تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

هذه القضية بهذا الأسلوب ، ليختصروا الحوارين في حوار واحد.

وينطلق عن الله صوت جديد ، ليقول لهم : إن لكلّ منكم ضعفا من العذاب ؛ أما الأولون منكم ، فإنهم ضلوا الطريق وأعانوكم على الضلال ، وأما أنتم ، فإنكم ضللتم وأعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم. (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ، لأنكم لا تعرفون طبيعة العذاب ، لتعرفوا كيف يكون العذاب ضعفا. وتجيب الجماعة الأولى بأسلوب يقرب إلى التهكم والتشفّي : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) إننا سواء في المسؤولية وفي نتائجها ... التي هي جزاء ما كسبناه من انحراف وإجرام.

ويسدل الستار على القصة ، ليبدأ فصل جديد ، يأخذ فيه الإنسان درسا عمليا لمستقبل حياته ، كي لا يواجه يوم القيامة ما واجهه هؤلاء من الذلّ والخزي والعذاب.

* * *

المعطيات العملية للقصة

أما كيف نستوحي هذا الدرس من هذا الموقف الذي يريد الله فيه أن يستبق موعد حدوث النهاية ، فيخبرنا عنها ليجنّبنا تجربة الوقوع فيها دون وعي وانتباه ... أمّا كيف نستوحي هذا كله ، فهذا يتجلّى بنقاط عدة.

١ ـ التأكيد على رفض التبعية في العقيدة ، وفي الممارسة ، وفي الموقف ، وضرورة الاستقلال الذاتي في تحصيل القناعة بما تعتقده النفس ، وما تمارسه وما تتخذه من مواقف ، لأن أي تبرير للتبعية في أيّة زاوية من زوايا

١٢١

العلاقات العامّة والخاصّة ، لا يمنع من تحمّل المسؤولية ومواجهة نتائجها في الدنيا والآخرة.

* * *

العقيدة المنحرفة لا تصنع الوحدة الروحية

٢ ـ إن الارتباط بين الأفراد والجماعات ، على أساس العقيدة المنحرفة أو السلوك المنحرف ، لا يصنع الوحدة الروحية أو الرابطة المصيرية التي تجمع بينهم ، لتدفعهم إلى التضامن والمشاركة في نتائج المسؤولية دون تأفّف أو تذمر ... ولعل السبب في ذلك هو أن الانحراف لا يخضع للفكر والصدق ، بل يخضع ـ غالبا ـ للمصلحة الذاتية وللعلاقات العاطفية ، مما يدفع الإنسان إلى التخلّي عن صاحبه عند أيّة إشارة للخطر الكبير ، أو أيّة صدمة بالمصير السيّئ ، فتكون النتيجة مزيدا من الملاعنة ، أو المزايدة ، في إلقاء كل طرف المسؤولية على الطرف الآخر.

* * *

تحليل الدعاة للمواقف العامّة للناس

٣ ـ أن يعمل الدعاة إلى الله ـ سبحانه ـ على التوسّع في التحليل للمواقف الكثيرة التي تندفع فيها التيارات الإلحادية أو الانحرافية إلى بعض مجتمعاتنا المسلمة ، ليتقبلها الناس بقوة ، بفعل القوة السياسية التي يمثلها دعاتها أو القوة الاقتصادية التي تدعمهم ، أو تحت تأثير القوة العسكرية التي تقاتل من أجل فرضها ، أو بفعل الإغراءات المادية والعاطفية ، أو القوة

١٢٢

العددية ، أو غير ذلك من القوى التي تمثل دوافع تشد الناس إلى تقبل هذا التيّار أو ذاك ، بغض النظر عن فساده أو صلاحه ، فتلك أمور لا يبحث الناس فيها عادة إلا بعد تحصيل القناعة ، لتبرير ما اتّخذوه من موقف وما مارسوه من عمل ، للإيحاء إلى الذات بصوابية ما قاموا به.

