تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

الكفر ، فيكون الرسل شهودا عليهم ، فلا يبقى لديهم ما يعتذرون به.

وربما كانت القضية ـ في الآية ـ واردة في سياق الحديث عن المسؤولية الإلهية التي يواجهها الناس من أمم أو رسل ، لأن الحساب شامل للجميع ، بقطع النظر عن موقعهم من الله ، فإن السؤال يفصح عن الإخلاص والصدق في أجوبة المخلصين الصادقين ، كما يظهر زيف المزيفين وكذب الكاذبين ، ليعرف الجميع أن الخلق متساوون أمام الله يوم القيامة ، لا فرق بين الناس والرسل في ذلك كله.

ولذلك ، فليس هناك استعلام من الله لعباده ، بل هو توجيه لما يقبلون عليه في وقوفهم بين يديه ، لإثارة وعي المسؤولية في وجدانهم الفكري وتجربتهم العملية ، وإقامة الحجة عليهم في كل أمورهم.

وقد يطرح سؤال آخر : كيف يمكن التوفيق بين التأكيد على شمولية السؤال للناس والمرسلين وبين قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن ٣٩ ـ ٤١] ، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون؟!

وقد أجيب عن هذا السؤال بعدة أجوبة ، (منها) : ما ذكره صاحب مجمع البيان : «أنه ـ سبحانه ـ نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام ، وإنما يسألهم سؤال تبكيت وتقريع ، ولذلك قال ـ عقيبه ـ (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) ، وسؤال الاستعلام مثل قولك : أين زيد؟ ومن عندك؟ وهذا لا يجوز على الله سبحانه. وسؤال التوبيخ والتقريع كمن يقول : ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي؟ ومنه قوله : (* أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] ، (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ١٠٥] ، وكقول الشاعر : «أطربا وأنت قنسري» أي كبير السن ، وهذا توبيخ منه لنفسه ، أي كيف أطرب مع الكبر والشيب ، وقد يكون السؤال للتقرير كقول الشاعر :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

٢١

أي أنتم كذلك ، وفي ضده قوله : «وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر» أي لا يصلح. وأما سؤال المرسلين فليس بتقريع ولا توبيخ لهم ولكنه توبيخ للكفار وتقريع لهم.

(وثانيها) أنهم إنما يسألون يوم القيامة كما قال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة وعند دخولهم النار ، فلا تنافي بين الخبرين ، بل هو إثبات للسؤال في وقت ونفي له في وقت آخر.

(وثالثها) أن في القيامة مواقف ، ففي بعضها يسأل وفي بعضها لا يسأل ، فلا تضاد بين الآيات ...» (١).

(ومنها) أن الآيات النافية للسؤال إشارة إلى المساءلة الشفاهية ، والآيات المثبتة إشارة إلى المساءلة التي تقع على الجوارح وهي تتكلم بلسان الحال ، مثل حمرة وجه الإنسان خجلا من انكشاف الحال في إجرامه البارز عند ظهور الحقائق.

وربما كان الأقرب للسياق في آيات نفي السؤال أنها واردة في مورد التأكيد على أن الله يعلم ذنوب المذنبين وإجرام المجرمين ، فلا حاجة به إلى سؤالهم للتعرف على ذلك ، مع وضوحها عندهم من خلال ما يعرفونه من أنفسهم وما يقرءونه في كتاب الأعمال الذي يراد للإنسان قراءته ليكون الحسيب على نفسه بنفسه ، ويتطلع المجرمون إلى ما فيه فيجدونه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولذلك فإن هناك وضوحا في قيام الحجة عليهم المبررة لعذابهم. أما آيات السؤال فهي واردة لإقامة الحجة عليهم بإظهار أعمالهم من خلال اعترافاتهم ، فلكل آية سياق يختلف عن سياق الآية الأخرى ؛ والله العالم بحقائق آياته.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦١٥.

