تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

بها لأنهم أولياء الله وأحباؤه ، أمّا في يوم القيامة فهي خالصة لهم ، لأن نعيم الآخرة هو نعيم الثواب الذي لا يستحقّه إلا المؤمنون ، وبهذا تكون كلمة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) من متعلقات الفعل المقدر بعد كلمة «هي» ، أي كائنة في الحياة الدنيا ، لا من متعلقات كلمة (آمَنُوا) ؛ والله العالم.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ليعرفهم الخط العملي في الحياة ، حتى لا تختلط عليهم الأمور ، وتشتبه لديهم المفاهيم ، في ما يقبلونه ويرفضونه ، على أساس الفلسفات المنحرفة التي تأتيهم من هنا وهناك.

* * *

الأشياء التي حرمها الله

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) فالله لم يحرم حاجات الحياة الطبيعية التي تبني الجسد وتريحه ، بل حرّم الأشياء التي تسيء إلى سلامة الروح ، وصفاء الفطرة ، ونظام الحياة ... فليست المسألة عنده أنه يريد أن يحرم عباده من متع الحياة ولذاتها ، بل كل ما يريده ، أن يمنع عنهم ما يكدّر هذه المتع ويشوّه جمالاتها ... فما الأشياء التي حرّمها؟ لننظر إلى هذه الأمور التي ذكرها في الآية كنموذج. فقد (حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) ، وهي المعاصي التي تبلغ الحد الكبير من القبح والإنكار في حياة الناس ، كالزنى واللواط ونحوهما ... (ما ظَهَرَ مِنْها) ، أي ما أعلن ، كما في نصب الرايات التي كانت ترفعها اللواتي يؤتين الفاحشة في الجاهلية ، (وَما بَطَنَ) وهي العلاقات المحرمة التي كانت تأخذ طابع السرية ، أو التي كانت تأخذ صفة الشرعية دون أساس ، كنكاح الأبناء زوجات آبائهم من غير أمهاتهم ... فقد اعتبره الله فاحشة محرّمة ، مما بطن من الفواحش. (وَالْإِثْمَ) وهو الفعل الذي يكتسب الإنسان به الانحطاط في أخلاقه ، والهوان والسقوط في حياته ، كشرب الخمر

١٠١

الذي يسيء إلى عقله وماله وجاهه وعرضه ... و (وَالْبَغْيَ) وهو العدوان على الآخرين في الممارسات التي لا حقّ للإنسان بها ، كما في ألوان الظلم والتعدي على الناس في الاستيلاء على أموالهم وأعراضهم وحياتهم ... (بِغَيْرِ الْحَقِ) لأن التصرّفات المماثلة لتلك التصرفات إذا كانت على أساس الحق كالمعاملة بالمثل في ما يجوز فيه ذلك لا تكون بغيا ، ولا تعتبر حراما.

(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وهذا من محرّمات العقيدة ، على أساس أنها من الأفكار التي لا ترتكز على حجة ، وهذا هو المراد من قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، لأن الله لا يحاسب الإنسان على الأفكار التي يملك حجة عليها ، بل يحاسبه على الأفكار التي لا يملك أساسا فكريا لها ، كما في الشرك الذي لم ينطلق من قاعدة فكرية ، بل من خيالات وأوهام لا ترتكز على أساس معقول ... (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فتنسبون إليه ما لم يقله ولم يشرعه من أفعال وأوضاع ، في ما تتحدثون عنه من تحريم هذا أو تحليل ذاك ، من غير علم في ما جعله الله من مصادر العلم من وحي أو كلام نبي أو نحو ذلك ...

هذه بعض نماذج الأفعال التي حرمها الله ، وهي لا تتضمن تقييدا لطموحات الإنسان وتضييقا لحياته ، بل كل ما هنالك أنها تحدد له المسار الفكري والعملي في ما يصلح أمره ويرفع مستواه. وفي ضوء ذلك ، يمكن للإنسان أن يعرف طبيعة التحليل والتحريم في الإسلام ، ليميز بذلك حق التحريم والتحليل من باطله.

