تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

(كَدَأْبِ) : الدأب والديدن : العادة ، وهي العمل الذي يدوم ويجري عليه الإنسان ، والطريقة التي يسلكها.

* * *

حالة قبض الملائكة لأرواح الكافرين

ويصور لنا الله حالة قبض الملائكة لأرواح الكافرين وما يتمثل فيها من عنف وإهانة وتحقير. (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) في بدر وفي غير بدر ، (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) فيحيطون بهم من خلفهم ومن قدّامهم بالضرب ، كناية عن السخط الذي يشعرون به ضدّهم في كفرهم بالله وتمرّدهم عليه. ويقولون لهم ، وهم يدفعونهم إلى النار ليواجهوا عذابها : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) الذي يحرق أجسادكم ، (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من أعمال شريرة ، ومن اختيارات فاسدة ، ومن كفر وضلال وكبرياء ... (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا يعاقبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، في ما يقدّم لهم من براهين ، وما يمكّنهم به من قوى. وتلك هي سنته في خلقه الذين يكفرون به ويتمرّدون عليه في الماضي والحاضر.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فقد كان ديدنهم وطريقتهم أنهم (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) ، واستمرّوا في خط الكفر والضلال والإضلال يتعمقون فيه ويمتدون ... (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) التي جنوها واكتسبوها. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) فكيف يأمن عقابه الكافرون والمتمردون؟!

* * *

تغيير النعم خاضع للسلوك العملي للناس

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). وتلك هي

٤٠١

سنّة الله في عباده ، فإن نعم الله التي ينزلها على عباده ، في ما تقتضيه رحمته وحكمته ، لا تتغير ولا تتبدّل ما دامت النيات خالصة ، والخطوات مستقيمة على النهج الذي يحبه الله ويرضاه ، فلا ينزل عذابه في الدنيا ، ولا عقابه في الآخرة ، إلا بعد أن يغيروا ما بأنفسهم ، في ما يواجهون به الأنبياء والدعاة إلى الله من جحود وكفران وتمرّد وعصيان ، وما يفسدون به الحياة بعد إصلاحها ، ولذلك فإن الأمم السابقة لم تتعرض للعذاب أو للبلاء ، إلّا بعد وصولها إلى المدى الذي يمثل الخطورة على مسيرة الإيمان والمؤمنين في ما يواجهونه من التحديات والتعديات في هذا المجال.

وهكذا نستطيع أن نعرف أن تغيير النعم وزوالها خاضع للسلوك العملي للناس ، في ما يفعلون ويتركون. فإذا أرادوا بقاء النعمة ، فعليهم الاستمرار في الانفتاح على الله وفي الإخلاص له ولعباده ، لأن ذلك هو السبيل الذي تتحرك فيه النعم في حياتهم. ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حتميّة في تغيير الواقع عند تغيير النيّات والأعمال ، فقد تقتضي حكمة الله أن يبقي لبعض عباده نعمتهم ، مع اختلاف نواياهم وأعمالهم ، لأن هناك جانبا آخر يفرض بقاءها واستمرارها. وتلك هي أسرار الله في خلقه ، لا يعلمها إلا هو. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع كل شيء ويعلم بكل شيء ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ، وكانوا يتقلّبون في نعم الله ، في ما يملكونه من ثروات وإمكانيات ، وما يتقلبون به من رخاء وجاه وسلطان ، ولكنهم لم يشكروا الله على ذلك ، عند ما أرسل رسوله موسى بآياته ليخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى ، فتمرّدوا واستكبروا وكذبوا بآيات الله. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ). سواء كانوا في مواقع المسؤولية فأضلوا وضلوا ، أو كانوا في القاعدة فظلموا أنفسهم باتّباع الظالمين والمستكبرين ، ولم يستجيبوا لرب العالمين.

* * *

٤٠٢

الآيات

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩)

* * *

معاني المفردات

(الدَّوَابِ) ؛ الدابة : كل ما دبّ على وجه الأرض ، ثم غلب استعماله في ذوات الأربع.

