تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

أحدهما ـ وهو البول ـ أسهل ، بينما الاجتناب عن العرق أصعب.

وإذا كان القياس متعارفا عند الناس في بعض أمورهم ، فإن السبب في ذلك هو اكتشافهم العلة الكامنة وراء الحكم العرفي ، بلحاظ معرفتهم بالأسس العقلائية التي ارتكز عليها من خلال ما يعرفونه من مرتكزاتهم بشكل يقيني ، ولكنهم يتوقفون في الحالات التي لا يحيطون بخصوصياتها الذاتية ، وهذا ما قد نلاحظه في الأطباء الذين لا يبادرون إلى إعطاء دواء مريض لمريض آخر يشبهه في بعض المواصفات ، لإمكان أن يكون مختلفا عنه في صفات مرضية أخرى ، مما يجعل من الدواء عنصرا ضارا له بلحاظ تلك الخصوصية المنفردة.

وربّما كان الأساس في ذهاب أبي حنيفة للقياس هو قلة الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما نقل عنه ـ مما يجعل من الواقع الفقهي واقعا يشبه ما ذكره الأصوليون من علماء الشيعة في موضوع انسداد باب العلم والحجج الخاصة ، الأمر الذي ذهب فيه بعضهم إلى حجّية الظنّ المطلق ، ولكنه أمر غير واقعي لورود الكثير من الأحاديث الواردة عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت الذين يتحدثون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل أحاديثهم ، بالإضافة إلى نصوص القرآن ، الأمر الذي لا يجعل هناك فراغا فقهيا أو حاجة استنباطية يفرض اللجوء إلى القياس أو إلى الظنون الأخرى ، في الوقت الذي يصعب فيه معرفة علل الأحكام الشرعية بشكل دقيق ، مما يجعل من القياس وسيلة من وسائل الابتعاد عن الحقيقة في الحكم الشرعي من خلال الظنون المتنوعة التي قد تختلف باختلاف الأشخاص.

وتبقى هناك حالة واحدة ، وهي صورة «منصوص العلة» بأن يأتي ذكر العلة في الحديث نفسه الدالّ على الحكم الشرعي ، كما إذا قال : لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، فإننا نستوحي من ظاهر الكلام علية الإسكار للحرمة ، مما

٤١

يجعل عنوان المسكر هو عنوان الموضوع للحرمة ، لأن العلة تؤدي إلى سعة الموضوع ليشمل كل مسكر ، ففي هذه الحال لا مانع من إسراء حكم الخمر في الحرمة إلى كل مسكر.

وقد شدّد أهل البيت عليهم‌السلام على رفض القياس ، كما شدد عليه ابن حزم الظاهري ، لحماية الأحكام الشرعية من الانحراف عن خط الحقيقة التشريعية ، وقد اتّبعوا جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حسب الرواية المتقدمة ، باعتبار إبليس هو الذي بدأ القياس عند ما اعتبر أن السبب في التكريم لا بد من أن ينطلق من قوّة العنصر ، فهو الأساس في التفضيل ، ولذلك اعترض على تفضيل الله لآدم قال : «أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» ، باعتبار أن النار أقوى من التراب لأنها تفنيه ، ولكنه لم يلتفت إلى الخصوصيات الروحية والمعنوية المتناسبة مع الدور الذي أو كله الله لآدم ، بالإضافة إلى خصائص التراب في عملية الإنتاج الزراعي وفي بناء الأبنية ونحو ذلك ، وهكذا كانت غوايته منطلقة من عدم وعيه للخصائص الخفية الحقيقية التي تكمن وراء التفضيل الإلهي لآدم.

وبكلمة واحدة ، إن اليقين هو الأساس الوحيد للحجيّة ولا بد لكل حجة من الانتهاء إلى اليقين ، حتى لو كان ذلك بلحاظ تنصيص الشارع على حجيتها باعتبار أن الأمر يرجع إليه ، وأما الظن فإنه «لا يغني من الحق شيئا» ، فكيف نعتمد عليه ـ بدون دليل ـ ليكون القياس حجة!

وقد حاول أصوليو السنّة أن يستدلوا على حجيّة القياس بأدلة متنوعة من الكتاب والسنة ، ولكنها لا تثبت أمام النقد العلمي.

* * *

٤٢

إبليس والتكبر

جاء في الكافي عن علي بن الحسين عليه‌السلام في حديث : «وللمعاصي شعب ، فأول ما عصى الله به الكبر معصية إبليس حين أبى واستكبر» (١).

