تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

بل كان دورهم دور التكذيب القائم على العقدة المستعصية. وقد حدثنا الله في آيات أخرى ، أنهم كانوا يسخرون منه ، وأنهم أصمّوا أسماعهم ، وأغمضوا عيونهم ، وجمّدوا عقولهم ، ولا حقوه بحقدهم وبغيهم ... (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) ليبدأوا المسيرة الإنسانية الجديدة ، بروح حيّة فاعلة ، وإرادة مؤمنة واعية (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان الذي لم يترك موضعا لهم إلا واقتحمه وأغرقه ، حتى أعالي الجبال ، ليغرقوا جميعا. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) ، فقد كانوا يعيشون في ظلمة دامسة من أطماعهم وشهواتهم ، بحيث غطّت على رؤيتهم الواعية للأشياء. وهذا ما عبرت عنه الآية بالعمى المراد منه عمى الفكر والقلب والشعور لا عمى البصر. وتلك هي مشكلة الفكر والضلال في حياة الكافرين والضالّين ، فهم لا يفتحون عقولهم على الحق ، ولا يحركون أفكارهم في اتجاه معرفة الحقيقة ... وتلك هي قصّتنا الطويلة في مسيرة الدعوة إلى الله.

* * *

١٦١

الآيات

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢)

* * *

١٦٢

معاني المفردات

(سَفاهَةٍ) : خفة الحلم ، قال مؤرج : السفاهة : الجنون بلغة حمير (١).

(بَصْطَةً) : طولا وقوة.

(آلاءَ) : نعم.

(وَنَذَرَ) : نترك وندع.

(رِجْسٌ) : عذاب ، وقيل الرجس : الرجز.

(دابِرَ) : عقب ، نسل ، ذرية.

* * *

هود ـ بعد نوح ـ نبيّ لقومه

وهذه قصة نبيّ آخر أرسله الله إلى قومه ـ بعد نوح ـ وهو هود الذي أرسل إلى قوم عاد ، ونستوحي من آيات أخرى ، أن قوم عاد كانوا من العمالقة الذين يملكون أجسادا قويّة تمكّنهم من اقتلاع الصخور الثقيلة من الجبال العالية إلى الوديان السحيقة ، ومن حمل الأثقال بشكل يفوق العادة. وربما كان لهذه القوة غير العادية تأثير على الشعور الذاتيّ بالشخصية المستكبرة المتعالية. (* وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي من عائلتهم. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ). إنها الدعوة نفسها التي أطلقها نوح ، فهي امتداد للخط الرسالي الذي يعتبر توحيد الإله في العقيدة والعبادة أساس الفلاح والنجاح.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٧٢.

١٦٣

وقد نضيف إلى ما أسلفنا الحديث عنه ، من التعليق على الدعوة إلى العبادة لا إلى الإيمان ، أن هؤلاء القوم ربما كانوا من المؤمنين بالله ، ولكنهم كانوا يشركون بعبادته غيره ؛ فكانت الرسالة هي هدايتهم لتوحيد العبادة. ونلاحظ أن هودا لم يتحدّث عن العذاب في مقام الدعوة ، بل تحدث عن التقوى في إلحاح إنكاريّ لابتعادهم عنها. وقد يكون ذلك أسلوبا يستهدف التخويف بطريقة أخرى ، وذلك من خلال الإيحاء بالقوة المطلقة لله الذي لا إله غيره ، مما يدفع بالإنسان إلى الشعور بالرهبة أمامه خوفا من عقابه ، ويدفعه إلى الالتزام بأوامره ونواهيه.

* * *

العقل في مواجهة الانفعال الطائش

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) ، لأنك لا تتكلم كلام الراشدين الذين يزنون كلامهم بميزان العقل ، ويتصرّفون بالطريقة التي لا يسيئون بها إلى أنفسهم وإلى من حولهم ، فأنت تواجه عقيدة الناس التي درج عليها الآباء ، وتتمرّد على تقاليدهم ، وتثير الجوّ الهادىء بأفكار غريبة تحوّل هدوءهم إلى عنف ، وتصيب علاقاتهم الوثيقة بالتصدّع والتمزّق ، وذلك ما توحي به كلمة «السفاهة» عند ما يرمي بها إنسان إنسانا.