(تَثْقَفَنَّهُمْ) : تظفر بهم وتدركهم بسرعة.

(فَشَرِّدْ بِهِمْ) ؛ التشريد : الإبعاد والتفريق على اضطراب.

(فَانْبِذْ) ؛ النبذ : الطرح. ويقال : إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه.

* * *

٤٠٣

الثابتون على الكفر شر الدواب

في هذه الآيات ، وما بعدها ، حديث يتنوّع في قضايا علاقات المسلمين مع الكافرين الذي يقاتلونهم أو الذين يعاهدونهم ثم ينقضون عهدهم ... وكيف تكون أوضاع الحرب والسلم في هذا الجو المتقلّب المضطرب. وهذا ما نتابعه في الآيات التالية.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، لأنهم لا ينطلقون من قاعدة إيمانيّة ثابتة تتصل بالله ، وتنطلق في حركاتها وعلاقاتها من خلاله ، وبذلك يشعرون بمسؤولياتهم عن الحياة وعن الإنسان ، فيحترمون كل المواثيق والالتزامات التي تتعلق بالخير والعدل والسلام ، وتلك هي مشكلة الكفر ، في ما يوحي به للإنسان من التحرر من كل قيد من قيود المسؤولية. ولهذا فإنّ الكافرين يتحوّلون من موقع إلى موقع ، ويتهربون من كل عهد ، ليعطوا بعد ذلك عهدا آخر ... وهكذا يخلقون للحياة القلق والارتباك. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالله وبرسله وباليوم الآخر ، ليلجأوا من ذلك إلى ركن وثيق ، مما جعلهم شرّ الموجودات التي تتحرك في الكون وتدب على الأرض التي لا تسيء إلى سلامة الحياة ولا تشوّه وجهها ، بل تتجه إلى الغاية التي أرادها الله لها في نطاق قوانينه الطبيعية ، بينما نجد الكافرين يخرّبون الحياة وينحرفون بها عن الصراط المستقيم ، بالتمرد على خالقهم وإنكار وجوده أو جعل الشركاء من دونه.

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) لأنهم لا يرون في العهد التزاما داخليا عميقا مقدّسا ، بل يرون فيه مجرّد فرصة ينتهزونها للخروج من مأزق طارئ وضغط عنيف ، أو يعتبرونه دورا يمثلونه ليجلبوا لأنفسهم نفعا ، أو ليدفعوا عنها ضرّا. فهم يلعبون بالكلمات تماما كأيّة لعبة أخرى ، ولهذا فإنهم لا يجدون أي حرج في الرجوع عنه أو نقضه ، لأن القضية ـ في مثل هذه الأمور ـ هي قضية الضغط الخارجي ، أو الوازع الداخلي ، فإذا ابتعد

٤٠٤

الأول لفقدان الظروف التي تمثل عنصر الضغط ، كان الثاني هو الضمانة الباقية للالتزام. ولكنه ينطلق ـ في الأغلب ـ من الإيمان بالله. فإذا فقد الإنسان ذلك ، فقد كل شيء في هذا الاتجاه. وهذا ما أشارت إليه الآية بقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) في ما تمثّله من مراقبة داخلية لله في كل الأمور ، وانضباط عملي على هذا الأساس .. وربما كان المقصود بهؤلاء اليهود ـ كما جاء في بعض الروايات ـ وربما أريد به غيرهم.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي إذا ظفرت بهم في الحرب ، فشدد عليهم بمختلف الضغوط النفسية والعسكرية ، من أجل أن يكونوا عبرة لمن وراءهم من جماعتهم ، أو من الناس الذين يسيرون في هذا الاتجاه. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي فرقهم بما تثيره في قلوبهم من الرعب ، فتنحلّ عزائمهم ويبتعدون عن خط المواجهة ، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ويعرفون النتائج السيئة المترتبة على نقض العهد على جميع المستويات ، ليتراجعوا عن غيّهم وضلالهم وانحرافهم عن الخط الصحيح.