٢٢

من هم الذين يشعرون بالحرج تجاه القرآن؟

إننا نقف أمام هذه الآيات التي أرادت للنبي ومن معه أن لا يضيقوا بالقرآن الذي يحملهم مسئولية المواجهة والانفتاح على ساحة الصراع ، لنستوحي من ذلك حركة الإنسان الرسالي في الواقع الذي يعيش هموم القرآن في آياته ومفاهيمه وحركيته ، ويحمل في وجدانه هموم التغيير من أجل تحويل خط الانحراف إلى خط الاستقامة ، ليعيش الإنسان مع الله في كل حياته المادية والمعنوية من خلال الالتزام بوحيه في كل خطوطه العقيدية والتشريعية والمنهجية والحركية. بكلام آخر ، على الإنسان الحركي أن يعرف جيدا كل ما يمكن أن تنتجه له الرسالة في حركة الواقع والمواجهة ، من آلام وتضحيات وجراحات جسدية أو روحية ، وأن يعي في وعيه الإسلامي للحياة أن هناك أكثر من مرحلة لا بد أن يقطعها العاملون ، في سبيل الوصول إلى النتائج الإيجابية الحاسمة بعد جهد طويل ، ولذلك يجب أن لا يعيشوا الضيق النفسي والسقوط الروحي أمام الصعوبات والتحديات الكبرى ، بل عليهم أن يواجهوها بعقل منفتح وصدر رحب وحركة واعية.

أمّا الذين يعيشون الحياة حركة في داخل الذات ، ويحملون الرسالة في معنى المهنة ، ويرون في التضحيات خسارة ، وفي التعب مشكلة ، وفي العقبات يأسا ، ويعملون على البحث عن المبررات أو التبريرات لكل تراجع وتخاذل وهزيمة ، ليتخففوا من مسئولياتهم في الدعوة وفي العمل ، أمّا هؤلاء فهم الذين يختنقون بالضيق النفسي ، والحرج الشعوري ، ويضيقون ذرعا بكل مشكلة في الطريق ، ويبتعدون عن هموم الساحة ليقتربوا من هموم الذات من أجل الاسترخاء في لذّات الحياة وشهواتها بعيدا عن الرسالة والرساليين.

* * *

٢٣

الآيتان

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

* * *

معاني المفردات

(وَالْوَزْنُ) : مقابلة أحد الشيئين بالآخر حتى يظهر مقداره ، وقد استعمل في غير ذلك تشبيها به ، فمنها وزن الشعر بالعروض ، ومنه قولهم : يزن كلامه وزنا.

(الْحَقُ) : وضع الشيء موضعه على وجه تقتضيه الحكمة ، وقد استعمل مصدرا على هذا المعنى وصفة كما جرى ذلك في العدل ، قال الله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) [الحج : ٦٢] فجرى على طريق الوصف.

(ثَقُلَتْ) : الثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلا ، ونقيضه الخفّة ، وهي الاعتماد اللازم علوّا.

* * *

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)

لكل شيء وزن ، يحدد حجمه ومقداره بحسب الوحدة التي تعيّن

٢٤

المقادير. وللوزن مقياسان ؛ مادي ومعنوي. فأما المادّي ، فهو الذي يعيّن مستوى الثقل في الأشياء في ما تعارف عليه الناس من الغرام ، والكيلو ، والطن ، ونحو ذلك مما يختلف اسمه ونوعه حسب اختلاف البلدان واللغات ... وأمّا المعنويّ ، فهو الذي يحدّد مستوى الثقل الفكريّ والعمليّ والاجتماعي والروحي للأشخاص وللمؤسسات ، ليحدّد من خلال ذلك القيمة الفكرية والروحية والاجتماعية والعملية لها ، ولتوضع ـ على أساس ذلك ـ القضايا السلبية أو الإيجابية المتصلة بحركة هذه الأشياء بما تحمل من علم أو تجيد من أمور ، كما توحي به الكلمة المأثورة عن الإمام علي عليه‌السلام : «قيمة كل امرئ ما يحسنه» (١) وكما نستلهم من الآية الكريمة (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩]. وقد يتحدثون عن الوزن الروحي بما تمثله الملكات النفسية ، وعن الوزن الاجتماعي والسياسي بما يمثّله من حجم اجتماعي أو سياسي في حياة الآخرين. وهكذا يحس الناس بخفّة الأشياء وثقلها ، في ميزان تفكيرهم ومشاعرهم ، وفي تقييمهم لما حولهم من أشخاص أو مؤسسات ...

أما في يوم القيامة ، فهناك الوزن الحقّ للأشخاص ، في ما يملك الناس من خصائص وأعمال في الدنيا وما خلّفه الإنسان وراءه من مواقف ، مما يمثل تاريخ الإنسان في علاقته بالحياة من خلال علاقته بالله ، فإذا كان تأريخه مثقلا بالأعمال الكبيرة المنسجمة مع حجم مسئولياته في إيجابية الممارسة ، كان وزنه ثقيلا في ميزان القيمة عند الله ، ممّا يمنحه ، في قضية المصير ، شهادة فلاح ونجاح بما قدّمه للناس من حوله من فرص الخير والعلم والحرية والهدى والإيمان ، وبما أجهد فيه نفسه ، وأتعب فيه بدنه. أما إذا كان تأريخه فارغا من ذلك كله ، لأن كل همه في الحياة كان أن يأكل ويشرب ويلبس ويستمتع

__________________

(١) نهج البلاغة ، ضبط نصه د. صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٢ ، ١٩٨٢ م ، ص : ٤٨٢ ، حكمة : ٨١.

