تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

إمداد المسلمين بألف من الملائكة مردفين

وهذا ما أراد القرآن الكريم التعبير عنه في حديثه عن استغاثة المسلمين بالله. وقيل إن النبي قد بدأ ذلك لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين ، فاستقبل القبلة وقال : اللهمّ أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فما يزال يهتف لربّه ويداه ممدودتان حتى سقط رداؤه عن منكبيه. وكانت الاستجابة الإلهية بالألطاف الغيبية المتنوعة التي جعلتهم يعيشون حركة الواقع في أجواء الغيب. (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). والإرداف هو أن يجعل الراكب ردفا لغيره.

«وبهذا المعنى تلائم الآية ما في قوله تعالى في ما يشير به إلى هذه القصة في سورة آل عمران : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ* وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران / ١٢٣ ـ ١٢٦]. فإن تطبيق الآيات من السورتين يوضح أن المراد بنزول ألف من الملائكة مردفين ، نزول ألف منهم يستتبعون آخرين ، فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين» (١). وهذا ما ذكره صاحب تفسير الميزان ، ولعلّ هذا أقرب من الوجوه الأخرى التي ذكرها المفسرون. وكانت هذه الاستجابة الإلهية مصدر قوّة روحية كبيرة ، في ما أثارته في نفوسهم حركة الملائكة في المعركة بما كانوا يحملونه في أفكارهم عن القوّة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٩ ، ص : ٢٠.

٣٤١

الغيبيّة التي يتمتع بها هؤلاء. ولكن الملائكة الذين أنزلهم الله إلى ساحة المعركة ، لم تكن مهمتهم قتاليّة ، لأن الله لم يرد للمسلمين أن يستسلموا للاسترخاء ، على أساس الاعتقاد بأن الملائكة جاءت لتقاتل بالنيابة عنهم. ولو كان الأمر كذلك ، لما كانت هناك حاجة ملحّة لأيّة معركة وأيّ قتال ، لأن القوة الغيبيّة كفيلة بتصفية جميع الأعداء ، بل كانت مهمتهم تطمينية نفسية ، وهذا ما عبّرت عنه الآية (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) ليزيل من نفوسهم كل شعور بالقلق والخوف والاهتزاز ، ليندفعوا إلى المعركة بقوّة وثبات ، ليعطوا كل طاقاتهم للقتال في إحساس عميق بأنهم لا يصنعون النصر عند ما يصنعونه بقوتهم الذاتية ، كما لا يصنعه الملائكة ـ لو صنعوه ـ بل هو من عند الله ، من خلال ما تتحرك به ألطافه وتفيض به رحمته من أسباب النصر ، لأن الأمور كلها بيده ، في آفاق الغيب ، وفي آفاق الواقع ...

* * *

النصر من عند الله

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فهو الذي يهيّئ له أسبابه ، بعيدا عن قضية الكثرة والقلة ، وعن العدّة العسكرية والمادية في السلاح والمال ، وهو الذي ينصرهم بعزته التي لا تغلب ، وبحكمته التي لا تتبدّل.

وهكذا عاش المسلمون في طمأنينة روحيّة ، وشعور عميق بالأمن ، فاستسلموا لإغفاءة طويلة ، يتخفّفون بها من الجهد والتعب ، ويعيشون فيها راحة الجسد ، إلى جانب ما عاشوه من راحة الروح. (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) واستفاقوا محدثين بالجنابة التي أصابتهم بسبب الاحتلام الذي يعبر عنه القرآن برجز الشيطان ، كتعبير عن القذارة التي يختزنها معنى الرجز ، وعن

٣٤٢

الشهوة التي هي مثار الحركة لدى الشيطان في عملية الإغواء والإضلال ... وربما كان هناك سبيل؟ آخر لوسوسة الشيطان.

