقق ، ثم زمان وهاهنا للنفس حالة أخرى غير زمانية وراء الأحوال الثلاثة وهي حالة المنام ، فإنك لا تشك في نفسك أنك ترى في المنام الصادق أحوالا كثيرة من حضورك في قصورك وترددك بين رباع وديار وتقلبك بين أشجار وجنات وأنهار ومكالمتك كلاما كثيرا من سؤال وجواب وخبر واستخبار وقصة طويلة لو عبرت عنها في اليقظة لو سعتها أوراق

١٨٨

وضاق عن بسطها بيان وبنان وكل ذلك في لحظة واحدة كأنها طرفة عين وكما غفوت رأيت جملة من ذلك ثم يعبر عنها بعبارات كثيرة وربما يظن أن مثاله مثال انطباع صورة في المرآة في لحظة وهذا إن صدق مثالا في الصورة المبصرة فكيف يصدق في الكلام الكثير من السؤال والجواب فإنها لا تنطبع معا في المرآة ، إذ لا بد من تعاقب حروف ولا بد للتعاقب من أزمنة متتالية حتى تدركها النفس ، وقد يرى الرائي في المنام أنه ختم القرآن ويذكر انتقالات ذهنه من سورة إلى سورة ومن آية إلى آية كل ذلك خطرة ولحظة فيعلم من ذلك ضرورة أن المدرك لذلك لو كان جسما أو قوة في جسم لاستدعى محلا لهذه الإدراكات تتعاقب عليه المعاني والصور وتتتالى عليه الآيات والسور ، ويستدعي ذلك التعاقب زمانا وأوقاتا وتقدما وتأخرا فاطلع من ذلك على أن النفس ليست من جنس الأجسام والأجرام ، فإن إدراكاتها التي لها بالذات ليست من جنس الإدراكات الحسية بالآلات الجسمانية ، وإنها فوق المكان والزمان جوهرا وإدراكا ، وليست هذه الحالة مخصوصة بالمنام بل وفي حالة اليقظة لها ثلاثة أحوال أحدها : أن يرتسم فيها صورة المعلومات مفصلة مسألة مسألة ، والثانية أن ترتسم فيها جملة غير مفصلة لكن يحصل لها قوة وهيئة تقوى بها على تلك المسائل والثالثة : أن يحصل لها من العقل بالفعل والملكة في الفعل أنه إذا سمع كلاما في المناظرة مشتملا على شبهة وقع في خاطره جواب ذلك في أوحى ما يقدر وأسرع ما ينتظر كأنه معنى واحد ثم يعبر عنه بعبارات كثيرة ويبسطه بسطا واسعا يشمل أوراقا ويملأ أسماعا فتحدس من ذلك أن النفس الإنسانية لو كانت من جملة الأجسام لما كان حالها كما وصفنا ، ولو كانت من عداد سائر النفوس الحيوانية المزاجية لما كان إدراكها إدراكا غير زماني وحال اليقظة فيما ذكرنا بحال الأنبياء أشبه وحال المنام بحال الأولياء أقرب فقد تبين مما ذكرنا أن النفس الإنسانية ليست من شبح الأجسام التي تتناهى بالحدود وتنقسم بالقسم وإن النطق الذي لها ليس من جملة النطق اللساني الذي يختلف بالأمصار والأمم وإنها هي الأصل في الإنسانية والمخاطبة بالأحكام التكليفية.

اعترض عليهم معترض من وجوه ثلاثة أحدها : اعتراض على الحدود والرسم الذي ذكروه ، والثاني اعتراض على خواص أفعالها ، والثالث اعتراض على إدراكاتها وأحوالها وردها إلى مدرك آخر.

أما الأول فقولهم : حد النفس بالمعنى الذي يشاركه النفس الحيوانية والنباتية أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة قيل أولا ما المعني بالكمال الذي ذكرتموه أهو جزء من جسم أم عرض في جسم أم أمر آخر وراء الجسم فإنكم ذكرتم أنها

