تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

(لَمْ يَغْنَوْا) : غني بالمكان : أقام فيه وكأنه استغنى بذلك المكان عن غيره.

(آسى) : أحزن كثيرا.

* * *

شعيب وقومه

وهذا نبيّ آخر أرسله الله إلى قومه لهدايتهم ومعالجة بعض الانحرافات الاقتصادية في تجارتهم مع الناس ، التي كانت تتمثل بالتطفيف في المكيال والميزان ، فيأخذون لأنفسهم ما يستحقّونه ، ويعطون الناس أقل مما يستحقون. وننفتح في قصة شعيب وحوارة مع قومه على موقف أكثر قوة من موقف لوط ، فقد كانت لشعيب عشيرة قوية يحسب لها حساب ، وهذا ما جعل أسلوبه ـ في خطابه لقومه ـ يتّصف بالقوّة التي لا تبتعد عن الجوّ الرسالي الوديع الذي يحاول ـ من خلاله ـ أن يجرّهم إلى دعوته بالأسلوب الهادىء الليّن. ونلاحظ ـ في هذا الحوار ـ أنه استطاع أن يجلب إلى دعوته الجماعات المضطهدة والمستضعفة من قومه ، ليواجه الجماعات الغنيّة المستكبرة. وربما يكون هذا منطلقا من طبيعة الدعوة التي دعا إليها ، والمفاهيم التي بشر بها ، فإن التطفيف نوع من أنواع الاستغلال الاقتصادي الذي يتميّز به الأغنياء المستكبرون ، حيث يعيشون مشاعر الأنانية وسلوكها ، ممّا يجعلهم يفكّرون بالاستغلال عند ما يشترون فيأخذون الزيادة لأنفسهم ، ويفكّرون به عند ما يبيعون ، فيستغلون حاجة الآخرين إليهم لينقصوا من حقّهم بما يشاءون.

ونحاول الآن الدخول في أجواء هذا الحوار القصصي القرآني ، لنتمثل حركة الرسالة في حياة هذا النبي المصلح مع خصوم الرسالة والرسول.

* * *

١٨١

الحق والإصلاح هما أساس كل خير

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فذلك هو السبيل لاستقامة المنهج في الحياة وارتكازه على قاعدة ثابتة في النفس وفي الحياة. (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في ما أوضحه الله لكم من دلائل قدرته ومظاهر عظمته وصدق رسوله ، (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) واجعلوه تاما من دون زيادة ولا نقصان ، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) فتنقصوهم حقّهم وتحرموهم منه ، (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فقد أرادها الله ساحة للتوازن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على كل صعيد ، بما يجعل من الإخلال به إفسادا للأرض ، بعد أن أصلحها الله في الخط التكويني للوجود ، وفي الخطّ الفكري للعقيدة والتشريع ، وهذا ما يؤكّد شموليّة التخطيط الإلهي لحركة الإنسان في الحياة منذ القدم في ما يتطلّع إليه الدين من إقامة الكون على أساس الإصلاح في كل شيء (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فإن ذلك هو سبيل الفلاح في الدنيا ، لأنه يصلح أمر الفرد والمجتمع في القضايا العامة والخاصة ، وفي الآخرة ، لأنه يؤدّي إلى الحصول على رضا الله في نطاق السير على الخط الإيماني الذي يضمن ذلك كله.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) فقد كانوا يرصدون المؤمنين ويراقبونهم في كل طريق من طرق الاستقامة التي ينطلقون فيها على أساس الخط الفكري والعملي للإيمان ، ليتوعّدوهم ويتهدّدوهم فيسدّوا عليهم كل الأبواب والمنافذ ، ليعطلوا مسيرتهم ويجمّدوا انطلاقتهم ، من خلال الضغوط المتنوّعة التي تمنع المؤمنين من ممارسة حريتهم في الفكر والعمل ... وهذا ما أراد

١٨٢

شعيب أن يحذّر منه ، فيهيب بقومه أن لا يحرموا المؤمنين من حريتهم ، كما لا يريدون هم أن يحرمهم الآخرون من هذه الحرية ، وأن لا ينحرفوا بالطريق عن الخط المستقيم ، لتتحرك في الاتجاه المعوج ، لأن ذلك يبعدهم عن الاتجاه السليم الذي ينقذ حياتهم وحياة الآخرين.

