تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

عنه ، قال : «لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل ، فقال : يا آدم أليس خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته وزوجك حوّاء أمته ، وأسكنك الجنة وأباحها لك ، ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة ، فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم : يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله إنه لي ناصح ، فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كاذبا» (١).

* * *

قراءة (ملكين) بكسر اللّام

جاء في مجمع البيان : «روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأ «ملكين» بكسر اللام ، قال الزجاج : قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] يدل على (الملكين)» (٢). والسؤال هل يكفي ذلك في الدلالة على صحة هذه القراءة؟

والجواب ، إنّ ذلك لا يكفي في الدلالة ، لاحتمال أن تكون تلك الآية واردة في تأكيد الخلد باعتبار اختزانه لقضية الموقع المميز في الملك بلحاظ أنه من توابعه ، مع ملاحظة أخرى ، وهي أن كلمة «ملكين» بكسر اللام تعني السلطة على مخلوقات حيّة ومواقع محدّدة ، وهذا ليس واردا في حسابات الجنة ، أو في احتمالات آدم في أحلامه المستقبلية التي يحاول إبليس أن يداعب فيها خياله.

وقد ذكر صاحب الميزان أن كلمة «الملك» ـ بالفتح ـ تختزن معنى الملك ـ بالضم والسكون ـ مستدلا بآية سورة طه (٣) ، وهو واضح. وقد

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٦٢.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٢٦.

(٣) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٣٥.

٦١

ورد تأكيد قراءة (الملكين) ـ بالفتح ـ في رواية ذكرها القمي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه‌السلام وفي (عيون أخبار الرضا) عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «فجاء إبليس فقال : إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبدا وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة» (١).

* * *

آدم وحواء ـ معا ـ في موقع المسؤولية السلبية والإيجابية

جاء في التوراة أن حواء هي أصل الإغواء ، وهي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة ، وأنها كانت وسيلة الشيطان لإقناع آدم ، الأمر الذي يوحي بأن المرأة هي العنصر الإغرائي الذي يستخدمه الشيطان لإغواء الرجل فيكون ضحية لها في هذا الجانب.

أمّا القرآن ، الذي هو الكتاب المعصوم من التحريف الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، فإنه لا يتحدث عن أيّة حالة سلبية للمرأة ـ حواء ـ في إغواء الرجل ـ آدم ـ فليست هناك أيّة مشكلة في علاقتهما ببعضهما البعض في حياتهما المشتركة ، بل يتحدث عن أن التكليف كان موجها إليهما معا على أساس المسؤولية المستقلة لكل واحد منهما ، وإذا كان الخطاب الأول لآدم فقد أضاف إليه زوجه (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وأباح لهما الأكل من حيث شاءا وخاطبهما معا بالنهي عن الأكل من الشجرة (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

وكانت وسوسة الشيطان لهما معا ، فلم يخاطب حوّاء وحدها في

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج : ٢ ، ص : ١٣.

٦٢

وسوسته ، بل وسوس إليهما معا (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) فكانا ، معا ، ضحية وسوسته وخداعه ، وقال : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وحلف لهما معا بعد أن رأى ترددهما في الاستجابة له ، أو هكذا توحي القصة ، (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ). وهكذا أسقطهما ودلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وشعرا بالخزي والعار أمام هذه المعصية معا (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) وكان النداء لهما معا من خلال أنّ كل واحد منهما يتحمل المسؤولية في العصيان والاستسلام لخداع الشيطان بشكل مستقلّ من دون أيّ ارتباط بالآخر أو أيّة علاقة له به ، ولو كانت المسؤولية لأحدهما ، حواء ، دون الآخر ، آدم ، لأمكن له أن يعتذر بخضوعه لزوجه التي استعملت الضغط العاطفي عليه لإسقاطه ، تماما كما يحمّل التابعون المتبوعين تبعة ما فعلوه ، ولما شعرا بالموقف الصعب أمام الله ، تابا معا وانقطعا إليه (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

وهكذا نجد القرآن لا يحمّل المرأة المسؤولية عن سقوط آدم أمام التجربة ، بل يحمّل المسؤولية للرجل والمرأة على حدّ سواء ، للإيحاء العميق بأن للرجل خياره في الطاعة أو المعصية ، كما للمرأة خيارها ، لأن الله خلق لكل منهما عقلا يدرك الحسن والقبح ، وإرادة تملك الصلابة في الموقف ، فهما يقفان على قدم المساواة في خط المسؤولية.

وإذا كان الله قد تحدّث عن آدم في آية أخرى بلفظ المفرد في قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] فليس ذلك إبعادا لحوّاء عن المسؤولية ، بل هو ، بلحاظ بعض المناسبات ، تذكير بموقف آدم من حيث هو مظهر الإنسان الذي يخضع لضعفه البشري لا بلحاظ شخصه ، والله العالم.

