تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

وعلى ضوء ذلك ، فإن التعبير وارد على نحو الكناية لا على نحو الاستعمال الحقيقي بالمعنى المادي للكلمة ليكون حجّة للجسمانيين الذي حاولوا الأخذ بحرفية الكلمات القرآنية ، فتصوروا الله ـ من خلال ذلك ـ جسما ماديا كبقية الأجسام الأخرى في حاجتها إلى العوارض المختصة بالجسم ، وغفلوا عن أن القرآن انطلق في أسلوبه الفني من القمة البلاغية التي تعتمد على الاستعارة والكناية كما تعتمد على الحقيقة حسب الحاجة الفنية للتعبير.

(يُغْشِي) : يغطي ، يقال : غشّى الشيء الشيء : ستره وغطاه ، وأغشاه إياه : جعله يغشاه أي يغطيه ويستره ، ومنه إغشاء الليل النهار لا إغشاء النهار الليل ، لأن الغطاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء.

(حَثِيثاً) : مسرعا. والحثيث : السير السريع بالسوق ، من قولهم : فرس حثيث السير أي سريعه.

(مُسَخَّراتٍ) : أي مذلّلات خاضعات لتصرفه ، منقادات لمشيئته.

(بِأَمْرِهِ) : أي بتدبيره وتصرّفه.

(الْخَلْقُ) : الإيجاد الأوّل المتحرك في نطاق التقدير الإلهي في تنوعاته وشروطه وخصائصه في البسائط والمركب.

(وَالْأَمْرُ) : هو السنن والقوانين المتحركة في نظام الوجود في إيصاله إلى غاياته التي أرادها الله ، سواء في عالم الظواهر الكونية أو الواقع الإنساني ، في السنن التاريخية الحاكمة على مسيرته في أوضاعه العامة والخاصة الصادرة عن الله من خلال أمره التكويني الذي يقول للشيء ، في وجوده ونظامه وسننه ، كن فيكون ، من خلال شأنه وموقعه الربوبي في خالقيّته وتدبيره.

وفي هذا إيحاء بالإبداع الإلهي للوجود ، وبالربوبية المهيمنة المنفتحة

١٤١

على كل حركته ، بحيث تشرف عليه في بقائه واستمراره ، فلا تهمله ـ بعد إيجاده ـ ليعيش في فوضى الصدف الضائعة في الفراغ.

(تَبارَكَ) : مأخوذة من البركة وأصلها الثبات ، والمراد منه الخير الكثير الثابت ، وأما مناسبته لله ، فهو في وجوده المبارك الأزلي الأبدي الذي هو منشأ الخيرات والبركات ومنبع الخير المستمرّ.

(تَضَرُّعاً) : تذلّلا. والتضرّع : التذلّل ، وهو إظهار الذلّ الذي في النفس ، ومثله التخشع ، ومنه التطلب لأمر من الأمور ، وأصل التضرع الميل في الجهات ذلّا من قولهم : ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بإصبعه يمينا وشمالا ذلّا وخوفا ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه ، ومنه المضارعة للمشابهة لأنها تميل إلى شبه ، والضريع نبت لا يسمن لأنه يميل مع كل داء.

(وَخُفْيَةً) : الخفية خلاف العلانية ، من : أخفيت الشيء إذا سترته.

(لا يُحِبُ) : محبة الله للعمل ثوابه عليه ومحبته للعامل رضاه عنه.

(الْمُعْتَدِينَ) : المتجاوزين للحدود ، والاعتداء : تجاوز الحدود.

(وَطَمَعاً) : الطمع : توقع محبوب يحصل.

(الرِّياحَ) : جمع ريح ، وهو الهواء المتحرك ، قال الراغب : كل موضع ذكر الله إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب ، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة (١).

(رَحْمَتِهِ) : المراد بها هنا المطر.

(أَقَلَّتْ) : أي رفعت ، والإقلال : حمل الشيء بأسره حتى يقلّ في طاقة الحامل له بقوّة جسمه ، يقال : استقل بحمله استقلالا وأقله إقلالا.

__________________

(١) راجع : مفردات الراغب ، ص : ٢١١.

١٤٢

(سَحاباً) : السحاب : الغيم الجاري في السماء ، واحده سحابة.

(سُقْناهُ) : سيّرناه. السّوق : حث الشيء في السير حتى يقع الإسراع فيه.

(لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) : البلد الميت هو الأرض التي لا نبات فيها ولا مرعى.

(نَكِداً) : النكد : كل شيء خرج إلى طالبه بتعسّر ، يقال : رجل نكد بفتح الكاف وكسرها ، وهو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شيء منه بسهولة. وناقة نكداء : خفيفة الدّرّ صعبة الحلب.

(نُصَرِّفُ) : التصريف : تبديل الشيء من حال إلى حال ، ومنه تصريف الرياح.