* * *

شعيب في موقع التذكير والتحذير لقومه

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) في ما أفاض الله عليكم من نعمه ، حيث جعل منكم قوة بعد أن كنتم في مواقع الضعف ، من خلال موازين الكثرة والقلة ، فقد تنفع الذكرى ، فتوحي إليكم بأن الذي أعطاكم نعمة القوة بالكثرة ، قادر على أن يسلبكم ذلك بالقلّة ، فلا بد من شكر هذه النعمة ، بالسير على ما يريده الله منكم.

(وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الذين استغلّوا نعم الله في إفساد البلاد والعباد ، فأهلكهم الله بذنوبهم بعد أن ظنوا أن الحياة قد فتحت لهم ذراعيها ، ومنحتهم كل شيء ، واغتروا بكثرتهم وقوّتهم ، ولكن قضايا المصير ترتبط بنهايات الأمور لا ببداياتها ... فانظروا كيف كانت عاقبتهم السيئة ، وكيف تحوّل كل ذلك الجوّ المملوء بالكبرياء والخيلاء إلى جوّ مليء بالحقارة والذلّة والبلاء ...

* * *

١٨٣

الأساليب السلبية لا تحل الخلافات الفكرية

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا) ولا تتعقّدوا ، ولا تتحركوا في أجواء العداوة والبغضاء ، لتخلقوا من واقع الخلاف الفكري مشكلة اجتماعية في مستوى الخصام والقتال ، فذلك هو الوضع الطبيعيّ للحياة الإنسانية ، في ما يطرح عليها من أفكار ، فيختلف الناس فيها بين مؤيّد ورافض. ولا بدّ لهم من الصبر على نوازعهم الذاتية كلها ، ليجعلوا من اختلافهم أساسا لإغناء الفكر وتنمية التجربة ، عند ما تتحوّل الخلافات إلى حركة فكرية من أجل الحوار ، والى تحريك للخطوات المسؤولة من أجل الوحدة أو التقارب على أساس التفاهم المشترك ، ومن أجل المصير الواحد ، في حين أن اللجوء إلى الأساليب السلبيّة العنيفة لا يحل لهم مشكلة الفكر بل يعقّدها ، لأنه يغلق على الفكر أبواب الانطلاق إلى الآفاق البعيدة ، ويعطّل حركته عن التأمّل والتعمّق في هذه القضايا المتنوّعة ، ويحوّله إلى طاقة جامدة لا تعطي شيئا ، ولا تساهم في الوصول إلى حلّ.

وإذا كانت هذه الأساليب لا تحلّ للفكر مشكلته ، فإنها لا تكتفي بذلك ، بل تضيف للناس مشاكل جديدة ، على مستوى الحياة العامة والخاصة ، وهكذا تتنامى روح الحقد والبغضاء ، لتكون النتيجة مزيدا من الدمار والهلاك والفساد ... وهذا ما جعل الأنبياء يبادرون إلى طرح الأساليب الهادئة العاقلة الموحية في حل النزاعات والخلافات الفكرية والحياتية ، ويوجهون الناس إلى اعتماد الصبر كطاقة إنسانية تمنح الإنسان القوّة للتغلّب على العوامل السلبية الداخلية التي تثيرها النوازع الذاتية ، ليستطيع ـ بذلك ـ النظر إلى الأمور بموضوعيّة ووضوح ، فيعرف طبيعة المشكلة من خلال عناصرها الحقيقية ، ليواجه مسألة الحل بعقل منفتح مستنير. ولهذا كان شعيب يطلب من قومه