ولعلّنا نشعر بقيمة هذا التحليل ، عند ما نتعرّف إلى الواقع الذي يفرض نفسه على المواقف الفكرية والعملية ، من خلال الدوافع والمؤثرات البعيدة عن التأمل والتفكير والحق والباطل ... فنبدأ بعد ذلك في رسم الخطة العملية التي تسعى لوضع الناس وجها لوجه أمام دوافعهم اللاواعية ـ كما يعبّر علماء النفس ـ ثم يربط الموقف بقضية الحرية والكرامة والاستقلالية في الرأي ، أو برواسب الإيمان العميقة ، لاستثارة تلك المشاعر فيهم في حركة التفاف بارعة على فكر الإنسان. ثم الاتجاه إلى استباق المراحل ، بقطع الطريق على تلك التيارات ، وعدم إفساح المجال أمام ما يمكن أن تستفيد منه عمليات الإضلال من أوضاع شاذة ، وذلك بخلق مناعة ذاتية لدى المجتمع ضدها.

وقد يفيدنا في هذا المجال أن نثير ، أمام الناس ، الواقع الذي يعيشونه في ظل الازدواجيّة الفكرية والأخلاقية ، بين ما يعتقدون وما يقلدون ، والتأكيد على الآثار السيّئة المترتبة على ذلك ؛ مما يجعل الإنسان في قلق أو حيرة إزاء انقسام الشخصية وتوزّعها بين دافعين ، يشدها أحدهما إلى الأمام ، ويجرّها الثاني إلى الوراء. وقد نجد في هذه الآيات الكريمة بعض الدروس الرائعة التي تجعل من الموقف موضوعا يرتبط بقضية المصير في الدنيا والآخرة ، لتوحي للإنسان بالابتعاد عن المواقف السريعة وعن السطحية والارتجاليّة والانفعال الذاتي ، لأن مثل هذه المؤثرات قد تكون مقبولة في الحالات الطارئة المحدودة ، ولكنها لن تكون مقبولة في قضايا المصير الذي يهدّد وجود الإنسان في الدنيا والآخرة.

* * *

١٢٣

أبواب السماء مغلقة في وجه المستكبرين

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) وهي كناية عن أبواب رحمة الله ورضوانه ، وقد جاء في مجمع البيان حديث عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام قال : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجين» (١) ، و (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) وهو أمر مستحيل ، إذ كيف يمكن أن يدخل الجمل في ثقب إبرة الخياطة؟! لأنهم لا يملكون الأساس الذي يمكن أن يحقق لهم ذلك. وقد ورد مثل هذا المعنى في إنجيل لوقا الباب ١٨ الجملة ٢٥ و ٣٦ أن عيسى عليه‌السلام قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله ، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله» (٢). ومن الطبيعي أن المراد به الكناية عن صعوبة انضباط الغني في خط الإيمان والتقوى الذي يدخل به إلى ملكوت الله في الجنة ، لأن الغنى يفتح للإنسان أبواب الانحراف على وسعها. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا في حق أنفسهم وفي حقّ ربهم ، ولم يستجيبوا لنداء الحق في الفكر والعمل ، (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) مهّدته ذنوبهم فراشا من النار ، (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) تحجب عنهم الرؤية في ما تثيره من دخان يغشي العيون ويمنعها من الإبصار المفتوح. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم ، وظلموا الحياة من حولهم ، لما أثاروه فيها من كفر وضلال.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٤٦.

(٢) الكتاب المقدس ، إنجيل لوقا ١٨ ، ص : ١٢٩ ، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.

١٢٤

المؤمنون أصحاب الجنة

أمّا المؤمنون فلهم شأن آخر : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بحسب طاقتهم وقدرتهم ، لأنهم لم يستطيعوا أكثر من ذلك ، كما أن الله لا يمكن أن يكلّفهم شيئا فوق ذلك ، فهو يقول سبحانه : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [المؤمنون : ٦٢] أي ما تتسع له قدرتها (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). فقد جعل الله الجنة دارا للنعيم لينعم فيها أولياؤه بنعمته ورضوانه.