١٨٩

بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك وهو جوهر وراء الجسم والكمال الذي وضعتموه موضع الجنس لفظ مشترك قد أطلق تارة بمعنى جزء وقوة أو عرض وأطلق تارة بمعنى آخر هو وراء الجسم فمن الوجه الذي يشاركه الحيوان والنبات لم يشاركه الملك ومن الوجه الذي يشاركه الملك لم يشاركه الحيوان ولفظ الكمال واحد وقد أطلق إطلاق الجنس لا بالتواطؤ بل بالاشتراك على أن الكمال من وجه آخر لفظ مشترك فإنه يطلق على المعنى الذي يقابله القوة ويعني به الفعل والوجود ويطلق على المعنى الذي يقابله المبدأ ويعني به الغاية والتمام ويطلق على المعنى الذي يقابله النقص والعيب ويعني به السلامة والألفاظ المشتركة لا تصلح ولا تستعمل في الحدود والرسوم ثم قلتم كمال جسم فقد أضفتموه إلى الجسم إما إضافة على سبيل اللام وإما إضافة على سبيل من وكمال الشيء ينبغي أن لا ينفصل عن الشيء فإنه إن انفصل عنه بجوهر لم يكن كمالا له فالنفس إذا مكمل الجسم الطبيعي لا كمال له ثم النفوس بجواهرها تنقسم على رأي إلى خيّرة بالذات والجوهر وإلى شريرة بالذات والجوهر فالتي هي خيرة كمالات ومكملات للأجسام الطبيعية الآلية حتى تستعملها في جهات الخير ، فكيف يسوغ لنا أن نحكم بأن الشريرة كمالات ومكملات للأجسام الطبيعية الآلية حتى تستعملها في جهات الشر فإن الأمر يتناقض فيه ، وإطلاق لفظ الكمال هاهنا سمج.

وأما الاعتراض الثاني على خواص الأفعال التي ذكروها هو أنا نسلم كلما قرروه ولكنا نقول بم تنكرون على من رد ذلك كله إلى كمالية التركيب في المزاج وخاصية التأليف الواقع بين الأمشاج إذ عرف من خواص الجواهر غرائب أفعال وعجائب أحوال لا يرتقي إليها الوهم ولا يرتمي نحوها العقل والفهم من تسكين وتحريك وحل وعقد وتنمية وإذبال وجذب وإرسال وتسخير وتدبير وحب وبغض وتصحيح وإمراض وإحياء وإماتة ما يقضي منه العجب ألا ترى من خواص الأحجار وخواص النبات والأشجار وهدايات الحيوانات إلى مصالحها ما لا يقصر في الدرجة عن خواص النفس الإنسانية ألا تعتبر من تأليفات الأعداد المجردة عن المادة مثل أعداد الوفق وغيرها كيف يؤثر في الأجسام حتى قيل : إن النفس الإنسانية عدد تأليفي كل ذلك من كمالية التأليف والتركيب وكما أن الأجرام البسيطة بما هيأتها ذوات خواص كذلك المركبات بتأليفها ذوات خواص فبتأليف أكمل ترتقي المعادن والنبات على العناصر وبتأليف أفضل يرتقي الحيوان والإنسان على المعادن والنبات فما دليلكم أن هاهنا سوى التأليف الأفضل والتركيب الأكل نفسا روحانية فإن جميع الخواص التي عددتموها يمكن حملها على كمالية التركيب فقط سوى شيء واحد وهو إدراكه للكليات والأمور التي لها وحدانية بالذات حيث يلزم

١٩٠

انقسامها بانقسام المحل وذلك هو المحال.

الاعتراض الثالث فنقول : أولا أنتم مطالبون بأن كل عرض حل في محل انقسم بانقسام المحل ضرورة فإن هذه القضية عندنا ليست ضرورية بل لما توهم في الألوان والأشكال أنها تنقسم بانقسام المحال أجري حكم ذلك في الكل فمن الأعراض ما ينعدم بانقسام المحال كالمماسة والتأليف ومنها ما لا ينعدم فيقوم بجزء منه قيامه بالكل وعند المتكلم العلم الواحد لا يقوم إلا بجزء واحد وانعكس الأمر عليكم فنقول إن كان انقسام المحل يوجب انقسام العرض فاتحاد العرض يستدعي اتحاد المحل وأنتم إذا سلمتم معنى وحداني الذات لا ينقسم بوجه فيلزمكم أن تثبتوا محلا له وحداني الذات لا ينقسم ، أليست النقطة عرض وهو شيء ما لا ينقسم بوجوه فيلزمكم أن تثبتوا محلا له وحداني الذات لا ينقسم من الجسم ، ومحلها من الجسم وجب أن لا ينقسم على أنا نلزمهم أمرا لا جواب لهم عنه وهو أن هذا المعنى الكلي الواحد الذي يدركه العقل أيبقى مع العقل محفوظا مذكورا بالفعل أبد الدهر ، أو يجوز أن يغفل عنه العقل ، ولا حاصل للقسم الأول فإن الإنسان يجد من نفسه غفلته عن المعقولات المحصلة فيبقى متحفظا في خزانة الحفظ وهي قوة جسمانية إن جاز أن يحفظها كلية فلم لا يجوز أن يكون قوة جسمانية يحصلها كلية فإن حفظ المرتسم في النفس كنفس الارتسام أم تبقى محفوظة في غير خزانة الحفظ وهو العقل المفارق الفياض عليه كما قيل إنه يصير له كالخزانة الحافظة متى طالعه أشرف عليه ثانيا وأفاده الصورة الأولة بعينها فيذكره ما قد نسي ويذكر ثانيا ما قد أغفل فيلزم على مقتضى ذلك إشكالان أحدهما أن الصورة المفصلة كيف ترتسخ في ذات واهب الصور مفصلة حتى تكون لزيد عنده صورة ولعمرو صورة وهو يحفظ الكل مفصلا منقسما متعددا متمايزا بعضها عن بعض بالكم والكيف وهو أحديّ الذات واسع الإفاضة عام الإضافة وهذا من أمحل المحال والإشكال الثاني أن الذي تصورتم في جانب الحفظ فيتصور في جانب الإدراك الأول حتى تحكموا بأن المدرك للكليات هو العقل الفعال كما أن الحافظ هو وليس إلى النفس الإنسانية إلا تركيب القضايا وتأليف المقدمات ورفع الحجب ثم يكون العقل مدركا كما كان حافظا والإنسان يكون مدركا بإدراك في ذات العقل الفعال كما كان حافظا بحفظ في ذات العقل الفعال فيكون العقل الانفعالي حاصلا له كما كان العقل الفعلي حاصلا منه وتكون نسبة العقول الجزئية إليه في العرض عليه نسبة الحواس الباطنة إلى العقل الإنساني في العرض عليه ، وهذا موضع إشكال وشك عظيم ، وربما يستوفى شرحه في المباحثات التي بيننا وبين الفلاسفة إن شاء الله.

