تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

[الأنبياء : ٢١] أما غير المتقين ، فقد أغلقت قلوبهم عن الوعي والشعور والإحساس (لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها).

* * *

سمات المتقين

وينطلق القرآن ، في اتجاه الحديث عن ملامح المتّقين في حركة الالتزام العمليّ ، فهم لا يطوفون مع الشيطان إذا طاف بهم ، بل يبتعدون عنه ليتذكّروا ربهم ومصيرهم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] ، فيبصرون بالعيون الروحية المفتوحة النور النازل عليهم من وحي الله.

وهم الذين يعيشون العطاء كقيمة ممتدة في جوانب حياتهم في السرّاء والضرّاء ، لا كحالة سريعة خاضعة لظروف طارئة ، وهم الذين يحبسون غيظهم بالروح الرضيّة التي لا ترى في تفجير الغيظ متنفسا للعقدة الحادة الكامنة في نفوسهم ، لأنهم لا يعتبرون العلاقة بالإنسان الآخر في سلبياته الموجهة إليهم عقدة تفصلهم عنه ، بل يعتبرونها مشكلة تدفع العقل إلى التفكير بحل ، وهم الذين يتابعون التفكير في أشد حالات الغيظ ليفكروا بالله الذي يقول لهم (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وليدققوا في نتائج الموقف ، فيصلوا إلى النتيجة الأخلاقية الحاسمة ، وهي المبادرة بالعفو ، لأنه الشكر العملي لله في القدرة على هذا الإنسان المسيء ، وهم الذين يبدلون السيئة بالحسنة ، لأن ذلك هو مظهر القيمة الاخلاقية بالإحسان إلى من أساء إليك ، المعبّرة عن عمق القيمة الروحية في الذات التي لا تبحث عن ردة الفعل على فعل الآخر ، بل تبحث عن رضوان الله ، وهذا هو قوله تعالى : (* وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ

٨١

وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٣ ـ ١٣٤].

وهم الذين يبادرون إلى الاستغفار من الذنب إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بالانحراف عن خطّ الطاعة لله ، لأنهم يعرفون أن الله يغفر الذنوب كلها إذا عرف من عباده صدق النية في التوبة والإخلاص له وعدم الإصرار على الذنب ، وذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [آل عمران : ١٣٥ ـ ١٣٦].

وهم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، فلم يتركوا أيّة مفردة من مفردات الإيمان إلا وآمنوا بها والتزموها في وجدانهم العقيدي. وهم الذين يؤتون المال ، سواء حبا لله تعالى ، أو على حبهم له ـ أي للمال ـ بحيث يكون بذله تضحية بهذا الحب ، وذلك لكل الذين يمثلون مصاديق حب الله تعالى في الإنفاق من الفئات المحرومة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وفي تحرير الرقاب من العبودية. وهم الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويوفون بعهودهم في التزاماتهم التعاقدية ، وعهودهم الاجتماعية. وهم الصابرون في حالة الشدة والرخاء وفي حالة الحرب. وهم الصادقون في إيمانهم ، وفي نياتهم ، وفي كلماتهم ، وفي مواقفهم ، وكل أوضاعهم مع أنفسهم ، ومع الله ، ومع الناس ، وذلك هو قوله تعالى : (* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] ، وهم الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به (وَالَّذِي جاءَ

٨٢

بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر : ٣٣].