* * *

لا غلّ في الجنة

ثم ما مشاعر أهل الجنة ، وما طبيعة العلاقات التي تحكمهم ، وكيف يواجهون هذا الجوّ ، وكيف يفكرون فيه ، وكيف تكون عملية الاستقبال؟ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي حقد. وقد لا يكون المقصود بالنزع أنها كانت مملوءة بالحقد ثم نزعه الله منها ، بل ربما تكون كناية عن عدم وجوده فيها ، كما هو أسلوب التعبير في نسبة الفعل إلى الله ، على أساس أن أدواته منه ، وإن كان اختياره بيد الإنسان. وفي ضوء ذلك ، يمكن أن يكون المراد هو أنهم عاشوا الإيمان الذي يثير مشاعر الطهر والحبّ والرحمة في نفوس المؤمنين ، فلم يبق في نفوسهم أيّ أثر للحقد على مستوى علاقاتهم الأخوية ، فها هم يعيشون في الجنة إخوانا في مرح وغبطة وسرور وشعور بالفرح الروحي ، في ما يواجههم من نعيم يتمثل في هذه المشاهد الطبيعية الحلوة ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ). وبدأوا يشعرون بالحاجة إلى التعبير عن شكرهم لله وحمدهم إياه ، لأنه هو الذي فتح لهم باب الهداية ، في ما أودعه

١٢٥

فيهم من وسائل الهداية ، وما أرسله إليهم من رسل ، أو أنزله عليهم من وحي (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) فهو الذي أرشدنا إلى الجنة ودلنا على السبيل إليها ... (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) بدينه وشريعته. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فقد وعدونا بالجنة إذا سرنا في طريق الخير والطاعة ، وها نحن نرى ذلك في هذا الجوّ الرائع الذي يتحرك بالحق (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلم تحصلوا عليها بالاسترخاء والكسل والتمنيات ، بل حصلتم عليها بالجهد والتعب والعناء ... وذلك هو سبيل الحصول على جنّة الله ورضوانه ولطفه ..

* * *

١٢٦

الآيات

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ (عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ

١٢٧

شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣)

* * *

معاني المفردات

(عِوَجاً) : العوج : العطف عن حال الانتصاب ، وهو يقال في ما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه ، والعوج يقال في ما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة ، وكالدين والمعاش (١).

(حِجابٌ) : الحجاب : الحاجز المانع من الإدراك ، ومنه قيل للضرير : محجوب ، وحاجب الأمير وحاجب العين.

(الْأَعْرافِ) : الأمكنة المرتفعة ، أخذ من عرف الفرس ، ومنه عرف الديك ، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنّه بظهوره أعرف مما انخفض.

(بِسِيماهُمْ) : أي بعلاماتهم. والسّيما العلامة ، وهي فعلى ، من : سام إبله يسومها إذا أرسلها في المرعى معلّمة ، وهي السائمة ، وقيل : إن وزنه عفلى من وسمت فقلبت ، كما قالوا : له جاه في الناس وأصله وجه ... وفيه ثلاث لغات : سيما وسيماء بالقصر والمد وسيمياء على وزن كبرياء (٢).

(تِلْقاءَ) : التلقاء : جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ، ولذلك كان ظرفا من ظروف المكان ، تقول : هو تلقاؤك نحو هو حذاؤك.

(أَبْصارُهُمْ) : جمع بصر ، وهو الحاسّة التي يدرك بها المبصر ، وقد

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٦٣.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٥٢.

١٢٨

يستعمل بمعنى المصدر ، ويقال : له بصر بالأشياء أي علم بها ، وهو بصير بالأمور أي عالم.

(وَنادى) : النداء امتداد الصوت ورفعه ، ونادى نظير دعا ، إلّا أن الدعاء قد يكون بعلامة من غير صوت ولا كلام ولكن بإشارة تنبئ عن معنى يقال ، ولا يكون النداء إلا برفع الصوت.

(خَوْفٌ) : الخوف : توقّع المكروه ، وهو ضد الأمن الذي هو الثقة بانتفاء المكروه.

(أَفِيضُوا) : صبّوا. والإفاضة ـ كما يقول صاحب المجمع ـ إجراء المائع من علوّ(١). قال الراغب : فاض الماء إذا سال منصبّا (٢). وفي التعبير إيحاء إلى علوّ مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكانة أهل النار.

(لَهْواً) : اللهو : طلب صرف الهمّ بما لا يحسن أن يطلب به.

(وَلَعِباً) : اللعب : طلب المرح بما لا يحسن أن يطلب به.