٢٥

بمختلف شهواته ولذّاته ، وأن يعيش الحياة في كسل واسترخاء من غير هموم ومشاريع كبيرة تتجاوز نفسه إلى أمته ، فإن أعماله لا تمثل وزنا في حجم المسؤولية. وإنسان في هذا المستوى من البعد عن الله وعن حركة الحياة ، لا بد أن يكون ميزانه خفيفا يطير في الهواء ، لأنه لا يجد في مقابله شيئا يقترب به من خطّ التوازن. وهذا ما أشارت إليه الآيتان : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، لأنهم استطاعوا أن يحوّلوا طاقاتهم إلى أفكار وأعمال ومواقف امتدت في رحاب الزمن ، وتعمقت في وعي الإنسان ، وانطلقت في آفاق المعرفة ، فوجدوها أمامهم بعد أن تركوا هذه الدنيا ، في ما أثاروه وفعلوه وعاشوه ، مما يقربهم إلى الله ويقودهم إلى رحمته ؛ فكأنّ هذه الطاقات قد بقيت لهم بثقلها وحجمها ، ممّا جعلها تثقل الميزان في حساب الأعمال ، وذلك هو سرّ الفلاح في الدنيا والآخرة ، عند ما يقف الإنسان على الشاطئ الأمين ، بعد مسيرة طويلة في قبضة الأمواج.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، لأن قيمة النفس بمقدار ما تساوي من عمل .. فيما كان الإنسان يستطيع أن يفعله في حياته ، ليربح امتدادها في قضية المصير. فإذا لم ينتهز الفرصة السانحة ، فسيجد نفسه في خسارة فادحة لا يملك معها شيئا ، أيّ شيء ، حيث لا يبقى له إلا النار وبئس القرار ... (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) وذلك هو السبب الذي يجلب الخسارة للإنسان ، أن يظلم الإنسان ربّه بانحرافه عن آياته ، وتمرده عليها ، فيبتعد عن الانسجام مع حقوق الله عليه في ما أفاض عليه من نعمة الوجود ، وأغدق عليه من ألطافه في امتداد حياته ، وما فتح له من نوافذ المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة ... وأي ظلم أفظع من هذا الظلم ، أن تستعمل ما منحك الله من نعمه في التمرد عليه ومعصيته ، فتفقد بذلك كل دنياك وآخرتك.

* * *

٢٦

آراء المفسرين في قوله تعالى :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ).

اختلف المفسرون حول فقرة (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ما هو المراد بالوزن؟ ذكر ـ كما في مجمع البيان ـ فيه أقوال : «(أحدها) أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة ، وأنه لا ظلم فيها على أحد ، عن مجاهد والضحاك ، وهو قول البلخي.

وثانيها : أن الله ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة ، فتوزن به أعمال العباد الحسنات والسيّئات ، عن ابن عباس والحسن ، وبه قال الجبائي.

ثم اختلفوا في كيفية الوزن ، لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة ولا يكون لها وزن ولا تقوم بأنفسها ، فقيل : توزن صحائف الأعمال ، عن عبد الله بن عمر وجماعة ، وقيل : يظهر علامات للحسنات وعلامات للسيّئات في الكفتين ، فيراها الناس ، عن الجبائي ، وقيل : يظهر للحسنات صورة حسنة وللسيئات صورة سيئة ، عن ابن عباس ، وقيل : توزن نفس المؤمن والكافر ، عن عبيد بن عمير ، قال : يؤتى بالرجل العظيم الجثّة فلا يزن جناح بعوضة.

وثالثها : أن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم ، ومقدار الكافر في الذلة ، كما قال سبحانه : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥]. فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي يعظم قدره فقد أفلح ، ومن أتى بالعمل السيّئ الذي لا وزن له ولا قيمة فقد خسر ، عن أبي مسلم. وأحسن الأقوال القول الأول وبعده الثاني ، وإنما قلنا ذلك لأنه اشتهر من العرب قولهم : كلام فلان موزون وأفعاله موزونة ، يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة لا تكون ناقصة عنها ولا زائدة عليها زيادة مضرة أو داخلة في باب العبث ، قال مالك بن أسماء الفزاري :

٢٧

وحديث ألذّه هو ممّا

ينعت الناعتون يوزن وزنا

منطق صائب ويلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

 ... وعلى هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساويا لغيره كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك ، وأما حسن القول الثاني فلمراعاة الخبر الوارد فيه والجري على ظاهره»(١).