* * *

المقصود بالظاهر والباطن من الفواحش

جاء في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن

١٠٢

سعيد عن أبي وهب ، عن محمد بن منصور قال : «سألت عبدا صالحا ، عن قول الله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) قال : فقال : إن القرآن له ظهر وبطن ، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمة الجور ، وجميع ما أحلّ الله تعالى في الكتاب هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمة الحق (١).

وقد فسّر ذلك صاحب الميزان بقوله : «أقول : انطباق المعاصي والمحرّمات على أولئك ، والمحلّلات على هؤلاء ، لكون كل واحد من الطائفتين سببا للتقرب من الله أو البعد عنه ، أو لكون اتباع كلّ سببا لما يناسبه من الأعمال» (٢).

ولنا ملاحظة على ذلك ، أن الحديث ليس واردا في مقام تطبيق الآية بحسب معناها الظاهر على أئمة الجور وأئمة الحق ، بل هو وارد في مجال بيان وجود معنى باطني للقرآن ، بحيث يكون مرادا منه على النحو الذي يراد منه المعنى الظاهر ، فلا ينسجم مع ما ذكره العلّامة الطباطبائي قدس‌سره.

ثم نتساءل بعد ذلك ، أولا : عن المراد من المعنى الباطن ، هل هو المعنى الذي يستبطنه اللفظ في عمقه ، وهذا غير مفهوم ، لأن اللفظ لا يستبطن إلا معناه اللغوي الموضوع له أو المنقول إليه ، فليس له معنيان في الأصل ظاهر وباطن.

أو هو المعنى الإيحائي الذي يستوحيه القارئ من الأفعال التي يحبها الله من الحلال أو يبغضها من الحرام ، فينتقل من ذلك إلى الأشخاص الذين يحبهم الله ، لأنهم يقودون الناس إلى حلاله ويبعدونهم عن حرامه ، وإلى الأشخاص الذين يبغضهم الله ، لأنهم يقودون الناس إلى الحرام ويبعدونهم عن

__________________

(١) الكافي : ج : ١ ، ص : ٣٧٤ ، رواية : ١٠.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٩٦.

١٠٣

الحلال ، وذلك من خلال أن الله عند ما يتحدث عن الحلال والحرام في كتابه فإنه يريد للحلال أن يتحول إلى واقع في حياة الإنسان ، وللحرام أن يبتعد عن الواقع الإنساني ، ولا بد لهذا وذاك من قيادة شرعية أو غير شرعية ، لتنال رضا الله ـ في هذا الموقع ـ من خلال التزامها بما يرضاه ، أو لتنال غضب الله ـ في ذلك الموقع ـ من خلال حركتها نحو ما يغضبه ، ولعل هذا هو الأقرب إلى الجوّ العام للحديث وللآية.

وثانيا : ما هي علاقة الآية بأن للقرآن ظهرا وبطنا ـ كما في الرواية الموافقة لهذه الرواية التي ورد فيها أن القرآن ظهر وبطن؟ فإن الآية تتحدث عن الفواحش الظاهرة والباطنة من الأفعال الإنسانية ، وقد فسّرت الباطنة ـ في روايات أخرى ـ بأن المراد مما بطن «ما نكح من أزواج الآباء ، لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه ، فحرّم الله عزوجل ذلك» (١). وجاء في الدر المنثور : «أخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم ، وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أتعجبون من غيرة سعد ، فوالله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، ومن أجله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أغير من الله» (٢) ، فان الظاهر من هذه الرواية وأمثالها أن المراد من قوله : (وَما بَطَنَ) الأفعال المحرّمة غير المعروفة لدى الناس في سلوكهم العام ، لا المعنى الباطني على خلاف ظاهر الآية ، فلا بد من رد علمها إلى أهلها.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج : ٢ ، ص : ١٣.

(٢) الدر المنثور ، م : ٣ ، ص : ٤٤٧.

١٠٤

الآية

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

* * *

معاني المفردات

(أُمَّةٍ) : الأمة الجماعة التي يعمّها معنى ، وأصلها من أمّه يؤمه إذا قصده ، فالأمّة الجماعة التي على مقصد واحد.