وربما يسمع الكثيرون من دعاة التغيير في كل مجتمع مثل هذه الكلمة ، إذا كان هؤلاء الأشخاص لا يمثلون وزنا اجتماعيا كبيرا في حياة الناس. (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ). لم يقولوا له إنك من الكاذبين ، لأنهم لا يملكون أساسا في الجزم بكذبه ، أو لأنهم يريدون تخفيف التهمة ليصوروا أنفسهم بصورة من لا يريد إلقاء الكلام جزافا ، بل يعملون على إعطاء القضية دور المسألة الأكثر رجحانا. ويبقى الأسلوب أسلوب اللّامناقشة في أصل

١٦٤

الفكرة ، ولا تفكير في الموضوع ، بل هو الكلام الانفعاليّ الذي ينفس عن العقدة بدل أن يواجهها بهدوء.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) ، لأن للسفاهة مقاييس وعلامات تخضع للاهتزاز في الفكرة أو في الشخصية ، فما ذا وجدتم في أفكاري من ضعف ، وماذا اكتشفتم في شخصيتي من اهتزاز؟ هل ناقشتم طريقتي في الدعوة ، ومنهجي في الفكر ، وأسلوبي في العمل؟ وهل درستم هذه الطروحات التي أطرحها عليكم في آفاق الإيمان؟ إنكم لم تفعلوا ذلك كله ، فكيف تحكمون بغير علم؟! لقد قالها هذا النبي بكل روح هادئة عقلانية ، توحي بأننا إذا كنّا نتحرك في أجواء الدعوة إلى الله ، فإن علينا أن نواجه أسلوب السباب والاتهام اللّامسؤول ، بالأسلوب الهادىء الذي يعمل على إثارة التفكير في عقول هؤلاء الشاتمين والمتهمين ، فإن ذلك قد يتحول إلى صدمة عقلانية تقودهم إلى الموضوعية في حكمهم على الأشياء والأشخاص.

* * *

دور الرسول النصح لأمّته دوما

وهذا ما يحاوله الدعاة إلى الله ، الأدلّاء على سبيله ، الذين لا يشعرون بأنهم يتحركون من مواقع ذاتية في مواجهة ردود الفعل السلبية القاسية ، بل يتحركون من موقع رساليّ ينتظر تحطيم مقاومة هؤلاء الضالّين ، بالإصرار على الموقف الهادىء الكفيل بدفع الضالّين إلى احترام الفكرة الهادئة التي يطرحها الرسل من خلال احترامهم للعقل الهادىء الذي يوحي به الموقف الرسالي الواعي ، الذي تمثّل في موقف هود كنموذج حيّ رائد ، عند ما قال : (لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) وذلك هو دور الرسول في رسالته ، أن يكون ناصحا لأمته في حاضرها

١٦٥

ومستقبلها ، أمينا على الحقيقة التي تفتح قلوب الناس على الله ، وعلى الحياة الكريمة من خلاله ، وعلى الرسالة التي يحملها بصدق ، ويبلّغها بوعي وإيمان وقوة ، وذلك هو دور كل داعية إلى الله في حركته الرسالية في حياة الناس ، أن يعيش معهم بروحيّة الإنسان الذي ينصح لله في خلقه ، ويكون أمينا على كل أوضاعهم العامة والخاصة على كل صعيد ، وأن يجسّد ذلك كله في أقواله وأفعاله.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) فما وجه العجب في ذلك؟ هل هناك ما يمنع أن يكون الرسول بشرا؟ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) فأورثكم الله أرضهم وديارهم. (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) بما وهبكم من طول القامة ، وقوة الجسد والعضلات ... (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) ونعماءه وعظمته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) من خلال هذه الذكرى التي تفتح قلوبكم على الله ، وتوحي لكم بكل خير ورحمة وإيمان. إنه يستثير فيهم العناصر الطيّبة الأصيلة التي يمكن أن تجعل منهم أناسا طيبين ، تنفتح أفكارهم للمعرفة ، وتنبض قلوبهم بالرحمة ، وتعيش حياتهم للمسؤولية ، وتتحرك خطواتهم في اتجاه الله ...