وتبقى للتقوى نتائجها في السماع للموعظة والإنذار من خلال حسّ المسؤولية في ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) [المائدة : ١٠٨] ، وفي إصلاح ذات البين وإطاعة الله ورسوله (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال : ١]. وفي الوقوف مع الصادقين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٩] ، لأن مسألة التقوى تفرض على المؤمن أن يتخذ الموقف المنسجم مع المجتمع الإيماني المتميّز بالصدق في حركة الصادقين مع الله ومع أنفسهم ومع الناس ، فإن ذلك هو الذي يعبّر عن إخلاص المؤمن لقيمة الصدق في الحياة ، وفي القول السديد الذي يمثل الكلام الذي يتميز بالمضمون الحق المتوازن في معناه ، وفي حركة الإنسان المرتكزة على الصواب الذي لا باطل فيه ولا خطأ في واقعة ، (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [النساء : ٩] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب : ٧٠]. وفي إطاعة القيادة الشرعية واتباعها في الاستجابة لله وللرسول ، والامتناع عن إطاعة غيرها (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء ١٠٧ ـ ١٠٨] ، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) [الشعراء : ١٥٠ ـ ١٥١] ، وفي العفو عن المسيء (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وفي العدل مع الأعداء (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، وفي تعظيم شعائر الله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج : ٣٢] ، وفي التناجي بالبر والتقوى (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المجادلة : ٩] ، وفي ابتغاء الوسيلة إلى الله للحصول على رضوانه بالاقتراب من طاعته بالوسائل التي يحبها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) [المائدة : ٣٥].

* * *

٨٣

القلق الإيجابي رفيق التقوى

إن روحيّة التقوى في الإنسان تفرض عليه أن يكون في حالة قلق دائم لاكتشاف كل الوسائل التي تؤدي به إلى الله في مسئولياته العامة والخاصة ، لأن حركة الإنسان نحو أهدافه مرتبطة ـ في توازنها ـ بالوسائل المنسجمة مع الأهداف ، وفي الانفتاح على حساب الأعمال التي يقدمها الإنسان بين يديه يوم القيامة في الموقف بين يدي الله ، وعلى الاستعداد لما يستقبل من أيامه في تأكيد أعماله المستقبلية في خطّ التقوى (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [الحشر : ١٨] ، وفي الموقف الذي يرفض الاستعلاء على الآخرين في إحساس مرضيّ بالعلو الذاتي والكبرياء الشخصي عليهم ، كما يرفض الفساد ، فإن ذلك هو المظهر الحي للتقوى ، الذي يمنح المتقين العاقبة الحسنة في الدار الآخرة (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣] ، وفي امتداد الصداقة القائمة على التقوى من الدنيا إلى الآخرة ، بينما تتحول الصداقات إلى عداوات في العلاقات القائمة على المصالح الذاتية والأطماع الخاصة ، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

* * *

(خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)

وتبقى التقوى خير الزاد للآخرين (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ

٨٤

يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٩٧]. وهي خير لباس للإنسان الذي لا بد له أن يفاضل بين لباس الجسد ولباس العقل والروح والسلوك ، لأن لباس الجسد قد يتّصل بحمايته من الحرّ والبرد ، ولكن لباس القيمة الروحية يمثّل الحماية من كلّ ما يؤذي قضيّة المصير ، ومن كل ما يسيء إلى أصالة إنسانية الإنسان (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦].

وتبرز التقوى في القرآن كأساس للكرامة وللقيمة عند الله ، فالناس متساوون في الخلق مختلفون في الخصائص التي أرادها الله وسيلة للتعارف من خلال تفاعل الخصائص وتبادل الخبرات من دون تفاضل ، ولكنّ التفاضل عند الله هو في التقوى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣].

* * *

الحصاد الإلهي للتقوى

وأمّا نتائج التقوى للمتقين (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود : ١١٥] ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ ، مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤] ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق : ٥]. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [النور : ٥٢]. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان : ٥١ ـ ٥٢] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤ ـ ٥٥] ، (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية : ١٩] ، (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود : ٤٩].

٨٥

وهكذا نجد أن التقوى تختصر الدين كله ، لأن الدين يمثل تقوى الفكر والعاطفة والحركة والموقف والموقع والعلاقات والتطلّعات والوسائل والغايات ، وهذا هو الذي يجمع معنى الدين في عقيدته وشريعته ومنهجه ، ولذلك كانت عنوان دعوات الأنبياء ، بحيث اختصرت الدعوات بكلمة «اتقوا الله» ، وهذا ما عبرت عنه الآيات التالية كنموذج متنوع للأنبياء في دعوتهم الناس إلى الله (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٠٦] ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٢٤] ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٤٢] ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٦١] ، (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٧٧].