٦٣

وهكذا ينصف القرآن المرأة ليرتفع بموقعها إلى موقع الرجل ولا يحمّلها مسئولية إغواء الرجل ، كما هو الواقع الخارجي ، فنحن نرى أن الرجل قد يغوي المرأة في بعض الحالات كما أن المرأة تغويه في حالات أخرى.

* * *

إيحاءات كلمة «الشجرة»

ليس هناك برهان ثابت على نوعية هذه الشجرة ، فالنصوص المأثورة تذهب في هذا المورد مذاهب شتى ، فمنها من يرى أنها شجرة الحنطة أو التفاح ، من خلال التفسير المادي لها ، ومنها من يرى أنها شجرة الحسد الذي ربما عاشه آدم أمام بعض المخلوقات المقرّبة من الله بدرجة أرقى منه ، ممّا جعله يختزن المشاعر المضادّة لها كأيّ حاسد تجاه أيّ محسود ، ومنها من يرى أنها شجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة ، كما تقول التوراة : إن آدم لم يكن عالما ولا عارفا قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة ، حتى أنه لم يعرف ولم يميّز عريه ، وعند ما أكل من تلك الشجرة ، وصار إنسانا بمعنى الكلمة ، طرد من الجنة خشية أن يأكل من شجرة الحياة فيخلد كما الآلهة ... هذا في الجانب المعنوي من التفسير.

ولكننا نلاحظ أن قصة الحسد ليست واردة في حسابات آدم الذي لم ينفتح ، في ما يبدو ، على العنصر الذاتي في شخصيته تجاه الآخر ـ أيّا كان ـ بل كانت المسألة ، من خلال وحي القرآن ، مسألة أحلامه الذاتية التي أثارها الشيطان في داخل ذاته مما يتصل بخلوده وارتفاعه إلى عالم الملائكة الذي اطلع عليه في تجربته في بداية خلقه ، هذا مع ملاحظة أن الحسد لا يتحرك من الغريزة الذاتية المجردة ، بل ينطلق من اصطدام الإنسان بالآخر من خلال

٦٤

التجربة المعقّدة في الحياة وفي المواقع المميزة التي يملكها هذا الشخص أو ذاك ، مما يعطل مصالح بعض من البعض الآخر ، أو يتفوق عليه في رغباته الحسية والمعنوية ، ولم تكن لآدم تجربة سابقة في ذلك ، ولم يعش في أيّ مجتمع ينفتح على مثل هذه الحالة الواقعية التي تؤدي إلى تلك الحالة النفسية.

أما شجرة العلم والمعرفة ، فقد حدثنا الله في القرآن أنه منحه علم الأشياء ، وذلك هو قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٣١] ، وربما نستوحي هذا المعنى من قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] ، حيث توحي بأن هناك عهدا من الله لآدم في مهمّاته ومسئولياته مما يدخل في نطاق الوعي المعرفي الذي يطل به على آفاق الحياة ، فلم يكن آدم جاهلا بنفسه أو بموقعه أو بمسؤوليته ، ولكنه غفل عن ذلك أو نسيه في غمرة الضعف البشري ، ولذلك فقد يكون الأقرب إلى ظهور الآية حمل الكلمة على ظاهرها وهو الشجرة بالمعنى المادي الحسّي ، من دون أن ندخل في تحديدها ، لأنه ليس دخيلا في الجانب التفسيري ، لأن من الممكن أن يكون المنع متعلقا بشجرة معينة ، لا من جهة خصوصيتها بل من جهة أنها نموذج للممنوع الذي يمثل العنصر المحرّم الذي يواجه الإنسان أمامه مسئولية الالتزام في قوّة الإرادة ، باعتبار أنّ المنع قد يجتذب الرغبة ، فيكون الموقف موقف امتحان واختبار لإرادة الالتزام.

* * *

رمزية الشجرة لكل حرام

وعلى ضوء ذلك ، قد نستوحي أن الشجرة المحرمة ترمز إلى كل حرام أراد الله للإنسان أن يتركه ، فقد أحل الله له الطيبات مما يأكل أو يشرب أو

٦٥

يتلذذ أو يلبس ، وحرّم عليه بعض الأشياء المتصلة بسلامته المادية المعنوية ، ولكنه أكل ، ولا يزال يأكل ، من شجرة الحرام ، في الحرام ، في حاجاته المتنوعة ، الأمر الذي يعرضه للطرد من الجنة في الآخرة ، ومن السعادة في الدنيا ، وهذا مما لا بد للإنسان أن يعيه وعيا عميقا واسعا منفتحا على المصالح والمفاسد التي تتصل بحياته من الناحية الإيجابية والسلبية على مستوى الدنيا والآخرة ، لأن قضية الخضوع للحسّ في حاجاته ليست قيمة إنسانية ، بل القيمة هي حماية الإنسان في إنسانيته المنفتحة على رضوان الله ونعيمه في الدنيا والآخرة ، مما يفرض عليه الدخول في عملية مقارنة بين النتائج الإيجابية الحاصلة من الامتناع عن المحرمات والاكتفاء بالمحلّلات ، والنتائج السلبية الحاصلة من الإقبال عليها ، وهذا هو ما ترمز إليه قصة آدم الذي ترك أشجار الجنة التي تحفل بأفضل المشتهيات وألذّها وأحلاها ، واستغرق ، بوحي وسوسة إبليس ، في هذه الشجرة المحرّمة التي قد لا يكون لها أية ميزة ذاتية.