إنّ قيمة هذا الحديث هي الإشارة إلى الأساس الذي دفع بإبليس إلى عصيان أمر الله في السجود لآدم ، فلم تكن المسألة مسألة إخلاص في توحيد الله بحيث يمنعه من السجود لغيره ، لأن السجود ليس عبادة لآدم وخضوعا له ، بل هو سجود لله في التعبير عن الإحساس بعظمته في خلقه ، وتحية لآدم في العناصر المميزة في ذاته ، بل كانت المسألة مسألة إحساس بالكبرياء الذاتي أو التفوق العنصري الذي يجعله مستغرقا في مشاعره المعقّدة ، على أساس أنه يملك من عناصر الامتياز ما لا يملكه هذا المخلوق الجديد ، وذلك بالتفكير في القضية من جانب واحد وهو جانب العنصر الناري ، الذي هو أقوى من العنصر الترابي ، والغفلة عن العناصر الأخرى المميزة التي تتمثل في خلق آدم ، حتى أن الترابية إذا كانت أضعف من النارية من بعض الجهات ، فإنها تتميز بخصائص كثيرة في إغناء الحياة في عملية الخصب والنموّ والعمران ونحو ذلك ، وعدم الالتفات إلى أن الله لم يجمع في أيّ موجود كل الخصائص ، بل جعل لكل موجود خصائص معيّنة تختلف عما جعله في الموجود الآخر ، لأن تنوع الموجودات في خصائصها وعناصرها هو الذي يمنح النظام الكوني توازنه وتكامله من خلال اجتماع العناصر المتنوّعة في داخله.

وفي ضوء ذلك ، نعرف أن الأنانية لا تمثل حالة وعي في الإنسان بلحاظ استغراقه في أعماق الذات ، بل تمثّل حالة غفلة إنسانية عن سرّ التنوّع في

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٣١٦ ، رواية : ٨.

٤٣

عناصر الوجود ، وعن اختلاف الجوانب في خصائص الذات ، وعن البعد الفكري عن فهم الآخر في مميزاته الوجودية ، تماما كمن يقضي عمره في زاوية مغلقة يستغرق فيها فيخيّل إليه أن العالم يتمثل في هذه الزاوية ، لأنها هي التي عانت فيها تجربته الذاتية.

وهذه هي مشكلة الأنانيين الذين لا ينظرون إلى الناس الآخرين في فضائلهم المميزة ، ولا ينظرون إلى أنفسهم في سلبياتهم الذاتية ولا يدخلون في مقارنة واقعية إنسانية بين عناصرهم الشخصية وعناصر الآخرين ، وبذلك تتحوّل الأنانية إلى كبرياء لتتحول الكبرياء إلى عقدة في الذات توحي باتخاذ المواقف العدوانية ضد الآخر ، لا سيّما إذا استطاع أن يبلغ الدرجات العليا في الحياة ، وأن يتغلب عليه في الحصول على امتيازات واقعية في الواقع الإنساني.

وهذا هو الذي تمثله إبليس في موقفه من آدم وبنيه ، فقد استفاد من حرية الحركة التي منحه الله إياها في التجوال في الجنة التي كان يقيم فيها آدم وزوجه ، ومن نقاط الضعف البشري في شخصيته ، ومن فقدانه للتجربة المتحركة في معرفة إبليس الذي لم يتيسّر لآدم التعرف عليه بخصائصه الشريرة عن قرب .. وهكذا عمل على أن يرسم خطته في إبعاده عن رضوان الله وقربه منه ، وذلك بالعمل على استغلال نهي الله لآدم وزوجه عن أكلهما من الشجرة لحكمة منه في ذلك ، مما لم يثر فيهما أيّ ردّ فعل سلبيّ ، فقد تقبلاه بكل رضى وطواعية وخضوع وإذعان.

وبدأ إبليس خطّته ، فقد أقسم لهما إنه من الناصحين ، ليبعث الثقة به في وجدانهما ، لأنه ليس من الطبيعي أن يقسم بالله كاذبا لا سيّما أنهما كانا لا يعرفان الكذب في التجربة الواقعية ، ثم أنار في داخلهما أحلام الخلود والتحوّل إلى الشخصية الملائكية التي ربما كانا يملكان صورة

٤٤

جيّدة لها بحيث تنفتح عليها أحلامهما ، وهكذا أخرجهما من الجنة إلى الأرض.