١٨٤

التحلي بالصبر على هذا الاختلاف في المواقف ما بين الإيمان بالرسالة والكفر بها. (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) في الدنيا ، بما يظهره من الحق لنا في ما نعتقده وندعو إليه من خلال ما نخوضه معكم من أساليب الحوار إذا وافقتم على الدخول معنا في أجواء الحوار ، وفي الآخرة حين يقوم الناس لرب العالمين حيث يعرف المحقّ من المبطل ، والمصيب من المخطئ ... ويحكم الله بذلك وهو خير الحاكمين.

* * *

منطق الاستعلاء في مواجهة منطق العقل والحوار

(* قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) إنه المنطق الذي لا يحاور ولا يناقش ، لأنه لا يملك أدوات الحوار وروحيته ، بل يملك أدوات القوة ، فهو يتهدّد ويتوعّد ، فليس هناك مجال للتفاهم ، لأن التفاهم يهزم المبطلين الذين لا يملكون حجّة ، ولا يرجعون في قناعاتهم إلى أساس ، وبذلك فإنهم يعيشون الشعور بالضعف أمام دعوة الحوار والتفاهم ، فيحاولون تغطية ذلك بأساليب التهديد والوعيد. (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) هل القضية قضيّة إكراه وإجبار؟ إن الإنسان قد ينجح في إجبار إنسان آخر على عمل ما أو علاقة ما بالقوة ، بامتلاكه لوسائل الضغط المادي التي تمكنه من ذلك ، ولكنه لن ينجح في إكراهه على أن يعتقد بما لا يقتنع به ، لأنّ العقيدة لا تخضع لإكراه وإجبار. وهذا ما يدفعنا إلى الإعلان بأننا نكره هذا الاتجاه الذي تنطلقون فيه ، ولا نؤمن بشيء من طروحاته ...

* * *

١٨٥

ثبات شعيب في مواجهة قومه

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) إننا لا نجد في ملّتكم أساسا من الحقّ ، سواء في عبادتكم للأصنام ، أو في صدّكم عن سبيل الله ، أو في إظهاركم الفساد في الأرض ، أو في انحرافكم عن العدل في علاقاتكم ومعاملاتكم ... وقد نجانا الله منها بما هدانا لدينه ، وبما عرّفنا من ضلال ما خالفه ومن خالفه ؛ فكيف نرجع إلى خط الضلال ، وهل هذا إلا الافتراء على الله بالكذب ؛ بأن ننسب إليه ما تنسبونه إليه من شركاء دون علم ولا هدى ولا كتاب مبين. (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) وكيف يعود إلى الظلام من عاش إشراقة النور في قلبه وفي وجدانه؟! إننا لن نعود مهما كانت الضغوط والتحديات ، ومهما كانت الأوضاع السلبية المحيطة بنا. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن نعود فيها ولن يشاء الله لنا ذلك ، لأنه لا يمكن أن يأمر عباده بالضلال إذا كانت المشيئة بالاختيار ، ولا يجبرهم عليه ، إذا كانت المشيئة بالقهر ، ولكنه أسلوب التأدّب مع الله بإظهار الاستسلام له والخضوع لمشيئته.

(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو يعلم سرّنا وعلانيتنا ، وإخلاصنا له ، وجهدنا في سبيله ، كما يعلم طغيانكم وتمرّدكم وظلمكم لنا ... (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) فهو مصدر القوّة ، ومنه قوة كل شيء ، ولا يملك معه أحد أي شيء من القوّة. ونحن نتوكل عليه ونلجأ إلى حصنه ، ليحمينا منكم ومن كل قوّة غاشمة ظالمة.