* * *

إيحاءات ردود فعل آدم وحواء على ظهور سوآتهما

أما مسألة ظهور السوأة لهما ، الذي كان هدف إبليس في إيقاظ الجانب الجنسي في إحساسهما من خلال ارتباط الأكل من الشجرة المحرّمة بالوقوع تحت تأثير الضعف الإنساني الغريزي الكامن في الجسد الذي استيقظ في حيويته الفعلية بالتجربة الجديدة ، فإنه يوحي بأنّ السقوط في تجربة الاستغراق في الشهوة في جانب ، قد يؤدي إلى الوقوع في تجربة ثانية أو إلى الانفتاح على عالم الشهوات ، مما قد يثير في النفس بعض المشاعر والأحاسيس الحميمة الخفية التي قد تعدّ الإنسان للوقوع في الحرام.

٦٦

وربما كان لهذه الحركة الفطرية في إلقاء ورق الجنة على عورتيهما ليخفياهما علاقة بالحس الفطري الذي يختزنه الإنسان في الرغبة في إخفاء العضو الجنسي الذي أراد الله للإنسان أن لا يبديه ، وأن لا يمارس حركة حاجاته في العلن.

وقد يكون الرمز الإيحائي في هذه القضية هو أن الإنسان الذي يلجأ إلى تغطية نقاط ضعفه عند ما تفرض عليه الظروف أو الأوضاع إظهارها ، لأنه يحاول دائما الظهور أمام الناس بمظهر القويّ الذي يملك عناصر القوة في شخصيته من دون أية حالة ضعف ، في حين عليه أن لا يكتفي بإخفاء عناصر ضعفه ، بل ينبغي له أو يجب عليه معالجتها وإلغاءها من كيانه وإبعادها عن حياته ، لأن الله يريد للإنسان أن يأخذ بأسباب القوة الروحية ، كما المادية ، في شخصه ، ليعيش القوة في وجوده ، وليستعين بذلك على الاستقامة في التزاماته العملية من حيث علاقتها بقضية المصير المادي والمعنوي في الدنيا والآخرة.

ولقد كانت محاولة آدم وحواء في تغطية عورتيهما تستهدف إبعاد هذا الإحساس الجنسي عن الحركة الحرّة التي تتمثل في ظهورهما أمام الناظرين ، الذي قد يتجه في نهاية المطاف إلى الانحراف ، مما يعني بأن على الإنسان أن يقيّد بعض حرياته لمصلحة سلامة حياته في قضاياها القيمية الحيوية.

* * *

تأثير المعصية في آدم وحواء

لقد تحدث آدم وحواء ، في ابتهالاتهما إلى الله ، عن حالة ابتعادهما عن مصلحتهما في الانسجام مع تعليمات الله الصادرة إليهما ، فقد اكتشفا مدى

٦٧

الضرر الذي ألحقاه بنفسيهما من هذه الاندفاعة اللاشعورية نحو الأكل من الشجرة المحرمة بسبب وساوس الشيطان الذي أخبرهما الله عنه بأنه عدوّ مبين لهما منذ رفض السجود لآدم حسدا وتكبرا وطغيانا ، وأعلنا أنهما ظلما نفسيهما وطلبا الرحمة والمغفرة من الله حتى لا تكون الخسارة خسارة الذات في امتدادها في الحياة ، بل تكون خسارة الفرصة التي قد تتبدل بالربح في فرصة أخرى.

وقال لهما الله ، ولإبليس : إن الأمر قد حسم في قضاء الله وقدره في هبوط الجميع إلى الأرض ، فقد تمت التجربة وأخذ الإنسان الدرس العملي في موقفه من إبليس وعرف كيف يخطط الطريق للعودة إلى الجنة بالفكر والعمل ، من خلال نجاحه في الصراع المرير مع الشيطان الذي أعلن عداوته الحاقدة الحاسدة منذ البداية لإبعاده عن الله وعن الدخول في الجنة من جديد ، فما دام الله قد حرمه منها بسبب آدم ، فليكن الحرمان شاملا لآدم وذريته بما يخطط من وسائل ومكائد ووساوس وخداع ، وهكذا أراد الله لهم جميعا أن يهبطوا إلى الأرض ليعيش الإنسان الصراع المرير مع عدوه إبليس الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ، وذلك بأن يعدهم ويمنيهم ، وما يعدهم إلا غرورا. وتبقى الأرض مستقرهم الطبيعي الذي خلقوا له وأريد لهم أن يتمتغوا؟ فيها إلى يوم القيامة في رحلة الحياة والموت والبعث.