* * *

التقوى انفتاح عقلي وروحي وعملي على الله تعالى

وتبقى التقوى عقلا وروحا وقلبا وحركة وحياة تتجه إلى الله في خوف من الحساب على أساس العدل ، وفي حبّ له على أساس الربوبية الخالقة المنعمة الراحمة في كل آفاق العظمة اللامحدودة ، ولهذا فإنها لا تمثّل انسحاقا إنسانيا يسقط الإنسان معها تحت تأثير الخوف المذعور ، بل ارتفاعا بالإنسانية نحو العقل المسؤول ، والحركة المسؤولة التي تنطلق من خلال الإرادة الواعية القوية التي تقي صاحبها من السقوط تحت تأثير نقاط الضعف الإنساني في سلبياته التي تتحدّى سلامة المصير.

* * *

٨٦

الآيات والتفسير الروائي ، عرض ومناقشة

ورد في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام في قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ* فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) قال : «خلقهم حين خلقهم مؤمنا وكافرا وشقيّا وسعيدا ، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتديا وضالّا» (١).

قال علي بن إبراهيم : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشقي من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطن أمّه» (٢).

وقد ذكروا أن أبا الجارود مطعون فيه ، ولكنهم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر حال استقامته قبل انحرافه عنه إلى الزيدية.

ونلاحظ أن هذا اللّون من الروايات مما لا يمكن الأخذ بظاهره ، لأنه يوحي بأن إيمان الإنسان وكفره أو سعادته وشقاوته ناشئان من طبيعة الخلق ، مما يجعل النهاية كالبداية ، باعتبار توقف مختلف هذه الموارد على طبيعة عنصر الخلق ، فيكون الفعل مظهرا لما في الذات ، لا منطلقا من الاختيار الناتج عن التربية ، ممّا يجعل مسألة التعليم والتربية وحركة الرسالات في الهداية والإنذار والتبشير لا معنى لها ، وهذا ممّا لا يتفق مع العقل في حركته الفكرية وفي بناء العقلاء ، في أمورهم الجارية على واقعية الإرادة الإنسانية والتوجيه العام ، في بناء الشخصية في عناصرها الإيجابية والسلبية.

لذلك لا بد من توجيه أمثال هذه الرواية ، على تقدير صدورها ، بأن المراد منها الحديث عن التنوّع الإنساني في النتائج العملية لحركة الإنسان في

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) (م. ن) ، ج : ٨ ، ص : ٩٧.

٨٧

مواجهة الرسالات ، فهناك الإنسان الذي هداه الله بهدايته من خلال أخذه بأسبابها التي وضعها بين يديه وزاده هدى بعد أن اختار ذلك ، وهناك الإنسان الذي رفض السير في خط الهداية ، واندفع في متاهات الضلال فثبتت عليه الضلالة من خلال توفر أسبابها الإرادية الطبيعية ، مما يجعل التعبير جاريا على مستوى النتائج لا على مستوى المقدمات ، بمعنى أنه ليس المراد منه أن الله خلقه مهديّا ، أو فرضت عليه الضلالة بالتكوين ، بل إن المراد منه ، على الظاهر السياقي ، هو أن الناس فريقان ، فهناك الذي هداه الله ، على النسق الذي تنتسب فيه الأفعال إليه ، فلا يمنع أن يكون ذلك بأسبابه الاختيارية ، ولعل قوله تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) يوحي بذلك ، باعتبار دلالته على ارتباط الضلالة بإرادتهم ، أما قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، فالظّاهر أنّ المراد منها الحديث عن البعث الذي تلتقي فيه النهاية بالبداية على أسلوب قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤] ، وليس المراد منها ـ والله العالم ـ مصيرهم في مسألة الإيجاد والبعث ، فلا بد لهم من التفكير بالموقف عند العودة إليه للحساب ، ليستعدوا له بإقامة وجوههم عند كل مسجد والابتهال إليه بالدعاء بإخلاص الدين له ، والله العالم.

* * *

٨٨

الآيات

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

* * *

معاني المفردات

(زِينَتَكُمْ) : ما يتزيّن به من اللباس والطّيب ووسائل التجمّل ، للظهور بالمنظر الجميل الطيّب الذي يمثّل لونا من ألوان الشكل الحضاري للإنسان المسلم.