* * *

القرآن وتحريك الإيمان في قلب الحياة

في هذه الآيات صورة حيّة كونية رائعة ، توحي للإنسان بعظمة الله من خلال عظمة خلقه ، ليستشعر الإنسان ـ وهو يتأمّل ذلك كله ـ إيمانه بالله في رحاب الكون ، في النهار عند ما تتوهّج الحياة بيقظة النور ، وفي الشمس عند ما تنشر الدفء والإشراق في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي القمر عند ما ينساب نوره هادئا ناعما وديعا في أجواء الليل الهادئة الموحية بالخدر اللذيذ في إغماضة الجفون على الأحلام الجميلة ، وفي النجوم التي تتجمّع في ظلام الكون كحبّات نور متناثرة في الفضاء ... وهكذا تتكامل الصورة كلّما امتدّت آفاق المعرفة في وعي الإنسان في ما يشاهده ويلمسه ويعيه من خلق الله ... ثم تتعاظم الفكرة من خلال الصورة في عقله وشعوره ، فيحسّ بالخضوع لله الذي

١٤٣

أبدع ذلك كله ، فيتضرع له ويخاف منه ، ويطمع به ، وتتحرك أحلامه الكبيرة في اتجاه القرب منه ... وذلك هو أسلوب القرآن في تحريك الإيمان في قلب الحياة ، ليتنامى ويتصاعد وينساب في حياة الإنسان اليومية ، كما لو كان شيئا مرئيا تلمع به العيون ، أو مظهرا كونيا تتلاقى حوله العقول. وبذلك تلتقي الفطرة بالإيمان من أقرب طريق.

* * *

العرش مظهر السلطة الإلهية الأعلى

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، وهو القادر على أن يخلقها في لحظة ، ولكنه أراد للحياة أن تتدرّج في الوجود من خلال ارتباط بعضها ببعض في طريقة تكاملية. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) في ما يرمز إليه الاستواء من الهيمنة والسيطرة والسلطة ، وما توحي به كلمة (الْعَرْشِ) من مركز الملك والحكم ، بعيدا عن أي معنى يتصل بالتجسيد لله ، أو بالشكل المادي للعرش ... ولا ينافي ذلك ما ورد في الأحاديث المتنوعة عن منطقة في السماء تسمى بالعرش ، أو ما جاء في الآية الكريمة : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] لأنّ من الممكن أن يكون المراد به المنطقة الأعلى في الكون ، باعتبار أنّ ذلك هو مظهر السلطة والسيطرة على الكون على سبيل الكناية ، والله العالم.

* * *

الليل يلاحق النهار

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً). وهذا من مظاهر قدرة الله ، حيث نرى الليل يلاحق النهار بظلامه فيستره ، ويطلبه طلبا سريعا فيدركه ، تماما كمن

١٤٤

يلاحق شخصا آخر في عملية ملاحقة سريعة. وربما كان في هذا إشارة إلى أن الليل هو الأصل والنهار طارئ ، فلم يكن هناك قبل الشمس ضياء ، فكأن النهار في مجيئه وإشراقه قد أخذ من الليل سلطانه ، فبدأ الليل في محاولة دائمة وطلب حثيث لاسترجاع بعض ما فقده من ذلك ...

* * *

كل ما في الكون طوع أمر الله تعالى

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) فقد خلقها الله وحركها بإرادته وقدرته ، وسخّرها بأمره ، ليؤدي كل واحد منها دوره في حركة الحياة وفقا للقوانين الحكيمة التي أودعها الله فيها ، في نظام دقيق حكيم لا تختلف أوضاعه ولا ترتبك مسيرته ، وأراد للإنسان أن ينتفع بذلك كله ، في ما وهبه من عقل وما مكّنه من وسائل القدرة ... (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) فلا خالق غيره ، ولا يملك الخلق إلا هو ، (وَالْأَمْرُ) فلا أمر إلا أمره ، لا أمر لأحد مع أمره. فإذا أراد شيئا ، فإنه يقول له كن فيكون. (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فله البركة التي تمتد بكل البركات على كل العالمين ، فهو الرب لكل شيء لا رب غيره ، ولا إله سواه ...