١٩١

القاعدة الخامسة عشرة

في العلم بكون الباري سميعا بصيرا (١)

ذهب أبو القاسم الكعبي ومن تابعه من البغداديين إلى أن معنى كونه سميعا بصيرا أنه عالم بالمسموعات والمبصرات لا زائد على كونه عالما بالمعلومات ووافقه جماعة من النجارية ومن قال من المعتزلة إنه سميع بصير لذاته فمذهبه مذهب الكعبي لا غير ومن قال منهم : إن المعنى بكونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به فمذهبه بخلاف مذهب الكعبي وهو الذي صار إليه الجبائي وابنه ، ومنهم من صار إلى أن معنى كونه سميعا بصيرا أنه مدرك للمسموعات والمبصرات وذلك زائد على كونه عالما.

وذهب أبو الحسن الأشعري رحمه‌الله إلى أنه تعالى سميع بسمع بصير ببصر وهما صفتان قائمتان بذاته زائدتان على كونه عالما.

ودليله في ذلك : أن الحي إذ قبل معنى وله ضد ولا واسطة بين الضدين لم يخل عنه أو عن ضده فلو لم يتصف بكونه سميعا بصيرا لاتصف بضدهما وذلك آفة ونقص ، وهذه المقدمات تحتاج إلى إثبات فلا بد من البرهان على كل واحدة منهما.

أما المقدمة الأولى : فالدليل عليها أن المصحح لقبول السمع والبصر شاهدا هو كون الإنسان حيا أنا عرفنا ذلك بطريق السبر إذ لو كان المصحح وجوده أو حدوثه أو قيامه بالنفس أو غير ذلك من الأوصاف كان منتقضا على الفور فبقي كونه حيا والباري تعالى حي فلزم القضاء بكونه موصوفا بالسمع والبصر لتعاليه عن قبول الآفات والنقائض وليس منكر صحة قبول السمع والبصر أسعد حالا ممن يزعم أن الباري تعالى لا يتصف بالعلم وضده مصيرا إلى استحالة اتصافه بحكميهما.

فإن قيل : ما الدليل على أنه إذا لم يتصف بالسمع والبصر يجب أن يتصف بضدهما؟

قيل : كل ما دل على استحالة عرو الجوهر عن المتضادات فهو دليل على ذلك وقد سبق القول فيه.

__________________

(١) انظر : مقالات الإسلاميين للأشعري (ص ١٦٨ ، ٤٩٨) ، وغاية المرام للآمدي (ص ١٢١) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٧٨).

١٩٢

فإن قيل : ما الدليل على أن الاتصاف بضد السمع والبصر من النقائص.

قيل : لما علم أن السمع والبصر من صفات المدح ، فذلك دليل على أن الاتصاف بأضداد ذلك نقائص وآفات ويجب تعاليه عنها وقد وصف الرب تعالى نفسه بالسمع والبصر على وجه التمدح كما وصف نفسه عالما قادرا حيا على وجه التمدح فلو لا أنهما صفتا مدح لما تمدح بهما فيلزم أن يكون ضدهما صفتا ذم ونقص والنقص دليل الحدوث ولو قدرنا الإدراك صفة زائدة على العلم أو قلنا : إنه العلم ففي نفيه نقص وقصور ، فلن يتحقق نقص إلا ممكنا محتاجا إلى مكمل لتعود الذات إلى الكمال وذات الباري تعالى وصفاته منزهة عن شوائب الإمكان ولا نقص في ذاته وصفاته.