(نَنْساهُمْ) : نتركهم ونهملهم ولا نبالي بهم ، وذلك على سبيل الكناية لاستحالة نسبة النسيان إليه تعالى على سبيل الحقيقة. والمعنى : نعاملهم معاملة المنسي في النار. والجزاء من جنس العمل (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه : ١٢٦].

والنسيان ـ كما يقول الراغب ـ ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه أو عن غفلة (٣).

(يَنْظُرُونَ) : ينتظرون. والانتظار : هو الإقبال على ما يأتي بالتوقع له ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٥٥.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٤٠٣.

(٣) (م. ن) ، ص : ٥١٢.

١٢٩

وأصله الإقبال على الشيء بوجه من الوجوه.

(تَأْوِيلَهُ) : التأويل : ما يؤول إليه حال الشيء ، وهو «من الأول ، أي الرجوع إلى الأصل» ، ـ كما يقول الراغب (١).

(شُفَعاءَ) : الشفاعة : الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في القيامة.

* * *

تحاور أصحاب الجنة وأصحاب والنار

وهناك حوار آخر يدور بين أهل الجنة وأهل النار ، يتدخّل فيه أهل الأعراف ليحاوروا أهل النار بطريقة إنكارية تأنيبيّة. وتنطلق الآيات في هذا الجوّ لتثير أمام الإنسان بعض المفاهيم والمواقف ، وتوضح بعض المظاهر الاستعراضية التي لا زال البعض يمارسونها في الحياة الدنيا ، فينخدع بها بعض البسطاء في أجواء الغفلة والنسيان.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ). الآية توحي أن هناك منطقة يشرف فيها أهل الجنة على أهل النار ، فيرون بعضهم بعضا ، ويسمع أحدهم الآخر ... وربما كان بين هؤلاء وأولئك علاقة معرفة أو قرابة أو جوار في الدنيا ، وربما كان بينهم هناك حوار في قضايا الإيمان والكفر وما يؤدّيان إليه من جنة أو نار. وكان الكفّار ينكرون ذلك كله ويسخرون باليوم الآخر ، بينما كان المؤمنون يؤكدون ذلك ويخوفونهم ويحذرونهم من نتائج أعمالهم ... ومرّت الأيام ،

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢٧.

١٣٠

وها هم يلتقون في الدار الآخرة ، ولكلّ موقعه في الجنة أو النار ، ويطّلع أهل الجنّة على أهل النار ويسألونهم (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) فها نحن نتقلب في نعيم الجنة ورضوان الله ، كما وعدنا الله من خلال رسله ؛ (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) في ما توعّدكم به من عذاب النار جزاء كفركم ، فها أنتم تجدون أنفسكم في النار كما وعدكم رسل الله. وهو سؤال للإنكار أو للتقرير ، لا للاستفهام. (قالُوا نَعَمْ) في خشوع وذلة واستكانة ، (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وقد لا يكون للحديث عن هذا المؤمن باسمه أثر كبير في الأجواء التي تثيرها الآية ، فلا نريد أن ندخل في ما دخل فيه المفسّرون من خلاف حول ذلك ، لأن الظاهر هو التركيز على الفكرة الموحية بإبعاد الله لهؤلاء الظالمين عن رحمته في ما تمثله اللعنة من هذا المعنى.

وتأتي الآية الثانية لتوضح المقصود من هذه الكلمة : (الظَّالِمِينَ) ؛ فليس المراد بها الظلم في الاعتداء على حقوق الناس ، بل المراد بها الاعتداء على حقوق الله في العقيدة الحقة والنهج المستقيم ، مما يعتبر ظلما للنفس من جهة ، وظلما لله من جهة أخرى.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بوسائل الخداع والضغط ، فيبعدونهم عن سبيل الله في العقيدة والعمل ، ويمنعونهم عن السير في هذا الاتجاه ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويريدونها منحرفة تتحرك في اعوجاج وانحراف في ما يثيرونه من شكوك وشبهات ، وما يحركونه من غرائز وشبهات. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ). وهذا هو السرّ في الانحراف الفكري والعملي ، لأن الكفر بالآخرة يبعد الإنسان عن الشعور بالمسؤولية الذي يدفعه إلى تركيز البحث في العقيدة على أساس متين ، ويدفع العمل في اتجاه الصراط المستقيم ، بينما يثير الإيمان بها الحركة الفكرية في اتجاه تصحيح المنهج والمسار والهدف ...