وقال لهم الله : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

* * *

٦٨

الآيات

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(أَنْزَلْنا) : خلقنا ، باعتبار أن الله سبحانه أنزل الأشياء بالخلق إلى عالم الشهادة ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥]. وقال :

٦٩

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦].

(لِباساً) : اللّباس : كل ما يصلح للبس من ثوب أو غيره ، من نحو الدرع ، وما يغشى به البيت من نطع أو كسوة.

(وَرِيشاً) : الريش والأثاث : متاع البيت من فراش أو دثار. وقيل : الريش ما فيه الجمال ومنه ريش الطائر ... قال الزجّاج : الريش كل ما يستر الرجل في جسمه ومعيشته ، يقال : تريّش فلان أي صار له ما يعيش به ، وتقول العرب : أعطيته رجلا بريشه أي بكسوته ، وقال أبو عبيدة : الريش والرياش ما ظهر من اللباس (١).

(وَلِباسُ التَّقْوى) : اللباس المعنوي الذي يستر العيوب والأخطاء ونقاط الضعف الإنساني ، الذي يمثل الحالة الروحية والفكرية التي يشعر معها الإنسان بضبط حركة غرائزه وشهواته ومطامحه ومطامعه ، وجعلت التقوى لباسا من طريق التمثيل والتشبيه لأنها تقي الإنسان وتعصمه.

(يَفْتِنَنَّكُمُ) : الفتنة : الابتلاء والاختبار والامتحان. يقال : فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته.

(وَقَبِيلُهُ) : القبيل : الجماعة من قبائل شتّى ، فإذا كانوا من أب واحد وأم واحدة فهم قبيلة.

(فاحِشَةً) : معصية كبيرة ، وفعلة متناهية في القبح.

(بِالْقِسْطِ) : أصل القسط العدل ؛ فإذا كان إلى جهة الحقّ فهو عدل ؛ وإذا كان إلى جهة الباطل فهو جور.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٣١.

٧٠

القرآن يحذر بني آدم ويوجّههم

انتهت قصة إبليس مع آدم ، واستطاع آدم بعد نزوله إلى الأرض أن يعي تماما معنى الدور الشيطاني لإبليس في الإضلال والإغواء ، من موقع العقدة المستحكمة في نفسه ضدّه ، وأن يحفظ نفسه منه ، فلم يحدّثنا الله عن خطأ آخر في مخالفة أوامره ونواهيه ، بل الظاهر أنه استمر في الخط المستقيم الذي ترتبط فيه كل ممارسات حياته وتطلعاتها بالله ، بعيدا عن وساوس الشيطان وأضاليله ... وجاء دور إبليس مع بني آدم ، فقد عاش من أجل أن يضلّهم ويغويهم ويقودهم إلى عذاب السعير ، ولم يكن لهم معه تجربة حسية ، كتجربة آدم الذي كان قد رآه وشاهد كيف تحركت عقدة الكبرياء في نفسه ضدّه ، في موقف استعلائي حاقد ، رافض لإرادة الله في ما يختلف عن مزاجه في هذا السبيل ، وليس لهم مجال ليشاهدوه وجها لوجه ، ليعرفوا كيف يتحرك في حياتهم من موقع التجربة الحسية الواضحة ، فأراد الله لهم أن يأخذوا من تجربة أبيهم آدم درسا للمستقبل ، وخطّا للسير في طريقة تعاملهم معه ، وحذرهم منه ، ودعاهم إلى محاربته ، من أجل تحقيق الحماية لأنفسهم من ضلاله وكفره .... فكانت الآيات القرآنية التي تشرح لهم كيف يتصرفون معه ، وكيف يواجهون مخطّطاته ، ليكونوا على وعي دائم ، ليحفظوا أنفسهم من المصير المحتوم الذي يريد أن يقودهم إليه في عذاب الله وعقابه ...