وتابعوا مسيرتهم بكل قوّة وإيمان ، وشعروا في الطريق ـ وهم يعلنون التوكل على الله الذي وسع كل شيء علما ـ بالخشوع يهيمن على مشاعرهم ، ويفيض على أرواحهم ، فتوجّهوا إليه في أجواء روحانية ، تفصلهم عن قومهم ، وعن كل هذه الأحاديث الاستعراضية التي سمعوها منهم في ابتهال وإيمان

١٨٦

وإخلاص : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) فهم لم يتعقّدوا من كل أساليب قومهم ، ولم يبادروا بالدعاء عليهم ، بل ابتهلوا إلى الله أن يفتح بينهم وبين قومهم ، ويردم الهوّة الواسعة فيما بينهم بالحق ، لأنهم لا يريدون للعلاقات الإنسانية أن تخضع للتسويات وفق حساب الباطل ، بل يريدونها أن ترتكز على حساب الحق. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) لأنك تعرف كل ما يصلح أمور خلقك في ما يتّفقون فيه أو يختلفون.

* * *

الله ينصر شعيب ومن معه

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وهم يلتفتون إلى قوم شعيب ليجرّبوا أن يهزموهم نفسيا بأساليب التخويف من النتائج السلبية والعواقب الوخيمة : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ، لأن شعيبا لا يملك الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل من الارتباط به أو اتّباعه مسألة مربحة ، بل على العكس من ذلك ، فإن دعوته تعزل أتباعه عن الفعاليات التي تملك القوة والجاه والمال ، وتمنعهم من الحصول على الامتيازات المتنوعة والفرص الجيّدة الموجودة عندهم ، فيخسرون ذلك كله من دون مقابل ، لأن شعيبا لا يمثل شيئا ـ أيّ شيء ـ. وكان هذا الإنذار الأخير الذي وجّهوه إليهم ، فما ذا كانت النتيجة؟ لقد انقلب السحر على الساحر ، وأصبح من كذبوا شعيبا هم الذين خسروا الدنيا والآخرة ، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) لا يملكون حراكا ، فقد أحاط بهم الموت من كل جانب. (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) فلم ينفعوا أنفسهم شيئا ، وذهب كل جهدهم هباء في هباء. (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ). أمّا هؤلاء الذين آمنوا بشعيب فهم الرابحون المفلحون ، لأنهم حصلوا على طمأنينة الروح في الدنيا وعلى رضوان

١٨٧

الله في الآخرة.

* * *

لا أسف على الكافرين

ووقف شعيب أمام هذا المشهد الرهيب ، مشهد هؤلاء الذين كذّبوه وأرادوا أن يطردوه ، وهم جاثمون في دارهم ، فلم يكن ردّ فعله التشفّي أو الشماتة ، بل الأسف على هؤلاء القوم الذين أوصلوا أنفسهم إلى هذه النتيجة الخاسرة ، لأنهم لم ينفتحوا على الله من موقع الإيمان. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) ، فلم أدّخر أيّ جهد في إبلاغ الرسالات وفي تقديم النصائح ، ولكنكم لم تستجيبوا لي ، ولم تفكّروا في ذلك كله ، فاستسلمتم للكفر والجحود والعصيان (فَكَيْفَ آسى) وأحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) ، لأنني أعيش في مشاعري روح الإيمان بالله؟! وفي هذا الجوّ ، لا بد للمؤمن من أن يتعاطف مع من يحبّون الله ويحملون مسئولية الحياة بمناهج الحق ، أمّا من يحبّون أنفسهم ويتمرّدون على الله ، ويملأون الحياة كفرا وضلالا وانحرافا ، فلا مجال للأسف عليهم ، لأنهم اختاروا طريق الضلال والهلاك بملء إرادتهم واختيارهم ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

* * *

١٨٨

الآيتان

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩٥)

* * *

معاني المفردات

(بِالْبَأْساءِ) : بالشدّة.

(وَالضَّرَّاءِ) : ما يضرّ الإنسان مادّيا أو أدبيا.