* * *

١٣١

أهل الأعراف

ويهدأ الحوار ريثما يتدخل جماعة آخرون ، وهم أهل الأعراف الذين اختلفت أقوال المفسرين فيهم ، وأبرز ما ورد فيهم قولان ؛ القول الأول : إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة ، ولا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار ؛ فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة والنار ، ثم يدخلهم الجنة برحمته ... القول الثاني : إنهم رجال من أهل المنزلة والكرامة مع اختلاف في تحديد شخصيتهم ، بين من يقول : إنهم الأنبياء ، ومن يقول : إنهم الشهداء على الأعمال ، أو العلماء والفقهاء ... واختلفوا في تحديد الأعراف على أقوال منها إنه شيء مشرف على الفريقين ، ومنها إنه تلّ بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.

وقد يكون في الكثير من هذا الاختلاف لون من ألوان الاجتهاد الذاتي في التفسير ، وربما استند بعضهم إلى بعض الروايات الواردة عن الصحابة والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكنّنا لا نجد كبير فائدة في تحقيق هذا الأمر ، لأن ذلك لا يتعلق بالأجواء العامة للآيات. وربما قادنا التفسير إلى بعض اللمحات الموحية في هذا الاتجاه. (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) فليست الأجواء مكشوفة تماما بين أهل الجنة وأهل والنار ، فهناك ستار يفصل بينهما ، أو سور يحجز أحدهما عن الآخر.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي بعلاماتهم المميزة التي تتمثل فيها أوضاعهم في خط الإيمان أو الكفر ، في ما يفكرون ويعملون ... فيستطيعون ـ من خلال ذلك ـ تمييزهم ومعرفتهم ، ليتحدثوا إليهم حديث المعرفة. (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، فتلك هي التحية التي توجّه إلى أهل الجنة ، في ما توحي به الجنة من معنى السلام الروحي ، على مستوى الأجواء

١٣٢

النفسية الداخلية للإنسان تجاه ربه ، وتجاه كل ما حوله ومن حوله ... وعلى مستوى الأجواء العامة التي تسود آفاق الجنة على مستوى الطبيعة أو الناس ... (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) حاول بعض المفسرين أن يجعل الضمير في هذه الفقرة عائدا إلى أصحاب الجنة الذين كانوا ـ حين النداء ـ خارج الجنة ، فلم يكونوا قد دخلوها بعد ولكنهم يطمعون في دخولها لما يعرفونه من تاريخهم في الدنيا في ما قدّموه أمامهم من أعمال وحسنات ... وفسرها الكثيرون بأنّ المقصود بهؤلاء أصحاب الأعراف ، لأنهم يتحدّثون مع أهل الجنة كفريق مستقلّ لا يشاركهم في الصفة ، وإلا لكانوا منهم ... أما طمعهم في دخول الجنّة ، فلأنهم ليسوا بمستوى السوء الذي يمنعهم من دخولها ، لأنّهم ممن استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، كما يقولون.

وربما كان هذا القول أقرب إلى سياق الآية ، لا سيّما بلحاظ الآية الثانية (* وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) فشاهدوهم واطّلعوا على هول العذاب الذي يلاقونه ، فشعروا بالخوف والرعب فدفعهم ذلك إلى الابتهال والدعاء إلى الله (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرد والعصيان ... يلاحظ أنّ مثل هذا الدعاء ، قد يصدر من أهل المنزلة والكرامة في الدنيا ، حيث يعبّرون عن عظمة الله وخشيتهم منه بذلك ... أما في يوم القيامة ، فلا نجد ما يوحي بذلك ، لأن مجال الأعمال التي يخاف الإنسان من مسئوليتها السلبية ـ حتى بطريق الافتراض ـ قد انتهى بالنسبة إليهم ، فعرفوا أنهم مصدر كرامة الله ؛ بينما يعتبر ذلك أمرا طبيعيا بالنسبة إلى الذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، الذين لا يزالون في خوف من مصيرهم ... ولذلك فهم يعملون على إظهار إخلاصهم لله ، بإخلاصهم لعباده المؤمنين من أهل الجنة ، بإلقاء التحية عليهم ؛ كما يعملون على إبراز خضوعهم له وخوفهم منه والإنكار على أهل النار في حوار مختصر معهم ... مما يؤكد موقفهم القلق الذي يحاول البحث عن أساس للثقة والاطمئنان في أكثر من اتجاه ... إن ذلك كله

١٣٣

يقرّب الوجه الأول في شخصية أصحاب الأعراف ، وتفسير الفقرة المتقدمة في الآية السابقة ...