* * *

لباس التقوى خير

وجاءت هذه الآيات التي تبدأ النداءات بكلمة (يا بَنِي آدَمَ) للإيحاء إليهم بالتجربة الحيّة التي عاشها آدم مع إبليس ، لئلّا يكون التفكير في المسألة في المطلق ، بل يكون من موقع التاريخ الحي. وقد استوحت الآيات قصة العري الذي شعر به آدم بسبب معصيته ، في حالة من الإحساس بالخزي

٧١

والعار ، لتوجه بنيه إلى النعمة التي أنعم الله بها عليهم ، في ما خلق لهم من اللبّاس الذي يصنعونه من أصواف الأنعام وأوبارها وشعورها ، وفي ما رزقهم من الريش الذي يمثّل ما كان فاخرا من اللباس والأثاث ليتزينوا به أو يلبسوا منه ، ليشكروا الله على ذلك ، (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً). ولكن الله يريد أن يوجههم إلى أن القضية التي ينبغي أن تلحّ عليهم ليست اللباس الذي يستر عوراتهم ، لأن ذلك لا يمثل إلا جانبا محدودا من جوانب حياتهم التي تتعلق بحماية ما يريد الإنسان أن يحمي منه جسده ، بحيث لا يريد للناس أن ينظروا إليه ، بل ينبغي لهم أن يوجّهوا اهتمامهم إلى اللباس المعنوي الذي يستر عيوبهم وأخطاءهم ، وهو لباس التقوى الذي يمثل الحالة الروحية والفكرية التي يشعر الإنسان معها بالحاجة إلى أن يضبط حركة غرائزه وشهواته ، ومطامحه ومطامعه ، في الاتجاه السليم الذي ينسجم مع إرادة الله في أوامره ونواهيه ... على أساس محبة الله وخوفه ، اللذين تخضع لهما هذه الحالة الداخلية. وهذا ما أشار إليه بقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) لأن قيمة هذا اللباس ، أنه يرتبط بمسألة المصير في الدنيا والآخرة في ما يواجهه الإنسان من نتائج إيجابية في حركة حياته ، في التزاماته الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو السياسية ، أو في الخط الفكري الذي يحكم مسيرة حياته ... وبذلك يكون فقدانه فقدانا لذلك كله ، كما يكون سببا للشعور العميق الساحق بالخزي والعار أمام الله ، عند ما يقف الإنسان بين يديه ، عاريا لا تستره أيّة فضيلة ، ولا يحميه من عقابه أيّ شيء ... (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) التي ينبغي للناس أن يتأملوا فيها ويدرسوها ، ليعرفوا من خلالها عظمة الخلق وقيمة النعمة (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ، فتقودهم الذكرى إلى الوقوف الواعي أمام أوامر الله ونواهيه بكل قوة وإيمان ، كما تقودهم إلى الابتعاد عن حبائل الشيطان وخداعه وغروره ...

* * *

٧٢

تحذير عام لبني آدم من إبليس

وفي النداء الثاني تذكير وتحذير لبني آدم ، فإنّ عليهم أن يتذكّروا أن إبليس قد أخرج أبويهم من الجنة ، وأن يتعرّفوا كيف توصّل إلى ذلك ، وماذا أوحى إليهما من أفكار ، وما هي أساليب الوسوسة التي أثارت في داخلهما المشاعر الّتي هيّأتهما للتحرك في اتجاه تحقيق ما أراده منهما ... كما أنّ عليهم أن يحذروا من فتنته الشيطانية التي يحاول من خلالها أن يثير فيهم الأفكار والأجواء المنحرفة عن خط الله ، ويوسوس لهم في همسات حميمة خفية ، ليزين لهم معصية الله ، كما لو كانت حلما من الأحلام ، أو لونا من ألوان السحر ، ليعيش الإنسان معها في أجواء سحرية ضبابية غامضة ، ليسهل انجذابه إلى النار التي يحترق فيها إيمانه وفكره ، تماما كما هي الفراشة التي تجذبها أشواق اللهيب إلى النار.

وبذلك لا تكون الذكرى شيئا من التاريخ ، بل حركة وعي ، ودرس إيمان ، وسبيل حرية ... يفهم الناس من خلالها دورهم في الحياة ، ومسئوليتهم في بناء كيانها على أساس إرادة الله ، ويعرفون كيف ينتبهون إلى إيمانهم ليعمّقوه في داخلهم ، ليحرّك فيهم اليقظة الدائمة التي ترصد كل حركة داخليّة محمومة في مشاعرهم ، وكل فكرة خارجية منحرفة تتسرب إلى أفكارهم ، لتبتعد بهم عن الله ، ويواجهون ـ في مواجهتهم للشيطان ـ قضية التحرر منه ، كما لو كانت قضية من قضايا الحرية في الحياة. (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) فيقودكم إلى السبل التي تفتنكم وتقودكم إلى السير في طرق الكفر والضلال والعصيان ... (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ، بما أوحى إليهما من وسائل خداعه وغروره وفتنته.