* * *

لماذا أمهل الله إبليس؟

وفكّر أن لا يقف عند هذا الحدّ ، فإن هناك فرصة جديدة لآدم وذريته أن يدخلوا الجنة إذا اتبعوا هدى الله ، ولذلك فقد طلب من الله مهلة انتظارية يجمّد الله فيها عقوبته له في نطاقها ، ومنحه الله هذه الفرصة المنشودة ، إمّا تكريما لعبادته التاريخية عند ما كان في مجتمع الملائكة كما لو كان أحدهم ، وإما ابتلاء للإنسان واختبارا لحركة عقله وإرادته في الطاعة الإرادية القائمة على وقوفه أمام خياري الخير والشر ، ليكون لإبليس ، الشيطان ، دوره في الوسوسة الداخلية المحركة للغرائز في اتجاه قلق الشرّ ، وحركته في الإيحاء في إثارة الأحلام الخيالية والشهوات الجامحة ، وتزيين الصورة القبيحة ، وتقبيح الصورة الحسنة ، وإطلاق الوعود المعسولة ، ونصب الحبائل الشيطانية في طريق الهدى من أجل أن يسقطوا فيها فلا يمتدوا في مسيرتهم الإيمانية .. وهكذا أعلن خطته الإضلالية في حصار الإنسان بشهواته وأمانيه وحبائله وخدعه ، ليحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ، ليمنعه من شكر الله قولا وعملا ومن السير في الخط المستقيم ، ليبعده عن الجنة ويدخله النار ، ليرضي بذلك حقده وعداوته ضد هذا الذي كرّمه الله عليه ، ليسقط هذه الكرامة من ذريته ، ليقعوا تحت تأثير غضب الله باستسلامهم لغروره وخداعه. ولكن الله يحذّر بني آدم أن لا يتّبعوا خطوات الشيطان حتى لا يخرجهم من الجنة كما أخرج أبويهم من الجنة ، ويؤكد له أن عباده الصالحين الذين يتحركون من موقع عقولهم ووعيهم الإيماني وإرادتهم التقية ، ليس له سلطان عليهم إلا أولئك الذين لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ،

٤٥

ولهم نقاط قوة لا يحركونها في حياتهم العملية ، مما يترك تأثيره على أقوالهم وأفعالهم ، فينحرفون عن الخط المستقيم ، فهؤلاء لم يتحركوا في خط الانحراف من أجل سلطانه عليهم ، بل من جهة أنهم أهملوا سلطان إنسانيتهم على حركتهم ، واستضعفوا أنفسهم ، وخضعوا لاستكباره في أجواء الغفلة ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

وهكذا كان هذا التكبّر الشيطاني على الله بالتمرد على أوامره ونواهيه ، عبر التكبر على آدم بامتناعه من السجود له ، سببا لكل هذه العدوانية على آدم وذريته ، وكل هذه العقدة الحاقدة في شخصيته.

* * *

لا سبيل للشيطان إلى إرادة الإنسان

ولم تكن مشكلة البشر من خلال وجوده واستمراره وقدرته على الوسوسة والإثارة والتزيين والخداع ، ممّا يقلب فيه المقاييس ويغير الصورة ويثير الأجواء القلقة في الإدراك الإنساني ، بل المشكلة لديهم من خلال إهمالهم لقدراتهم الفكرية والعقلية وأصالتهم الإنسانية ، وقاعدتهم الإيمانية ، وإرادتهم القوية ، لأن الشيطان لا يملك أن يشلّ إرادة الإنسان ، وأن يعطّل قدرته فالإنسان الذي خلقه الله ضعيفا لا يعيش الضعف قضاء محتوما ، وقدرا حاسما ، بل يملك أن يحوّل الضعف إلى قوة ببركة الوسائل المادية والغيبية التي حرّكها الله في حياته ، فإذا أهمل ذلك ، فقد اختار لنفسه الهلاك بإرادته واختياره ، لا بسبب ضغط الشيطان عليه ، وهذا هو الذي عبّرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي

٤٦

وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].

فنحن نلاحظ في هذه الآية أن الشيطان يتخفف من عبء المسؤولية التي يحمّلها الخاطئون له ليذكّرهم أن دوره ينتهي عند دعوته إليهم بوسائله المتنوعة ، ولا يتعداه إلى السيطرة عليهم ، فعليهم أن يتحملوا مسئولية أنفسهم في الانحراف ، لأن الله وعدهم وعد الحق ، فلما ذا لم يستجيبوا له ولم يثقوا به ، وإنه وعدهم فأخلفهم ، وقد عرفهم الله صفة الشيطان في ذلك ، فلما ذا استجابوا له؟!