(يَضَّرَّعُونَ) : يخضعون.

(عَفَوْا) : العفو : الترك.

(بَغْتَةً) : فجأة ، وهي الأخذ على غرّة من غير تقدمة تؤذن بالنّازلة.

* * *

١٨٩

سنّة الله في أهل القرى

وتلك هي سنة الله في الجماعات التي يعيش بينهم الأنبياء ، فإنّ الله يهيّئ لهم الأجواء التي تفتح قلوبهم عليه ، وترجعهم إليه ، فقد يمرّ زمن طويل يعيش فيه الناس الشدائد والأهوال والعوامل المضرّة بأبدانهم وأموالهم تحت ضغط الظروف القاسية التي تتحرك أسبابها بإرادة الله ، ليلجأوا إليه ، وليتضرّعوا فيطلبوا منه الخلاص ، ليتحقّق من خلال ذلك الانفتاح على الإيمان وعلى خطّ الرسالات ، ثم يبدّل الله الشدة بالرخاء ، والسيئة بالحسنة ، والضرّاء بالسرّاء ، حتى يستسلم الناس في إغفاءة الغفلة لحالة الاسترخاء المريح ، فيعودون إلى شهواتهم ولذاتهم يعبّون منها ما يشاءون ، بعيدا عن كل مسئوليّة ، وعند ما تذكرهم بالتاريخ القريب الذي عاشوا فيه الآلام وواجهوا فيه الأهوال ، يبتعدون عن وحي العبرة فيه وحركة الموعظة في مضمونه ، ليقولوا إنها سنّة الطبيعة ، وحركة الحياة ، من دون أن يكون للغيب دخل فيه ؛ فقد عاش آباؤنا الجو نفسه الذي نعيشه ، فمستهم الضرّاء ، حينا والسرّاء حينا آخر ، وتلك هي طبيعة الحياة ، فلما ذا نحمّلها أكثر مما تتحمل ، ونحاول أن ننفذ منها إلى أجواء الغيب وقضايا الكفر والإيمان ، فليس للغيب أي دخل في ذلك من قريب أو من بعيد؟!

ولكن الله لا يغفر لهم هذا المنطق ، فقد يكون صحيحا أن قضية الشدّة والرخاء هي من سنة الحياة ، ولكنها السنّة التي خلقها الله في نطاق الكون ، ليسير على قاعدة ثابتة حكيمة. وقد يهيّئ الله الظروف التي تثيرها سننه ، من أجل أن يثير وضعا معيّنا هنا ووضعا معيّنا هناك ، ليكون ذلك امتحانا للإنسان في أجواء الإيمان والكفر ، وليتحرّك الإنسان وقت الضيق ليبتهل إلى الله في رفع ذلك عنه ، وليشعر ـ بعد الفرج ـ بنعمة الله عليه ، ليكون الله هو الأساس

١٩٠

في حالتي البلاء والعافية ، ليشكر ولا يكفر. ولهذا فقد غضب الله على هؤلاء ، لأنهم استكبروا على الله ، واستخفّوا بالأنبياء ، وكذّبوا الرسالات ، فأخذهم الله فجأة بشكل غير متوقع ، وهم لا يشعرون.

وهذا ما ينبغي للإنسان أن يلتفت إليه ، فيأخذ من كل ظاهرة من ظواهر الحياة التي تمرّ به من بلاء وعافية درسا ينفتح به على الله ، فيعيش معه حالة التضرّع والابتهال والدعاء ، ويعيش في مجال آخر حالة الشكر والطاعة والرضى ، فيبقى مع الله في كل شيء ، في جميع الظروف والأحوال ، لأنّ ذلك هو المعنى العميق للإيمان في نفسه ، في ما يتحرك به الإيمان من مشاعر ومواقف في حياة الإنسان.

* * *

١٩١

الآيات

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠)

* * *

معاني المفردات

(بَرَكاتٍ) : خيرات كثيرة ونامية.