وقد ذكر السيد الطباطبائي في الميزان ، أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحق فيها ، وبقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب ، وإن لم تشتمل فهو الهلاك ، وهذا التوزين هو العدل ، والكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل» (٢). ولعل هذا هو الأقرب إلى سياق الفقرة ، لأن الظاهر اعتبار الحق هو الميزان ، بحيث يكون الحق هو الأساس في النتائج الإيجابية والسلبية في مصير الإنسان ، وهذا هو الذي تؤكده الآية في قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ، حيث وصف الموازين بأنها القسط ، وهذا هو الذي جاء في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث هشام ابن الحكم عن الصادق عليه‌السلام أنه سأله الزنديق فقال : «أو ليس توزن الأعمال؟ قال : لا ، إن الأعمال ليست بأجسام وإنما هي صفة ما عملوا ، وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها وخفتها ، وإن الله لا يخفى عليه شيء ، قال : فما معنى الميزان؟ قال : العدل. قال فما معناه في كتابه : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)؟ قال : فمن رجح عمله ... الخبر» (٣).

ولعل مشكلة الكثيرين من المفسرين في تفسيراتهم لكلمات القرآن أنهم

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ص : ٦١٦.

(٢) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١١ ه‍ ، ١٩٩١ م ، ج : ٨ ، ص : ١٤.

(٣) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ٣ ، ج : ٧ ، ص : ٣٧٠ ، باب : ١٠ ، رواية : ٣.

٢٨

يحملونها على معناها الحرفي غير ملتفتين إلى أساليب البلاغة من الاستعارة والمجاز من خلال القرائن المتنوعة التي يحددها السياق العام للكلمة الذي قد يتحدث عن العمق المعنوي لا عن السطح المادي بطريقة الإيحاء.

وهذا هو الظاهر من كلمات الوزن والميزان والموازين التي تكررت في القرآن في مورد الحديث عن الأعمال بلحاظ النتائج المترتبة عليها في حساب ثواب الله وعقابه مما لا علاقة له بالحجم المادي للأشياء ، الذي لا مجال له في عالم الأعمال التي هي حركة الإنسان في الواقع مما لا وزن له في الحسابات العينية المادية.

ويشكل العدل المقياس الإلهي لتقدير أعمال الناس ونتائجها. وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بأكثر من أسلوب ، ومنه أسلوب الميزان الذي يمثل المقياس المادي في مقابلة الشيء بالشيء من دون زيادة أو نقصان.

ومن اللافت إصرار العلامة الطباطبائي على نظرية تجسّم الأعمال ، فيقول في ذيل الحديث عن الوزن والموازين قد تقدم البحث عن معنى تجسّم الأعمال ، وليس من الممتنع أن يتمثل الأعمال عند الحساب والعدل الإلهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الأعمال وسلعها لكن الرواية الواردة عن الامام الصادق في حديثه مع الزنديق لا تنفي ذلك ، وإنما تنفي كون الأعمال أجساما دنيوية محكومة بالجاذبية الأرضية التي تظهر فيها في صورة الثقل والخفة ، أولا. والإشكال مبنيّ على كون كيفية الوزن بوضع الحسنات في كفة من الميزان ، والسيئات في كفة أخرى ثم الوزن والمقياس ، وقد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة ذلك أصلا ، ثانيا (١).

ونلاحظ على ذلك ، أنّ المسألة ليست مسألة الإمكان والاستحالة لنبحث عن توجيه للتجسيم في صورة ميزان توزن به امتعة الأعمال وسعيها ، بل

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٧.

٢٩

المسألة هي في ظهور النص القرآني في ذلك المعنى ، باعتبار أن النكتة البلاغية المبنية على الاستعارة ظاهرة في غير ذلك وأن ، الفهم الحرفي للكلمة يبتعد عن البلاغة اللفظية في آيات القرآن.

وقد ورد بالإسناد عن المنقري عن هشام بن سالم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، قال : هم الأنبياء والأوصياء.

والظاهر أن هذا التفسير وارد مورد الاستيحاء بلحاظ أن هؤلاء يمثّلون الصورة المشرقة للقيم الروحية والأخلاقية التي أراد الله للناس ان يجسدوها في الحياة ، في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم ، فهم التجسيد الواقعي لهذه القيم مما يجعلهم ميزانا لتقويم أعمال العباد بمقدار قربهم منهم وبعدهم عنهم ، فهم الميزان الواقعي للأعمال بالطريقة الايحائية في المقارنة بين أعمالهم وأعمال الناس ، والله العالم.