* * *

الوفاء بالعهد هو الأصل

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) وذلك بظهور علامات الخيانة للمواثيق ، بما يصدر منهم من أقوال وتحركات توحي بوجود خطة جديدة للتمرّد والعدوان ، (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي ألق إليهم عهدهم ، لأنهم بدأوا بذلك في ما تحركوا به ضدّك ، مما يعتبر مخالفة للعهد ونقضا له ، الأمر الذي يجعلك في حلّ من عهدك (عَلى سَواءٍ) أي على أساس العدل والمعاملة بالمثل ، وذلك ما يوحي به الإسلام في شريعة العهد مع الآخرين. فالوفاء بالعهد هو الأصل والأساس ، فإذا بدرت الخيانة منهم كان وليّ الأمر في حلّ

٤٠٥

من عهده ، فينذرهم بإلغاء العهد ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويبدأ التصرف معهم بما يناسب المقام ، لأنهم خانوا الله ورسوله.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) لأن هؤلاء لا يمثّلون التوازن الروحي والعملي الذي تقوم عليه الحياة وتتحرك به في الاتجاه السليم. وفي هذا إيحاء للمؤمنين بأن عليهم أن يعيشوا في داخلهم الرفض النفسي والعاطفي للخائنين ، لأن مشاعرهم لا بد من أن تكون منسجمة مع الخط الإلهي المحدد للخط الشعوري لحركة الإنسان في الحياة ؛ فيحبون من يحبهم الله ، لأن الله لا يحب إلا الطيبين المخلصين ؛ ويبغضون من يبغضهم الله ، لأنه لا يبغض إلا المنحرفين الخائنين ... وبذلك لا يعيش المؤمن الازدواجية بين قناعاته ومشاعره ، كما يعيش ذلك بعض الناس عند ما تتجه مشاعرهم في غير اتجاه قناعاتهم ، لأن المؤمن يمثل الوحدة في الفكر والعاطفة والحياة.

* * *

المؤمن عينه دائما على المستقبل

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) وهناك قراءة معروفة بالتاء ، أي : ولا تحسبن يا محمد أن الذين كفروا سبقوا ، أي لا تخف من قوتهم وتقدمهم في بعض المراحل أو المعارك. (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الله فسيدركهم أينما ذهبوا ، لأنه على كل شيء قدير. ولهذا فإن على المؤمنين مواصلة مسيرتهم على أساس النفس الطويل الذي لا يربط النتائج الحاسمة بالمرحلة ، بل يعمل على التطلع إلى النتائج في حسابات الأهداف البعيدة. وسيجدون من خلال هذه النظرة ، أن الظروف التي توحي بالضعف والهزيمة الآن ، قد لا تكون كذلك في مستقبل المعركة ، فقد يحمل المستقبل بعض الفرص التي تفتح باب النصر على مصراعيه (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ) [الروم : ٤ ـ ٥].

* * *

٤٠٦

الآيات

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣)

* * *

معاني المفردات

(رِباطِ الْخَيْلِ) : الخيل المرابطة أو المربوطة : الجاهزة للتحرك.

(تُرْهِبُونَ) : تخيفون وتقلقون.

٤٠٧

(جَنَحُوا) : مالوا.

(لِلسَّلْمِ) : السلم : بفتح السين وكسرها ، الصلح.

* * *

وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) لا بد للحق من قوّة في مواجهة التحديات المضادة ، لردع القوى المعادية التي تمنع الحق من ممارسة حريته في الدعوة إلى الإيمان به وبقضاياه ، أو تعمل على تحطيم قوّته وتهديم أركانه ، لأن أسلوب الرفق والحوار لا ينفع مع الذين لا يؤمنون بهذا الأسلوب ، بل يعتبرون العنف القائم على القهر والضغط الماديّ أساسا للسيطرة على الآخرين. ولذلك أراد الله للمؤمنين أن يقوموا بعمليّة إعداد القوة العسكرية بكل ما يملكون من إمكانات وقدرات مادّية ، فليس لهم أن يدّخروا جهدا في هذا السبيل ، لأن ذلك هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها القوة المستقبلة الواثقة بالتماسك والنصر والامتداد ، القادرة على ردّ التحدّي بالتحدي المماثل ، أو بالأقوى منه ...