* * *

من أحبّ الله أحبّ عباده

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) بكل خشوع وذلّة ومسكنة ، وافتحوا قلوبكم إليه ، وأشهدوه على أنفسكم أنكم عباده الخاضعون المستكينون ، وارفعوا إليه أكفّ الضراعة ، ليعطيكم ما تحتاجون إليه من كل شيء ، لأنه القادر على كل شيء ... (وَخُفْيَةً) في أنفسكم ، لتعيشوا الشعور الحميم بأنكم معه في كل

١٤٥

المشاعر اللاهثة الحارة ، وفي كل التمنيات الروحية ، وفي كل الكلمات المبتهلة الخاشعة ... لا يشارككم أحد في هذا الجوّ الإلهيّ الرائع ، فلا أحد هناك إلّا العبد وربّه ، مما يعمّق في نفس الإنسان الشعور بعبوديته الحقيقة لله ، وانتمائه الصادق إليه بكل هدوء وإيمان وإخلاص ، وبذلك تفرغ كل أفكاره ومشاعره وممارساته من كل معاني الاعتداء ، فتصفو للناس وللحياة بالمستوى نفسه الذي تصفو به لله ، لأن صفاء الروح مع الله ، يحقق أعمق ألوان الصفاء مع الناس ، إذ إن الإنسان إذا أحبّ الله أحبّه عباده ، وذلك هو سرّ التفاعل بين العبد وربه ، فإذا أحب الإنسان ربه ترك كل شيء لا يحبه الله ، وبذلك فإنه يترك العدوان ، إذ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

* * *

الإفساد عدوان على الحياة

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) إفساد الفكر والعمل والعلاقات ، في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ، فقد أعدها الله إعدادا صالحا ، في ما يريد لها من حركة وحياة ، وأراد للناس ، من خلال وحي رسله ، أن يتابعوا خطوات الصلاح ، ولا يستسلموا لكل عوامل الفساد والإفساد ، لأن ذلك يمثل عدوانا على الحياة ، وانحرافا عن خط الله ... وتلك هي مهمة الإنسان في إدارة طاقاته التي وهبه الله إياها ، بأن تكون كل فعالياتها للصلاح والإصلاح. وذلك هو معنى أن تكون أمانة لله عنده ، فلا يحرّكها إلا بما يرضي الله ، في بناء الحياة لا في هدمها. (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) لأنه هو الذي ينبغي للإنسان أن يخاف من عذابه ويطمع في ثوابه ويرجو رحمته ، وذلك ـ أي الدعاء الذي يمثل عمق الإخلاص له واللجوء إليه ـ ما يجعله قريبا من رحمته ، فتكون رحمته قريبة منه ، ولكن بشرط أن يعيش الإنسان سلوك

١٤٦

الإحسان في ما يقول أو يفعل ، لأن الرحمة ليست مجرّد حالة عفوية ، بل هي لطف من الله ، يتصل بالأفق الداخلي للإنسان وبالحركة الطيّبة لحياته ، وذلك هو قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا بالروح وبالقول والعمل ...

* * *

التجارة مع الله روحية لا مادية

وقد يثير البعض في هذا المجال تساؤلا حول معنى أن تكون علاقتنا بالله علاقة خوف وطمع؟ أليس هذا مظهرا من مظاهر العقلية التجارية مع الله ، حيث ترتبط به على أساس خوف الخسارة والطمع في الربح؟! أليس من الأقرب إلى خط الإيمان أن تكون العلاقة نابعة من المحبّة الخالصة له ، التي تنطلق من استحقاقه للعبادة ، لأنه أهل لذلك؟

ونجيب عن ذلك ، بأنّ الخوف والطمع لا يمثلان شعورا تجاريا ، بالمعنى الماديّ للتجارة ، ولكنهما يمثّلان شعورا روحيّا خالصا يعكس الإيمان بأنّ وجود الإنسان مرتبط بالله في كل شيء ، مما يجعل من الدعاء لونا من ألوان التعبير عن هذه الحالة الروحية التي تؤكد للذات ـ دائما ـ بأنّ قضية الإنسان مع الله هي قضية الفقر المطلق أمام الغنى المطلق ، في إحساس بالذوبان في ذات الله ، في وعي لمعنى العبودية في الذات الإنسانية. وبهذا تفترق التجارة الماديّة بين الإنسان والإنسان في ما يخافه أو يطمع فيه ، عن التجارة الروحية بين الإنسان وربّه ، حيث تتحول القضايا المادية إلى معنى روحيّ ، في مستوى الإيمان الخالص.