وكانوا بحاجة إلى الماء للشرب أو الطّهارة ، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء ، وكانت هناك مشكلة أخرى ، فقد نزلوا على كثيب من الرمال تغوص به الأقدام فيمنعها من الثبات ، مما قد يعطّل حرية التحرك في المعركة في ما يثيره من الغبار الذي يحجب الرؤية ، وما يبعثر به الأقدام ، فأنزل الله المطر خفيفا ليطهّرهم به ، وليثبّت به الأرض لئلا تزلّ بها الأقدام (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من حدث النوم أو الجنابة (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ، في ما يحس به المؤمنون من أنهم يعيشون تحت رعاية الله ، حتى في مثل هذه الأمور العادية. (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) في ما أحدثه المطر من تثبيت الأرض ، أو ما أثارته الرعاية الإلهية من تثبيت المواقف.

* * *

دور الملائكة في تثبيت المؤمنين

وهنا يأتي دور الملائكة في تثبيت المؤمنين ، بعيدا عن مسألة المشاركة في القتال (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). ومن خلال هذا النداء ، نفهم أن الله يريد لهم أن يثبّتوا المسلمين ، من موقع الشعور بالقوّة الذي لا يقف فيه الملائكة وحدهم ، لأن الله معهم ، وبذلك يكون النداء الآتي موجها إلى المؤمنين في اقتحامهم المعركة بإرادة قوية ، لا خوف معها ولا وجل.

٣٤٣

(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) ، وهو كناية عن إسقاط الرؤوس والإطاحة بالأيدي. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وخالفوهما في العقيدة وفي العمل ، بعد أن قامت عليهم الحجة ، بما قدّمه إليهم الرسول من بيّنات وبراهين ، فلم يكن خلافهم لشبهة فكريّة ، بل كان لتمرّد ذاتيّ وعقدة مرضيّة. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدنيا والآخرة. (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) من أيدي المؤمنين. (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) في ما يستقبلهم من عذاب الله يوم القيامة.

* * *

٣٤٤

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(زَحْفاً) ؛ الزحف : الدنو قليلا قليلا.

(الْأَدْبارَ) : جمع دبر وهو الخلف ، والمراد به الهزيمة.

(مُتَحَرِّفاً) : جمع دبر وهو الخلف ، والمراد به الهزيمة.

(مُتَحَرِّفاً) : المتحرّف للقتال هو الذي يكرّ بعد أن يفرّ يري عدوه أنه

٣٤٥

منهزم ، ثم يعطف عليه.

(مُتَحَيِّزاً) : منحازا.

(وَمَأْواهُ) : ملجأه.

(مُوهِنُ) : مضعف.

* * *

مناسبة النزول

في الدر المنثور : «أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظيّ ـ رضي الله عنهما ـ قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتلونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) إلى قوله (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)» (١).

وفيه أيضا : «أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن منده ، والحاكم ، وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب ، عن عبد الله ابن ثعلبة بن صغير : أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة ، فكان ذلك استفتاحا منه ، فنزلت : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الآية (٢).

* * *

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٤ ، ص : ٤٠.

(٢) (م. ن) ، ج : ٤ ، ص : ٤٢.

٣٤٦

الفرار من الزحف ... من الكبائر

وتستمر الآيات في أجواء المعارك التي يخوضها المسلمون دفاعا عن الحقّ وهجوما على الباطل ، فتثير أمامهم قضية الفرار من الزحف ، فتعتبره من الكبائر التي يستحقّ عليها دخول النار. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) ، ولا تنهزموا أمامهم وتستدبروهم ، (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي ظهره في حالة لقاء العدوّ ، (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) وذلك إذا أراد الانتقال من جهة إلى أخرى في عملية تراجعية تمويهية ، يحاول من خلالها الالتفات على العدوّ والهجوم عليه من جديد على أساس خطة عسكرية مدروسة (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) فينحاز إلى جماعته وجبهته ، ليقاتل من موقع قويّ ، لا من حالة فردية ... (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ). أي رجع بسخط الله ، (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، لأنّ هذه المعصية ليست كبقيّة المعاصي الفردية المحدودة التي تتصل بالحياة الخاصة للعاصي ، بل تمتد لتهزم المسيرة الإسلامية كلها ، عند ما يقع المسلمون في قبضة الهزيمة التي يختارونها في مواقف الضعف الداخلي الذي ينطلق من حبّ الحياة وكراهة الموت.