قال الكعبي : إنما يصح لكم إثبات إدراك غائبا بعد إثباته شاهدا ، ونحن لا نساعدكم أن السمع والبصر إدراكان زائدان على العلم.

أما الكعبي فقد قال : الذي يجده الإنسان من نفسه إدراكه للمسموع والمبصر بقلبه وعقله ولا يحس بصره بالمبصر بل يحس المبصر ويسمع السامع لا الآذان وذلك هو العلم حقيقة ولكن لما لم يحصل له ذلك العلم إلا بوسائط بصره سمي البصر حاسة وإلا فالمدرك هو العالم وإدراكه ليس زائدا على علمه.

والدليل على ذلك أن من علم شيئا بالخبر ثم رآه بالبصر وجد تفرقة بين الحالتين إلا أن تلك التفرقة ليست تفرقة جنس وجنس ونوع ونوع بل تفرقة جملة وتفصيل وعموم وخصوص وإطلاق وتعيين وإلا فشعور النفس بهما في الحالتين واحد.

قال : ولو كان المدرك مدركا بإدراك للزم أن يحضر عند الحاسة السليمة قينة تلعب وأنعام تسرح وطبول تضرب وصور تنفخ فيه وهو لا يراها ولا يسمعها ، إذ لم يخلق له إدراك ذلك ، وكذلك يجوز أن يرى الشخص البعيد ولا يرى القريب لأنه خلق له إدراك البعيد دون القريب وقد علمنا ضرورة أن الأمر على خلاف ذلك.

وقال الجبائي : إن الحي إذا سلمت نفسه عن الآفة سمي سميعا بصيرا ولا معنى للإدراك شاهدا وغائبا إلا ذلك.

والدليل عليه أن الذات إذا سلمت أدركت كل معروض عليها من المتماثلات والمختلفات وإدراكها السواد كإدراكها البياض ولو كان مدركا بإدراك لجاز أن يدرك بعض الأشياء دون بعض مما يقابل المدرك فكان يجوز أن يدرك بياضا ولا يدرك سوادا وهما متقابلان للحاسة في حالة أو حالتين متعاقبتين كما أن العالم منا جاز أن يعلم شيئا دون شيء.

قالوا : وإن سلمنا ثبوت الإدراك في الشاهد فلم نسلم أن المصحح مجرد كون

١٩٣

الحيوان حيا فقط وهاهنا شرط آخر وهو حصول البنية وشرط للشرط وهو توسط الهوى المضيء بين المبصر والمبصر والهوى الصافي بين السمع والمسموع كما شرطنا في الشم واللمس والذوق اتصال الأجرام ومماستها بالاتفاق ، وإذا استدعت الثلاث من الحواس شرطا حتى يتحقق الإدراك ولأجل ذلك امتنع إثباته غائبا كذلك الحاستان الباقيتان استدعتا شرائط أخر سوى كونه حيا حتى يتحقق الإدراك فأنتم مدفوعون إلى إقامة الدليل على حصر الشرائط في كونه حيا فقط وإلا فارفعوا كون الحياة شرطا ، كما رفعتم كون البنية وتوسط الهوى شرطا واجعلوا وجود الحياة شرطا من حيث العادة لا من حيث الضرورة كما جعلتم البنية شرطا من حيث العادة وهذا الموضع من مشكلات مسائل الإدراكات.