(بَأْسُنا) : عذابنا.

(بَياتاً) : وقت مبيتهم ، وهو الليل.

١٩٢

(ضُحًى) : وقت انبساط الشمس.

* * *

التقوى مفتاح بركات السماوات والأرض

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) فانفتحوا على الله في مشاعرهم وأفكارهم ، وانفتحوا على الحياة بتطلّعاتهم وغاياتهم ، وانطلقوا مع الناس الآخرين في علاقاتهم ومعاملاتهم ، وعرفوا الإيمان كمنهج للفكر والعمل ، والتزموا بالخطّ المستقيم الذي يريده الله ويرضاه ويرضى عمّن سار عليه في ما تعطيه التقوى من معنى الانضباط والالتزام. (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في ما يثيره الإيمان ، وتتحرك به التقوى من البركات في انطلاقة الخير من فكر الإنسان وروحه وعمله ، فتنمو الطاقات ، وتتحرّك بالعطاء ، وتنطلق بالخير ، وتتحول الحياة ـ من خلال ذلك ـ إلى حركة مسئولة في اتجاه الصلاح والإصلاح ، وبذلك تتحرك بركات الأرض والسماء إلى نهر يتدفّق بكل ما يصلح الحياة والإنسان ؛ لأن الإيمان والتقوى يعمّقان في الذات معنى المسؤولية التي تبتعد عن العبث والفساد والأنانية ، فلا يبقى هناك إلا ما ينفع الناس ، وبذلك تكون علاقة الإيمان والتقوى بالبركات علاقة ترتبط بينابيع الخير التي يفجّرها عقل الإنسان وروحه وإرادته ، في حركة المواقف والعلاقات والأعمال في الحياة. ويبقى للغيب دوره في هذا كله ، فلله ألطاف خفيّة من حيث لا نعرف ، وله أرزاق ونعم كثيرة يغدقها علينا من حيث لا نشعر. وهي أمور لا تخضع لما نعرفه من قوانين الحياة العادية ، بل هي غيب ننتظره كلما أحسسنا بالرضى من الله ينساب في أعماقنا لطفا وبركة وإيمانا.

(وَلكِنْ كَذَّبُوا) وابتعدوا عن خطّ الخير والصلاح ، وارتبطوا بالخطّ الشيطانيّ الذي يوحي بالشرّ والفساد ، وتحوّلت الحياة عندهم إلى فرصة للهو

١٩٣

والعبث والاسترخاء في أجواء الكسل والراحة ، فانفصلوا ـ بذلك ـ عن أجواء المسؤولية المنفتحة على رضى الله ، فكان من نتائج ذلك أن ابتعد الناس عن الآفاق التي توحي لهم بروح الحق والعدل والسلام ، فحقّ عليهم غضب الله وعذابه ، (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) في ما يستحقونه من عقاب الله ، بسبب عصيانهم أوامره ونواهيه ، وفي ما تنتجه أعمالهم ومواقفهم من نتائج سلبيّة على الأوضاع العامّة في حياتهم ، على أساس ارتباط النتائج بمقدّماتها الطبيعيّة. وبهذا نفهم ارتباط الأخذ الإلهي بالكسب السلبي للإنسان ـ في مواقف المعصية ـ بجانب الاستحقاق من جهة ، وبطبيعة الأشياء من جهة أخرى ، فيلتقي فيه الجانب الغيبي بالجانب المادّي من الحياة.