* * *

منطق التوحيد في مواجهة منطق الشرك

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا)؟ ما معنى هذه الدعوة التي جئتنا بها؟! إن معناها أن نتنكر لقدسيّة تاريخ الآباء ، في ما يعتقدون ويمارسون من طقوس وعادات ... وتلك قضية تهدّم البناء الاجتماعي للعشيرة القائم على أساس حرمة التاريخ. فلا بدّ من عبادة هذه الأصنام لتقرّبنا إلى الله زلفى ، ولتجعل من حياتنا امتدادا لحياة الأجداد ، وهذا

١٦٦

ما يجعل المسألة لا تحتاج إلى بحث أو مناقشة أو تعديل ... فإذا كنت مصرّا على دعوتك الهدامة (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فلن نتبعك في شيء مما تقوله أو تدعو إليه ، فليس بيننا وبينك إلا المواجهة في ساحة الصراع. (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) الرجس هو الخبث والقذر ؛ وربما كان هذا كناية عمّا يوقعه الله عليهم من العذاب المتمثل بما يلقيه عليهم من مظاهر العقاب الدنيويّ ، الذي يؤثّر سلبيا على نفس الإنسان ، تماما كما هو القذر الذي يصيب الجسد. أمّا الغضب ، فهو سخط الله المستتبع لعذاب النار ، فقد حقّ عليكم القول بعد أن أقام الله عليكم الحجة ، وتمردتم عليها. (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)؟ ماذا تمثل هذه الأصنام غير ما تمثله الأشياء التي صنعتموها منها ، من الحجر والخشب والنحاس؟ ماذا لديها من معاني الحياة والعلم والقدرة والخلق التي لا بد من توفرها في ذات الإله؟ ليس لها أية ميزة إلهية أو غير إلهية ، سوى أنكم أطلقتم عليها أو أطلق عليها آباؤكم أسماء ، وتحوّلت الأسماء إلى حقائق نفسية وعبادية واجتماعية ، يجادل فيها المجادلون ويتخاصم فيها المتخاصمون ، فإذا أردتم الجدال المنتج ، فجادلوا بالأشياء التي تحمل معنى حقيقيا في ذاتها وتأثيرها في الواقع ، لا في هذه الأشياء التي صنعتموها بأيديكم ومنحتموها صفة الألوهية التي (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) من عقل أو شرع ، فهي لا تمثل أيّة حقيقة مقبولة في أي مجال.

* * *

١٦٧

نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فليست مسألة العذاب الذي أنذرتكم به ، مما أملك أمر تنفيذه ، لأواجه التحدّي الذي طرحتموه علي ، لأنني لا أملك قوة ذاتية في حجم القضايا الكونيّة ، في ما ينزل من عذاب على الكافرين مما يخرج عن القوانين العادية للحياة ، فذلك مما اختصّ به الله ، فهو القادر على أن يرسل عذابه ، بالقدرة نفسها التي يرسل بها رحمته. وما دام الله قد توعدكم بالعذاب ، فانتظروا عذابه الذي سيأتيكم ، إن عاجلا أو آجلا ؛ إني منتظر ذلك معكم ، لأن لي الثقة المطلقة برسالات ربي في وعده ووعيده. وجاء العذاب لهؤلاء المتمرّدين ، فأهلكهم الله وأبادهم فلم يبق منهم أحد. أمّا هود والذين معه ، فقد أنجاهم الله برحمته ، لأنهم كانوا في مستوى المسؤولية في إيمانهم بالله ، وطاعتهم له ، وصمودهم أمام كل التحديات في سبيل الله ... وذلك هو قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) فلا مجال لأن تنالهم رحمة الله ، لأنهم لم يتعلقوا من رحمته بشيء مما أراد لهم من موقف الإيمان.

* * *

١٦٨

الآيات

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩)

* * *

١٦٩

معاني المفردات

(بَيِّنَةٌ) : علامة فاصلة بين الحق والباطل من جهة شهادتها به.

(وَبَوَّأَكُمْ) : أنزلكم ومكّنكم من المنازل.

(تَعْثَوْا) : تفسدوا وتتجاوزوا الحدّ.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) : نحروها.

(وَعَتَوْا) : تمردا وتجاوزا للحد في الفساد.