* * *

٣٠

الآية

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(مَكَّنَّاكُمْ) ، التمكين : إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع ، لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلة وإلى دلالة وإلى سبب ويحتاج إلى ارتفاع المنع. فالتمكين عبارة عن جميع ذلك.

(وَجَعَلْنا) : الجعل إيجاد ما به يكون الشيء على خلاف ما كان عليه ، مثل أن تقول : جعلت الساكن متحركا لأنك فعلت فيه الحركة ، ونظيره التصيير ، وجعل الشيء أعمّ من حدوثه ، لأنه قد يكون بحدوث غيره مما يتغيّر به.

(مَعايِشَ) : جمع معيشة ، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب ، وقيل هي مكاسب.

* * *

على الإنسان ربط حياته دوما بالله

إن الله يريد من الإنسان أن يدرس حياته دائما ، بما تشتمل عليه من

٣١

إمكانات القوة ومواطن النعمة ، فيربطها بالله ، المصدر الأساس للقوة والنعمة ، ليدفعه ذلك إلى الشعور بالمسؤولية أمامه ، في ما يستخدم فيه القوة ، أو يستعمل فيه النعمة ... وذلك هو مفهوم الشكر العملي ، الذي يريد الله من الإنسان أن يجعله الطابع العام لحركة حياته ، والسمة البارزة لشخصيته ؛ وذلك بأن يحوّل كل ما أعطاه الله إلى السبيل الذي يتحرك فيه أمر الله ونهيه ، لأنه لا يملك ذلك كله ، فلا حريّة له أن يتصرف فيه تبعا لمزاجه وهواه ، بل يعتبر ذلك منه تمرّدا على الله ، ومضادّا لحالة الشكر له ... ولن يتحقق ذلك إلا بالوعي الدائم لارتباط الوجود الإنساني في عناصره وخصائصه بالله ، والابتعاد عن الانغلاق الفكري والروحي داخل الذات ، الذي يوحي إليه بالإمكانات الذاتية التي يستمدها من وجوده بعيدا عن الله.

* * *

شكر الله يجب أن يلازم الإنسان

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) في ما أودعه من عناصر القوة في الإنسان ، وما سخره له من مخلوقاته ، (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) في ما تأكلون وتشربون وتلبسون وتستمتعون ... لتشكروا الله على ذلك ، وتنطلقوا به في طريق طاعته. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، وتلك هي النتيجة الطبيعية للغفلة عن معنى الحياة المسؤولة في صلتها بالله ، لأن قضية الشكر هي قضية وعي وانفتاح وإيمان ، لتعرف أن الله لم يخلقك عبثا ، ولم يخلق الحياة بدون هدف ، ولم يترك الإنسان بدون نظام ... فمع كل مخلوق فكرة ، ومع كل حياة هدف ، وأمام كل إنسان مسئولية ، فللقوّة مسئوليتها في تحمل عبء الحياة ، وللنعمة مسئوليتها في تنمية طاقات الحياة ـ حياتك وحياة الآخرين ـ فلا مجال للسلبيّة أو الأنانية ... وهذا ما يدفعنا إلى أن نفكر دائما بالله في كل إحساس بالقوة ، وفي كل مظهر للنعمة ، لنشكر الله على ذلك ، ولنجعل من الشكر سبيلا من

٣٢

سبل إغناء تجربة الإنسان المؤمن في حركة الحياة.

* * *

هل هناك صراع بين الإنسان والطبيعة؟

ربما نستوحي من هذه الآية ما استوحاه بعض المفسرين ـ وهو سيد قطب ـ أن الله خلق الأرض في طاقاتها المتنوعة والإنسان في إمكاناته العقلية والجسدية وجعل بينهما نوعا من العلاقة ، بحيث سخّر الأرض في امتداداتها التحتية والفوقية وآفاقها الفضائية ، للقدرة الإنسانية ، وأعطى الإنسان الإمكانات الواسعة في عقله وجسده التي يستطيع بها ان يكشف عن أسرارها ويسيطر على مواقعها ويحرك طاقاتها ، ليستفيد منها في إغناء حياته وليمنحها من فكره الكثير من حركة الإبداع الذي يطورها ويحولها إلى عنصر متحرك منتج صديق للإنسان لا عدو له ، وعلى ضوء هذا تنطلق النظرية الإسلامية التي تتحدث عن التكامل بين الإنسان والطبيعة ، خلافا للنظرية الغربية المادية التي تتحدث عن صراع بينها وبينه ، بحيث يتحول الإنسان الذي قد يسيطر على بعض أسرارها وطاقاتها إلى قاهر لها ، وتتحول هي عند سقوطه أمامها إلى قاهرة له.