* * *

١٤٧

حركة الرحمة الإلهية في الكون

وتأتي الآية التالية لتثير أمامنا صورة الرحمة الإلهية كيف تتحرك في آفاق الكون لتتحول إلى طاقة تعطي الخصب والرخاء والحياة للأرض الميتة والبلد الميت ... (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) ، مبشّرات بالخير والحياة (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) التي تغدق البركات من خلال رحمته في ما تثيره في الكون من حركة الرياح التي تتنوّع في سرعتها ، وفي طبيعتها ، وفي حملها ... فهي تتحرك لأداء المهمة التي أوكلها الله إليها ، وفي الخطّ الذي أرادها أن تسير فيه من خلال القوانين الطبيعيّة التي أودعها في الكون بحكمته وإرادته وقوّته ، (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) وحملته على ظهرها ، وانتظرت الأمر الإلهي التكويني ... (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لا ماء فيه ولا كلأ ولا حياة ... (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) الذي جعلنا منه كل شيء حيّ ، (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) في ما تتنوّع أشكالها وألوانها وخصائصها ... وهنا تأتي اللفتة القرآنية الموحية التي تنقل الفكر من هذه الصورة الحيّة المحسوسة التي يتحول فيها الموت إلى حياة ، إلى عقيدة الإيمان بالبعث بوصفه حياة بعد الموت في الدار الآخرة ، من خلال المقارنة بين الصورة المحسوسة هنا وبين الصورة الإيمانية هناك ، (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وتخرجون من هذه الغفلة المطبقة التي تبعد عنكم كل وعي ومعرفة وإيمان.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) طيّبا لذيذا كثيرا ، لأنه يتحرك من موقع الطبيعة الطيّبة الصافية التي تعيش القوّة ، فيخرج نباتها قويا قوة الأرض التي أنتجته. (وَالَّذِي خَبُثَ) في أرضه نتيجة ما تحتويه من عناصر تعيق إنتاجيّتها وتعطّل عملية النموّ والامتداد (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) أي بصعوبة وجهد ، وذلك كناية عن القلة ، لأن مثل هذه الطبيعة الخبيثة لا يمكن أن تنتج

١٤٨

شيئا كثيرا أمام المعوّقات الطبيعية هنا وهناك. (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) ونحوّلها في ما توحي به من فكر ووعي وشعور ... (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) ، فيحوّلون الحياة عندهم إلى طاقة خيّرة منتجة في ما تعطي للحياة وللآخرين. وذلك هو معنى الشكر العملي في حياة الإنسان. وربما كانت هذه الآية واردة مورد المثل للذات الطيّبة التي تنتج الخير من خلال طبيعتها الخيّرة ، فتملأ الحياة خيرا كثيرا ، وللذات الخبيثة المعقّدة التي تتحرك من موقع العقدة المرضية ، فلا تنتج إلا النكد والعذاب الذي لا ينتهي إلى شيء ..

* * *

دروس للعاملين في حقل التربية الإنسانية

وقد نستوحي من اختلاف النتائج الطيبة في البلد الطيب والخبيثة في البلد الخبيث في الوقت الذي يستويان فيه في نزول المطر عليهما ، أنّ نزول المطر لا يكفي في الإنتاج الطيّب وفي الخصب المثمر ، بل لا بد من أن تكون الأرض صالحة قابلة للخير بحسب خصائصها الذاتية التي تنفتح على الرحمة الإلهية ، فإذا كانت الأرض سبخة مالحة ، فلا يزيدها المطر إلا ملوحة من دون أية فائدة ، وإذا كان للمطر دور في بعض الإنتاج ، فلن يكون إلا شوكا وحنظلا لا غناء فيه ولا لذّة. وهكذا الإنسان الطيّب في عقله وقلبه وقابليته للخير ، يستقبل الكلمة الطيّبة ، والموعظة الحسنة ، والأسلوب الحكيم ، بالعقل المفتوح الذي ينتج عقلا جديدا ، وبالقلب الطيّب الذي ينتج حبّا لله وللإنسان وللحياة ، وبالحركة الطيّبة التي تمنح الحياة الكثير من عناصر تقدّمها ونموّها وحيويّتها ، بينما ينطلق الإنسان الخبيث الذي عشّش الباطل في فكره ، وتحرك الشر في قلبه ، وزحفت الجريمة إلى حياته ، ليزداد بالكلمات الطيّبة شرا وجريمة وبغضا وعدوانا.

١٤٩

ومن الطبيعيّ ، أنه لا بد للعاملين في حقل التربية من دراسة ذلك كله ، من أجل أن يعرفوا كيف يصلحون الأرض قبل أن يضعوا فيها غراس الخير ، وأن يمهّدوا الأرض الخصبة قبل أن يتحركوا في عملية الإنتاج الفعلي.

إن الخبث في الأرض وفي الإنسان ليس خصوصية ذاتية ، بل هو شيء طارئ قد يأتي من هنا وهناك من خلال العناصر الخبيثة الخارجية التي تزحف إلى الإنسان بفعل البيئة أو الثقافة أو التربية السيئة ، أو إلى الأرض بفعل العناصر المرضيّة ، وما تحمله الرياح إليها ، مما تخبث خصائصه فتتعمق في داخله.

ولهذا لا بد للعاملين في حقل الخير الإنساني من الاندفاع في طريق تنقية الداخل من كلّ وحول الشرّ وقذارات الجريمة.

* * *

١٥٠

الآيات

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤)

* * *

معاني المفردات

(الْمَلَأُ) : الجماعة من الرجال خاصة ، ومثله القوم والنفر والرهط.

١٥١

عن الفرّاء ، وسموا بذلك لأنهم يملأون المحافل (١).

(قَوْمِهِ) : القوم : الجمع الذي يقوم بالأمر.