وقد جاء في حديث الفضل بن شاذان ، أن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام كتب من جواب مسائله : «وحرّم الله الفرار من الزحف ، لما فيه من الوهن في الدين ، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة عليهم‌السلام ، وترك نصرتهم على الأعداء ، والعقوبة لهم على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد ، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين ، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله ـ عزوجل ـ ، وغيره من الفساد» (١).

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٣ ، ج : ٦ ، ص : ٦٧ ، باب : ٢٣ ، رواية : ٢.

٣٤٧

لا ظفر إلا بالله وحده

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ... وهذا هو خط الإيمان الذي يريد الله من المؤمن أن يعيشه في فكره وشعوره ، في كل حالات النصر والنجاح ، في حركة الحياة وفي ساحة الصراع ، وذلك بأن لا يعتقد في نفسه القوّة الذاتية المستقلّة عن الله ، في ما يمدّه به من عناصر القوة ، بل يعتقد بأنه يتصرف عن أمره ، ويتقلّب في تدبيره ، ويتحرك بقوّته ، فإذا قتل العدو فإنما يقتله بنصر الله وقوته التي أمده بها ، فكأن الله هو الذي قتله ؛ وإذا رماه بسهم ، فكأن الله رماه ، فهو ـ سبحانه ـ الفاعل الحقيقي للأشياء والقوة الحقيقية التي تتحرك بها ، لا بمعنى إلغاء الاختيار والإرادة الإنسانية في الفعل ، بل بمعنى إلغاء الذاتية المستقلة للإنسان في أعماله ، في ما تنطلق به من عوامل القوة.

وقد كانت المعركة في بدر مظهرا من مظاهر الإمداد الإلهي الغيبي في ما أثاره الله في أجواء المعركة ، وفي مشاعر المسلمين ، وفي امتلاء قلوب الكافرين بالرعب ، مما جعل من موقف المسلمين فيها موقف قوة ، بعد أن كان موقف ضعف في ما كانوا يعانونه من أحوال نفسية أمام قلة العدد والعدة ، مما يجعل من اختيارهم ظلّا لإرادة الله واختياره بشكل واضح ، وهذا ما أراده القرآن في أسلوب التربية القرآنية من ربط الأشياء الصغيرة والكبيرة والسلبية والإيجابية ـ في واقع الكون وفي حركة الحياة والإنسان ـ بالله ، لتتأكد ـ من خلال ذلك ـ عقيدة التوحيد الخالص التي لا تتصور شيئا إلا وتتصور الله معه ، لتحس بأن الكون كله هو الظل ، وأنّ الله هو النور ، وهو الحقيقة ، وهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء ، وهو على كل شيء قدير ...

٣٤٨

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) ، في ما يمتحنهم به من النصر الكبير الذي أمدّهم به بلطفه وبقوته. وهذا البلاء الحسن هو الذي يوحي لهم بنعمة الإيمان ودوره في بناء شخصيتهم على أساس العزّة والحرّية ، بالإضافة إلى الغنائم التي غنموها ، والمكاسب التي حصلوا عليها. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع استغاثتهم ودعواتهم وابتهالاتهم في حالات الشدة ، ويعلم ضعفهم وبلواهم وحاجتهم إليه في أوقات الاهتزاز والخوف.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) في ما يدبرونه أو يخطّطونه لهزيمة المؤمنين وإضعافهم ، من أجل إضعاف الإيمان في الحياة. فقد ينجحون في بعض المراحل والمواقع ، ولكن النهاية هي الفشل والهزيمة. (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ). ربّما كان الأقرب إلى جوّ كلمات هذه الآية ، أن يكون الخطاب للكافرين ، وذلك من خلال الحديث عنهم في الآية السابقة ، بأنّ الله موهن كيدهم ، فقد ورد في بعض الروايات : أن أبا جهل كان يطلب من الله الفتح ، فكان الجواب على ذلك : إنكم إذا طلبتم الفتح ، فهذا هو الفتح ، ولكنه ليس الفتح الذي تريدونه ، بل هو الفتح للمسلمين الذين حملوا رسالة الله ، ونصروا دينه بصدق وإخلاص.