وهكذا نجد الشيطان ـ في هذا الحوار النهائي بينه وبين الإنسان الخاطئ ـ في صورة المخلوق الذي يواجه مصيره من دون أن يجد أحدا ممن اتبعه في ضلاله ناصرا له ، كما يواجه أولئك مصيرهم من دون أن يملك نصرتهم .. لينكمش في النهاية المهلكة في زاوية من زوايا جهنم في ساحة الذل والهوان ، فيسقط كبرياؤه وتتمزق أنانيته ، ويبقى آدم والصالحون من ذريته في عزة الإيمان والإخلاص والطاعة لله ، بعد أن حرّكوا إنسانيتهم في اتجاه الخير المنفتح دائما عليه ـ تعالى ـ.

* * *

لينتبه المتكبّرون في الأرض

وهذا ما ينبغي للمتكبرين أن يدرسوه ويعرفوه ، وما يجدر بالأنانيين أن يواجهوه ، ليصلوا إلى النتيجة الحاسمة ، وهي أنّ التكبر قد يمنح المتكبّر فرصة في ممارسة عقدة كبريائه في الضغط على المستضعفين ، وأن الأنانية قد تفتح لصاحبها بعض النوافذ على مواقع العلوّ في الحياة ، ولكن هذا وذاك سوف

٤٧

يواجهان الحقيقة بالسقوط الإنساني في الدنيا وبالعذاب الأبدي في الآخرة ، ولعل مصير المتكبر الأكبر والأناني الأعظم ، إبليس ، هو الشاهد الحي على ذلك كله ، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

* * *

إبليس في إحاطته بالإنسان

ذكر صاحب تفسير الميزان في تفسير قوله تعالى في ما قصّة من كلام إبليس إن المراد من قوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) «ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم مما تتعلق به الآمال والأماني من الأمور التي تهواها النفوس وتستلذها الطباع ، ومما يكرهه الإنسان ويخاف نزوله به ، كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله ، أو ذم الناس ولومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير والثواب.

والمراد بخلفهم ناحية الأولاد والأعقاب ، فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد آمال وآمان ومخاوف ومكاره ، فانه يخيّل إليه أنه يبقى ببقائهم فيسرّه ما يسرّهم ، ويسوؤه ما يسوؤهم ، فيجمع المال من حلاله وحرامه لأجلهم ، ويعدّ لهم ما استطاع من قوة ، فيهلك نفسه في سبيل حياتهم.

والمراد باليمين ـ وهو الجانب القوي الميمون من الإنسان ـ ناحية سعادتهم ـ وهو الدين ـ وإتيانه من جانب اليمين ، أن يزيّن لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية ، والتكلف بما لم يأمرهم به الله ، وهو الذي يسميه الله تعالى باتباع خطوات الشيطان.

والمراد بالشمال خلاف اليمين ، وإتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتّباع الأهواء» (١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٣٢ ـ ٣٣.

٤٨

وجاء في مجمع البيان حديث مروي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) معناه أهوّن عليهم أمر الآخرة (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم. وإنما دخلت (من) في القدّام والخلف ، و(عن) في اليمين والشمال ، لأن في القدّام والخلف معنى طلب النهاية ، وفي اليمين والشمال الانحراف عن الجهة (١).

ونلاحظ على ذلك ، أن الظاهر من الآية أنها واردة في مقام ضرب المثل بحال العدو الذي يحاصر عدوه من جميع الجهات ، فلا يملك الهروب منه لإحاطته به من جميع جوانبه ، وليست في مقام بيان تفاصيل الخطط الشيطانية وتحديد عمل الشيطان في كل جهة.

ولكن لا مانع من أن تكون هذه التفاصيل بمثابة المصاديق المتصورة في هذا الجانب أو ذاك ، أو بمثابة الاستيحاء من الآية ، لأن اعتبارها من المعنى لا يخلو من خفاء ، فإنّ بعض الأمور المذكورة تمثّل نتائج العمل ، لا العمل نفسه الذي يتدخل فيه إبليس ، والله العالم.

وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري : «فإن قلت : كيف قيل : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بحرف الابتداء و (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بحرف المجاورة؟ قلت : المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به ، فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس ، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط.

فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٢٣.

٤٩

وعلى شماله ، قلنا : معنى عن يمينه أنه تمكّن من جهة اليمين تمكّن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ، كما ذكرنا في (تعال) ونحوه عن المفعول به قولهم : رميت عن القوس ، وعلى القوس ، ومن القوس ، لأن السهم يبعد عنها ، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ، ويبتدأ الرمي منها ، وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه ، لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، كما تقول : جئته من الليل ، تريد بعض الليل» (١).

* * *

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٢ ، ص : ٧١.

٥٠

الآيات

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(فَوَسْوَسَ) : الوسوسة : الصوت الخفي المكروه ، وقد يراد بها هنا ما

٥١

يجده الإنسان في نفسه من الخواطر الضارّة.