(وَلا تُسْرِفُوا) : لا تتجاوزوا الحدّ في الإنفاق.

(حَرَّمَ) : التحريم : هو المنع من الفعل بإقامة الدليل على وجوب تجنّبه ؛ وضدّه التحليل ، وهو الإطلاق في الفعل بالبيان على جواز تناوله.

٨٩

وأصل التحريم المنع ، من قولهم : حرّم فلان الرزق حرمانا فهو محروم ، وأحرم بالحج ، وحرمة الرجل زوجته ، والحرمات الجنايات ، والمحرم القرابة التي لا يحل تزوجها ، وحريم الدار ما كان من حقوقها.

(زِينَةَ اللهِ) : ما يستمتع به الناس من ألوان الزينة التي لا تسيء إلى طبيعة الإنسان.

(خالِصَةً) : قال الراغب في المفردات : الخالص كالصافي إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه ... ويقال : هذا خالص وخالصة نحو داهية ورواية (١).

(الْفَواحِشَ) : واحدها فاحشة ، وهي الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة والعقول الراجحة ، ويطلقونها أحيانا على الزنى والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح.

(وَالْإِثْمَ) : في الأصل القبيح الضّار ، وهو شامل لجميع المعاصي ، كبائرها كالفواحش ، وصغائرها كالنظر بالشهوة لغير الحلية ، وكلّ ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وسقوط منزلته ويمنعه من الوصول إلى الثواب والأجر الحسن ، وقال الراغب : الإثم والآثام : اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، وجمعه آثام ، ولتضمّنه معنى البطء قال الشاعر :

جماليّة تغتلي بالرّوادف

إذا كذب الآثمات الهجيرا

وقوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أيّ في تناولهما إبطاء عن الخيرات(٢). وفي ضوء ذلك ، يتضمّن الإثم معنى الضرر الذي يبطئ بالإنسان عن الخير وهو المنفعة لحياته ، ولعلّ هذا هو الأساس في إطلاق كلمة الإثم على الخمر للمفاسد الناتجة عنه ، وربما غلب عليه ذلك بلحاظ استعماله فيه

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٥٥.

(٢) (م. ن) ، ص : ٥.

٩٠

بهذه المناسبة.

(وَالْبَغْيَ) : تجاوز الحد ، بالاستطالة على الناس ، وحدّه ، كما في مجمع البيان ، طلب الترؤس بالقهر من غير حق ، وأصله : الطلب (١).

(سُلْطاناً) : السلطان : الحجّة. قال في المجمع : السلطان والبرهان والبيان والفرقان نظائر ، وحدودها تختلف ، فالبيان إظهار المعنى للنفس كإظهار نقيضه ، والبرهان إظهار صحة المعنى وإفساد نقيضه ، والفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به ، والسلطان : إظهار ما يتسلّط به على نقيض المعنى بالإبطال (٢).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن ابن عباس «قال : كان ناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة ، حتى أن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة ، فتعلّق على سفلاها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجوه الحمر من الذباب وهي تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

فأنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (* يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأمروا بلبس الثياب» (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٣٩.

(٢) (م. ن) ، ج : ٤ ، ص : ٦٤٠.

(٣) الواحدي ، أبو الحسن ، علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ١٢٥.

٩١

مع العلامة الطباطبائي حول مناسبة النزول

وقد علّق العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان على هذه الرواية وأمثالها قال : «لكنك قد عرفت أن الآيات المصدّرة بقوله : (* يا بَنِي آدَمَ) أحكام وشرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختصّ بأمّة دون أمّة ، فهذه الآحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها. وأعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان» (١).

فقد جاء في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال : «كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيّد البزّ والمتاع» (٢).

وفيه : «أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء أحلّها الله من الثياب وغيرها ، وهو قول الله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) [يونس : ٥٩] ، وهو هذا ، فأنزل الله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا ، فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها ، ونكحوا من صالح نسائها ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا ، وليس للمشركين فيها شيء» (٣).