* * *

الله يحض الكافرين على كفّ شرورهم ويحذرهم نفسه

(وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، لأن كل هذه المكائد التي تكيدونها لله ولرسوله وللمؤمنين ، ستكون وبالا عليكم ، لأن الله سيبطل كيدكم في نهاية المطاف ، فإذا انتهيتم عن ذلك ، وغيّرتم وبدّلتم ، وسرتم على الصراط

٣٤٩

المستقيم ، كان ذلك خيرا لكم ، لأنّه يوفر عليكم الجهد والعناء والهزيمة في الدنيا ، كما يدفع عنكم الذل والخزي والعذاب في الآخرة. (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) ، لنوهن كيدكم ، ونبطل خططكم العدوانية ، ونهزمكم شر هزيمة ... (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) ـ جماعتكم ـ (شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) ، لأن النصر ليس مع الكثرة دائما ، بل قد يكون حليف القلة المنطلقة من مواقع الإيمان الحق. (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) فيمدّهم بالقوّة ، ويؤيّدهم بالنصر. وماذا تفيدكم قوتكم وكثرتكم إذا كان الله مع المؤمنين ضدّكم؟!

* * *

٣٥٠

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

* * *

معاني المفردات

(شَرَّ) ؛ الشر : إظهار السوء الذي يبلغ من صاحبه ، وهو نقيض الخير وقيل الشر : الضرر القبيح أو الشديد.

(الدَّوَابِ) : جمع دابّة ، وهي ما دبّ على وجه الأرض ، إلا أنها تختصّ في العرف بالخيل.

* * *

٣٥١

الله يحض المؤمنين على طاعته وطاعة رسوله

وتستمر الدعوة الدائمة التي تخاطب المؤمنين في كل وقت ، بالالتزام بخطّ الطاعة لله والرسول في قضايا التشريع ، وفي قضايا التنفيذ ، لأن ذلك هو معنى الإيمان في عمق الفكرة والإحساس ، وهو مظهر الولاية لله وللرسول. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في ما تفعلون وتتركون. (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) ، ولا تعرضوا عن رسول الله (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) كلامه في ما يبلغكم من آيات الله مما يصلح أمركم وينصر موقفكم ، فإن الإعراض عنه ـ مع الوعي التام لتعاليمه ـ يمثل الإعراض عن الإيمان نفسه والابتعاد عن الله ، وعن خط السلامة في الحياة.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) من المشركين الذين كان النبيّ يدعوهم إلى أن يسمعوا كلام الله ، ولكنهم لا يلقون بالا إليه ، ولا يواجهونه بروح الاهتمام والإصغاء الداخليّ ، ولذلك اعتبر الله سماعهم بمنزلة العدم ، فقال (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، لأن السمع هو الوسيلة التي تثير في الإنسان الحاجة إلى المعرفة ، والتفكير في ما يلقيه إليه الآخرون ، فإذا ترك الكلمة تدخل إلى سمعه ، من دون وعي لمعناها وتفكير في مضمونها ، كان حاله كحال الذي لا يسمع أبدا ، لأنّ النتيجة واحدة على كلّ حال.

(* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). إنه يشبّههم بالدوابّ التي لا تسمع ولا تتكلّم ولا تعقل ، لأن قيمة السمع والنطق والعقل ، هو في تحريكها بما ينفع حياة الإنسان ، وينقذ مصيره من الهلاك ، فإذا أهمل كل ذلك ، وجمّده عن السير في اتجاه المعرفة النافعة ، كان كمن فقده بالأساس. وذلك هو الفرق بين الدواب والناس ، في سلبيّة الدوابّ أمام قضية المعرفة من أجل الحياة ، وإيجابية الناس أمام ذلك كله.

* * *

٣٥٢

الله يترك الكافرين لأنفسهم لعلمه أن لا خير فيهم

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) فقد تركهم الله لأنفسهم ، فاختاروا لها الضلال. ولو علم الله أنهم يواجهون الكلمة الحقّة من موقع المسؤولية ، لأسمعهم بطريقة غير عاديّة ، ولكنه عرف فيهم الإصرار على الهروب من الحقيقة ، (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأنهم لا يريدون لأنفسهم الخير ، في ما ينقذ حياتهم ومصيرهم من الهلاك.