(لِيُبْدِيَ) : الإبداء : الإظهار وهو جعل الشيء على صفة ما يصحّ أن يدرك ، وضده : الإخفاء ، وكل شيء أزيل عنه الساتر فقد أبدي.

(وُورِيَ) الشيء : غطّي وستر. والمواراة : جعل الشيء وراء ما يستره ، ومثله المساترة وضده المكاشفة.

(سَوْآتِهِما) : السوأة : ما يسوء الإنسان ؛ والمراد بها هنا العورة ، حيث يسوؤه ظهورها.

(وَقاسَمَهُما) : المقاسمة لا تكون إلّا بين اثنين ، والقسم كان من إبليس لا من آدم. وإنما قال : وقاسمهما ، كما يقال : عاقبت اللص وطارقت النعل وعافاه الله ، وكذلك قاسمته ، وقيل إن في جميع ذلك معنى المقابلة ، كأنه قابله في المنازعة باليمين ، والمعاقبة مقابلة بالجزاء ، وكذلك المعافاة مقابلة المرض بالسلامة.

(فَدَلَّاهُما) : استنزلهما وجرأهما على الخطيئة ، والتدلّي : الدنو والاسترسال ، من دلوت الدلو أرسلتها ، وأدليتها : أخرجتها ، ومنه قولهم : فلان يتدلى إلى الشرّ لأن الشرّ سافل والخير عال.

(بِغُرُورٍ) : بباطل وخداع.

(وَطَفِقا) : أخذا ، شرعا.

(يَخْصِفانِ) : يلصقان ورقة على ورقة.

(اهْبِطُوا) : انزلوا بسرعة ، والهبوط : النزول بسرعة.

(عَدُوٌّ) : العدوّ ضد الولي ، وقيل : العدوّ هو النائي بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته ، والولي هو الداني بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته.

٥٢

(مُسْتَقَرٌّ) : هو موضع الاستقرار ، وقيل : هو الاستقرار بعينه ، لأن المصدر يجيء على وزن المفعول.

(وَمَتاعٌ) : المتاع : الانتفاع بما فيه عاجل استلذاذ ، لأن المناظر الحسنة يستمتع بها لما فيها من عاجل اللذة.

(حِينٍ) : الحين : الوقت ، قصيرا كان أو طويلا ، إلا أنه قد استعمل هنا على طول الوقت ، وليس بأصل فيه ، كقول القائل : ما لقيته منذ حين.

* * *

آدم وحواء يخضعان لخداع إبليس

... وأراد الله الإيحاء إلى آدم بكرامته عليه ، في ما يمهد له من سبل رضوانه ونعمه ، فقال له : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وخذا حريتكما في التمتع بأثمارها في ما تختاران منها ممّا تستلذّانه أو تشتهيانه ... (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لا يمنعكما منه مانع ، (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) فهي محرمة عليكما. هذه هي إرادة الله التي انطلقت من موقع حكمته في توجيهكما إلى أن تواجها المسؤولية من موقع الالتزام والإرادة ، في الامتناع عن بعض ما تشتهيانه من أجل إطاعته في ما يأمر به أو ينهى عنه ، فلا بد من تجربة أولى لحركة الإنسان في عملية الإرادة ، فلتبدأ تجربتكما الأولى في هذه الأجواء الفسيحة التي منحكما الله فيها كل شيء ، مما يجعل من النهي الصادر منه إليكما ، تكليفا ميسّرا لا صعوبة فيه ولا حرج ، فبإمكانكما السير في نقطة البداية من أيسر طريق ، ف (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، الذين يظلمون أنفسهم ، ويسيئون إليها بالانحراف عن خط المسؤولية في طاعة الله. ولم يكن لديهما أيّ حافز ذاتيّ يدفعهما إلى المعصية ، لأنهما لا يشعران بالحاجة إلى

٥٣

هذه الشجرة بالذات ، ما دامت الشجرة لا تمثل شيئا مميزا في شكلها وثمرها.