وإذا كانت القوّة العسكرية في الماضي تتمثل في ما تعارف عليه الناس من أدوات القتال ، من السيف والسهم والرمح والدرع ، فإن العصور المتأخرة قد استحدثت وسائل أخرى كالبندقية والمدفع والرشاش والدبابة ونحوها ، فلا بدّ لنا من أن نحصل على ذلك كله ، إذ لا معنى لأن نتحدث عن الوسائل القديمة التي استنفدت أمام الوسائل الجديدة للحرب ، ولكن لا بد للقرآن من أن يتحدث للناس بالطريقة التي يفهمونها ، وبالأشياء التي يعيشونها ، لأنهم المخاطبون بها في البداية ، ولهذا عقّب الله ذلك بقوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)

٤٠٨

باعتبار أنها كانت المظهر للقوة العسكرية المتحركة آنذاك. (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ). وبذلك كان الإعداد للقوة تدبيرا وقائيا يرهب العدو ، فيمنعه ذلك من العدوان ، ويدفعه إلى الدخول في معاهدات ومواثيق مع المسلمين ، أو يجعله خاضعا للسيطرة الإسلامية ، أو يوحي له بالدخول في الإسلام ...

وهكذا تكون القوة الكبيرة البارزة سبيلا من سبل ردع العدو ومنع الحرب ، مما يجعل منها ضرورة سياسية وعسكرية معا ، فيفرض على القائمين على شؤون المسلمين أن لا ينتظروا حالة إعلان الحرب ليستعدوا ، بل لا بد لهم من الاستعداد الدائم في كل وقت ، وذلك تبعا للظروف الموضوعية المحيطة بالواقع السياسي والعسكري الموجود من حولهم ، من أجل إرهاب عدوّ الله وعدو المسلمين.

(وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي ممّن هم أقل منهم درجة في القوة أو في العداوة ، أو من غيرهم ، (لا تَعْلَمُونَهُمُ) لأنكم لا تحيطون بالساحة كلها في ما تختزن من عداوات وتحديات في الحاضر والمستقبل ، ممن يحيط بالمسلمين في أكثر من موقع ، ولكن (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) فيوحي إليكم بضرورة الإعداد الدائم المتحرك ، الذي يرصد تصاعد القوة العسكرية للآخرين ، والاكتشافات الجديدة لأنواع السلاح التي قد تتغيّر في كل يوم ، بحيث تصبح الأسلحة القديمة غير ذات فائدة ، مما يفرض تبديلها دائما بشكل متحرك. وربما يفرض ذلك الإعداد لإنتاج السلاح ، لأن مشكلة وجود مصانع الأسلحة في أي بلد آخر غير إسلاميّ يفرض كثيرا من الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على البلد المستورد له ، ويجعل نتائج الحرب خاضعة للسياسة التي يسير عليها البلد المنتج. وهذا ما نلاحظه في العصور المتأخرة التي تحوّل فيها السلاح من تجارة حرة ، إلى تجارة موجهة تابعة للموقف السياسي الذي قد يتحرك من أجل الابتزاز السياسي للبلد المستورد ، بفرض شروطه الخاصة.