(أَجَلٌ) : وقت مضروب لانقضاء المهل ، لأن بين العقد الأول الذي يضرب لنفس الأجل وبين الوقت الآخر مهلا ، مثل أجل الدين وأجل الرزق وأجل الوعد وأجل العمر.

* * *

١٠٥

لكل أمة أجل

لقد حدّد الله للجماعات الإنسانية ، التي تتخذ لنفسها صفات معينة تستمدها من النسب والأرض وغيرهما ، أجلا لا تعدوه ، فليس هناك خلود لأحد ، ليأخذ امتداده وحريته في ما يريد أو لا يريد ، بعيدا عن إرادة الله في ما يأمر به أو ينهى عنه ... ولهذا الأجل أسبابه الطبيعية ، في ما أودعه الله في الإنسان من إمكانات محدودة لاستمرار الحياة ، وما خلقه في الكون المحيط به ، من أوضاع وأسباب تقف بالحياة عند حدّ معيّن. وتلك هي سنّة الله في الحياة التي لا تجد لها تحويلا أو تبديلا. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) محدود ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الذي حدّده الله من خلال تحديد الأسباب الطبيعيّة لذلك ، (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) عما أجّل الله لهم ، (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ساعة عن ذلك ، وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) قال : هو الذي يسمّى ملك الموت (١).

وهكذا ينبغي لكل أمة أن لا تعتبر نفسها كل الحياة ، بل هي مرحلة من مراحلها في عملية النمو والتطور ، فليس لها أن تأخذ كل الأدوار ، لأنها لا تستطيع ذلك ، بل تأخذ لنفسها الدور الذي يعيش في نطاق المرحلة المحدودة ، لتأخذ الحياة حركتها الطبيعية في سلّم التدرّج والتنامي والامتداد.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٩٦.

١٠٦

عمر الأمة الحضاري

وقد نستوحي من هذه الآية كيف تتمثل الحياة في عمر الأمّة الحضاري ، من خلال ما تمثّله المجموعة من العناصر المشتركة في الثقافة والاجتماع والسياسة والعلاقات الإنسانية والأمن والاقتصاد ، مما يدخل في عملية التوازن الإنساني الذي يتكامل فيه الأفراد ليعطي كل واحد منها شيئا من طاقته المميزة لتلتقي الطاقات في حركة تكامل وتعارف وتمازج ، ليدخل ذلك كله في جسم الأمّة في المعنى التوحيدي الذي يوحد بين أفرادها ، لأن الأمة في معنى الجماعة ، ليست وجودا مميزا عن الأفراد لتكون شخصية معينة متميزة ، بل هي الأفراد الذين ينضمّون إلى بعضهم البعض في مشروع واحد وخطة موحّدة ، وطاقات متفاعلة متداخلة تنتج طاقة واحدة للأمة.

ويبقى هذا العمر قويا شابا منفتحا حيويّا حتى تتغير الخصائص الحية ، لتموت في عملية تحلّل وانكفاء وابتعاد عن الخط المتوازن ، وهذا هو الذي أثارته الآية القرآنية بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال : ٥٣] ، وقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢] وقوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم : ٤١] ، إلى غير ذلك من الآيات المتحدثة عن عملية الموت الحضاري للأمة من خلال التغير الفكري والسلوك المنحرف والفساد المتنوع والبعد عن خط التقوى ، مما يجعل الإنسان صانع التغيير في الجانب الإيجابي والسلبي ، بحيث يمثل ذلك السّنة التاريخية التي أودعها الله في الواقع الإنساني الاجتماعي من موقع إرادته واختياره لا من موقع الحتمية التاريخية الخارجة

١٠٧

عن قدرة الإنسان الحركية. وبعبارة موجزة ، إن السنّة التاريخية لا تخضع دائما للعناصر الخارجة عن قدرة الإنسان ، بل إنها قد تخضع للإرادة الإنسانية في حركة الفكر والعمل ، فالاختيار الإنساني جزء من السنة وليس نتيجة لها ، فإذا أحسن الاختيار كان للأمة شبابها وحيويتها وامتدادها في العمر الحضاري ، وإذا أساء ذلك ، كان سببا للمرض الروحي والمعنوي والمادي الذي يعجل في الموت ويبلغ بها نهاية الأجل.