* * *

التوهّم علّة الانحراف

ولكنّ إبليس ، الذي أخرجه الله من الجنة ، ومنعه أن يسكنها ، كان يملك الاقتراب منها ، أو التردّد عليها ، فعمل على أن يثير في داخلهما الأفكار التي تجعل من هذه الشجرة قضيّة مهمة ذات أبعاد كبيرة في حياتهما ، وأن يحوّل هذا السلام الداخلي والصفاء الروحي ـ اللذين يعيشانهما في علاقتهما بالله ـ إلى حالة عنيفة من الهمّ والقلق والتطلّع إلى آفاق موهومة يفتحها الخيال الذي يريد إثارته في أحلامهما. وتلك هي قصّة الأحلام السعيدة في أكثر مظاهرها ، فهي تتحرك من مواقع الخيال الذي يتحرك في النفس كما يتحرك الضباب ، فيحسّ معه الإنسان بسحر الغموض الذي لا يطيق معه أن يخرج إلى مطالع النور ، وكلّما زادت خيالات الإنسان ، كلما ابتعدت الصورة الحقيقية عن وجدانه ، لأنه يعطيها ضخامة لا تملكها ، وسحرا لا تحتويه. وهذا ما يزيّن المعصية لدى الإنسان ، عند ما يتحرك للاعتداء على ما يملكه غيره ، مما يملك مثله ، على أساس الخيالات التي تصوّر له أنه يتميز عمّا لديه. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي عليه‌السلام عند ما كان جالسا بين أصحابه ذات يوم ، فمرّت امرأة جميلة ، فرمقها القوم بأبصارهم ، فقال لهم : «إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها ، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأته»(١).

هذا ما يريد أن يثيره في أنفسهم .. ليس هناك فرق بين الشهوة التي يحصل عليها من الاتصال بامرأته أو من الاتصال بامرأة أخرى ، إلا في ما يثيره

__________________

(١) نهج البلاغة ، ص : ٥٥٠ ، حكمة : ٤٢٠.

٥٤

الخيال في نفس الإنسان من أوهام ، بما تحدثه من أحاسيس ومشاعر حميمة لا أساس لها. وهذا ما بدأه إبليس في تجربته الأولى لإغواء آدم وحوّاء ؛ فقد عاشا في الجنّة ، ولا فكرة لهما عن المستقبل ، ولا عن الحياة والموت ، أو عن الخلود والفناء ، ولا طموح لهما في مسألة الملك والرفعة ؛ فهما هنا في الجنة في رضوان الله ونعيمه ، يعيشان السعادة والطمأنينة والسلام الروحي دون مشكلة (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) بطريقته الخاصة ، وأثار في داخلهما الإحساس بفكرة جديدة لم تخطر لهما على بال ؛ فهما هنا ـ في الجنة ـ يستمتعان بكل شيء فيها ، ما عدا هذه الشجرة ، فلما ذا المنع عن هذه الشجرة بالذات؟ لا بد أن هناك سرا خفيا وراء ذلك ، فما هو هذا السر؟! وكانا يسيران عاريين لا يلتفتان إلى شيء يميز عضوا عن عضو في جسديهما مما يثير الحياء والخجل. وبدأت الأخيلة الجديدة تثير علامات الاستفهام أمامهما ... ما هذا وما ذاك؟ وما دور هذا ، وما دور ذاك ... وتحوّلت الوسوسة الخفية الدائمة ، إلى حالة من القلق الخفيف الذي يزحف على المشاعر فيحرّكها في حالة من التوتر والارتباك ... واستمر إبليس في إثارة الوسوسة في داخلهما (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ليعيشا هذا الهاجس العضوي في جسديهما. (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وأثار في داخلهما طموح الملك والسيطرة والخلود ، وربط ذلك بالشجرة ، فهي تحمل في ثمرها سرّ الخلود والملك. فانطلقا إليها بكل شوق ولهفة ، وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله ونهيه ، لأن الإنسان إذا استغرق في مشاعره وطموحاته الذاتية ، واستسلم لأحلامه الخياليّة ، نسي ربّه ، ونسي موقعه منه ، وأصبح يفكّر في الاتجاه الواحد الذي يقوده إليها بعيدا عن كل مسئولية.