(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) الذي يستر عورتيهما في ما ألقى الله عليهما من ألوان الستر ، (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) وليعيشا الإحساس بالخزي والعار. ولا بد

٧٣

لكم من اليقظة الروحية الدائمة ، والوعي المنفتح المستمر ، والرصد المتتابع المتحرّك لكل كلمة ، أو همسة ، أو فكرة ، أو عاطفة ، أو علاقة ، أو عمل ، أو شهوة ، أو طموح ... لأنه يحاول الاختباء في كل واحدة من هذه ليشوّه فيها جمال الطهر ، ونقاء الروح ، واستقامة الطريق ... لا بد من التحرك على كل الصعد ، وبكل الوسائل التي وهبها الله للإنسان من عقل وإرادة وإيمان .. لأنكم تخوضون المعركة في داخل نفوسكم وخارجها ضد عدوّ لا تعرفونه بالحسّ ، ولا تعرفون أعوانه وجنوده ، إلا بما يعرّفكم الله من وسائله ومخططاته ، بينما يراكم هو وقبيله ، بكل ما تعيشونه من أفكار ومشاعر ، وبكل ما يحيط بكم من قضايا وأوضاع ...

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) فأنتم مكشوفون أمامهم ، أما هم فليسوا مكشوفين لكم. ولكنّ الله يحفظ المؤمنين من الشياطين ، من خلال ما يلهمهم من أسباب الخير ويوفقهم إليه من وسائل الهداية ، إذ يرعى برعايته عباده المؤمنين الذين يتحركون في الحياة تبعا لمرضاته ، فهو وليهم الذي يؤيدهم ويرعاهم ... أما الذين لا يؤمنون به ولا يسيرون في طريقه ، فإن الشياطين هم أولياؤهم. ولا معنى لولاية الشيطان إلا الإمعان بعيدا في الخداع والغرور الذي يقود الإنسان إلى الهلاك المحتوم ... (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وليس معنى نسبة الجعل إلى الله أنه أمر جبر يفقدون معه الإرادة في ما كوّنه الله فيهم من هذه الولاية التي تربطهم بالشيطان أو تربطه بهم ؛ بل هو أمر اختياريّ ، أو كله الله للإنسان الذي يختار لنفسه طريق السير مع الشيطان ، فتكون النتيجة الطبيعية حصول هذه الولاية بينه وبينه ، انطلاقا من ارتباط المسبّب بالسبب ، فالله خلق السببيّة في طبيعة الأشياء ، أمّا الأسباب فهي بيد الإنسان ، وبذلك يمكن نسبة الفعل إلى الله من جهة ، كما يمكن نسبته إلى الإنسان من جهة أخرى ، كما فصّلنا ذلك في أكثر من موضع في هذا التفسير.

* * *

٧٤

لا يأمر الله إلا بالقسط

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أي معصية ، في ما تمثله من تجاوز الحدود المعقولة الشرعية التي فرضها الله للأشياء ، وقد غلبت على الأفعال المتعلقة بالجنس أو القريبة منه ، ولكن الظاهر شمولها في هذه الآية لكل عمل يخالف فيه الإنسان ربّه ، مما تدفعه إليه وسوسة الشيطان ، سواء منه ما يتعلق بانحراف في المنهج ، أو في الممارسة. (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) وهذا هو المنهج الخطأ الذي قد يوجّه الشيطان الإنسان إليه ، ليربطه بالخط الفكري أو العملي الذي سار عليه الآباء ، في ما يدينون به من دين ، وما يحملونه من فكر ، وما يرتبطون به من علاقات ، وما يقومون به من أعمال ... على أساس الحالة العاطفية التي تدفع الإنسان إلى احترام كل ما يتصل بآبائه وأجداده ، وإلى التنكر لكل ما يبعده عن ذلك ... وفي هذا الجو ، كان هؤلاء الذين عاشوا ولاية الشيطان في حياتهم ، يبرّرون فعلهم للفاحشة بأن ذلك هو عادة الآباء ، كما لو كان ذلك شيئا مقدّسا لا مجال للاعتراض عليه.

وربما كانوا يشعرون بأن ذلك غير مقنع لدى بعض الناس الذين يرون أن الأمر الإلهي هو الذي يمكن أن يبرر للإنسان ما يعمله ، فحاولوا أن يربطوا أعمالهم بالله فقالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) ، ولكن الله يردّ على هذا الزعم ، بأنه لا يمكن أن يأمر بالفحشاء ، (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فكيف تنسبون إليه ذلك ، من دون حجة؟! (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟! وتلك جريمة كبيرة ، في ما تؤدي إليه من تزييف الحقيقة الإلهية ، في العقيدة أو التشريع ، مما يقود إلى الاجتراء على الله من جهة ، وإلى تزييف الصورة الحقيقية للمسار الإنساني في خط الايمان من جهة أخرى.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) وهذه هي الصورة المشرقة لأجواء الأوامر الإلهية ، التي يمكن للإنسان أن يأخذ منها الفكرة الصحيحة ، في التمييز بين ما أمر الله

٧٥

به وما لم يأمر به ، مما قد ينسبه إليه بعض المنحرفين الكاذبين. إن الله يأمر بالعدل الذي يمثّل خط التوازن في الحياة ، سواء منه ما يتعلق بحقوق الناس ، أو بقضايا الحياة الأخرى ... في ما يقوله الإنسان أو يفعله ، مما نستطيع من خلاله أن نميز الحق من الباطل في مختلف مفردات حياتنا ووجودنا.