إنّ الإسلام من خلال هذا الحديث عن التمكين الإلهي والتسخير الربوبي يؤكد نظرية التنوع في الوجود ، في الإنسان والطبيعة ، بحيث يسير نحو التوحد مع حركية الخصائص المتنوعة في داخله أما الجهد والتعقيد في الوصول إلى فعلية التكامل ، فإنه من لوازم السنة الإلهية في حاجة الإنسان ، للوصول إلى ما يريد ، إلى الكثير من الحركة والصعوبة التي تكلفه الكثير من الجهد والتضحيات ، لأن الله أراد للأشياء أن لا تفصح عن دفائنها ، وأن لا تعطي من طاقاتها إلا بذلك ، تماما كما هو خلق الإنسان في كبد ، وكما هو برنامج المسؤولية الملقاة على عاتقه التي تمنحه نتائجها في الدنيا والآخرة ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦].

* * *

٣٣

الآيات

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(خَلَقْناكُمْ) : الخلق : إحداث الشيء على تقدير تقتضيه الحكمة.

(صَوَّرْناكُمْ) : التصوير : جعل الشيء على صورة من الصور ، والصورة بنية مقومة على هيئة ظاهرة.

٣٤

(اسْجُدُوا) : السجود أصله الانخفاض وحقيقته وضع الجبهة على الأرض.

(فَاهْبِطْ) : الهبوط : الانحدار والسقوط.

(الصَّاغِرِينَ) : الصغار : الذلة والهوان ، والصاغر : الذليل.

(أَنْظِرْنِي) : الإنظار والإمهال والتأخير نظائر.

(يُبْعَثُونَ) : البعث : الإطلاق في الأمر ، والانبعاث : الانطلاق ، والبعث والحشر والنشر والجمع نظائر.

(أَغْوَيْتَنِي) : أضللتني.

(مَذْؤُماً) : ذأم الشيء : عابه ؛ والذّام والذّيم ، أشدّ العيب.

(مَدْحُوراً) : مطرودا. والدّحر : الدفع على وجه الهوان والإذلال.

* * *

عنصرية إبليس وراء سقوطه

وتبدأ الآيات من جديد ، لتضع الإنسان أمام بداية الخلق ، ليعيش التصوّر الإسلامي عن تكريم الله له ، وعن شخصية إبليس في خصائصه الذاتية ، وفي طريقته في التفكير ، وفي مخطّطاته من أجل إغواء الإنسان وإضلاله من خلال عقدة الكبرياء المتأصلة فيه ، ثم في محاولاته الناجحة في البداية ، في ما قام به من إثارة نقاط الضّعف في شخصية آدم ، حتى أخرجه وزوجه من الجنة ، ثم في عودة آدم إلى الله في عملية إنابة وتوبة وانطلاقة تصحيح ، وموقف قوّة في حركة الصراع مع إبليس ، وذلك من أجل أن يعيش الإنسان الوعي لدوره المتحرك في آفاق الصراع مع الشيطان في كل مجالات حياته ... فكيف عالجت هذه الآيات القصة؟

٣٥

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) بدأ الله خلق الإنسان من طين ، ثم صوّره حتى تكامل خلقه إنسانا سويا يملك الصورة الجميلة والجسم المعتدل ، والأجهزة الدقيقة التي تتحرك في نظام محكم متوازن ، فتحرّك فيه العقل والإرادة ، اللّذين يستطيع من خلالهما أن يحمل مسئولية نفسه ، ومسئولية الكون من حوله. ولما كان خلقه بهذه الصورة الفريدة ، كان ذلك مظهرا لقدرة الله وعظمته ، فأراد الله أن يمنحه الكرامة ، ويحمّله المسؤولية ، ويظهر لملائكته ما في هذا المخلوق من عناصر الإبداع ومظاهر القدرة ، (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تحية له ، وتعظيما لله الذي خلقه. ولم يكن ذلك سجود عبادة له ، لأن الله لا يرضى لخلقه أن يعبدوا غيره ، فكيف يتعبّدهم بذلك؟! بل كان سجود عبادة لله وتحية لآدم (فَسَجَدُوا). واستجاب الملائكة للأمر الإلهي ، لأنهم عاشوا العبودية له كأفضل ما تكون ، فليس بينهم وبين الانقياد إلا أن يصدر إليهم الأمر أو النهي ، لأن ذلك هو شأن العبد مع مولاه ، فلا تساؤل ولا اعتراض.

(إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) وكان إبليس يعيش مع الملائكة ، ولكنه لم يكن منهم ، بل كان من الجن ؛ (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ورفض السجود ، وتمرّد على الله .. وخاطبه الله بلهجة الإنكار ، (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)؟! هل هناك غموض في طبيعة الأمر ، أو هناك تصور بعدم شمول الخطاب له؟ لا شيء من هذا وذاك ، لأن الأمر واضح في شموله للمجتمع كله ، ولكن إبليس كان يعيش في واد آخر ، فقد كانت عنصريته تمنعه من أن يتنازل لعنصر آخر ، وكان هاجسه ذاته لا ربه ، فهي كل شيء بالنسبة إليه ، أما علاقته بالله ، فإنها تخضع لعلاقته بأنانية نفسه ، فإذا ابتعدت عن تأكيد ذلك منه ، ابتعد عنه ؛ وهكذا كان جوابه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، فكيف يسجد الأعلى للأسفل ، والأفضل للمفضول ، فعنصري أقوى من عنصره وأرفع درجة ؛ (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فأنا مخلوق من النار وهو مخلوق من الطين ، والنار تفني الطين ، فكيف أتواضع له؟!

٣٦

وربما كان في ظن إبليس ، أن هذا المنطق التحليلي لدوافع تمرده على السجود ، يمكن أن ينفعه أو يشفع له عند الله ، فيعفو عنه ، ويقبل منه دفاعه ... ولكن الله الذي ارتدى بالكبرياء رداء لنفسه ، ومنعه عن غيره ، لأن كل من عداه هو مخلوق له محتقر في حاجته وفقره إليه ... فمن أين يأتيهم الشعور بالكبر؟! لا سيما إذا كان التكبر على مخلوق نال الكرامة من الله ، مما يجعل من التكبّر عليه تكبرا على طاعة الله وامتثال أوامره. ولهذا أصدر الله إليه الأمر بالهبوط من الجنة ، (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) لأنها لا تفسح مجالها لمن يتكبّر فيها ، ويشعر بالعلو والرفعة والعصيان ... (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) وطرده الله من الجنة ليشعره بالسقوط والذل والصغار ، لأن جو الجنة يلتقي بالعبودية المطلقة لله في كل شيء. وهكذا خرج إبليس من الجنة ، ولكنه لم يستسلم لمصيره ، بل ظل يعيش الحقد والانتقام في نفسه ... (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وكان يبحث عن المنفذ الذي ينفذ منه لتحقيق غرضه. وربما عرف أنّ هناك مجالا للحصول على بعض المطالب في ما يتعلق بالبقاء مع آدم في ظروف معينة وأمد محدود ، فطلب من الله أن يمنحه الخلود في الدنيا إلى يوم القيامة ، وأن يؤخر عقابه وموته.

(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وكان لله حكمة في ذلك ، فقد أراد للإنسان أن يعيش الإرادة الحرّة في عملية الاختيار من خلال الصراع الذي يخوضه في معركة الخير والشرّ. وكان لا بد للشرّ من عامل يثير نوازعه في نفس الإنسان في مقابل نوازع الخير في نفسه ، وكان الشيطان العامل الذي يحقق ذلك ، ليوسوس وليزيّن ، وليخدع ويخادع ... وهكذا التقت رغبة الشيطان بحكمة الله ، فأنظره الله (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، قال تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر : ٣٧ ـ ٣٨]. وهنا كان الشيطان قد أحرز لنفسه غرضها ، وحصل على وعد الله ـ والله لا يخلف وعده ـ فبدأ بالإعلان عن العوامل الخبيثة الحاقدة في نفسه.