قال الأشعري : الإدراكات من قبيل العلوم على قول ورأي وهو جنس آخر على قول فمن قال بالقول الأول فيقول هو مماثل للعلوم ولا يفترقان إلا في أن أحد العلمين يستدعي تعيين المدرك والعلم من حيث هو علم لا يستدعي تعيين المدرك فلا جرم بقول العلم يتعلق بالمعدوم والإدراك لا يتعلق به إذ المعدوم لا يتعين ولا تظنن أن هذا الرأي هو مذهب الكعبي ، فإنه لم يثبت لإدراك معنى أصلا والأشعري أثبت المعنى وقال : هو من جنس العلوم فعلى هذا القول الرب تعالى سميع بصير بإدراكين هما علمان مخصوصان وراء كونه عالما هو مدلول الإحكام والإتقان ، ومن قال بالقول الثاني استدل بأن العلم بالشيء إذا أضيف إلى علم آخر به واتحد المتعلق واستوى العلمان في صفات النفس لم يتصور اختلافهما ، فلما وجدنا في أنفسنا اختلافا بين العلم والإدراك وأحسسنا تفرقة بين المعلوم خبرا وبين المرئي عيانا مع اتحاد المتعلق واستواء الأمر في الحدوث علمنا أن الجنسين مختلفان وأيضا فإن الأكمه لو أحاط علما بما أحاط به البصير حصل له كل علم سوى الإدراك فدل أنه زائد على العلم على أن هذا يشكل بقاعدة من لم يجعل البنية شرطا فإنه جوز أن يخلق الله تبارك وتعالى الرؤية في القلب والعلم في البصر فحينئذ يلتبس العلم بالإدراك ويلزم أن يسمع السامع بالبصر ويبصر بالسمع ويشم بحاسة الذوق ويذوق بحاسة الشم ويلزم أن تكون حاسة واحدة هي سامعة مبصرة شامة ذائقة لامسة وإنما اختص كل إدراك بحاسة خاصة في خلقه ، وكذلك يجوز أن تكون أمور حاضرة لا نحسها وأمور غائبة نبصرها ولكن العادة الجارية أمنتنا من ذلك أليست الملائكة كانت تحضر مجلس النبوة والقوم حضور والأعين سليمة وهم لا يبصرون أليست الشياطين والجن يطوفون في البلاد ويسرحون في الأرض وأن إبليس هو يرانا وقبيله من حيث لا نراه فبطلت تلك التهويلات

١٩٤

والتشنيعات التي ألزمها الخصم.

وأما جواب الجبائي عن القاعدة التي صار إليها من حد السميع والبصير أنه الحي الذي لا آفة به ، قيل : أطلقت القول بنفي الآفة وذلك بالاتفاق ليس بشرط فإن السميع والبصير قد يكون ذا آفة وذا آفات كثيرة ، فلا بد وأن يخص نفي الآفة بمحل الإدراك ، ثم تلك الآفة يجب أن تكون مانعة من الإدراك فقد أثبت الإدراك من حيث نفاه ثم الذي يحسه الإنسان من نفسه معنى موجود لا نفي محض.

وقولهم : لا آفة به نفي محض فلا يتصور الإحساس به ويستحيل أن ترجع التفرقة بين حالتي الإدراك وعدم الإدراك إلى عدم محض فحينئذ تنعدم التفرقة فإن التفرقة بالعدم وعدم التفرقة سوي.

ثم نقول : نحن نجد تفرقة ضرورية بين كون الإنسان سميعا وبين كونه بصيرا وهما متفقان في أن معنى كل واحد منهما أنه حي لا آفة به فهذه التفرقة ترجع إلى ما ذا فلا بد من أمرين زائدين على كونه حيا لا آفة به حتى يكون بأحدهما سميعا وبالثاني بصيرا وإلا فتبطل التفرقة الضرورية فالذي انفصل به السمع عن البصر ، وهو وراء كونه حيا لا آفة به فكذلك الذي انفصل به السمع والبصر عن العلم وسائر الصفات وراء كونه حيا لا آفة به ولئن ألزم الجبائي بأن يقال معنى كونه عالما قادرا أنه حي لا آفة به حتى يرد الصفات كلها إلى كونه حيا لا آفة به لم يجد عن هذا الإلزام مخلصا.

وقد قال بعض العقلاء : وقرر أن جميع صفات الكمال تجتمع في كونه حيا وتنتفي صفات النقص بقولنا لا آفة به وأما اشتراطهم البنية حسب اشتراط الحياة غير صحيح فإن الإدراك الواحد لا يقوم إلا بجزء واحد من الجملة وإذا قام به أفاد حكما له ولا أثر للجواهر المحيطة فإن كل جوهر مختص بحيزه موصوف بأعراضه وكما لا يؤثر جوهر في جوهر لا يؤثر حكم جوهر في جوهر آخر ولا يختلف حكم جوهر بعينه في تفرده وانضمامه وإذا جاز قيام الإدراك به مع اتصاله بالجواهر جاز قيامه به مع تفرده فإنه لا يتحول عن صفته تفرد أو انضم إلى غيره خصوصا إذا كان الإدراك في صفة نفسه لا يقتضي جمعا وضما وإضافة ونسبة ولم يكن من الأعراض الإضافية بخلاف الاجتماع والافتراق والمماسة ثم لو كانت البنية شرطا كاشتراط كونه حيا لوجب طرده في الغائب حتى يكون الباري تعالى في علمه وقدرته ذا بنية كما كان حيا لأن الشروط يجب طردها شاهدا وغائبا.