* * *

٥٥

إبليس يستغلّ براءة آدم وحواء

وربما استشعرا بعض القلق في داخلهما ، وعاشا بعض التردد في موقفهما. وحاول إبليس أن يزيل ذلك كله ، فيؤكد الموقف لهما بالطريقة التي لا مجال فيها للتراجع ، وذلك بالأيمان المغلظة التي يطلقها بحرارة المؤمن بما يقول ، الواثق بما يعد (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ، وحلف لهما أنه لا يدّخر جهدا في تقديم النصيحة لهما ، فلا مصلحة له في أن يأكلا أو لا يأكلا ، بل هي مصلحتهما أوّلا وأخيرا. ولم يكن عندهما أيّة تجربة سابقة مع مخلوق يحلف بالله ويكذب ، أو يؤكد النصيحة ويخون أو يغشّ ، فصدّقاه وأقبلا على تلك الشجرة المحرّمة يذوقان من ثمرها (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي أنزلهما عن درجتهما الرفيعة ، فأوصلهما إلى مرحلة السقوط بسبب الغرور الذي أوقعهما فيه ، في ما استعمله من أساليب الخداع. (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) وشعرا بالعري الذي بدأ يبعث في نفسيهما الشعور بالخزي والعار ، في إحساس جديد لم يكن لهما به عهد من قبل. وقيل : إنهما كانا يلبسان لباس أهل الجنة ، فسقط عنهما بسبب المعصية. (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ليسترا سوءاتهما في إحساس بالحاجة إلى ذلك ، بطريقة غريزية ، من خلال شعورهما بالدور الخجول للعورة ، أو لأمر آخر يعلمه الله ، وسقطا في الامتحان وأخفقا في التجربة ، وبدأ هناك شعور خفيّ بالخيبة والمرارة نتيجة إحساسهما بأنهما ارتكبا ما لا يجب أن يرتكباه ، وربّما تذكّرا نهي الله لهما عن الأكل من الشجرة ، وربما يكونان قد عاشا بعض الحيرة في ما يفعلانه في موقفهما هذا ، فهذا أمر جديد لا يعرفان كيف يتصرفان فيه ..

وهنا جاءهما النداء من الله مذكّرا ومؤنّبا (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)؟! فكيف خالفتما هذا النهي وعصيتماني ؛ ما حجتكما في ذلك؟ هل هي وسوسة الشيطان؟ وكيف لم تنتبها إلى وسوسته ؛ ألم أحذركما منه

٥٦

(وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) يضمر لكما الحقد والعداوة والحسد ، منذ رفض السجود مع الملائكة ، وخالف أمر الله بذلك ، ووقف وقفة التحدي للإنسان ليغويه ويضرّه ويقوده إلى عذاب السعير؟ وها أنتما تريان كيف قادكما إلى هذا الموقف المهين.

وتمثّلت لهما الجريمة في مستوى الكارثة ؛ كيف نسيا تحذير الله لهما ، كيف أقبلا على ممارسة الرغبة المحرّمة وغفلا عن عداوة الشيطان لهما ، وكيف خالفا أمر الله الذي خلقهما وأنعم عليهما؟؟ وبدءا يعيشان الندم كأعمق ما يكون ، في إحساس بالحسرة والمرارة والذعر ... ولكنهما لم يستسلما لهذه المشاعر السلبية طويلا ، ولم يسقطا في وهدة اليأس ، فلهما من الله أكثر من أمل ، لأنه الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم. فرجعا إليه ، وعادا إلى كنف رحمته يتطلعان إلى مغفرته ورضوانه ، في موقف الاعتراف الخاشع. (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) بما أخطأنا وما خالفنا ، لأننا لم نتصور أن هناك مخلوقا يغش ويخدع ، أو يكذب ويخون ... فنحن لم نخض تجربة مماثلة سابقة في حياتنا ، أو في حياة مخلوقات أخرى ، فاستسلمنا للخداع بطيبة قلب ، وغفلنا عن كل النتائج السلبية من جرّاء ذلك ، وربما خيّل لنا أن مثل هذه الأفكار التي أثارها في أنفسنا قد تصلح مبررا لتجاوز النّهي ، لأننا لم نتعمق في معرفة مسئولية الإنسان أمام الأمر والنهي بشكل دقيق. وها نحن أمامك نفتح لك قلوبنا وأفكارنا وحياتنا كلها لتكون بين يديك ، في ما نستقبل من قضايا وأوضاع ، وما تريده أو لا تريده منا. فأمرنا أو انهنا نطعك في ذلك كله ..

وتلك هي روحيّة الإنسان المؤمن في حالة الاعتراف النادم بالذنب أمام الله ، من أجل مواجهة الموقف بالتوبة للحصول على المغفرة والرحمة. فاغفر لنا بمغفرتك ، وارحمنا برحمتك ، (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم بفقدانهم لرحمة الله ومغفرته ورضوانه ... وهذا ما لا

٥٧

تقوم له السموات والأرض ، فكيف بالإنسان الضعيف الذليل الفقير المسكين المستكين ... وغفر الله لهما وتاب عليهما ، ولكنه أمرهما بالخروج من الجنة ، كما أمر إبليس بالخروج منها ، لأنهما عصياه كما عصاه ، وإن كان الفرق بينهما أنه ظل مصرّا على المعصية ولم يتب فلم يغفر له الله ، بينما وقف آدم وزوجته في موقف التوبة فغفر لهما.