(أُبَلِّغُكُمْ) : الإبلاغ : إيصال ما فيه بيان وإفهام ، ومنه البلاغة.

(وَأَنْصَحُ) : أخلص النية من شائب الفساد في المعاملة.

(الْفُلْكِ) : السفن ، للواحد وللجمع.

(عَمِينَ) : جمع عم ، وهو من عمى البصيرة ، والأعمى من عمى البصر.

* * *

موقع الإيمان هو موقع البحث عن الحقيقة

وتتوالى الآيات وتتتابع متناولة موضوع توحيد الله ، في مواجهة الشرك به أو تكذيب آياته. وهي ، هنا ، تستخدم أسلوبا حيا ، يريد الله للإنسان من خلاله أن يعيش تاريخ الرسل والرسالات ، كي يعرف وحدة الطروحات التي قدّموها ، ووحدة الأساليب الّتي استعملوها في مواجهة الفئات المتمرّدة على الرسالات ... ويفهم ـ من خلال ذلك ـ طبيعة العقلية التي كانت تحكم من وقفوا ضد الرسل ، ليخرج بنتيجة حاسمة ، وهي أن البشرية ـ في مرافقتها لمسيرة الرسالات والرسل ـ تنطلق في موضوع الإيمان من موقع واحد ، كما تنطلق في موضوع الكفر من قاعدة واحدة. أمّا موقع الإيمان ، فهو موقع البحث عن الحقيقة ، فالإنسان الذي يعيش هذا الهاجس الداخليّ ، لا يمرّ بالأفكار التي تقدم إليه مرورا عابرا ، بل يعمل على الاستماع إليها جميعا ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٦٧.

١٥٢

ليفكّر ويحاور ويستنتج ، فيؤيّد هذه من موقع القناعة الفكرية ، ويرفض تلك من الموقع نفسه ، ثم هو إنسان يلاحق كل إمكانات المعرفة ليستزيد منها ، وليتحرك في إطارها. أما قاعدة الكفر ، فهي ـ على العكس من ذلك ـ تسود فيها أجواء اللامبالاة بالحقيقة ، بالتالي ، فإن من يعتمدها كقاعدة لا يشعر بالمسؤولية أمام كل الطروحات الفكرية التي تقدم إليه ، فليست المشكلة عنده أن يؤمن أو لا يؤمن ، بل كل ما لديه من اهتمامات هو أن يستمتع بالحياة ، فيسير فيها كما تشاء له شهواته ، ولهذا فإنه يعمل على تبرير حالته بكل الوسائل المتاحة لديه ، فهو ليس في مجال البحث عن القناعة الفكرية ، بل في مجال البحث عن المبرّرات. وهكذا نستطيع أن نواجه قصة الرسالات والرسل ، لنعرف ماذا كان يطرح الأنبياء الأوّلون ، وماذا كان يطرح الأنبياء المتأخرون؟ وما هي الأساليب التي انطلقوا بها إلى الناس ، وما هي الأساليب التي انطلق بها المتمردون على الأنبياء في مواجهتهم للحق؟

وفي البداية ، نلتقي بقصة نوح وقومه ، فنلاحظ أو لا أن القرآن الكريم لم يحدّثنا عن أيّ نبيّ من الأنبياء أرسل بين آدم ونوح ، ولم يتحدث إلينا عن رسالة هناك ، فلربما كانت المرحلة قصيرة بحيث لا تحتاج إلى رسالة ، أو أن تلك الرسالات لم تكن في مستوى عال من الأهمية من حيث ما طرحته من أفكار وما واجهته من تحديات ، وما عايشته من أجواء ، مما يجعل من الحديث عنها شيئا لا أهمية كبري له ، ذلك أن القرآن لا يتحدث عن الأنبياء من خلال حكاية التاريخ ، بل من خلال دراسة الظاهرة وأخذ العبرة ، في ما يملك التاريخ من قضايا مهمة وملامح بارزة ، وهذا ما ذكره الله في قوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤].

* * *

١٥٣

ما معنى إرسال نوح إلى قومه؟

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) هل نفهم من إرسال نوح إلى قومه ، أن رسالته كانت محدودة بحدود قومه ، فلا تتعداهم إلى غيرهم ، أم أنّ هناك وجها آخر؟ وينسحب السؤال على كل قصّة من قصص الأنبياء الذين تحدّث القرآن عن إرسالهم إلى قومهم ، لا سيّما أولي العزم الذين أرسلوا إلى الناس كافة ـ كما قيل ـ وقد لا ننكر أن هناك رسلا أرسلوا بمهمّة محدودة في الزمان والمكان ، كما نلاحظ ذلك في قصة لوط وشعيب ، ولكنّ هناك أكثر من رسالة وأكثر من رسول لا يتقيّد دورهم بزمن معيّن ، أو مكان معيّن ، فكيف كان التعبير باختصاصها بقوم الرسول؟.