من ثم يعلّق صاحب الميزان بقوله : «أقول : والروايتان ، كما ترى ، ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول والمعوّل على ذلك» (٤).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٨٨.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٤٣٩.

(٣) (م. ن) ، ج : ٣ ، ص : ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

(٤) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٨٩.

٩٢

ونحن ، في الوقت الذي نتفق فيه مع العلّامة الطباطبائي في تحفّظاته على رواية سبب

النزول ، وفي موافقته على الروايتين المذكورتين أعلاه واعتبارهما من روايات التطبيق على الآية ، لا نتفق معه في تفسير ذلك بأن الآية المصدّرة بقوله : (* يا بَنِي آدَمَ) لا تختص بأمة دون أمّة ، لأن ذلك لا يتنافى مع انطلاق الآية الشاملة من مناسبة خاصة لتكون المنطلق للخطاب الشامل ، كما هو الحال في كل روايات أسباب النزول ، ولكننا في الوقت نفسه ، لا نجد أيّة مناسبة بين القصة المذكورة وسياق الآية الواردة في الحديث عن البرنامج العملي للإنسان في المظهر الاجتماعي ، في حياتهم في المساجد ، فيأخذون بزينتهم التي تمثل المظهر اللائق بهم من حيث التمييز بين ما يكون زينة وما لا يكون كذلك ، من دون أن يظهر منها الحديث عن الثوب في مقابل العري ، فلا علاقة لها ، حسب ظاهر السياق ، بالحادثة المذكورة ، لا سيما إذا كانت الآية لا تقتصر على ذلك بل تمتد إلى نظام الأكل والشرب ، لتتحدث بعد ذلك الآية التالية لها عن القاعدة العامة التي أراد الله للإنسان المؤمن أن يتحرك فيها في حياته في الأخذ بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، ليجعلها الله خالصة له يوم القيامة ، ممّا يجعل الأمر متنوعا في عناصره وليس واردا في أمثال حالة معينة في خط الروايات الواردة في سبب النزول ، وهذا هو الذي يؤيّد الرأي القائل إن الكثير من مواردها جار على سبيل الاجتهاد لا الرواية.

* * *

المنهج الإلهي في توجيه حياة الإنسان

هذا هو النداء الثالث الذي يريد الله أن يوجه به الإنسان إلى منهجه ليمارس ـ من خلاله ـ حياته ، في ما يحتاجه جسده من أكل وشرب ولباس وزينة ... ليقف من ذلك كله في نقطة التوازن ، فلا يتعقد من حاجات الحياة

٩٣

الطبيعية ، فيعتبرها قذرا وخباثة وحراما ... من موقع الفكرة التي ترفض ماديات الحياة جملة وتفصيلا ، وتدعو إلى السموّ نحو روحياتها ... ولا ينجذب إلى هذه الحاجات فيعتبرها قيمة وطموحا وهدفا ، بل يقف بين هذا وذاك ، فيراها حاجة طبيعية يحفظ بها جسده ، ويصون بها حياته ، فيمارسها في نطاق الحدود التي فرضها الله ورسمها لعباده ، فيميز بين ما يفسد الحياة من حوله فيتركه ، وبين ما يصلحها أو لا يسيء إليها فيفعله ، وذلك هو خط هذه الآيات.

* * *

الله جميل يحب الجمال

(* يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) إنّ الله جميل يحبّ الجمال والتجمّل ، ويبغض البؤس والتباؤس ، وإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته عنده. هكذا جاء في الكلمات المأثورة عن بعض أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وروي عن «خيثمة بن أبي خيثمة قال : كان الحسن بن علي عليه‌السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقيل له : يا بن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إن الله تعالى جميل يحبّ الجمال فأتجمّل لربي ، وهو يقول : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، فأحب أن ألبس أجود ثيابي» (١). استيحاء من هذه الآية التي توجه الناس إلى أن يأخذوا زينتهم من اللباس والطيب ووسائل التجمّل ... في كل مسجد ، وهو المكان الذي يجتمع فيه الناس للصلاة ، حيث يمثل الاجتماع فيه مظهرا من مظاهر حياة المسلمين الاجتماعية ؛ لذا أراد الله لهم أن يخرجوا إليه بزينتهم ، وبشكل جميل طيب يعكس المظهر الحضاري للإنسان المسلم مقابل مظاهر التخلف التي كانت

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج : ٢ ، ص : ١٠.