* * *

٤٠٩

ضرورة توفير مقوّمات القوة على كلّ صعيد

وإذا كان جوّ الآية يوحي بوجوب الاستعداد للحصول على القوّة العسكرية ، فإننا نستوحي منها ضرورة الإعداد للقوة من نوع آخر ، مما تحتاجه الأمة في تطورها العلمي والاجتماعي والاقتصادي في موقعها السياسي بين الأمم الأخرى ، لأن ذلك يحقق لها الاكتفاء الذاتي أو التفوق الواقعي ، الذي يفسح لها المجال للتحرك بقوة من موقع استغنائها عن الآخرين ، أو من موقع حاجة الآخرين إليها ، فنستطيع بذلك أن نتخلّص من الضغوط التي تقيد حريتها في الحركة ، أو تفرض الضغوط التي تحتاجها في علاقاتها بالآخرين ، وهذا ما يلزم الأمة ـ بجميع أفرادها ـ أن تستنفر كل طاقاتها في سبيل الوصول إلى المستوى المتقدم في كل المجالات التي تمثّل أساس القوة في الحياة ، ولتتخلص من كل نقاط الضعف المفروضة عليها من الداخل والخارج ، فذلك هو السبيل الأفضل لانطلاقة الإسلام بقوّة في حياة الناس في عالم لا يفهم إلا بلغة القوة. فالحق الذي لا يستند إلى القوة لا يرتكز على أساس ثابت متين.

وإذا كان الوصول إلى هذا المستوى من القوة يحتاج إلى الكثير من المال ، فإن على الأمة أن تساهم في ذلك على جميع المستويات ، وأن تعتبر ذلك إنفاقا في سبيل الله ، لأن رفع المستوى العلمي والعسكري والاقتصادي للأمة هو من أفضل السبل العملية التي تؤدي إلى تدعيم الحق وتفتح طريق الانتصار في المعركة الطويلة ضد الكفر والكافرين ... وقد أراد الله أن يوحي للمؤمنين بأنه سيعوضهم عما أنفقوه في هذا السبيل في الدنيا والآخرة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فتأخذونه وافيا غير منقوص ، (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بل تجدون العدل كله ، والخير كله ، والرحمة الواسعة التي تفتح لكم أبواب الحياة على آفاق الفلاح والنجاح.

* * *

٤١٠

السلام للمسالمين

(* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) إذا مالوا للسلام وأقبلوا عليه ، وأبدوا كل الاستعداد للعيش بسلام مع المؤمنين في نطاق المعاهدات والمواثيق ، فلا ترفض ذلك ، بل حاول أن تستجيب له ، وتؤكد رغبتك فيه لتعرّفهم بأن الحرب في الإسلام لا تنطلق من عقدة ، بل من قاعدة فكرية على مستوى مصلحة الإنسان والحياة ، فتكون الحرب سبيلا لإعادة التوازن إلى الساحة لمصلحة الخير ، وعند ما تقف قوة الكفر لتمنع الإيمان من ممارسة حريته في الدعوة إلى الله ، فتكون الحرب هي الطريق التي يسلكها المؤمنون لاستعادة حريتها ... وهكذا في كل موقف من مواقف الظالمين والمستكبرين الذين يريدون أن يقهروا الضعفاء بظلمهم ، ويذلّوهم باستكبارهم.

أما إذا أراد الآخرون أن يفتحوا صفحة جديدة للسلم ، ويفسحوا المجال للحوار مع المسلمين ، ليكون هو الوسيلة الفضلى للصراع على مستوى الفكر ، أو على مستوى الواقع ، فإن الإسلام يفتح ساحته للحوار ، وآفاقه للسلام ، ولكن لا بد من دراسة الظروف والشروط والمعطيات على أساس الحاضر والمستقبل ، لئلا تكون المسألة مسألة استغفال وخديعة ، تتخذ من السلام ستارا تختفي خلفه ، وتستعد من خلاله لهجمة مستقبليّة قويّة ، تستفيد من فرص السلام لمصلحة الحرب. فإذا أعد وليّ الأمر العدة لذلك كله ، فإن له أن يطمئن لما فعل ، على أساس وضوح الرؤية ، ولا يلقي بالا للتهاويل ولاحتمالات الخوف التي قد تثور في النفس ، لتثير القلق والارتباك في المسيرة ، بل لا بد من التوكل على الله أمام كل تهاويل الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ... وهذا هو خط التوكّل الذي يرتكز على دراسة كل ظروف الواقع ومعطياته ، وكل شروط العمل ومقتضياته ، وكل الوسائل الواقعية للوصول إلى