(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). وهذا هو الخط الذي يريد الله للإنسان أن يسير عليه ، ليتوازن في خط الإيمان بالله .. أن يقيم الإنسان وجهه لله ، في ما عبر عنه بقوله: (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) بكل ما يمثله المسجد من أجواء العبادة ، فيتجه إليه في كل أموره ، فهو مقصده وغايته في جميع المجالات ، فمنه ومن وحية تبدأ كل انطلاقاته ، وإليه وإلى غاياته تنتهي كل خطواته ... فلا يتصور الوجود إلا من خلاله ، إذ لا وجود إلا له ، وكل مظاهر الوجود ظلال لحقيقة وجوده ... وذلك هو معنى الإيمان الرحب المنفتح على الله في كل الآفاق ، المتحرك معه في كل السّبل.

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لا تدعوا غيره ، ولا تشركوا به أحدا ، فله الدعاء وإليه المشتكى وعليه المعوّل في الشدّة والرخاء ... فالجئوا إليه في كل أموركم وتعبّدوا له بإخلاص الدين له ، حتى يكون الدين كله له في فكركم وشعوركم وخطوات حياتكم ... في الخط والمنهج والممارسة ... فليس لكم أن تتّبعوا غير منهجه ، أو تسيروا في غير طريقه ، أو تتّخذوا وليّا غيره ... وذلك هو خط التوحيد وخط الإخلاص ، ومعنى الدين الحق.

* * *

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) فليست الحياة التي تعيشونها مجرد ذرّة ضائعة في

٧٦

الفراغ ، أو فقّاعة تنتفخ ثم تنفجر لتتحول إلى لا شيء ، ولكنها البداية التي تعتبر النقطة الأولى في حركة المسؤولية التي تنطلق وتتوهّج لتنتظر نتائجها ، بعد هدأة قصيرة تغفو فيها الحياة على ذراع الموت ، لتعود من جديد في مواجهة النتائج بين يدي الله ... فلا تعتبروا الموت نهاية الحياة ، بل انتظروا ـ من خلاله ـ رحلة العودة إلى الحياة من جديد ، في أجواء متنوعة الألوان والأشكال والآفاق ، تبعا لتنوع الأفكار والمواقف والأعمال ... إنها اللمحة الموحية التي تريد للإنسان أن لا يستسلم للخدر الذي توحي به الغفلة المطبقة على فكره وشعوره ، لتبعده عن التفكير الواعي في ما يجب أن يواجهه في مستقبله الأخروي من نتائج المسؤولية في إيجابياتها وسلبياتها ، على أساس حركة الحياة في هذا الاتجاه المسؤول ، في انفتاح رحلة البداية على رحلة العودة. (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، فكيف تتصرفون في ذلك؟ (فَرِيقاً هَدى) في ما أعطاه الله من وسائل الهداية من عقل ووحي وإرادة ، وحسّ يتصل بالعالم من خلاله ، ليستمدّ من ذلك المواد الخام للمعرفة ... فاستفاد منها في تعميق إيمانه بالله ، وهدايته لدينه ، وتلك هي الأسباب الطبيعية التي جعلها الله سبحانه أساسا لهداية الإنسان على طريق الاختيار ، (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي ثبت عليهم هذا الخط وتأكّد في ما اختاروه لأنفسهم من وسائل تبعدهم عن أجواء الهدى ، وتقربهم من أجواء الضلال. فان الإنسان إذا انطلق في هذا الاتجاه كانت الضلالة أمرا طبيعيا في حياته. (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) فساروا معهم في ما شقوه لهم من طريق ، وانجذبوا إليهم في ما زينوه لهم من أعمال ، وانتصروا بهم في ما واجهوه من مواقف ... وخرجوا من ولاية الله ، وتحركوا بعيدا عن طاعته ومنهجه في الحياة ، فضلّوا وضاعوا في متاهات الطريق. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ، لأنهم لم يتعرفوا الخط الفاصل بين الهدى والضلال ، ليحدّدوا لأنفسهم الهوية الحقيقيّة للمسار وللمصير.

* * *

٧٧

كلمة في التقوى

لقد عبّر الله عن التقوى أنها «لباس» ، (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: ٢٦] ، لأن هذا المفهوم القرآني لا يمثّل حالة نفسية في حالة الخوف الذي يصيب الإنسان مما يخافه ويحذره ، بل هو حالة عقلية وشعورية وحركية تشمل الكيان الإنساني بكله في مواجهته لكل الأشياء المؤذية المضرّة له في مواقع مصيره في الدنيا والآخرة ، ليخطط بفكره ، ولينفتح بإحساسه ، وليتحرك بوسائله الجسدية وغيرها ، من أجل حماية نفسه من ذلك ، تماما كما هي مسألة حماية الحياة مما يضرّها أو يقضي عليها.