٩٤

سائدة لدى المجتمع الجاهلي من العري والقذارة والرائحة غير الطيّبة ، وما إلى ذلك مما يريد الإسلام إبعاد الإنسان عنه ، لا سيما داخل الحياة الاجتماعية التي لا يكون مظهره شأنا شخصيا له ، بل شأنا عاما يمس ذوق الآخرين في ما يحبونه ويألفونه وفي ما لا يحبونه ولا يألفونه ، فيكون في ذلك إحسان لهم في مجال ، أو إساءة لهم في مجال آخر. وفي ضوء ذلك ، نستطيع اعتبار أن المسألة تتعدى الاجتماع في المسجد إلى كل مكان يجتمع فيه الناس ، على أساس أن الخصوصية ليست للمكان ، بل هي للأجواء التي تهيمن على المكان.

وقد وردت الروايات المتعددة التي تتحدث عن تطبيق مضمون الآية على العيدين والجمعة ويوم عرفة ، كما وردت في الحديث عن التمشط والاغتسال والتطيب.

وقد امتدّ الاستيحاء للآية في معنى الجمال والتجمّل إلى ما يشمل النظافة والطيب وجمال البناء ونحو ذلك ، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : «إن الله يحب الجمال والتجمل ، ويبغض البؤس والتباؤس ، فإن الله إذا أنعم على عبده بنعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها ، قال : قيل : كيف ذلك؟ قال : ينظّف ثوبه ، ويطيّب ريحه ، ويجصص داره ، ويكنس أفنيته ، حتى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق» (١).

«وفي حديث آخر عنه قال : أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا شعثا شعر رأسه ووسخة ثيابه ، سيّئة حاله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من الدين المتعة» (٢).

وهكذا نفهم من هذه الأحاديث أن مسألة التزيّن هي مسألة تتصل

__________________

(١) الحر العاملي ، محمد بن الحسن ، وسائل الشيعة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٦ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٣ ، ص : ٣٤١ ، باب : ١ ، رواية : ٩.

(٢) الكافي ، ج : ٦ ، ص : ٤٣٩ ، رواية : ٥.

٩٥

بالجانب الجمالي للمظهر الإنساني في إظهار نفسه وبيته بالطريقة التي تمثّل الجمال في الثياب والطيب والشكل الهندسي للبيت ، وللشارع ، خلافا للفكرة التي توحي بأن التدين يفرض على الإنسان الخروج بالخلق من الثياب والفوضى في الشكل والهيئة كمظهر من مظاهر الزهد الخارجي ، فإن الزهد ليس في الشكل وإنما في المضمون النفسي الذي يرفض الارتباط بالدنيا بالمستوى الذي تضغط فيه على مبادئه ومواقفه في الحياة لتقدم التنازل من دينه لمصلحة دنياه.

* * *

التوازن في الإسلام قانون الحياة

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) .. فالله أراد للإنسان أن يأكل لأن الأكل حاجة طبيعية للجسد ليستمر في قوّته التي تمده بالحياة ، وأراد له أن يشرب للسبب نفسه. وإذا كان الأكل والشرب مطلوبين من موقع الحاجة ، فمن الطبيعي أن تتقدر الحاجة بالمقدار الذي يحقق الاكتفاء للجسد ، لأن الزيادة عنه تثقل الجسد بما لا يحتاجه فيسيء إلى توازنه وقوّته. ولهذا جاء النهي عن الإسراف في الأكل والشرب مراعاة لجانب السلامة في حياة الإنسان ، وللحصول على رضا الله ومحبّته ، لأن الله لا يحب للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعية لحاجاته في الحياة ، بل يريد له أن يكون متوازنا في كل شيء ، مما يجعل من الالتزام بذلك عملا دينيا يقربه إلى الله ، والعكس صحيح ، لأن الإنسان ملك الله ، فلا يحب أن يتصرف أحد في ملكه بما يسيء إليه ، سواء في ذلك ما يتعلق بنفسه أو بالآخرين. وهنا يكمن الفرق بين المبادئ الوضعية وبين التشريع الديني ، فإن تلك المبادئ تترك للإنسان الحرية في ممارسة حياته الخاصة بقطع النظر عن نوعيّة الممارسة ، بينما يؤكّد التشريع الديني على ضرورة تقييد هذه الحرية ، لمصلحة حياة الإنسان وحمايته من نفسه.