* * *

لا مأمن للخاسرين من مكر الله

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) وهو وقت المبيت في الليل (وَهُمْ نائِمُونَ) كيف ينامون في إحساس بالطمأنينة والأمن ، وهم يعرفون أنّ الله قد ينزل عذابه في أيّ وقت من الأوقات كما حدث لجماعات أخرى من أمثالهم في الماضي؟ (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)؟ فكيف يستسلمون للّعب في وقت الضحى ، ولا يخافون أن ينزل عليهم عذابه في ذلك الوقت؟ أيّ أساس للأمن هنا وهناك ، في ما يشعر به هؤلاء الذين واجهوا الله بالكفر والتمرد والمعصية؟

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) في ما يدبّره ويقضيه ويقدّره ضدّ هؤلاء الذين عاشوا الكبرياء والخيلاء والشعور بالقدرة المطلقة في ما يمكرون ويخططون من خطط الاحتيال ، وكيف يغفلون عن إحاطة الله بهم من كل جانب ، ويأمنون مكره؟ (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين لا يعيشون الخوف منه ،

١٩٤

ولا يستعدّون للتراجع عن المواقف التي تثير ذلك كله ، فيخسرون دنياهم وآخرتهم. (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أفلم يتبين لهم من خلال دراستهم تاريخ الأمم التي سبقتهم ، وذاقت نتائج أعمالها وذنوبها ، (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كما أصبنا أولئك في ما أنزلناه عليهم من العذاب بسبب ذنوبهم؟! ولكن الإنسان الذي يستسلم لشهواته وملذاته ، ويستغرق في دائرة مصالحه الذاتية ، ويعيش الحياة كفرصة للهو والعبث والاسترخاء ، وينسى دوره في الحياة كإنسان مسئول ، سوف يعيش الغفلة التي تغلق قلبه وعقله وحياته عن الله ، وبذلك تتحوّل كلها إلى مناطق لا تدخلها موعظة ، ولا تحركها نصيحة. (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فنختم عليها من خلال ما فعلوه ، (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).

* * *

١٩٥

الآيتان

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

* * *

معاني المفردات

(نَقُصُّ عَلَيْكَ) : نتلو عليك.

(أَنْبائِها) : النبأ : الخبر عن أمر عظيم الشأن ، ولذلك أخذ منه اسم.

* * *

١٩٦

لا عهد للكافرين

وهكذا يختم الله هذا الفصل الذي حدثنا فيه عن هؤلاء الأقوام الذين قصّ علينا أمرهم ، فقد كانوا قوما ضالّين ، يعبدون الأصنام ويشركون بالله غيره ، ويكذبون بكل الحقائق الدينية ، وأرسل الله إليهم رسله بالبينات ، فصمّوا آذانهم عن الاستماع إليهم ، وأغلقوا قلوبهم عن التفكير والإيمان ، لأنهم لا يريدون أن تتغيّر حياتهم الفكرية والعملية عما درجوا عليه من عقائد آبائهم وأجدادهم وتقاليدهم ، وهذا هو السبب في انغلاق القلب عن الحقّ ، لأن توجهات الإنسان وتطلعاته هي التي تفتح قلبه وتغلقه ، في ما جعله الله من أسباب في خلق الإنسان ، وهذا ما أثاره الله في قوله : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) من حقائق الإيمان (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) برسله وآياته.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) ، لأن الإنسان الذي لا يؤمن بالله ، كما ينبغي للإيمان أن يكون ، لا يشعر بما يلزمه بالمواثيق ، فهو لا يعطي ميثاقا لأحد يقيّده في حياته ، وإذا أعطى مثل هذا الميثاق لمصلحة شخصية أو هوى ذاتيّ ، فإنه لا يجد أساسا روحيا للالتزام به ، إذا لم يكن هناك ضغط ماديّ يلزمه بذلك ، فعهد الإيمان بين الإنسان وربّه ، هو الذي يجعل من الإنسان إنسانا ملتزما يحفظ للناس عهودهم. (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) منحرفين عن خط الهدى والإيمان ، وذلك هو شأن الأكثرية التي اتّبعت أهواءها. أما المخلصون الذين وقفوا ضدّ التيّار ـ تيّار الكفر والشهوات والضلال ـ فهؤلاء هم الأقليّة التي عرفت الحق فآمنت به ، وعرفت الرسول فصدّقته واتّبعته وسارت معه.