إن نهاية الأجل للأمة كنهاية الأجل للفرد ، خاضعة للعوامل الداخلية والخارجية المتحركة في عناصر الضعف والقوّة في الذات ، إنها حركة منفتحة على المستقبل متصلة بالماضي والحاضر في عملية مراوحة بين الظروف التي يصنعها الإنسان والظروف المحيطة به من الخارج.

وليس من الضروري أن يكون الموت الذي يمثل عملية سقوط حضاري للأمة حتميا ، بل هو إراديّ في خط الوعي السلبي والإيجابي للفكر وللحركة والامتداد ، وهذا هو الذي يلتقي بقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠]. فإنها تعني التجدد والحركة من خلال الأسباب الطبيعية الإنسانية وليست شيئا لا مفر منه من خلال نظرية حتمية السقوط. وهذا هو الذي تلتقي فيه الآية (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) بالآية الأخرى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) فإن عملية التداول لا تبتعد عن مواقع الاختيار ، بل تتحرك معها ومع العناصر الأخرى المتصلة بالنظام الكوني ، والله العالم.

* * *

١٠٨

الآيتان

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

* * *

النداء الأخير للناس لاتباع الرسل

وهذا هو النداء الرابع الحاسم في دعوة الناس إلى اتّباع الرسل الذين يبعثهم الله ليقصّوا عليهم آياته ، بما تدلّ عليه من عظمة الإبداع في خلقه ، لتقودهم إلى التأمل بها والتفكير فيها ، وبما تذكرهم به من نعم الله التي تتصل بوجودهم وبامتداده ، بالمستوى الذي يجعل منها رحلة طيبة رائعة في مسيرة الكون ، وبما تخطط لهم من المنهج الفكري والعملي الذي يقودهم إلى الخط السليم في التفكير والصراط المستقيم في العمل ، وبما توجّههم إليه من أساليب وأهداف في نطاق الحياة كلها ، كموقع ينطلق فيه الإنسان إلى الآخرة عبر مسيرته المسؤولة في الدنيا. وعلى ضوء هذا ، فإن هؤلاء الرسل جاؤوا ليقصّوا علينا هذه الآيات الإلهية ، من أجل وعي إيمانيّ منفتح ، وعمل تقوائيّ

١٠٩

صالح متحرّك ، لنواجه النتائج الإيجابية في أجواء التقوى ، والنتائج السلبية في أجواء الكفر والاستكبار ... وتلك هي قصة الرسالات مع الناس في حركة البداية والنهاية.

* * *

وجوب اتباع الرسل والتقيد بتعاليمهم

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من عند ربكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) التي نهديكم سواء السبيل ، وتقودكم إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وتنذركم عذاب النار ، وتبشركم بنعيم الجنة ، تبعا لأعمالكم الخيّرة أو الشريرة ... فاتّبعوها وسيروا على الخط الذي تقودكم إليه ، أو واجهوا النتائج السلبيّة. (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) ووعى موقفه من الله ، خائفا مقام ربه ، وناهيا النفس عن الهوى ، مصلحا أمره في فكره وعمله ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من عذاب الله في جهنم ، لأن الله قد أعطى المؤمنين الصالحين الأمن من كل خوف (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في ما يواجه الناس من أهوال يوم القيامة ؛ فإن الله قد منحهم الفرح الكبير في ما يستقبلهم من لطفه ومغفرته ورضوانه في جنات النعيم.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد أن أقام الله عليهم الحجة ، بما قدمه لهم من براهين ، (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) فلم يخضعوا للحقيقة الإلهية التي تمثلها آياته ، كما هو شأن الكثيرين من الناس الذين يمتنعون عن الخضوع للحقائق الفكرية والعملية ، لا لوجود شبهة تمنعهم من الرؤية الواضحة ، بل لعقدة الكبرياء الذاتي الذي يمنع الإنسان من إجراء أية عملية تغييرية لأسلوبه في التفكير أو طريقته في العمل ، أو لقناعاته المتوارثة ، تماما ككل المستكبرين على أكثر من مستوى عند ما يستسلمون للعقدة الاستعلائية المرضيّة المستحكمة فيهم ، من أجل الحصول على امتيازات لا يستحقونها ، أو الوصول إلى مواقع لا

١١٠

يملكونها ، ولا حجّة لهم في ما يحاولون ، ولا عذر لهم في ما يستكبرون. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، فذلك هو جزاء الطغيان والاستكبار والتمرد على الله وعلى رسالاته ورسله.