* * *

هبوط آدم وحوّاء إلى مستقرّهما الأرضي

(قالَ اهْبِطُوا) إلى الأرض فذلكم مكانكم الطبيعي الذي تعيشون فيه الصراع بين الحقّ الذي تمثله إرادة الله في وحيه وشريعته ، وبين الباطل الذي تمثّله إرادة الشيطان في أضاليله ووسوسته ، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، فليس هناك قاعدة مشتركة بين مصلحة الإنسان في السير في طريق الله الذي يؤدي به إلى الجنة ، ومصلحة الشيطان في السير في طريق الضلال الذي يؤدي بالإنسان إلى النار (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فليس هناك خلود واستقرار دائم ، بل هو الاستقرار الذي يتهيأ الإنسان معه للرحيل ريثما يأخذ متاعه وزاده. (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ، هي دار الحياة المسؤولة في ما يفعله الإنسان من خير أو شرّ ، وهي دار الموت الذي تخمد فيه شعلة الحياة ، وهي الدار التي يبعث فيها الإنسان من قبره ليواجه نتائج المسؤولية ، في ما خلّفه وراءه من أعمال وعلاقات ومواقف.

* * *

٥٨

لماذا أسكن الله آدم وحواء الجنة؟

إننا نعرف من قصة بدء الخليقة في خلق آدم في سورة البقرة ، أن الله ـ سبحانه ـ قد خلقه ليكون خليفة في الأرض ، الأمر الذي قد يفرض وجوده في الأرض من البداية ليمارس دوره في الخلافة ، فكيف أسكنه الله وزوجه الجنة كما لو كانت مستقرا لهما؟

وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الجنة ليست الموعودة ، بل هي جنة أرضية من جنان الدنيا كما جاء في تفسير البرهان عن علي بن إبراهيم قال : «حدثني أبي ، رفعه ، قال : سئل الصادق عليه‌السلام عن جنة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا.

قال : فلما أسكنه الله تعالى الجنة وأباحها له إلا الشجرة لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح ، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق ، فجاءه إبليس فقال له : إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبدا ، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة ، وحلف لهما إنه لهما ناصح ، كما قال الله عزوجل ـ حكاية عنه ـ : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ* وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ). فقبل آدم قوله ، فأكلا من الشجرة ، فكان كما حكى الله : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) وسقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنة ، وأقبلا يستتران من ورق الجنة ، (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) فقالا : ـ كما حكى الله عنهما ـ : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فقال الله لهما : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) ، قال : إلى يوم

٥٩

القيامة» (١).

ونلاحظ على هذه الرواية أولا : أنها ضعيفة السند لأنها مرفوعة ، فلم يتّصل السند بالإمام ، وثانيا : أنها مخالفة لظاهر القرآن بأن الجنة التي أسكن الله آدم فيها هي الجنة الموعودة بلحاظ السياق القرآني من جهة ، وتحذير بني آدم من الشيطان الذي أخرج أبويهم منها ، حتى لا يخرجهم منها أيضا بسبب وسوسته ، من ناحية أخرى ، مما يوحي بأن الجنة هي التي وعد المتقين بها ، لأنها هي التي تتناسب مع التحذير لهم حتى لا تتكرر التجربة ، ثم التعبير بقول الله تعالى : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) دليل على ذلك.

ولعل الأقرب إلى جوّ القصة القرآنية ، أن الله سبحانه وتعالى أراد إقحام آدم عليه‌السلام في تجربة واقعية تحدد له المعالم والخطوط العريضة ، لما يمكن أن يكون عليه من حياة هنيئة وسعيدة ، ولما يمكن أن يصبح عليه من حياة تعيسة ونكدة ، وذلك من خلال تجربة العلاقة مع إبليس الذي أريد له أن يرافق مسيرته وبنيه في الأرض في عملية وسواس وتزيين وإضلال ، لما من شأن الاستجابة له ، والوقوع في فخه ، أن يشكلا السبب للوقوع في معصية الله ، وولوج دائرة غضبه وسخطه ، في حين أن عدم الاستجابة له يشكل سببا لولوج دائرة رضوان الله تعالى ورحمته. وهكذا تصبح هذه التجربة درسا يستحضره آدم عليه‌السلام دائما في حياته ليستقوي به في مواجهة إغواءات إبليس وسواه وبالتالي لنيل رضوان الله تعالى.

ثم ليتعرف بعض الأساليب المنحرفة التي لم يكن له عهد بها من قبل ، وهو أسلوب الكذب ، بطريقة القسم المغلّظ ، من قبل إبليس ، وهذا هو ما يوحي به الحديث المأثور عن الإمام الصادق عليه‌السلام في رواية علي بن إبراهيم

__________________

(١) البحراني ، هاشم ، البرهان في تفسير القرآن ، دار الهادي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٤ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٢ ، ص : ٥ ـ ٦.

٦٠