(الرَّجْفَةُ) : من الرجف ، وهو الحركة والاضطراب.

(جاثِمِينَ) : الجثوم : البروك على الركبة ، والمراد به هنا الهلاك.

* * *

حديث عن قصة صالح مع قومه ثمود

في هذه الآيات حديث عن قصة صالح التي كرّرها القرآن في أكثر من سورة ، تبعا للدور الذي يمكن أن تقدّمه للقضايا الرسالية العملية التي يطرحها للناس في آياته. وهو نبيّ أرسله الله إلى قومه الذين جاءوا من بعد عاد ، ليعالج مشاكلهم الإيمانية والحياتية ، فيدعوهم إلى السير في خط الإيمان بالله ، والالتزام بأوامره ونواهيه ... وإذا كان لا بد لكل نبيّ من معجزة للتحدي أو للضغط على القوة المعادية الضاغطة ، فقد كانت معجزته أنه أخرج لهم ناقة عجائبية ، تسقي القوم عن آخرهم ، ولكنها كانت تشرب الماء كله ، ولذلك فقد جعل لهم يوما يشربون فيه ، لا تشاركهم فيه الناقة ، ويوما تشرب فيه الناقة ولا

١٧٠

يشاركونها فيه ، لأن هذا الماء يتحوّل إلى حليب بقدرة الله. فضاقوا ذرعا بذلك ، بعد أن تدخّل المستكبرون بإثارة السلبية ضد هذا التوزيع الإلهي ، فتآمروا على قتل الناقة ، وأوعزوا إلى شخص منهم فعقرها وقتلها ؛ فحمّلهم الله مسئولية ذلك فعاقبهم جميعا ، لأن ما يجمع الناس الرضا والسخط ، كما قال الإمام علي عليه‌السلام في بعض كلماته : «وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد ، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا فقال سبحانه : (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ)» (١) [الشعراء : ١٥٧]. هذه هي خلاصة القصّة ، فكيف نتابع خطواتها في هذه الآيات؟

* * *

الخط الواحد لرسالة الأنبياء

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). وذلك هو الخط الواحد لرسالة الأنبياء في دعوتهم الناس إلى عبادة الله الواحد ، كمنهج للفكر وللعمل وللحياة كلها ... (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) توضح لكم قدرة الله في خلقه ، وتؤكّد لكم صدق الرسول في رسالته ، (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) ومعجزة خارجة عن مألوف ما اعتدتموه من النوق التي تعرفونها ، (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ، فهي لا تكلّفكم أيّة مؤونة من غذاء وغيره ، فامنحوها الحرية في التجوّل في أرض الله لتأكل منها ما تشاء ، (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) ، ولا تعتدوا عليها بضرب أو جراحة أو قتل .. (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، لأن الاعتداء عليها يعني التمرد على الله والتحدي لنواهيه. ثم بدأ يحدثهم عن نعم الله التي أفاضها عليهم ، وكيف سهل لهم الأمور ومهّد لهم الأسباب : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه ، ص : ٢٣٣ ، خطبة : ٢٠١.

١٧١

خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) وأسكنكم فيها ، ومهّد لكم كل الوسائل التي تجعل من إقامتكم فيها فرصة طيّبة مريحة في ما منحكم من القوة والغنى ، (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) ، لتكون الذكرى أساسا للتفكير العملي الواعي الذي يدفعكم للسير في نهجه القويم وخطّه المستقيم ، كتعبير عن شكره. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تتحركوا في الأرض بخطط الفساد والإفساد التي تسيء إلى حياة الناس وأمورهم العامة والخاصة ، لأن الله يريد للإنسان أن يستعمل الطاقات التي أودعها فيه ، أو سخرها له ، وأن يحركها في إصلاح الحياة على الأسس التي أراد أن ترتكز عليها. فمن ينحرف عن هذا الخط ، يعرّض نفسه لعذاب الله. وربما كان من الطبيعي أن يستوحوا تخطيطهم لحركة الإصلاح من تعاليم الله وما أوحى به لرسله ، لأنها تمثل المنهج الأقوم في هذا الاتجاه.