٤١١

الأهداف ... ثم يستقبل الغيب بروح واثقة بالله ، متوكلة عليه ، مطمئنة لرحمته التي ينشرها على عباده ، الذين يأخذون بتعاليمه ويسيرون على هدى سننه في الكون ، في ربط النتائج بمقدّماتها ، والمسبّبات بأسبابها ... وهذا ما أراده لرسوله في قوله ـ سبحانه ـ : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه لا يخذل من توكّل عليه ، وسلّم أمره له.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع دعوات عباده في ما يحتاجون إليه ، ويعلم أوضاعهم في ما يحيطهم به من لطفه ورحمته ...

* * *

الله يحمي النبي من كيد الكافرين

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالأساليب الملتوية والمظاهر الخادعة ، ليقوموا بعملية تحضير لهجوم مفاجئ ، يستغلّون فيه حالة الاسترخاء التي يوحي بها السلم ، (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) الذي يحميك من كل المفاجآت غير المحسوبة في المستقبل ، كما حماك في الماضي ، على أساس أن تستكمل كل الحسابات لكل ما يحيط بك ولما يطرأ عليك ، مما تستطيع أن تتعرف أبعاده. فلا تخف من كل ما يواجهونك به من أساليب الخداع ، فإن الله يكفيك منها ، وتذكر لطف الله بك (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) ، في ما أمدّك به من قوة ، وهيّأه لك من أسباب ، (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا بك واتبعوك ، وواجهوا التحديات الصعبة معك ، وجاهدوا في سبيل الله بقيادتك ، واجتمعت قلوبهم على الإخلاص لك ، وتناسوا كل خلافات ماضيهم ، وكل أحقاد تاريخهم المليء بالحروب والمنازعات ... فقد كان ذلك كله بلطف من الله عليك ، وتأييد لك.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) في ما أودعه فيها من عناصر المودة والرحمة

٤١٢

والشعور بالمسؤولية الإنسانية الروحية ، على أساس الإيمان النابض بالمحبة والحياة ، حتى تحوّلت كل تلك المجموعات المتنافرة في ذاتها ، المختلفة في طبيعتها ، إلى وحدة روحية إيمانية ، تماما كما عبر الله عنهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] وكما قال عنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى» (١) ... وتلك هي الألفة التي يرعاها الله برعايته ، ويشملها بلطفه ، فإنها تنمو من خلال الينابيع الروحية التي تتفجّر في الفكر والشعور حتى تتحول ـ في القلب وفي الروح ـ إلى نهر كبير يمتد في حياة المؤمنين جميعا في نطاق المجتمع المؤمن المتكامل الواحد ...

* * *

الله هو المؤلّف بين القلوب

(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لأن المال لا يستطيع أن ينفذ إلى أعماق الروح وآفاق الشعور ، إلا إذا تحول إلى حالة حميمة ، تحمل في داخلها بعضا من نبضات الشعور وخفقات العاطفة ، ليتحوّل المال إلى معنى يتمثل في العطاء ، في البعد الإنساني الذي يحترم في الإنسان إنسانيته ، ويوحي إليه بالمعاني الحلوة المشرقة ، وعند ذلك يفقد العنصر المادي ليتحول إلى عنصر روحيّ. أما المال الذي يتحرك في العلاقات كثمن لها ، تماما كما هي السلع المعروضة في السوق ، فإنه قد يعطي صاحبه موقعا متقدما في حركة الواقع ، وقد يحصل على بعض الامتداد في آفاق الربح ، ولكنه لن يستطيع أن يمنحه قلبا وروحا وحياة ووحدة شعور ، ولذلك

__________________

(١) البحار ، م : ٢٠ ، ج : ٥٨ ، ص : ٩١ ـ ٩٢ ، باب : ٤٣. رواية : ٢٩.