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) في ما كانوا يكفرون بالله وكانوا بآياته يجحدون ؛ (قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) الذي جمعتموه من مال وجاه (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) على أساس المال الذي تملكونه ، أو الجاه الذي تتقلبون فيه ، في ما يدفعكم إليه الاستكبار من إنكار الحق وظلم أهله ، والتطلع إليهم من موقع العلوّ والرفعة ، كما لو كانوا كمّيات مهملة لا توحي بشيء من الاحترام والاهتمام ، لأن مقياس المستكبرين في تقييمهم للأفكار وللأشخاص ، هو القيم المادية التي تحكم الساحة ، من مال وجاه وامتيازات ، ولكنّ ذلك هو شأن الدنيا من خلال ما تتحرّك به المادّيات في التأثير على حركة الإنسان والحياة ... أمّا شأن الآخرة ، فله مجال آخر ، في ما قدّمه الناس من أعمال صالحة ، وما عاشوه من إيمان وتقوى وصلاح ، ولذلك فإنّ كلّ ما يتركه الإنسان من مال وجاه خلفه في الدنيا ، لا يعني شيئا في عملية التقييم لدى الله ، ولا يغني عنهم شيئا في ما يستحقونه من عذاب وعقاب ، (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) ، لأنكم تعتبرون رحمة الله خاضعة لقيم الدنيا في امتيازاتها التي تصنف الناس تبعا لإمكاناتهم المادّية ومواقعهم الاجتماعية. إن هؤلاء هم الذين يملكون الدرجة العليا في الآخرة ، وهم أهل الكرامة والمنزلة عند الله ، الذين أفاض الله عليهم رحمته ، وأسبغ عليهم نعمته ...

* * *

أصحاب النار يتوسلون أصحاب الجنة

ثم يلتفتون إلى أهل الجنة ، ليقولوا لهم ، بكل محبة وتقدير وتبريك : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وهنا يعود الحديث إلى حوار أهل

١٣٤

الجنة والنار ، فنرى أهل النار وهم يعيشون الجوع والحرمان والعطش والذل والمسكنة ... فيتوسلون إلى أهل الجنة أن يعطوهم شيئا مما رزقهم الله من الماء والطعام وغير ذلك مما يحتاجه الإنسان في استمرار حياته ... (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) ، لأنه قضى عليهم بالعذاب في الدار الآخرة ، وحرمهم من كل نعيمها ، ونحن لا نملك التصرف في ذلك إلا بأمر الله ، ولم يأذن لنا الله بذلك ، لأنكم من الكافرين (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) ، فاعتبرتم الحياة فرصة للهو وللّعب ، وأخضعتم لهما كل برامج الفكر والعمل ، وأطلقتم ـ معهما ـ كل آمالكم ومطامحكم ، حتى تحول اللعب واللهو إلى دين تدينون به وتسيرون عليه ... (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزخارفها ومباهجها ولذائذها وشهواتها ... فأنستهم ذكر الله واليوم الآخر ، وإذا نسي الإنسان ربه ونسي لقاءه في اليوم الآخر ، فإن الله سينساه في ذلك اليوم ، في ما تعبر عنه كلمة «النسيان» بالنسبة إلى الله ، من إهمال كليّ له ، وذلك على سبيل الكناية ، لاستحالة هذه النسبة إليه تعالى على نحو الحقيقة. فإن النسيان يستتبع الإهمال لما ينساه الشخص ، فناسب أن يقوم مقامه في التعبير ...