* * *

ملاحظتان حول الآيتين

الملاحظة الأولى : في قوله تعالى : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) فقد حاول البعض أن يستوحي منها نفي خاتمية الرسالة ، لأنها تتحدث عن المستقبل الذي يأتي فيه (رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) ممّا يدل على أن هناك رسلا بعد النبي يحملون رسالة الله ، ولكن هذا ظاهر البطلان ، فإن الخطاب لبني آدم ، وليس للمؤمنين ، فهو شامل للناس جميعا على نطاق الخطاب الذي وجهه لآدم وزوجته عند إنزالهما إلى الأرض في قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٣٨ ـ ٣٩]. وهو خطاب يعم جميع المكلفين من بني آدم ، من جاءه الرسول منهم ومن جاز أن يأتيه الرسول ـ كما في مجمع البيان (١).

الملاحظة الثانية : في قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فقد جاء في مجمع البيان في تفسيره : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة(٢).

وقد لاحظ بعض المفسرين أن الخوف والحزن المنفيين هما في الدنيا لا في الآخرة ، ولذلك فإن المؤمنين يعيشون الطمأنينة والاستقرار النفسي والأمن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٤١.

(٢) (م. ن) ، ج : ٤ ، ص : ٦٤١.

١١١

الروحي ، فلا خوف من المستقبل ولا حزن على ما مضى.

ونلاحظ على هذا الرأي ، أن تأثير الإيمان بالله والثقة به في ابتعاد المؤمن عن أجواء الخوف والحزن في الدنيا يمثل الحقيقة الإيمانية ، وذلك من خلال الإحساس بالحضور الإلهي في حياته بالدرجة التي يتحسس فيها رعايته وحمايته وإشرافه عليه ، كما جاء في قول الله تعالى ، ممّا قصه من حكاية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) [التوبة : ٤٠] فقد كان النبي يعيش السكينة الروحية في قلبه ، وأراد لصاحبه أن لا يشعر بالحزن في الموقف الصعب ، وممّا قصّه الله على المؤمنين : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٣ ـ ١٧٥] ، فقد أراد الله للمؤمنين أن لا يخافوا من الشيطان في الدنيا ، لأنه ـ تعالى ـ هو الذي يمنحهم الأمن الروحي الذي يشعرون معه بالسكينة النفسية.

إننا لا نمانع من هذا التأثير الروحي للإيمان على النفس المؤمنة بما يفيضه الله عليها من ذلك ، ولكن سياق الآية وأمثالها وارد في الحديث عن موقف المؤمن في الآخرة ، بقرينة مقابلتها بالآية الأخرى المتحدثة عن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها بأن جزاءهم النار ، كما هو الحال في آية البقرة المتقدمة ، مما يوحي بأن الآيتين معا واردتان في سياق الحديث عن جزاء الإيمان والكفر في يوم القيامة ؛ والله العالم.

* * *

١١٢

الآيات

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

* * *

١١٣

معاني المفردات

(يَنالُهُمْ) : النيل : وصول النفع إلى الإنسان إذا أطلق ، فإن قيّد وقع على الضرر ، لأن أصله الوصول إلى الشيء ، من : نلت أنال نيلا.

(يَتَوَفَّوْنَهُمْ) : التوفّي : قبض الشيء بتمامه ، يقال : توفيته واستوفيته ، والمراد به هنا الموت.

(خَلَتْ) : الخلوّ : انتفاء الشيء عن مكانه ، يقال : خلا عن البيت ، وكذلك خلت بمعنى مضت ، لأنها إذا مضت بالهلاك فقد خلا مكانها منها.

(الْجِنِ) : قال في مجمع البيان : الجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين الناس لرقّتهم ، يغلب عليهم التمرّد في أفعالهم كما يغلب على الملك أفعال الخير (١).