* * *

المستضعفون يؤمنون بالنبي صالح عليه‌السلام

وكان في قومه مستضعفون ومستكبرون ، فاستجاب له المستضعفون ، لأنهم رأوا في دعوته الحقيقة الصافية التي كانوا يبحثون عنها ، والروح الحرّة التي تنقذهم من عبوديتهم لضغوط المستكبرين ، والإرادة القوية التي تمنحهم قوة الرفض لحالة الاستضعاف التي يفرضها عليهم الأقوياء ... وهكذا آمنوا به وساروا معه. أما المستكبرون ، فقد واجهوه بالتكذيب والكفر والتمرّد من موقع الاستعلاء ، لأنهم رأوا في هذه الدعوة نسفا لامتيازاتهم الاستكبارية ، لأنها تدعو للمساواة بين الناس ، باعتبارهم متساوين في عبوديتهم لله ، وفي إنسانيتهم وفي خصائصها البشرية ، بعيدا عن امتيازات الغنى والقوة والنسب والجاه ، فتلك أمور لا تعتبر قيمة كبيرة في حساب الإيمان ، بل القيمة الكبيرة

١٧٢

هي للتقوى وللعمل الصالح المنتج ، على مستوى قضايا الحياة.

وهكذا وقفوا في وجه هذه الدعوة ، ولكنهم كانوا يشعرون بالرعب والذعر من خلال تنامي قوة صالح عليه‌السلام في أوساط الفئات المحرومة الفقيرة من المستضعفين ، مما قد يترك أثرا سلبيا على مستوى امتيازاتهم وسلطاتهم المستقبلية ، باعتبار أن المستضعفين يمثّلون القوّة الحقيقية التي تدعم كل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والعسكرية ، فإذا انفصلوا عنهم واتّبعوا النبي الجديد ، فمعنى ذلك أن القوّة ستنتقل إلى موقع آخر ، مما يجعلهم في موقف الضعف والنبي في موقف القوّة ، ولذلك فقد حاولوا إثارة حالة من التشكيك عند المستضعفين المؤمنين ليقودوهم ـ بعد ذلك ـ إلى التمرد والكفر ...

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)؟! .. في لهجة الإنكار والاستغراب ، كمن يقول لصاحبه : هل تصدق مثل هذا القول ، أم أنك تمزح ، أم أنك تنطلق في إقرارك من موقع المصلحة والطمع؟! ليقوده إلى التراجع طلبا لاحترامه ، لأن من لا يملكون قوة الشخصية ، يستعيرون ثقتهم بأنفسهم من رضا الآخرين عنهم ، فإذا شعروا بأي نوع من أنواع الاهتزاز في ثقة الناس بهم ، لعدم رضاهم عن بعض أفكارهم أو مواقفهم أو تطلعاتهم ، انكمشوا في داخل ذواتهم ، وحاولوا استعادة ما فقدوه بالالتزام بما لا يؤمنون به ، لمجرد أن الناس الكبار يؤمنون به ، ويستريحون له. ولكن المستضعفين ـ الذين استطاعوا أن يحصلوا على قوّة الشخصيّة من خلال إيمانهم الجديد ـ واجهوا هذا الأسلوب بموقف قويّ حاسم ، يؤكد الوقفة الإيمانية كما لو كانت شيئا لا يقبل التراجع مهما كلف الأمر ؛ (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) على أساس الوعي للرسالة ، والإيمان بالفكرة ، والقناعة بخط التحرك ... وهذا لا يجعل من القضية شأنا ذاتيا خاضعا للتغيير والتبديل على أساس حسابات الربح والخسارة ، أو موازين