* * *

الجزاء بالمثل

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) ونهملهم ولا نبالي بهم (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) ، فنسوا مسئوليتهم أمام الله ، وتركوا العمل الجدي في اتجاه المسؤولية ، وعاشوا أجواء اللامبالاة ، وحياة اللهو واللعب ، فذلك جزاؤهم على ما فعلوه (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ). ولم يكن لهم في جحودهم لها من حجة أو برهان ، بل كانت الحجة لله عليهم في ما أرسله من رسله ، وما

١٣٥

أنزله من كتبه ، (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) وبيّنّا فيه تفاصيل كل شيء على أساس من العلم القائم على الدليل والحجة ، لا على الشكّ والريبة ، وجعلناه (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فقد أراده الله كتاب هدى يهتدي به التائهون الذين لا يملكون الوسائل الكافية للحصول على وضوح الرؤية للأشياء أو على تفاصيلها الدقيقة ، فيرون فيه الأشياء على حقيقتها ، فيهتدون إلى أهدافهم الكبيرة بكل سهولة ... وأراده الله كتاب رحمة ، في ما تمثله هذه الكلمة من أجواء ومعان وآفاق ، تثير في نفوس الناس المشاعر الطاهرة الصافية ، وترعى حياتهم بكل الأساليب التي تتحرك من أجل السعادة في الدنيا والآخرة. ولن يحصل على ذلك إلا المؤمنون الذين يحركون كل خطواتهم على الطريق الذي يفتحه الكتاب للناس جميعا ليلتقوا فيه بالله في خط البداية وفي نقطة النهاية.

* * *

التأويل هو الحقيقة الواضحة

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي الكتاب ، في ما تعنيه كلمة «التأويل» من الحقيقة الواضحة التي تكشف عنها الألفاظ في ما ترجع إليه معانيها ، (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة الذي تظهر فيه القضايا على حقيقتها بشكل لا يسمح بأي التباس أو اختلاف ، (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) وأهملوه ، ولم يتعمقوا في معانيه ، ولم يتحركوا في اتجاه تحويلها إلى برنامج عملي لحياتهم وحياة الناس من حولهم ... وحاولوا ـ بدلا من ذلك ـ أن يثيروا الغبار من حوله ، ويشكّكوا فيه ، وينسبوا آياته إلى البشر ، ويعطوه صفة الأسطورة والخرافة ، ويتهجّموا على الرسل الذين حملوه كرسالة إلهية إلى الحياة من أجل تنظيمها ، جهلا منهم أو تجاهلا واستكبارا ... وها هم اليوم أمام الحقيقة البارزة ، التي تهدّم كلّ ما بنوه من أضاليل ، وما أثاروه من أوهام ، يتراجعون عن تكذيبهم وعن

١٣٦

جوّ اللامبالاة الذي كانوا يواجهون به موقف الرسول والرسالة. (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فكيف انحرفنا عنه؟ ولكن ماذا نفعل الآن ، وكيف نحصل على الأمن ، وما طريقة الخروج من المأزق الذي أوقعنا أنفسنا فيه؟

* * *

هل من شفعاء للذين نسوا الله في الدنيا؟

(فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) كما كنا نفعل في الدنيا إذا أخطأنا وواجهنا حساب المسؤولية ، كنا نلجأ إلى الوسطاء الذين تربطنا بهم قرابة أو صداقة أو مصلحة ، فيشفعون لنا لدى أولي الأمر ، ونتخلص بذلك من النتائج السلبية لأعمالنا. فهل هناك وسطاء وشفعاء في الآخرة ليشفعوا لنا ، (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فيعطينا الله فرصة ثانية للعمل ، من أجل أن نصحّح هذا الخطأ ، ونقوّم هذا الانحراف ، ونغيّر المنهج والبرنامج كله ، لتكون حياتنا وفقا لأمر الله ونهيه ، لنحصل من خلال ذلك على رضاه ، فيدخلنا في رحمته ورضوانه؟! ولكن الله يرفض هذه التمنيات ، لأن الشفعاء لا يملكون ذاتيّة التصرف في هذه الأمور ، (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨]. فكيف يشفعون لهؤلاء الذين كفروا بالله وآياته ورسله؟ أما قصة العودة إلى الدنيا ، فقد عالجها القرآن أكثر من مرّة ، وأكّد أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، لأن مثل هذا التمنّي يخضع لمشاعر اللحظة ، فإذا انفصلوا عنها رجعوا إلى أوضاعهم السابقة. وهذا ما جعل الآية تختم الموقف بالإعلان عن خسارتهم لأنفسهم : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) لأنهم لم يحصلوا من كل حياتهم على شيء ـ أيّ شيء ـ ولم تنفعهم افتراءاتهم شيئا من قريب أو من بعيد.