(ادَّارَكُوا) : أصله : تداركوا ، ومعناه تلاحقوا واجتمعوا وأدرك بعضهم بعضا.

(أُخْراهُمْ) : اللاحقون مرتبة أو زمانا من التابعين.

(لِأُولاهُمْ) : المتّبعون من رؤسائهم وأئمتهم أو من الأجيال السابقة عليهم الذي مهدوا لهم طريق الضلال.

(ضِعْفاً) : الضعف المثل الزائد على مثله ، فإذا قال القائل : أضعف هذا الدرهم ، فمعناه اجعل معه درهما آخر لا دينارا ، وكذلك إذا قال : أضعف الاثنين ، فمعناه اجعلهما أربعة. وحكي أن المضعّف في كلام العرب ما كان ضعفين والمضاعف ما كان أكثر من ذلك.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٤٣.

١١٤

(سَمِّ الْخِياطِ) : ثقب الإبرة. والسمّ ـ بفتح السين وضمها ـ الثقب ، ومنه السمّ القاتل لأنه ينفذ بلطف في مسام البدن حتى يصل إلى القلب فينقض بنيته وكل ثقب في البدن لطيف فهو سم وسمّ وجمعه : سموم. والخياط والمخيط : الإبرة.

(جَهَنَّمَ) : اسم من أسماء النار. واشتقاقها من الجهومة ، وهي الغلظ ، وقيل : أخذ من قولهم : بئر جهنّام أي بعيد قعرها.

(مِهادٌ) : المهاد : الوطاء الذي يفترش. ومنه مهد الصبي ، وقد مهّدت له هذا الأمر أي وطأته له.

(غَواشٍ) : جمع غاشية ، وهو كل ما يغشاك أي يسترك ، ومنه غاشية السرج ، وفلان يغشى فلانا أي يأتيه ويلابسه.

(صُدُورِهِمْ) : الصدر ما يصدر من جهته التدبير والرأي ، ومنه قيل للرئيس : صدر.

(غِلٍ) : الغل : الحقد الذي ينغل بلطفه إلى صميم القلب ، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة ، ومنه الغلّ الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيهما.

(تَجْرِي) : الجريان انحدار المائع ، فالماء يجري والدم يجري وكل ما يصح أن يجري فهو مائع.

(الْأَنْهارُ) : النهر : الواسع من مجاري المياه ، ومنه النهار لاتساع ضيائه.

(وَنُودُوا) : النداء : الدعاء بطريقة يا فلان.

(أُورِثْتُمُوها) : قال الراغب في المفردات : الوراثة والإرث : انتقال قنية

١١٥

إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد ، وسمي بذلك المنتقل عن الميّت : يقال للقنية الموروثة : ميراث. وإرث وتراث أصله وراث ، فقلبت الواو ألفا وتاء ، قال : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) ، وقال (عليه الصلاة والسلام) اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم ، أي أصله وبقيته. قال الشاعر :

فينظر في صحف كالرّبا

ط فيهنّ إرث كتاب محي

 ... ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب : قد ورث كذا ، ويقال لمن خوّل شيئا مهنّئا : أورث ، قال تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) [الزخرف : ٧٢] ، (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ) (١) [المؤمنون : ١٠ ـ ١١].

وذكر صاحب تفسير الميزان وجها آخر قال : «وقد جعلت الجنة إرثا لهم في قبال عملهم ، وإنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره. يقال : ورث فلان أباه أي مات وترك مالا بقي له ، والعلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم ، ويرث الله الأرض أي أنه كان خوّلهم ما بها من مال ونحوه ، وسوف يموتون فيبقى له ما خوّلهم.

وعلى هذا ، فكون الجنة إرثا لهم أورثوها ، معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعا ، غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن ، فهو الوارث لها بعمله ، ولو لا عمله لم يرثها قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) [المؤمنون : ١٠ ـ ١١] ، وقال تعالى ـ حكاية عن أهل الجنة ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤].

وهذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات» (٢). وبعد أن يذكر ما

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ١١٨.

١١٦

أوردنا عن المفردات يعلّق بقوله : «وإنما كان ما قدمناه أوضح ممّا ذكره ، لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادّة» (١).