* * *

٣٥٣

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

* * *

معاني المفردات

(يَحُولُ) : الحيلولة : التخلل وسطا.

(وَقَلْبِهِ) : «القلب : العضو المعروف. ويستعمل كثيرا في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به الإنسان ، ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء والتمني والقلق .. ونحو ذلك. فالقلب هو

٣٥٤

الذي يقضي ويحكم ، وهو الذي يحب شيئا ويبغض آخر ، وهو الذي يخاف ويرجو ويتمنى ، ويسرّ ويحزن ، وهو في الحقيقة : النفس الإنسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة» (١).

(مُسْتَضْعَفُونَ) : الاستضعاف : عدّ الشيء ضعيفا بتوهين أمره.

(يَتَخَطَّفَكُمُ) : التخطف والخطف والاختطاف : أخذ الشيء بسرعة انتزاع.

(فَآواكُمْ) : الإيواء : جعل الإنسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوي.

(وَأَيَّدَكُمْ) : التأييد : من الأيد وهو القوّة.

* * *

الإيمان موقف للحياة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا هو النداء الثاني للمؤمنين ، الذي يريد أن يثير فيهم روح الإيمان ومعناه وحركته في داخلهم ، ليوحي إليهم بأنه ليس مجرّد فكر مجرّد ، بل هو موقف للحياة. (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ، فإن ذلك هو المظهر الحيّ للإيمان ، في ما يفرضه من الاستسلام لله في ما يأمر به أو ينهى عنه ، والطاعة لرسوله باعتبار أنها المظهر لطاعة الله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ، لأن الإسلام هو دعوة إلى الحياة ، في ما أراده للإنسان من حركة ووحي ونموّ وانطلاق ، من خلال مفاهيمه الواسعة الشاملة التي تفتح آفاقه على الكون كله ، ليكون ساحة لفكره ، ومنطلقا لعمله ، وتجربة لمسؤوليته ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٩ ، ص : ٤٦.

٣٥٥

ممّا يجعل منه طاقة حيّة متحركة في أكثر من اتّجاه ، ومن خلال شريعته التي تنظّم له حياته في ما يأكل ويشرب ويستمتع ، وفي ما يعيش من علاقات ، فيتحقق له التوازن في ذلك كله ، فلا تنحرف حياته إلى خط السلبيّة التي تهمل كل شيء حولها ، ولا تتطرف في خط الإيجابية حتى تغلق على نفسها كل باب للحرّية ... وهكذا يمتد التوازن في ما بين النزعة المادية والنزعة الروحية ، إلى الانسجام بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ، فيحسب لكل شيء حسابه ، ويضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة والاتزان ، وذلك هو معنى الحياة في حركة الشخصية ، لأن الإخلال بالتوازن يؤدّي إلى الانحراف في اتجاه الهلاك ، في ما يثيره من الارتباك في حركة المصير.

* * *

أهداف الإسلام للإنسان هي أهداف الحياة عينها

أمّا أهداف الإسلام في ما يريده للإنسان من أهداف وجوده ، فإنّها أهداف الحياة في امتداد المعرفة وعمقها ، في كلّ ما تختزنه من أسرار وتثيره من قضايا وتواجهه من أحداث ، وفي ما تستوعبه من معلومات ، حتى لتدعوه إلى الإحاطة بكل شيء من حوله ، فلا يغيب عنه شيء في ذلك كله ، وفي معنى الحرية التي تجعل للإرادة حريتها ، بعيدا عن الضغوط الداخلية أو الخارجية ، في انطلاقة شجاعة تتمرّد على كل نوازعها وتحدياتها وأوضاعها ، وفي حركة الرسالة في حياته ، ليواجه الحياة من موقع الرسالة التي تتطلع إلى كل زاوية من زواياها ، لتحرك فيها القيم الروحية التي تبني للإنسان إنسانيته ، وتحقق للحياة معناها ، فلا تتجمّد حياته عند حدود حاجاته ، بل تتحرك إلى البعيد البعيد في نطاق القضايا الكبيرة من أهدافه ... وهكذا تكون التضحية بالحياة لونا من ألوان حركة الحياة ، لأن الروح تحيى في أهدافها ، كما يحيى