* * *

١٣٧

الآيات

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

* * *

معاني المفردات

(أَيَّامٍ) : جمع يوم ، قال الراغب في المفردات : اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يعبّر به عن مدة من الزمان أيّ مدة كانت (١).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٧٨.

١٣٨

وربما كانت الاستعمالات القرآنية لكلمة «اليوم» تنطلق من المعنى الثاني ، وذلك كما في كلمة «يوم القيامة» الذي يستغرق خمسين ألف سنة كما جاء في (سورة المعارج الآية ٤). وقد أطلق اليوم على المدة الطويلة من الزمن التي تتّصف بعنوان سلبي أو إيجابي في حياة الإنسان. جاء في نهج البلاغة : «الدهر يومان يوم لك ويوم عليك» (١) ، مما يعبر عن الدورة الزمنية التي تستغرق واقع الإنسان في هذه الحالة أو تلك.

وعلى ضوء ذلك ، انطلقت الكلمات التي تعبّر باليوم عن عهد دولة معينة في سيطرتها على الواقع بعد أن تخلفها دولة أخرى في ذلك ، فيقال : لقد سيطرت الجماعة الفلانية يوما وسيطرت الأخرى يوما آخر.

وفي هذا الاتجاه ، يمكن توجيه الحديث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام ـ كما جاء في هذه الآية ـ أمام النظرية العلمية ـ غير القطعية ـ التي تقول : بأن تكوّن الأرض والسماء قد استغرق مليارات السنين على النحو التالي ـ كما ذكره صاحب تفسير الأمثل ـ :

١ ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل ، نتج أن انفصلت منها أجزاء بسبب دورانها حول نفسها ، وتشكّلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.

٢ ـ هذه الكرات قد تحوّلت ـ تدريجيا ـ إلى كتلة من المواد الذائبة المشعّة أو الباردة القابلة للسكنى.

٣ ـ في دورة أخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس.

__________________

(١) نهج البلاغة ، والمعجم المفهرس لألفاظه ، دار التعارف للمطبوعات ، ص : ٣٤٨ ، الكتاب : ٧٢.

١٣٩

٤ ـ في الدورة الرابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة.

٥ ـ ثم ظهرت النباتات والأشجار على الأرض.

٦ ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض (١).

إنّ من الممكن إطلاق كلمة اليوم على الدورات الستة التي تمثلها النظرية العلمية ، ولكننا ـ مع هذا كله ـ لا نستطيع أن نفرض هذا الرأي على الآية القرآنية وأمثالها ، لأنه لم يصل إلى الحقيقة العلمية الحاسمة ، باعتبار انطلاقها من بعض المقدّمات الظنية الاستنتاجية التي يمكن أن تخطئ أو تصيب ، مما لا يمكن إخضاع القرآن له ، لأنه الذي يمثّل الكلمة الإلهية الفاصلة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

(اسْتَوى) : الاستواء ـ لغة ـ استقامة الشيء واعتداله ، والمراد به هنا السيطرة والاستيلاء والملك ، كما يقال : جلس فلان على العرش ، أي سيطر على الملك ، وثل عرشه أي خرجت السيطرة من يده وسقط ملكه ، وهو عبارة عن إحاطة الله الكاملة وسيطرته على الكون وتدبيره له من موقع القدرة المطلقة على جميع مقدّراته ومواقعه.

(الْعَرْشِ) : ـ في اللغة ـ كل شيء له سقف وربما يطلق على السقف نفسه ، كما في قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة : ٢٥٩]. وقد يطلق على سرير الملك وكرسيّه في مجلس الحكم والتدبير ، كما في قوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) [النمل : ٣٨].

أمّا استعماله في «عرش الله» ، فالظاهر أنه كناية عن الكون كله في عالم الوجود الذي يمثل الملك المطلق لله في كل شيء موجود.

__________________

(١) تفسير الأمثل ، ج : ٥ ، ص : ٦٧.

١٤٠