* * *

قوم الرسول هم قاعدة الانطلاق

ربما كان الجواب الأقرب إلى الواقع هو أن قوم النبيّ كانوا يشكلون القاعدة الأولى للرسالة ، والمجتمع الأول للرسول ، فالنبي إنسان ـ ككل إنسان ـ ينشأ في جماعة معينة ، وفي بيئة محدودة ، ولا يملك إمكانيات واسعة للامتداد إلى كل المجتمعات الأخرى ، لعدم توفر الوسائل المادية من إعلامية أو غيرها في تلك المراحل. ولهذا السبب كان لا بد من الأخذ بأسلوب المراحل الذي يهيّئ للرسالة جو الانطلاق التدريجي من مجتمع إلى آخر بطريقة عملية واقعية. ولعلّ من الطبيعي للرسول أن يبدأ من قومه ، باعتبارهم المجتمع الأول للرسالة ، الذي تتناسب ملامح شخصية الرسول مع ملامحه العامّة ، وتتجمّع فيه المعطيات الواقعية للبداية من حيث اللغة التي يتحدث بها ، والعلاقات الحميمة التي تربطه بهم ... وغير ذلك من الأمور التي تساهم

١٥٤

في نجاح الخطوة الأولى. ثم تتحرك الخطوات الأخرى في اتجاه الامتداد والشمول ، وليس هذا بدعا من الأمر ، بل هو قضية كل دعوة إصلاحية أو تغييريّة ، من حيث ارتباطها في نقطة البداية بشخصية الداعية ، وبظروف عمله ، وحركة المجتمع من حوله.

وفي ضوء ذلك ، نعرف أن التركيز على «قوم نوح» ، كان باعتبار أنهم المجتمع الأول الذي يمارس فيه الدعوة إلى الله ، أو القاعدة التي يملك الانطلاق منها ، لعدم توفر الوسائل التي تتيح له التحرك إلى موقع آخر. وربّما كانت البشريّة محصورة في ذلك المجتمع في ذاك التاريخ.

وهناك نقطة أخرى لا بد من ملاحظتها ، في فكرة الشمول والامتداد للرسالات ، وهي أن المفاهيم والتشريعات التي جاءت بها ، لا تقتصر في أهدافها وغاياتها على دائرة معينة من دوائر الحياة ، بل تشمل الحياة كلها في نواحيها النظرية والعملية ، لأنها تتصل بمشكلة الإنسان بشكل عام ، مما يلغي الجانب المحلي للمسألة ، مهما اختلفت التعابير.

* * *

نوح عليه‌السلام ودعوة التوحيد الخالص

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) لأن هذه الأصنام التي تعبدونها لا تمثّل شيئا في حجم القدرة ، أو في معنى القيمة ، فهي مجرد أشياء جامدة لا تحس ولا تضر ولا تنفع ... وهؤلاء الأشخاص الذين تعبدونهم وتطيعونهم من دون الله لا يملكون شيئا ، ولا يخلقون شيئا ، ولكنهم يخلقون ويعيشون الحاجة في كل وجودهم لله ... فكيف تمنحونهم صفة الإله ، أو تعبدونهم من دون الله الذي هو ـ وحده ـ الخالق الرازق المالك لكل شيء ، الغني عن كل شيء ، القادر على كل شيء ، ليس كمثله شيء؟! فهو الذي يستحق العبادة ،

١٥٥

بكل معانيها وآثارها.

إنها دعوة التوحيد الخالص التي أطلقها نوح ، توحيد العبادة على أساس توحيد العقيدة ، فهي الحقيقة التي تتمثّل في وجود الله وفي وجود الكون المستمدّ من وجوده ، للرد على التصوّر المنحرف ، والسلوك الفاسد الذي يمثل تعدد الآلهة تبعا لتعدد الأذواق والأوضاع والميول.

* * *

معنى التأكيد على العبادة دون الإيمان

وقد يتساءل بعض الناس : لماذا قال نوح : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) ولم يقل لهم آمنوا بالله أو وحدوه ، فإن الدعوة للعبادة لا بد أن تكون متفرّعة عن الدعوة للإيمان ، إذ لا عبادة بدون إيمان؟

ونجيب على ذلك أن الإيمان ـ في الرسالات الإلهية ـ لا يمثّل فكرا تجريديا ، كما هو الإيمان بالحقائق الرياضية أو الفلسفية ، بل هو فكر للحياة وللعمل ، لا ينفصل فيه جانب التصور عن الممارسة ؛ فللإيمان بعده العملي إلى جانب بعده النظري ، لأن المطلوب هو الإحساس بوجود الله بالمستوى الذي يعيش فيه الإنسان حالة الارتباط به في أجواء الطاعة ، كما يعيش حالة الارتباط به من خلال حركة الوجود ، في ما تمثله الحقيقة الإيمانية من ارتباط وجود الإنسان بالله لجهة البدء والامتداد والنهاية ... وهكذا نجد الرسالات تطرح قضية العبادة في أجواء طرح قضية التوحيد ، لتؤكد العلاقة الطبيعية بين توحيد العقيدة وتوحيد العبادة ، فلا معنى لأن تؤمن بالله من دون عبادة ، كما لا معنى للعبادة من دون إيمان. ولهذا كان التأكيد على العبادة باعتبار أنها التجسيد الحقيقي للإيمان. ويبقى الإيمان ـ في أسلوب الدعوة ـ قضية لا