١٧٣

القوة والضعف ، لأنها قضية حقّ وإيمان وصدق ... (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) في عملية تأكيد للكفر ، من أجل خلق حالة نفسية ضاغطة ، تهز موقف المستضعفين أو تردّ جانب التحدّي منهم بمثله. ولم تنفعهم تلك الأساليب في حربهم النفسية ضد المؤمنين شيئا ، ولم يكن لهم منطق معقول يمكن أن يعتمدوه كأساس للمواجهة الفكرية في عملية ربح الموقف ، فلجئوا إلى القوة ، ولكنهم لم يستطيعوا مواجهة صالح والمؤمنين معه ، فعمدوا إلى الناقة الضعيفة التي لا تملك أن تدافع عن نفسها (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) في حالة من الطغيان ، ووقفوا أمام صالح وقفة من يتحدى الإنذار بالعذاب ؛ (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين يرتبطون بالله بعلاقة وثيقة ، تتيح لهم أن يستنزلوا العذاب على معانديهم. وكان ردّ التحدي حازما وسريعا ، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) واهتزت بهم الأرض. وكان الزلزال الذي ارتجفوا به ، (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ، لا يستطيعون الوقوف والتحرك من مكانهم بفعل الموت. فما ذا كان رد فعل صالح ، وهو يرى فعل الله بهم ؛ هل كان موقف شماتة وحقد؟ إن الأنبياء لا يشمتون ، وأصحاب الرسالات لا يحقدون ، لأن قلوبهم مملوءة بالمحبة والرحمة ، وأرواحهم منطلقة بالخير والرأفة ... (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أعرض عنهم وابتعد عن هذا المنظر الأليم ؛ (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) بكل ما فيها من حقّ وعدل وخير وصلاح ، بكل تفاصيلها (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بالسير في خط الرسالة لتبلغوا مداها الأخير ، وهو الجنة في الدار الآخرة بالإضافة إلى سعادة الدنيا ... (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) .. ولا تطيعونهم في ما يريدون أن يدلوكم على منابع الحب والخير والرحمة ... وهكذا أسدل الستار على هذه القصة ، لتبدأ قصة رسالية جديدة.

* * *

١٧٤

الآيات

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤)

* * *

معاني المفردات

(شَهْوَةً) : مطالبة النفس بفعل ما فيه اللذة.

(مُسْرِفُونَ) : الإسراف : الخروج عن حدّ الحق إلى الفساد.

(الْغابِرِينَ) : الماضين من القوم.

* * *

١٧٥

لوط في مواجهة شذوذ قومه الجنسي

وهذا نبيّ آخر من الأنبياء «المحليين» ، أرسله الله من خلال إبراهيم عليه‌السلام ـ في ما يستفاد من بعض آيات القرآن ـ وذلك من أجل هدايتهم إلى الله ، في خط الإيمان بشكل عام ، مع التأكيد على محاربة الفاحشة ، المتمثلة بالشذوذ الجنسي المذكّر المعبر عنه باللواط نسبة إلى قوم لوط ، إذ كانوا على ما يبدو أوّل ناس مارسوا هذا العمل الشاذ. وعاش هذا النبي معهم مدّة من الزمن ، يدعوهم إلى الله وإلى الابتعاد عن هذه الممارسات القبيحة ... فلم يستجيبوا له ، بل كانوا يواجهونه بالتحدي ، استضعافا لموقفه ؛ حتى أنزل الله عليهم العذاب في الدنيا ، وأنجى لوطا ومن معه ، ما عدا امرأته.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) فقد بدأ تاريخ هذا الشذوذ بهم. والاستفهام هنا للإنكار في مقام الردع. (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) فتنحرفون بذلك عن العلاقة الجنسية الطبيعية ما بين الرجال والنساء ، وهي الوضع الطبيعي الذي تؤدي فيه الغريزة الجنسية دورها في عملية التناسل وحفظ النوع من جهة ، وتلتحم ضمنه الجوانب الروحية الإنسانية بالجوانب المادية في نفس عملية الممارسة من جهة أخرى ؛ بينما يضرب الشذوذ وظيفة الغريزة الجنسية الأساس ، ويمثل ، بالإضافة إلى ذلك ، حالة مرضيّة يقوم فيها الذكر بدور الأنثى نتيجة عقدة نفسية وانحراف مرضي .. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) فقد تجاوزتم الحدود الطبيعية للعلاقات الإنسانية ، وانحرفتم عن الخطّ السليم ، ولكن قومه كانوا قد أدمنوا هذه العادة ، وأصبحت طابعا مميزا لحياتهم. وربما انطلق هذا الإسراف في أكثر من جانب من جوانب حياتهم ، كنتيجة طبيعية لعدم التزامهم بالخط الرسالي الذي تمثله رسالة لوط. (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ

١٧٦

مِنْ قَرْيَتِكُمْ) سادّين بذلك مجالات الحوار ، لأنهم ليسوا مستعدين للتنازل عن عاداتهم ، كما أن لوطا غير مستعد للتراجع عن دعوته ، ولذلك فإن الموقف لا يحتمل التسويات.