وهذا هو الذي تحدّث عنه علماء اللغة ، فقد جاء في مفردات الراغب قال : «التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف ، هذا تحقيقه ، ثم يسمّى الخوف تارة تقوى ، والتقوى خوفا ، حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه ، والمقتضي بمقتضاه ، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم ، وذلك بترك المحظور» (١).

وعلى ضوء هذا ، فإن التقوى تمثل فعلا إنسانيا في حماية الخط الإيماني من عوامل الانحراف ، ووقاية المصير من أسباب الهلاك ، وبذلك فإن التقوى تمثل حماية الإنسان نفسه من غضب الله بالابتعاد عن مواقع سخطه وبالانفتاح على مواقع رضاه ، لأن الإيمان بالله في مقام ربوبيته وآفاق عظمته وموارد نعمته ، تفرض عليه الإحساس بمسؤوليته عن الأخذ بطاعة ربه والبعد عن معصيته ، والقيام بحق الله في ما ينبغي له من ذلك ، كما جاء في قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) بحيث يعيش الإنسان حقيقة التقوى في خطوطها الفكرية

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٦٨.

٧٨

والعملية من خلال إرادته واختياره ؛ فإن الفكر لا يمكن ان يخضع لضغط يحدد له كيف يفكر ، ولكنه ينفتح ، في دائرة إحساسه بالمسؤولية على أفق يوحي إليه بذلك كله.

* * *

التقوى حالة شاملة لكلّ الأوضاع الإنسانية

وهكذا تنطلق التقوى لتتنوّع في أبعاد حياة الإنسان ليكون تقيا في طعامه وشرابه ، فلا يأكل ولا يشرب إلا حلالا ، وفي شهواته ولهوه ولعبه ، فلا يأخذ بالحرام من ذلك ، وفي علاقاته الاجتماعية ، فلا يتحرك بالفتنة والفساد والانحراف الذي يمزق المجتمع ويفسده وينحرف به عن خط السلامة العامة في أوضاعه وروابطه واتجاهاته ، وفي حركته السياسية ، فلا يتحرك إلّا بما يقوي العدل ويؤكد الحق ، ويدعم الحرية الإنسانية ، ويحمي المصير.

وهكذا تتحول التقوى من حالة خوف سلبيّ إلى عمل وقائي إيجابيّ ، ومن حركة في الشكل إلى حركة في المضمون.

* * *

التقوى عمق فكري وروحي في الإنسان

وهذا ما جاءت الرواية به عن مفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فذكرنا الأعمال فقلت أنا : ما أضعف عملي ، فقال مه ، استغفر الله ، ثم قال لي : إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى. قلت : كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال : نعم ، مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه ، فهذا العمل

٧٩

تقوى ، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه (١).

فهذا الحديث يوحي بأن مسألة التقوى ليست مسألة استهلاك للعمل من دون وعي وعمق في القاعدة الفكرية الروحية للإنسان ، بل هي مسألة عمق فكري روحيّ يكمن في الذات ليملك الإنسان نفسه أمام عناصر الانحراف التي تجتذب عناصر الضعف فيه لتنحرف به عن الخط المستقيم ، الأمر الذي يجعل القضية مرتبطة بالنوعية لا بالكمية. وقد جاء في حديث آخر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول : لا يقلّ عمل مع تقوى ، وكيف يقلّ ما يتقبل (٢). وهكذا نفهم كيف تعطي التقوى للعمل حجمه وحيويته وحركته في رضوان الله ، فيتقبله الله فيكون كثيرا في نتائجه ، وهو القليل في حجم العدد.

وتبقى مسألة التقوى في مسئولية الإنسان خاضعة لقدرته (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لأن الله يريد للإنسان جهده ، فلا يكلفه ما لا يطيق ، فعليه أن يحرك التقوى في مدى استطاعته في إيحاء خفيّ بأن الاستطاعة معنى متحرّك في تنمية الإنسان لقدرته تبعا لطموحاته الفكرية والروحية والعملية في التنمية الذاتية ، في وجوده في العرض والطول ، والكمية والنوعية.

وتتحول التقوى في وجدان الإنسان إلى وعي الكلمات الرسالية التي إذا سمعها المتقون ، المفتوحة قلوبهم على كلمات الله ، كانت هدى لهم (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وإذا اكتست مضمونا وعظيا يحرك مشاعر الإحساس ونبضات القلوب كانت موعظة لهم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٦٤] وإذا انطلقت لتخرج الإنسان من غفلته كانت ذكرا لهم (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ)

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٧٦ ، رواية : ٧.

(٢) (م. ن) ، ج : ٢ ، ص : ٧٥ ، رواية : ٥.

٨٠