١٥٦

تحتاج إلى الاستدلال أو المناقشة ، لأنها من بديهيّات القضايا الفكرية ؛ ولهذا لاحظنا أن النبي نوح قد طرحها كشيء مسلّم به لا مجال للخلاف فيه ، لما يوحي به قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) على ضوء التصور القرآني الذي لا يرى في الكفر مشكلة فكرية تعترض الكافرين لتبعدهم عن خط الإيمان ، بل يرى فيها مشكلة ذاتية نفسية وأخلاقية مصدرها اللّامبالاة ، أو عقدة من الالتزام بالفكر الجديد ... فليس بين الإنسان وبين الإيمان إلا أن يثير الاهتمام في نفسه بالحقيقة ويتخلص من العقدة الذاتية ، لأن ذلك يحطم الحاجز الذي يفصله عن الإيمان ، ويؤمّن له لقاء الحقيقة بطريقة طبيعية.

* * *

لماذا كانت العبادة واجهة الرسالة؟

وقد يرد سؤال ثان : لماذا اكتفى القرآن في حديثه عن رسالة نوح بهذه الكلمة : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)؟ والجواب ، إن معنى العبادة هو الخضوع لله والالتزام بالخط الإلهي الذي جاء به الرسل في ما يتعلق بإقامة العدل المرتكز على النظام التفصيلي الكامل الذي يضع لكل ذي حقّ حقه ، ويثير الحياة في جوّ من الالتزام والانضباط بأوامر الله ونواهيه ... وهذا ما يجعل من الدعوة إلى عبادة الله دعوة إلى بناء الحياة على أساس إسلام الأمر لله في كل شيء ، كما توحي بذلك الآية الكريمة التي تلخص الإيمان في كلمتين: (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠]. في ما تمثله كلمة (رَبُّنَا اللهُ) من المنهج الفكري والعملي للالتزام ، وفي ما تمثله كلمة (ثُمَّ اسْتَقامُوا) من الحركة العملية في هذا الاتجاه.

وربما كان هذا الأسلوب من أفضل الأساليب في تقديم العقيدة بطريقة موجزة موحية ، تحمل في داخلها معنى الشمول والامتداد ، ليعيش الإنسان

١٥٧

التصور الإيماني بعيدا عن المتاهات التفصيلية التحليلية التي قد تضيع عليه الكثير من حقائق الإيمان. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). وهذا هو الأسلوب الإيماني في إثارة الشعور الذاتي بالخوف ، من أجل تحويل ذلك إلى شعور بالاهتمام بالفكرة التي تقدم إليهم ، ليناقشوها ويفكروا فيها من أجل الوصول إلى القناعات اليقينية الحاسمة في المسألة ، لأن الإنسان لا يحس بالمسؤولية في اتخاذ المواقف الفكرية والعملية ، إلا إذا خاف على حياته من النتائج السلبية التي يسببها الإهمال واللامبالاة. وفي ضوء ذلك ، نفهم أن هذا التخويف لا يعتبر سبيلا للضغط من أجل الإقناع ، بل يتخذ وسيلة من أجل إثارة الاهتمام بالفكرة ، للوصول من خلال الحسابات الفكرية إلى القناعة.

ولا بد لنا أن نستعمل هذا الأسلوب القرآني في الدعوة إلى الله ، بعيدا عن كل الأوهام التي تحاول الإيحاء بكونه أسلوبا لا ينسجم مع طبيعة الخط الفكري الذي يحترم في الإنسان إنسانيته ، فلا يلجأ إلى ممارسة الضغوط عليه من أجل إقناعه بما لا يحس بضرورة الاقتناع به ، فإن مثل هذا الأسلوب يؤكد إنسانية الإنسان ، لأنه يسعى إلى تحريك طاقاته من خلال عناصر الإثارة الطبيعية في حياته في ما خلقه الله فيه من غرائز ذاتية ، تساهم في إيصاله إلى غاياته من أقرب طريق.