* * *

٩٦

القصد أمر يحبه الله

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وهذه قاعدة عامة تتجاوز مورد الآية إلى غيرها من التصرفات المالية والعملية التي تعرّض الإنسان للإسراف ، وتضعه وجها لوجه أمام التزامه بالاعتدال من أجل الحصول على رضا الله ، بينما يكون الإسراف سببا في فقدانه لمحبة الله سبحانه. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنه قال : «ليس في ما أصلح البدن إسراف ، إنما إسراف في ما أفسد المال وأضرّ بالبدن» (١).

وفي حديث آخر ـ مما رواه سليمان بن صالح ـ قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أدنى ما نهي عن حد الإسراف؟ فقال : إبذالك ثوب صونك ، وإهراقك فضل إنائك ، وأكلك التمر ، ورميك النوى هاهنا وهاهنا» (٢).

وروي عنه أنه قال : «إن القصد أمر يحبه الله وإن السرف أمر يبغضه الله ، حتى طرحك النواة ، فإنها تصلح للشيء ، وحتى صبّك فضل شرابك (٣).

ونستوحي من ذلك توجيه الفرد المسلم والمجتمع المسلم إلى أن لا يطرح شيئا مما يمكن الانتفاع به ، بل يعمل على الاحتفاظ به من أجل الانتفاع به على المستوى الفردي والاجتماعي ، فليس للإنسان أن يهرق المال من دون حاجة ، أو يطرح النواة من دون منفعة ، فلا بد له من الاحتفاظ بكل الأشياء النافعة في ذاتها من أجل تحويلها إلى طاقة مفيدة في إنتاج عناصرها الكامنة فيها لمصلحة الحاجات العامة والخاصة.

وقد روي ، تعليقا على الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) «أن الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق ، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج : ٢ ، ص : ١٠.

(٢) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٥٢ ، رواية : ٢.

(٣) (م. ن) ، ج : ٢ ، ص : ١٠.

٩٧

كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان! فقال له علي : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه ، وهو قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) وجمع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطب في قوله : المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء ، وأعط كل بدن ما عوّدته ، فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبّا» (١).

* * *

الزهد في كلمتين

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) في ما يستمتع به الناس من ألوان الزينة التي لا تسيء إلى طبيعة الاعتدال لدى الإنسان ... (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) في ما يستلّذونه ويشتهونه مما يؤكل ويشرب. وينطلق التساؤل هنا في معرض الإنكار على هؤلاء الذين أرادوا للإنسان أن يترك زينة الحياة وطيّباتها تحت تأثير الفكرة التي ترفض الإقبال على الماديات من الأطعمة والأشربة وغيرها ، على أساس الفهم الخاطئ لمعنى الزهد دينيا ، فهو الذي يتمثل لديهم في السلوك السلبي للإنسان ضد الطيّبات من الرزق ، والتزين في اللباس ، وذلك لأن الزهد لا ينطلق من هذا المعنى ، بل من الحالة النفسية التي تحسّ بالاكتفاء ، وتشعر بالحرية أمام كل حالات الإلحاح الذاتي على ممارسة الإنسان لمطامعه وشهواته ، كما ورد في كلمة الإمام علي عليه‌السلام : الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، قال الله سبحانه : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٢) [الحديد : ٢٣].

وقد جاء بإسناده عن ابن القداح الكافي ، قال : «كان أبو عبد الله ، جعفر

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٣٨.