٤١٣

لم يستطع المال أن يحقق إنسانية العلاقة بين الأغنياء والفقراء ، أو بين الحاكمين والمحكومين ، ولكن الفكر والإيمان والخير استطاعت أن توحّد القلوب ، وتقارب بين المواقف. (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) ، لأن بيده أسرار القلوب ، وخفايا النفوس ، وأعماق الأرواح ، يقلّبها كيف يشاء ويحوّلها كما يريد. (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فلا يغلب في عزته ، ولا يعارض في حكمته ، فمن إرادته تكون الأشياء ، ومن حكمته تأخذ طريقها إلى مواقع الهدى والنجاح.

* * *

٤١٤

الآيات

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

* * *

معاني المفردات

(اتَّبَعَكَ) : الاتباع : موافقة الدّاعي في ما يدعو إليه من أجل دعائه.

(حَرِّضِ) : التحريض والحضّ والحثّ بمعنى ، وهو الترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه.

(يَفْقَهُونَ) : الفقه : أبلغ وأغزر من الفهم.

٤١٥

(خَفَّفَ) : رفع المشقّة.

(ضَعْفاً) : الضعف بكسر الضاد من المضاعفة ، أي زيادة الشيء مثله في المقدار ، وبفتحها وضمها ضد القوة المادية والمعنوية وقيل : الضم يختصّ بضعف العقل.

* * *

مناسبة النزول

في تفسير الميزان نقلا عن تفسير القمّي قال : «قال : كان الحكم في أوّل النبوّة في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الرجل الواحد وجب عليه أن يقاتل عشرة من الكفار ، فإن هرب منهم ، فهو الفار من الزحف ، والمائة يقاتلون ألفا.

ثم علم الله أن فيهم ضعفا لا يقدرون على ذلك فأنزل الله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ففرض عليهم أن يقاتل أقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفار. فإن فرّ منهما فهو الفارّ من الزحف. وإن كانوا ثلاثة من الكفّار وواحدا من المسلمين ، ففرّ المسلم منهم ، فليس هو الفارّ من الزحف» (١).

* * *

الله هو كافي النبي من كل سوء

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) فهو كافيك من كل أحد ، فلا تحتاج معه إلى

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٩ ، ص : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٤١٦

أحد من الناس ، ولا تخاف من أيّ شيء ومن أي إنسان. (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فهم معك في رسالتك وفي جهادك ، وهم القاعدة الصلبة القوية التي تتحرك من خلالها في طريق الدعوة والفتح ، فليذهب الكافرون أو ليقفوا ضدك ، فلن يستطيعوا أن يقدّموا أو يؤخّروا شيئا في الساحة. وقد قيل إن المعنى يكفيك الله ، ويكفي من اتبعك من المؤمنين من كل سوء ، فلا تخافوا من الاندفاع في المعركة ، لأن الله سوف ينجيكم من كل الأعداء. وهو قريب من خلال جوّ الآيات ، ولكن الأول أقرب من خلال نظم الآية ؛ والله العالم.

* * *

تحريض المؤمنين على القتال والصبر

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) فإن المعركة الفاصلة بين الإيمان والشرك تفرض تقوية الموقف ، وشدّ العزيمة ، وشحذ الهمم ، ولا بدّ للنبي من أن يقوم بدور فاعل في حثّ المؤمنين على القتال ، لا سيما مع القوة القليلة عددا وعدة التي يملكها المسلمون في مقابل كثرة العدد والعدة لدى المشركين. وقد أراد الله لنبيّه أن يدعوهم للصبر الذي يدفعهم إلى مواجهة الآلام والمشاكل والتحديات التي تفرضها المعركة ، بروح قويّة راضية مطمئنة فرحة بالجهد الذي تقدمه أمام الله ، ليستنفروا كل طاقاتهم ، ويحوّلوها إلى طاقة واحدة مضاعفة ، بحيث يتحرك الواحد منهم في مقابل عشرة رجال (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ). ولا بد في ذلك من جهد عظيم في المعاناة ، وفي الاستعداد النفسي الداخلي المنطلق من وعي الإيمان ، وقوة الثقة بالله وبما عنده من الثواب ، مما يجعل الإنسان يقابل الموت بدون اكتراث ، ويجابه الأعداء بكل قوة.

(وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا

٤١٧

يَفْقَهُونَ) ولا يعقلون الأسس التي يرتكز عليها النجاح في الدنيا والآخرة ، ولا يعرفون أنّ هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله لا ينفعونهم شيئا لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ، ولا يدفعون عنها ضرّا ... ومن خلال ذلك ، فهم لا يحملون عمق الفكرة التي تهزّ وجدانهم وتطهّر مشاعرهم ، وتثير في داخلهم الامتداد في حركة الحياة أمام قضية المصير ، ولذا فإنهم لا يملكون روح الثبات في المعركة ، لأنهم لا يرتبطون بالهدف الحقيقي الذي يبدأ من موقع الفكر والروح ليمتد في ساحة المعركة ، ممّا يجعلهم لا يملكون أساسا للقوة ، كما يجعل هذه الدعوة الإلهية ـ في ما يريده من مستوى المواجهة ـ دعوة واقعية تتحرك في دائرة الإمكانات المعقولة للمؤمن القويّ الواعي في صبره ، الصابر في كل تطلّعاته ومواقفه ... وربما كان هذا التفصيل في ذكر العشرين في مقابل المائتين ، وفي ذكر المائة في مقابل الألف ، للتأكيد عليهم في أن عددهم ـ في معركة بدر ـ الذي يبلغ الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا ، يتفوق في القوة الصابرة ، على عدد الألف الذي يبلغه جيش قريش ، لأنه سيتحول إلى أكثر من ثلاثة آلاف رجل يقابلون ألف رجل ؛ والله العالم.

* * *

التدرج في رفع المستوى الروحي لدى المؤمنين

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) من خلال التجربة الأولى التي تمارسونها في أول معركة مع قريش ، ومن خلال الوسائل المحدودة التي تملكونها في حساب القوّة المادية ، بالإضافة إلى نقاط الضعف الذاتية المتحكّمة في واقعكم الداخلي ، وغير ذلك مما يفرض التدرّج في رفع المستوى الروحي لدى المؤمنين ، لأن حيويّة الصبر لا تنمو ولا تتعاظم إلا في نطاق الظروف الموضوعية الذاتية المنسجمة مع الواقع الداخلي من الوعي

٤١٨

والفكر والإرادة ، الذي يتطور بطريقة تدريجيّة. ولهذا أراد الله ـ في البداية ـ أن يطرح الفكرة في نداء الدعوة النبوية على أساس المستوى الأعلى في عملية إيحائية في ما ينتظره منهم من قوة الموقف مما يمكن أن يصلوا إليه ـ ولو بعد حين ـ ثم أعطاهم الفرصة في تخفيف المستوى المطلوب ، لتكون بداية طبيعية للنمو في حركة تصعيد القوة في الداخل وفي خط المواجهة ، بحيث يكون المؤمن الواحد في مواجهة اثنين من الكافرين ، من خلال عامل الصبر الذي يشتد ، فيشدّ عزيمة الإنسان في الاندفاع في حركة المعركة. (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته وعنايته. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الثابتين على مواقعهم بالثبات في مواقفهم ، وبالإصرار على قضيتهم حتى بلوغ الأهداف الكبيرة.

* * *

٤١٩

الآيات

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

* * *

معاني المفردات

(أَسْرى) ؛ جمع أسير. الأسر : الشدّ على المحارب وأخذه.

(يُثْخِنَ) : الثخن ـ بالكسر فالفتح ـ الغلظ ، ومنه قولهم : أثخنته الجراح وأثخنة المرض. قال الراغب في المفردات : يقال : ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ فلم يسل ولم يستمر في ذهابه ، ومنه أستعير قولهم : أثخنته

٤٢٠