ومن العجب أنهم كما شرطوا البنية شرطوا في الرؤية اتصال الأشعة وهي أجسام مضيئة تنبعث عن البصر عند فتح الأجفان وهي أجسام تتشكل وتتحرك

١٩٥

وتتعوج وتستقيم ، فإذا اتصل الشعاع المنبعث من الناظر بالقاعدة على حد معلوم مع الاستقامة ولم يكن ثم بعد مفرط ولا قرب مفرط أدركه الرائي فلذلك لا يرى الشيء البعيد على غاية البعد ولا يرى باطن الأجفان وإن كانت القاعدة صقيلة ارتدت الأشعة إلى الرائي فرأى عند ذلك نفسه وربما يظن أنه ينفصل عن المتلون صورة ويمتد إلى العين فينطبع فيها وكلا المذهبين باطل.

أما القول بالأشعة التي تنبعث من العين فبطلانه بأنا نعلم قطعا أن العين على صغرها لا تتسع لأجسام تنبسط على نصف كرة العالم فإن تلك الأجسام إن كانت موجودة بالفعل محسوسة بالجفن فوجب أن يكون قدرها مثل نصف قدر كرة السماء وهذا محال وإن حدثت في ساعة الملاحظة فما السبب لحدوثها ومن المعلوم أن القدرة الحادثة لا تصلح لحدوث الأجسام والقول بتولد الأجسام أمحل ، ويلزم من ذلك أيضا أن جماعة من ذوي الأبصار إن اجتمعوا على رؤية شيء وجب أن يقوي إدراك الضعيف البصر الذي معهم فإن شعاعه إن قل ما في نفسه فقد تكثر بأشعتهم ، وإن ضعف عن حالة القوى فقد يقوى باشتراك أشعتهم فينبغي أن يستعين الضعيف كما يستعين بقوة ضوء السراج.

ثم الشعاع إن كان عرضا فيستحيل عليه الانتقال ، وإن كان جوهرا فلا يخلو إما أن يبقى متصلا ، وإما أن لا يبقى فإن بقي فيلزم أن يتفرق ويدرك الشيء متفرقا وينبغي أن يكون مثل خط مستقيم يتحرك بتحريك الريح وينقطع بقطع الماء وإن لم يبق متصلا فلم يدرك العين بما اتصل به بل بما انفصل عنه ، فما اتصل بالمرئي لم يتصل بالعين وما اتصل بالعين لم يتصل بالمرئي فيلزم أن لا يتحقق له إدراك أصلا.

والقول بانتقال صورة من المرئي إلى البصر باطل أيضا فإن الصورة لو انتقلت لاحترقت العين برؤية النار وهي إن كانت عرضا فهي لا تنتقل وإن كانت جوهرا فلينقص المرئي بانفصال شيء منه ولا ينفصل شيء منه إلا بسبب ولا سبب هاهنا فهو باطل فتحقق أن الإدراك معنى في حاسة المدرك ثم يبقى هاهنا مباحثة أخرى وهي أن الإدراك هل هو إدراك لصورة في حاسة المدرك تطابق الصورة الخارجة أم هو إدراك ما في الخارج من غير توسط صورة في الحاسة ، وشيء آخر وهو أن محل الإدراك هو الحاسة الظاهرة من العين والأنف والفم والأذن أم هي آلات وأدوات للحاسة المشتركة بينهما فيكون الحس الحقيقي فيها حتى تجتمع المختلفات فيها ويكون الإدراك إدراكا واحدا فيظن بعض العقلاء أنه هو العلم إذ هو في الباطن ويظن بعضهم إنه إدراك أخص من العلم إذ مدركه في الظاهر والإدراكات الخمس مختلفة الحقائق حتى

١٩٦

يكون اختلافها بالنوع أم الاختلاف راجع إلى المدركات والإحساس بها بمعنى واحد ، وهذا الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة.

قال المتكلمون : الحواس الخمس مشتملة على إدراكات خمس تختلف أنواعها وحقائقها والإنسان يجد من نفسه أنه يرى ببصره ويسمع بأذنه كما يجد أنه يعلم بقلبه فالبصر محل الرؤية والأذن محل السمع كالقلب هو محل العلم وكما يجد التفرقة بين العلم والإدراك يجد التفرقة بين محل العلم ومحل الإدراك ولأن الذي يدرك ببصره من المرئي هو الألوان والأشكال فيستدعي ذلك مقابلة ومواجهة فالذي يدرك بسمعه من المسموع هو الأصوات والحروف ولا يستدعي ذلك مقابلة ، وكذلك المشموم والمذوق والملموس يستدعي اتصال الأجسام ولا يستدعيه السمع والبصر ، فلذلك يجوز أن يوصف الباري تعالى بأنه سميع بصير ولا يجوز أن يوصف بأنه شام ذائق لامس وكذلك لا يجوز أن يسمع الشيء من حيث يبصر ويبصر من حيث يسمع فدل ذلك على أن الإدراكات مختلفة الحقائق والمحال جميعا وهذا كله على رأي من يفرق بين الإدراك والعلم ، فأما من قضي بأن الإدراك علم قضى باتحاد المحل والحقيقة (١).