(٢) نهج البلاغة ، قصار الحكم / ٤٣٩ ، ص : ٤١٦.

٩٨

الصادق عليه‌السلام ، متكئا عليّ ـ أو قال على أبي ـ فلقيه عبّاد بن كثير البصري وعليه ثياب مرويّة حسان ، فقال : يا أبا عبد الله ، إنك من أهل بيت النبوّة وكان أبوك وكان ، فما هذه الثياب المرويّة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : ويلك يا عبّاد ، من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، إن الله عزوجل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه» (١).

وجاء فيه عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن «علي الرضا عليه‌السلام» قال: «قلت له : جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويتخشع؟ فقال : أما علمت أن يوسف عليه‌السلام نبيّ ابن نبيّ كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب ويجلس في مجالس آل فرعون يحكم ، فلم يحتج الناس إلى لباسه وإنما احتاجوا إلى قسطه ، وإنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق وإذا وعد أنجز وإذا حكم عدل ، إن الله لا يحرم طعاما ولا شرابا من حلال ، وإنما حرّم الحرام قل أو كثر ، وقد قال الله عزوجل : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)» (٢).

* * *

القيمة للروح لا للشكل

وهكذا نفهم من أجواء الآية التي استوحاها الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام أن الإسلام لا يقتصر في نظرته إلى الحياة على الجانب العبادي من سلوك الإنسان فيها ، بل يمتدّ إلى الجانب الحسّي الذي يتمثل في الزينة الظاهرة ، مما يلبسه ويتجمل فيه ويظهر به للناس من الثياب الجيّدة ، وفي الأكل الطيّب والشراب الطيب ، بحيث يمارس الحياة بشكل طبيعي في حاجاته بعيدا عن

__________________

(١) الكافي ، ج : ٦ ، ص : ٤٤٣ ، رواية : ١٣.

(٢) (م. ن) ، ج : ٦ ، ص : ٤٥٣ ، رواية : ٥.

٩٩

الرفض العملي ، لأن القيمة ليست في الممارسة ، بل في الروح التي يختزنها الإنسان المؤمن في نظرته إلى الدنيا ، بحيث لا يسقط روحيا أمام حاجاته الضاغطة عليه لمصلحة مواقعه وامتيازاته فيها.

وفي هذا الجو ، ينطلق المسؤولون في مسئولياتهم العامة ، من دون خداع الناس بالجانب المظهري الذي يتمظهرون فيه بالزهد الشكلي ليجتذبوا الناس إليهم من خلال الشفقة التي يحصلون عليها من خلال ذلك ، لأن التوجيه الاسلامي يربط الناس بالمسؤولين من خلال صدقهم في الكلمة وفي الوعد والعهد وعدلهم في الحكم وإخلاصهم لله في حركة المسؤولية ، كما جاء في حديث الإمام الرضا عليه‌السلام. وربما كانت إيحاءات هذه الآية في الإنكار على من حرّم زينه الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، أنها تنفتح على المزيد من التخطيط للشكل الحضاري والتطور الإنساني في الحياة المدنية ، التي تضع في حساباتها تطوير الواقع المدني للإنسان والحاجات الحيوية الحسية له من دون أية عقدة دينية في هذا الجانب ، فيمكن للقائمين على شؤون الإسلام والمسلمين أن يعملوا في خطة تصاعدية للسير بالواقع الإسلامي في حركة التطور في جميع الأوضاع المتحركة في الحاجات العامة.

* * *

المؤمن أولى بنعم الله

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وأطاعوا الله ، وحصلوا على رضاه (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشاركهم فيها غيرهم من الكافرين ، كما شاركوهم بها في الدنيا. وربما كان المراد أنها للمؤمنين في حياتهم الدنيا ، قد منّ الله عليهم بها ليستمتعوا ، فليس لهم أن يمنعوا أنفسهم منها تحت تأثير أية فكرة توحي لهم بالتحريم ، فإن الله لم يبحها للكافرين ليحرّمها على المؤمنين ، بل هم أحق

١٠٠