وقد جاء في الحديث المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بطرق الشيعة والسنّة ـ حيث يقول : «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة ، فذلك قوله : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)» (٢).

ونلاحظ على ما ذكره العلّامة الطباطبائي بالحديث عن مناسبة التعبير بالإرث عن الجنّة التي ورثها المؤمنون ، بأنها «معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعا ، غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن ، فهو الوارث لها بعمله» ، إن ما ذكره من تعريف الإرث بأنه «مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره» ليس عليه دليل من اللغة ، لأن الظاهر من معناه أن يكون المال مملوكا للشخص أو مختصا به ، فينتقل إلى غيره ، فليس الانتفاع به ملحوظا إلا من حيث تعيّنه للملك.

أمّا صعوبة إرجاع ما ذكره الراغب من المعاني إلى أصل واحد ، وهو المادة ، فقد يكفي في ذلك في المناسبة أن تكون شبيهة بالإرث باعتبار أنه خوّل له شيء يهنأ به ، سواء كان ذلك نتيجة عمله أو كان ذلك بالتفضل عليه به ، ولعل ذلك هو معنى الرواية ، لأن ظاهرها ليس مرادا من حيث فعلية اختصاص المؤمن بمنزل في النار ليرثه الكافر ، واختصاص الكافر بمنزل في

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ١١٩.

(٢) انظر : تفسير نور الثقلين ، ج : ٢ ، ص : ٣١ ، وتفسير القرطبي ، دار الفكر ، ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م ، ج : ٤ ، ص : ١٨٨ ، وتفسير الأمثل ، مؤسسة البعثة ، ط : ١ ، ١٤١٣ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٥ ، ص : ٤٧.

١١٧

الجنة ليرثه المؤمن ، لأن النار منزل الكافر بكفره ، فهو يختص به بالأصالة لا بالوراثة ، كما أنّ الجنّة منزل المؤمن بإيمانه ، فهو يحصل عليه بالأصالة لا بالوراثة ، بل المراد ، على تقدير صحة الرواية ، أن الجنة والنار معدّتان لمن يعمل بما يؤدي إليهما ، فليست الجنة مكتوبة لشخص معين من ناحية ذاتية ، كما أن النار غير مختصة بفرد معين من ناحية ذاتية ، بل القضية تابعة للاختيار بإرادة الإيمان والعمل الصالح أو الكفر والعمل السيئ ، فهناك إمكانية الوصول لكل منهما ، فإذا حدثت الفعلية كان كل واحد منهما بمنزلة الوارث لمكان الآخر ، باعتبار أنه في معرض الصيرورة منه ، ولكن يبقى في المناسبة ، في حديث الرواية ، خفاء مما تردّ به إلى أهلها.

* * *

صورة المكذّبين بآيات الله

توضح الآيات الكريمة صورة المكذّبين بآيات الله ، أو الذين افتروا كذبا على الله ، انطلاقا من الأجواء المضلّلة التي خلقوها وعاشوا فيها ، لإبعاد الناس عن صفاء الفطرة ووضوح الرؤية للأشياء ، في ما يخلطونه بالباطل من قضايا الحق ، وما يثيرونه في أفكارهم من شكوك وشبهات ، وما يوحون إليهم به من أوهام وتعقيدات ، فتتضخّم شخصياتهم ، وتؤدّي بهم إلى الانحراف عن الحقيقة ، في زهو وخيلاء ، وتقودهم إلى متاهات الكبرياء ... وهكذا تتجسّد الصورة ، وتتعاظم في مدلولاتها ؛ فإذا بالموقف من هؤلاء يمثل أفظع الظلم ، لأنه يسيء إلى خالق الحقيقة من جهة ، وإلى الحقيقة من جهة أخرى ... ولكنها ـ مع ذلك ـ الصورة التي تضيع معها أحلام الإنسان وطموحاته في الهواء ، لتتحول إلى ورقة تهرب منه كلما عصفت الرياح ، وكلما امتد به الطريق أو تعقّدت في داخله الحيرة.