سوى أبي الحسن الأشعري فإنه يقول كل إدراك علم على قول ولا يقول كل علم إدراك بل الإدراك علم مخصوص فإنه يستدعي تعيين المدرك ويتعلق بالموجود فقط والوجود هو المصحح بخلاف العلم المطلق فإنه لا يستدعي تعيين المدرك ولا يتعلق بالموجود من حيث هو موجود بل يتعلق بالمعدوم والموجود والواجب والجائز والمستحيل ، لكن من الإدراكات ما هو علم مخصوص كالسمع والبصر وتردد رأيه في سائر الإدراكات أهي علوم مخصوصة أم إدراكات ورأي بعض أصحابه أنها إدراكات أخر ، وليس الوجود بمجرده مصححا لها فقط بل الاتصال فيها شرط فلا يتصور شم إلا باتصال أجزاء من المتروح أو من الهوى إلى المشام وكذلك الذوق واللمس لا يتصور وجودهما إلا باتصال جرم بجرم.

وقالت الفلاسفة : يرتسم في الحواس الظاهرة بصور صورة تفيض عليها من واهب الصور عند استعدادات تحصل فيها بمقابلة الحاس والمحسوس ثم قد تكون تلك الصورة نفس الإدراك وقد يكون الإدراك شيء آخر دون تلك الصورة كمقابلة المرئي من الألوان والأشكال في الرطوبة الجليدية من العين التي تشبه البرد والجمد فإنها مثل مرآة فإذا قابلها متلون انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع مثل صورة الإنسان في المرآة

__________________

(١) انظر : مقالات الإسلاميين (ص ٣٨٤).

١٩٧

بتوسط جسم شفاف بينهما لا بأن ينفصل من المتلون شيء ويمتد إلى العين ولا بأن يتصل شعاع فيمتد إلى المتلون فإذا حصلت الصورة في الجليدية أفضت إلى القوة الباصرة المودعة في ملتقى الأنبوبتين في مقدم الدماغ وهما عصبتان مجوفتان على شكل صليب فتدركه النفس بهما فتكون الصورة في الجليدية من العين والإدراك في الحس المشترك ولما كانت الجليدية كرية ومقابة الكرة يكون بالمركز وفرضنا سطحا مستديرا مثلا كالترس كان يقابله على خطوط مستقيمة محيط بالترس متسع الأسفل متضايق الأعلى ينتهي إلى الجليدية على دائرة صغيرة وحيثما ازداد الترس بعدا ضاقت الزاوية فصغر في العين فيرى الكبير من البعد صغيرا فلو كان الإدراك معنى في العين وتعلق بالمدرك على ما هو به كان المرئي مرئيا على مقدار شكله وصورته ولم يتفاوت الأمر بالقرب والبعد وأيضا فإن النقطة من النار إذا أديرت بسرعة أشبهت دائرة يدركها البصر وهي في نفسها نقطة والقطر النازل يرى خطا مستقيما وهو مستدير فتحقق أن الحس الحقيقي ما في الباطن دون الصورة الظاهرة ، وأما السمع فإن الصوت والكلام المركب من الحروف إذا صادف الهوى الراكد الذي في الصماخ المجاور للعصبة المفروشة في أقصى الصماخ الممدودة مد الجلد على الطبل والوتر على الصنج حصل منه طنين فيها فتشعر به القوة المودعة في تلك العصبة على رأي أو أدركه الحس المشترك على رأي فحصل السماع ثم الفهم ثم التمييز ثم الحكم ثم القبول فتلك العصبة بالنسبة إلى الصوت والكلام نازل منزلة الجليدية في العين غير أن الصورة في المرآة تحصل دفعة تامة والصورة في العصبة تحصل متعاقبة في لحظة ويحصل الإدراك به وينتفش الخيال منه انتعاش اللوح من القلم فيحصل فيه الكلام مكتوبا معاينا فيقرأ كما يقرأ من الصحيفة وهاتان الحاستان ممتازتان عن سائر الحواس بأن إدراكهما غير ما ارتسم في الحاستين وأما الشم فإنه بقوة في زائدتي الدماغ المشبهتين بحلمتي الثدي ، وإنما يدرك بواسطة جسم ينفعل من الروائح وذلك بانفعال الهوى من ذي الرائحة لا بانتقال أجزاء منها أو رائحة تنتقل عنها فيصل إلى الحلمتين فتدركه القوة المركوزة فيها والذوق هو قوة مودعة في العصبة المفروشة على ظاهر اللسان بواسطة الرطوبة العذبة التي لا طعم لها المنبسطة على ظاهر اللسان فإنها تأخذ طعم ذي الطعم وتستحيل إليه وتتصل بتلك العصبة فتدركها العصبة واللمس هو قوة مبثوثة في جميع البشرة واللحم المتصل بها يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والصلابة واللين والخشونة والملاسة والخفة والثقل ، والذي يحمل هذه القوة جسم لطيف يجري في شباك العصب ويستمد من القلب والدماغ ، وإنما يدرك إذا استحال كيفية البشرة