* * *

المجتمعات المنحرفة ترفض دعوة التطهّر

وقد عبّر قوم لوط عن هذه العقليّة من جانبهم في رفضهم للطهارة الأخلاقية التي تدعو إليها الرسالات ، بما وصفوا به آل لوط ، كتبرير للدعوة لإخراجهم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) ، فيقفون ضد أساليب القذارة في الحياة ، ليثيروا في مجتمعنا سلبيات هذه الأساليب ، فيخلقوا له عقدة في ممارساته ؛ ليتحول ذلك إلى حالة رافضة مستقبلية في الأجيال الجديدة التي قد تتقبل مثل هذه الدعوات ، لما تثيره في الإنسان من دوافع الفطرة. وربما كان هذا الأسلوب في الرد السلبي على دعوة التطهر ، هو أسلوب المجتمعات المنحرفة التي تعتبر وجود الفئات الخيّرة ، وما تثيره في المجتمع من معاني الخير والصلاح ، تحديا صامتا لكل طروحاتهم وأوضاعهم ، وهذا ما يجعلهم لا يطيقون التعايش معهم في بلدهم ـ حتى لو كانوا صامتين ـ لأنهم يخافون منهم على أنفسهم ، قبل أن يخافوا منهم على غيرهم ، لأن النفس قد تستيقظ على نوازع الخير في بعض حالاتها الطيّبة الهادئة ، فتنجذب لا شعوريا إلى ما تدعوها إليه ، وقد يتأكد هذا الاتجاه كلما تكرّرت الدعوة ، أو حدثت الأجواء الملائمة لذلك ... ولهذا يتحوّل ردّ الفعل إلى مواجهة عنيفة بالتهديد بطردهم وقتلهم ، وممارسة كل الأساليب السلبية ضدّهم ، بعيدا عن كل حوار أو لقاء للحوار.

* * *

١٧٧

هلاك قوم لوط بانحرافهم

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) بعد أن قام برسالته كما يريد الله منه ذلك ، وتحمّل في سبيلها الكثير من الجهد والمشقّة والعناء ، (إِلَّا امْرَأَتَهُ) التي كانت تتآمر مع قومها على لوط ، وتتفق معهم في النهج والتفكير والعمل ... فقد عاقبها الله بالعقاب نفسه الذي أنزله بهم ، (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) ، من البائدين الهالكين ، في ما توحي به كلمة «الغابرين» من معنى الموت على سبيل الكناية (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) من نوع آخر ، فقد كان ينزل عليهم الحصى المزوّد بطاقة خاصة قاتلة. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا في حقّ أنفسهم وفي حركة الحياة ، فاعتبر بذلك ـ أيها الإنسان المؤمن ـ في ما تريد أن تقدم عليه من عمل في الخطّ الذي تلتقي فيه الرسالات ، سلبا أو إيجابا ، لتحدّد موقفك.

* * *

١٧٨

الآيات

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً

١٧٩

إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣)

* * *

معاني المفردات

(فَأَوْفُوا) : الإيفاء : إتمام الشيء إلى حدّ الحق فيه.

(الْكَيْلَ) : تقدير الشيء بالمكيال حتى يظهر مقداره.

(وَالْمِيزانَ) : تقدير الشيء بالميزان.

(وَلا تَبْخَسُوا) : البخس : النقص عن الحدّ الذي يوجبه الحق.

(تُفْسِدُوا) : الإفساد : إخراج الشيء إلى حدّ لا ينتفع به بدلا من حال ينتفع بها. وضدّه الإصلاح.

(وَتَصُدُّونَ) : تصرفون عن الفعل بالإغواء فيه. يقال : صدّه عن الأمر :

منعه.

(طائِفَةٌ) : جماعة من الناس.

(مِلَّتِنا) : طائفتنا.

(افْتَرَيْنا) : الافتراء مشتق من فري الأديم ، وهو مثل الاختلاف والافتعال.

١٨٠