١١٨

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب إليه ما لم يشرّعه وما لم يقله ، (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) وجحد رسالاته وتمرد على رسله ... فقد ظلم الله ربه حقّه في الإيمان والطاعة ، وظلم الحقيقة حقّها في الوضوح والإذعان. (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) في ما قضاه الله وقدّره لعباده في الأرض من أرزاق ومعايش في ما يأكلون ويشربون ويلبسون ويتلذذون ... كغيرهم من عباد الله ، لأن الله لا يخص بنعمته عباده المؤمنين ، بل يفيض ما يشاء منها على جميع العباد. وتستمر بهم النعم ، وتمتد بهم الحياة ... (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) ـ وهم ملائكة الموت (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) ويقبضون أرواحهم ليواجهوا حساب الله في ما قدموه من أعمال سيئة ، (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من شركاء مما تصنعون من أصنام ، أو تخضعون لهم من بشر ... (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) وابتعدوا وتركونا ـ وحدنا ـ نواجه المسؤولية ، في حيرة وضياع وذهول ... فكيف كنا نكفر بالله وبآياته؟ وكيف سرنا في خط الضلال الذي قادونا إليه؟ (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) في شعور عميق بالحسرة والتمزق والسقوط ...

* * *

مشهد المكذّبين الأوّل

إنه المشهد الأول من المشهدين اللذين عالجتهما الآية. إنهم الكافرون في الدنيا ، وقد جاءت رسل الله بمهمة إماتتهم ؛ ولكنهم وجهوا إليهم سؤالا قبل القيام بمهمتهم ، في صيغة هي أقرب إلى التبكيت والتوبيخ منها إلى الاستفهام ؛ أين هؤلاء الذين كنتم تدعونهم من دون الله ، فليأتوا إليكم في هذا الموقف الحرج الذي يتحدّى أصل وجودكم واغتراركم به ليخلصوكم إذا كانوا يملكون بعض قوة الألوهية أو سلطتها؟ ويحمل الجواب مشاعر الخيبة القاتلة

١١٩

التي تجسد الضياع بكل معانيه : لقد ضلوا عنا وابتعدوا وضاعوا فلا أثر لهم ، تماما كمن يمسك الريح وعند ما يفتح يده فلا يرى شيئا. وانكشفت الحقيقة ، فلا مجال للنجاة أو الإنكار ، وشهدوا على أنفسهم بالكفر بالله ، ووقفوا ليواجهوا نتائج ذلك كله ... وينتهي هذا الحوار ، ويسدل الستار ، ونعرف من خلال الجو أن المهمة قد انتهت وأنّهم انتقلوا إلى الدار الآخرة.

* * *

المشهد الثاني

أما المشهد الثاني ، فهو صوت ينطلق من الله ، ليوجّه الأمر الحاسم بإدخال هؤلاء الكافرين في النار مع كل الأمم التي سبقتهم من الجن والإنس. ويدخل هؤلاء إلى النار ، فنسمع ـ في قلب هذا المشهد ـ اللعنات تتوالى وتتصاعد وتتشابك ، فكل أمّة تلعن أختها التي سبقتها. اللعنات هي تحيات الداخلين من جديد للسابقين إلى النار ؛ ولكنّها تحيّات الغضب والغيظ والمرارة التي تجيش في الصدور التي وحّد أفكارها الكفر ، ولم يستطع أن يوحّد مشاعرها وعلاقاتها ، أو يربط بينها برابطة التعاطف والتكاتف والاستسلام للمصير المشترك بدون سلبيات في علاقاتها المشتركة ...

إنها وقفات الغيظ المتفجر ، التي تريد أن تصب النقمة والسخط واللعنة على الآخرين الذين تعتبرهم مسئولين ـ حقا أو باطلا ـ عن هذا المصير ، لتخفّف من وقع الصدمة على النفس بالإيحاء بمسؤولية الآخرين عن ذلك.

وهنا ينفتح نوع من الحوار بينهم ، لا يخاطبون فيه بعضهم البعض وجها لوجه ، بل تتوجه الجماعة الأخيرة أمام الجماعة الأولى بالدعاء إلى الله في أن يضاعف عذابه لمن سبقهم ، لأنهم أساس الضلال ؛ فكأنهم يريدون إفهامهم

١٢٠