* * *

١٩٧

الآيات

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (١١٢)

* * *

معاني المفردات

(بَعَثْنا) : أرسلنا.

(فَظَلَمُوا بِها) : جحدوا بها.

١٩٨

(حَقِيقٌ) : جدير.

(ثُعْبانٌ) : حيّة ضخمة طويلة. قال الفراء : الثعبان أعظم الحيّات وهو الذكر (١).

(وَنَزَعَ) الشيء : أخرجه من مكانه.

(لَساحِرٌ) ؛ السحر : لطف الحيلة في إظهار أعجوبة توهم المعجزة.

وقال الأزهري : السحر صرف الشّيء عن حقيقته إلى غيره ، وأصل السحر خفاء الأمر (٢).

(أَرْجِهْ) ؛ أرجأ الشيء : أخّره وأجّله.

(الْمَدائِنِ) : جمع مدينة.

* * *

موسى وفرعون

وجاء موسى ليواجه الطغيان والجبروت ، الذي يمثّله فرعون الذي كان يرى في ذاته شيئا من سرّ الألوهية التي توحي بالقدرة ، وتدعو إلى العبادة ، وتدفع إلى السيطرة ، ولم يكن شأن موسى كشأن نوح وهود وصالح وشعيب ولوط في إرساله إلى قومه ، فلم تكن لديه مشكلة صراع مع قومه في البداية ، بل كان صراعه القويّ مع فرعون وجماعته من الأشراف ، الذين كانوا يمثلون الطبقة العليا في المجتمع ، ويشعرون بأن وجودهم في ما يملكون من مواقع وامتيازات مرتبط بوجود فرعون وسلطته ، ولهذا كانوا يدعمونه ويتزلّفون إليه. وكانت بعض مشاكله مع فرعون أن يرفع يده عن قومه ، فلا يستعبدهم

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٧٠٢.

(٢) (م. ن) ، ج : ٤ ، ٧٠٧.

١٩٩

ويضطهدهم ويسخّرهم في الأعمال الشاقة لمصالحه ، بدون أجر أو بأقل قدر ممكن منه مقابل ما يبذلونه من جهد ، فيدعوه إلى أن يتركهم وشأنهم ليمارسوا حريتهم في ما يريدون وما لا يريدون. وكان الموقف موقف التحدي القويّ الذي واجه به موسى فرعون ، وكان ردّ التحدّي ـ في بداية الأمر ـ ضعيفا في موقف فرعون ، وقد يكون ذلك ناشئا من الإحراج الذي واجهه أمام آيات الله. ثم تطوّرت الأمور بينهما ، وتعقّدت الأوضاع ، وتصاعدت المواجهة بالمجابهة ، وأنزل الله البلاء على فرعون وقومه ... وكانت النهاية لمصلحة موسى في نهاية المطاف ، كما نرى ذلك من خلال متابعة آيات السورة.

* * *

جحود فرعون لآيات الله تعالى

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) ـ والضمير يعود إلى الأنبياء الخمسة الذين تقدم ذكرهم ـ (مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ، وهم الجماعة التي كانت تشاركه في الحكم ، وتدعمه في السلطة من الطغاة الصغار الذين كانوا يشكّلون طبقة السادة والأشراف في المجتمع ، (فَظَلَمُوا بِها) وجحدوها وكفروا بها ... وذلك هو مظهر الظلم في قضايا العقيدة والكفر ، في ما يظلم الإنسان به نفسه وربّه ، والحقّ الذي يقدّم إليه ... وامتد بهم الظلم والطغيان حتى لاقوا جزاء ظلمهم وطغيانهم في ما أنزله الله عليهم من العذاب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الذين ملأوا الأرض فسادا ، واعتبر بذلك في ما تريد وما لا تريد ، وهذه هي بداية القصة في المواجهة الأولى.

* * *

٢٠٠