* * *

٣٧

إبليس يثأر لنفسه من الإنسان

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) والغواية تختزن معنى الضلال في مقابل الرشد. ولعل المراد : فبسبب إلقائك لي في الضلال ، بإخراجك إياي من رحمتك ، وطردي من جنتك ، مما جعلني أجد نفسي في الاتجاه الواحد الذي يبتعد عن الهدى ، فسأثأر لنفسي بإدخال كل هؤلاء الذين ينتسبون إلى هذا الذي يبتعد عن الهدى ، فسأثأر لنفسي بإدخال كل هؤلاء الذين ينتسبون إلى هذا الذي طردتني من أجل موقفي منه بكل ما ملّكتني من وسائل الإضلال والغواية ... (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي لألتزمنّ صراطك المستقيم في ما يمثله من وحيك وشرائعك ، فأجلس فيه وأرصد كل السائرين عليه لأحوّلهم عن السير فيه ، فأنحرف بهم ذات اليمين وذات الشمال ، وأثير فيهم كل نوازع الشر والجريمة من خلال نقاط الضعف الكامنة في داخلهم ، (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) فليست هناك جهة لا أملك حرية الدخول منها إلى أفكارهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية ، وعلاقاتهم البشرية ، وكل أوضاعهم العامة والخاصة ، لأنهم مكشوفون لي بكل آفاقهم الداخلية والخارجية ؛ فلهم غرائز يمكن إثارتها ، ولهم مطامع يمكن اللعب عليها ، ولهم أهواء يمكن التحرك من خلالها. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) لأن أكثريتهم لا يصبرون على الحرمان والمعاناة والبعد عن الشهوات ، ولا يواجهون المواقف بروح المسؤولية الجادة التي تحسب حساب النتائج الإيجابية أو السلبية ، لما يقومون به من أعمال ، وما يقفونه من مواقف ، بل يسيرون على أساس مشاعر اللحظة الحاضرة التي يعيش معها الإنسان توتّر الغريزة ، وسعار الشهوة ، ونزق الانفعالات ... وذلك من خلال نقاط الضعف ، وبذلك يفقدون الرؤية الواضحة التي يستجيبون من خلالها لنداء الله في ما يأمر به أو ينهى عنه ، في ما يمثل حالة الشكر العملي للنعمة الإلهية الواسعة التي أغدقها الله على الإنسان في أصل وجوده ، وفي تفاصيله المتحركة بالخير في أكثر من اتجاه.

* * *

٣٨

حزب إبليس في جهنم

ولكن الله يوجه إليه الخطاب بقوة وشدّة واحتقار ، (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) أي مذموما ، (مَدْحُوراً) مطرودا بهوان وإذلال (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) وسار على خطاك ورفض شكر النعمة ، واستجاب لوساوسك وإغراءاتك ... (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) فاعملوا ما شئتم ، واعمل أنت في إضلالهم وليتخبطوا في ضلالهم ... فما ذا بعد ذلك؟ هل تشفي غيظك ، هل يحققون رغباتهم؟! إنها النار التي تجمعكم جميعا لتذوقوا العذاب المهين.

* * *

إبليس والقياس

جاء في الدر المنثور : «أخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم ، فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس» (١).

وجاء في الكافي بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشي «قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله ـ جعفر الصادق عليه‌السلام ، فقال له : يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس ، قال : نعم. قال : لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢).

__________________

(١) السيوطي ، جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٩٩٣ م ، ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٣ ، ص : ٤٢٥.

(٢) الكليني ، الكافي ، ج : ١ ، ص : ٥٨ ، رواية : ٢٠.

٣٩

وجاء في كتاب علل الشرائع : «دخل أبو حنيفة على الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : «يا أبا حنيفة ، بلغني أنك تقيس؟ قال : نعم ، قال : لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، فقاس ما بين النار والطين ، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر» (١).

لقد وقف أئمة أهل البيت موقفا حاسما من القياس كدليل من أدلة الأحكام الشرعية ، انطلاقا من عدم وجود أساس يقيني له في مسألة الحجية ، فالقياس هو عبارة عن تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر بلحاظ وجود خصوصية مشتركة بينهما ، على أساس اعتبار هذه الخصوصية هي العلة للحكم الشرعي في الموضوع الأول ، مما يجعل الحكم في الموضوع الثاني خاضعا لوجود علته ، ولكن الملاحظة الدقيقة ، هي أن استنباط العلة ـ في أغلب الموارد ـ لا يخضع لليقين بها ، بل يحصل من حالة ظنية تلتقي مع احتمال الخلاف ، لأن من الممكن أن تكون هناك خصوصية أخرى في الموضوع الأول هي التي أنتجت الحكم ، وربما يكون لاجتماع الخصوصيات الأخرى إلى جانب الخصوصية المشتركة دخل في جعل الحكم ، بل ربما تكون هناك خصوصية خفية لم يدركها الباحث هي الأساس في الحكم ، فيكون إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر حاصلا من الظنّ الذي «لا يغني من الحق شيئا» ولا دليل على حجيته من ناحية خاصة. وربما يذكر البعض مثالا لابتعاد القياس عن الصواب مثال «البول» و«العرق» ، فقد حكم على بول الإنسان بالنجاسة وحكم على العرق بالطهارة مع أنهما متشابهان في خروج كلّ منهما من داخل جسم الإنسان ، فهل يحكم على العرق بالنجاسة لأجل ذلك ، في الوقت الذي يفترقان بأن أحدهما أرقّ والآخر أغلظ ، وأن الاجتناب عن

__________________

(١) الكافي ، ج : ١ ، ص : ٥٨ ، رواية : ٢٠.

٤٠