١٩٨

إلى شبه المدرك بشرط أن يتفاوتا في الكيفية وهذه القوى كلها معدات لقبول الفيض من واهب الصور ، وإلا فالحاسة لا تحدث إدراكا.

والأشعري فصل بين السمع والبصر وبين الثلاثة الباقية حيث شرط هاهنا اتصالا جسمانيا وأثبت إحساسا جسمانيا ولم يثبتها في صفات الباري تعالى ، ولما علم أن لهما اختصاصا بالباطن ردد قوله في أن الإدراك علم مخصوص أو معنى آخر في الحاسة المشتركة ولا يستبعد من مذهبه قيام الإدراك السمعي بالبصر والبصر بالسمع فإن القوم حكموا باتحادهما عند الحاسة المشتركة حتى يصير المرئي مقروءا والمقروء مرئيا فإنهما في حقيقة الإدراك لا يختلفان ومحلهما محل واحد فيتحدان وكلام المعتزلة في الإدراكات مختلط لا ثبات له والله أعلم(١).

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٩٣) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١٩ ، ٢٢٠) ، والمواقف للإيجي (٢ / ٥٨٣).

١٩٩

القاعدة السادسة عشرة

في جواز رؤية الباري تعالى عقلا ووجوبها سمعا (١)

لم يصر صائر من أهل القبلة إلى تجويز اتصال أشعة من البصر بذاته تعالى أو انطباع شبح يتمثل في الحاسة منه وانفصال شيء من الرائي والمرئي واتصاله بهما ، لكن أهل الأصول اختلفوا في أن الرؤية إدراك وراء العلم أم علم مخصوص ، ومن زعم أنه إدراك وراء العلم اختلف في اشتراط البنية واتصال الشعاع ونفي القرب المفرط والبعد المفرط وتوسط الهوى المشف فشرطها المعتزلة ونفوا رؤية الباري تعالى بالأبصار نفي الاستحالة ، والأشعري أثبتها إثبات الجواز على الإطلاق والوجوب بحكم الوعد ثم ردد قوله إنه علم مخصوص أي لا يتعلق إلا بالموجود أم هو إدراك حكمه حكم العلم في التعلق أي لا يتأثر من المرئي ولا يؤثر فيه ونحن نورد كلام الفريقين على الرسم المعهود.

قالت الأشعرية : الموجودات اشتركت في قضايا واختلفت في قضايا ، والرؤية قد تعلقت بالمختلفات منها والمتفقات ولا يجوز أن يكون المصحح للرؤية ما يختلف فيه فإنه يوجب أن يكون لحكم واحد علتان مختلفتان وهذا غير جائز في المعقولات ، أو يلزم أن يكون لحكم عام علة خاصة هي أخص من معلولها وما يتفق فيه الجوهر والعرض إما الوجود أو الحدوث والحدوث لا يجوز أن يكون مصححا للرؤية فإن الحدوث هو وجود مسبوق بعدم والعدم لا تأثير له في الحكم فبقي الوجود مصححا بالضرورة وهذا تقسيم حاصر فإن الرؤية بالاتفاق تعلقت بالجوهر والعرض وهما قد اختلفا من كل وجه سوى الوجود والحدوث وقد بطل الحدوث فتعين الوجود ولا يلزم على هذه الطريقة انتشار الأقسام كما لزم على طريق الأصحاب غير استبعاد محض للمعتزلة في قولهم لو كان كل موجود مرئيا لكان العلم والقدرة والطعم والرائحة وما سوى اللون والمتلون مرئيا ولكان نفس الرؤية مرئية بالرؤية وهذا محال ويلتزم أبو

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ١٥٩) ، والإبانة للأشعري (ص ٤٣) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٣٠١) ، وتبيين كذب المفترى للعسكري (ص ١٢٩) ، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٢ / ٣٤٥ ، ٣٤٨ ، ٣٤٩ ، ٣٥٣ ، ٣٥٧) ، والصواعق المرسلة لابن قيم (٤ / ١٣٣٤).

٢٠٠