* * *

نوح في مواجهة الملأ من قومه

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كيف كان ردهم عليه ، هل ناقشوه في طروحاته ، هل وقفوا أمامه وقفة هادئة ليدافعوا عن عقيدتهم ، ولينقضوا دعوته من موقع الفكر الهادىء؟ لم يحدث ذلك كله ، بل كانت المواجهة مزيدا من السباب والشتائم ، فقد قالوا له : إنك ـ في ما تدعو إليه ـ

١٥٨

لا تمثل الإنسان العاقل الواعي الذي يعرف الأشياء من مواقعها الأصيلة ، بل تمثل الإنسان الضائع الذي يتخبّط في متاهات الضلال فلا يميز بين الأمور ، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ لم يكونوا يحملون مقياسا واضحا للهدى والضلال يمكن دراسة الدعوة من خلاله ، بالتالي فلا معنى لاتهاماتهم ، إذ لا معنى لأن تتّهم إنسانا بالضلال ، إذا لم تقدم له المعطيات التي تثبت خطأ الفكرة التي يسير فيها أو يدعو لها.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) فأنا أنادي بالحقيقة الواضحة التي تحمل فكر التوحيد ، ودعوة العبادة للإله الواحد ، من موقع وضوح الرؤية للأشياء ، في ما تفرضه من قناعة مؤكّدة وموقف حاسم ، فإذا كان لكم شك في ذلك ، أو كنتم تعتبرون ذلك خطأ ، فتعالوا نناقش المسألة ، لنعرف من هو على هدى ومن هو في ضلال مبين؟ أما أنا فمقتنع بأن ليس بي ضلالة ، في ما أحمله من فكر ، وما أسير به من طريق (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) في ما حمّلني الله من وحيه وشريعته ، وما أرادني إعلانه من دعوته ؛ فلا بد لكم من الاستجابة لي ، إذا كنتم تريدون الاستجابة لله رب العالمين. (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) بكل أمانة ، من غير زيادة ولا نقصان ، فذلك هو دوري معكم ، دور المبلّغ الأمين ... ولكن دور الرسول ليس دور المبلّغ الحيادي الذي يكتفي بإيصال الرسالة دون أن يتبناها ، بل دور من يحملها بقناعة وقوة وإيمان ، وهذا ما توحي به الكلمة التالية : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) باتّباعها والسير على منهجها في الفكر والعلم لتحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة. وقد يستوحي المتأمل من كلمة «النصح» الجوّ النفسي الحميم الذي كان يعيشه نوح تجاه قومه ، فهو الإنسان الذي يتألم لانحرافهم وضلالهم ، ويفكر في أفضل الطرق لإخراجهم من ذلك الضياع ، فيقدم لهم النصيحة من كل روحه وقلبه ؛ وتلك هي روحية الداعية في مواجهته للناس الذين يدعوهم إلى الله. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فقد أعطاني الله ـ من خلال وحيه ـ كثيرا من العلم في ما يجب على

١٥٩

الناس أن يفعلوه ، أو يحذروا منه ، وما سيواجهون في مستقبل الدنيا والآخرة من خير أو شر على مستوى مصيرهم إذا أطاعوا أو عصوا ... فاتبعون لتحصلوا على ذلك كله لتهتدوا به في ظلمات الطريق.

* * *

مشكلة الرسل والدعاة مع عماة البصيرة

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؟! لماذا تأخذكم الدهشة أو يسيطر عليكم العجب من هذه الدعوة؟! من أين جاءتكم الفكرة التي تقول : إنّ الرسول لا يمكن أن يكون إنسانا مثلنا ، بل يجب أن يكون من الملائكة ، أو من عالم آخر؟! إنّ الله خلق الناس كما يشاء ، واختص بعضهم بصفات لم يعطها لآخرين ، فما المانع من أن يختص بعض الناس برسالته ، لأنه يرى فيهم من الخصائص الروحية والفكرية والعملية ما لا يراه في الآخرين؟! وإذا كان ذلك أمرا معقولا ، فيجب أن تفكروا بأن الله الذي يريد أن ينظّم للناس حياتهم ويبين لهم سبيل هداهم ، لا بد من أن يرسل رسولا منهم لتحقيق هذا الهدف ، لأنه لو كان الرسول من غيرهم ، فسيقول الناس إنه من عالم آخر ، ونحن لا نستطيع بلوغ ما يملكه أهل ذاك العالم من طاقة ، ولا تدل تجربته في أي حقل على إمكان نجاحها كتجربة في حياة الناس ، لأنه من الممكن أن تكون عناصر النجاح منطلقة من الخصائص غير المحدودة لأهل ذلك العالم.

إنه استفهام للإنكار لا للمعرفة ، إنه يريد أن يؤكد لهم الصفة والدور الذي تمثله ، وهو الدعوة إلى التقوى من خلال الإنذار ، من أجل أن يحصلوا على طاعة الله ، فيحصلوا على الرحمة من خلال ذلك كله.

(فَكَذَّبُوهُ) ولم يلتفتوا إليه ، وإلى كل معطيات الفكر الذي قدمه إليهم ،

١٦٠