٣٥٦

الجسد في حاجاته. وهذا ما أراد القرآن الكريم الإيحاء به عند ما اعتبر العلم والإيمان والجهاد والشهادة مظهرا من مظاهر الحياة ، ولذلك كانت الاستجابة إلى الله وإلى الرسول استجابة للجانب الحي من حركة الرسالة في الحياة. وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما نلتقي به من أحكام الشريعة وأسرارها وقضاياها ، لنكتشف ـ في ذلك كله ـ كيف تستوعب الشريعة الحياة ، وكيف تخضع الحياة لدعوة الشريعة في ما تريد أن تحقّقه من أهداف ، أو تواجهه من مشاكل وحلول.

* * *

(اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ). ربما كان ذلك كناية عن الهيمنة الإلهية على الإنسان ، فله السلطة عليه بما لا يملكه من نفسه ، فهو قادر على أن يغيّر له فكره في أي جانب من الجوانب ، ويحول بينه وبينه. وهذا من أوضح مظاهر السلطة والقدرة ، لأن أعلى مظاهر القدرة هي السيطرة على الداخل الذي يختصّ أمره بالإنسان نفسه ، لأنّ الناس ـ عادة ـ لا يملكون الضّغط إلّا على الجانب الخارجي من الإنسان ، وهو الجسد ، أمّا الفكر ، فلا يملك الناس الضغط عليه إلا من خلال الوسائل العادية التي لا تخرج الإنسان عن اختياره. فإذا كان الله يملك عليه ذلك ، فمعناه أنه أقرب إليه من ذاته وأنه يعرف منه ما لا يعرفه ـ هو ـ من نفسه ، فلا بدّ له من أن يراقبه ويخافه ويراعيه في كل أموره ... (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) في يوم القيامة ، فيحاسبكم بما اطّلع عليه من أعمالكم ، مما لا تملكون الحجّة فيه على التخلّص ، لأنه المطّلع على الجانب الخفيّ منها ، وهو جانب النية التي تطبع العمل بطابعها من خير أو شرّ.

* * *

٣٥٧

تحذير للمسلمين من التساهل في أمر المنازعات الداخليّة

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١). إنها الدّعوة لأن يواجه المؤمنون المشاكل الفردية والاجتماعية الناشئة من بعض الانحرافات الفكرية والعملية التي تؤدّي إلى نتائج سلبية في حركة الحياة ، وذلك بالتعامل معها من موقع المسؤولية العامة الواعية للقاعدة الاجتماعية التي تحكم مسيرة المجتمع في سلبيّاته وإيجابيّاته ، فلا تقتصر في تأثيراته على الناس الذين يقومون بها ، بل تمتد إلى كل أفراد المجتمع ، لأن علاقات الناس ومصالحهم متشابكة. ولهذا فإننا نجد الخلافات التي تحدث في دائرة ضيقة من دوائر المجتمع ، لا تقتصر على تلك الدائرة ، بل تتعداها إلى بقية الدوائر التي تتصل بها ، أو تتأثر بها شعوريا أو فكريا ، مما قد يدخل في نطاق العدوى ، أو التفاعل اللاشعوري بحكم الترابط الوثيق بين أفراده. ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو الطابع الحركي للمجتمع الإسلامي ، في ما يدفع إليه من تحمّل مسئولية الآخرين في ما ينحرفون به ، حتى في المجالات البعيدة عن واقع الآمرين والناهين ، لأن القضية لا تخص الفاعلين المنحرفين ، بل تمتد إلى بقية قطاعات المجتمع بطريقة وبأخرى ، فلا يمكن لأفراده أن يواجهوه مواجهة اللامبالاة تحت شعار تقييد حرية الآخرين الفردية ، لأن هناك نوعا من أنواع حرية الأفراد قد يلغي حرية المجتمع كله. وهذا ما عبّرت عنه

__________________

(١) قرأ عليّ والباقر عليهما‌السلام وكذا زيد بن ثابت والربيع بن أنس وأبو العالية ـ على ما في المجمع ـ : لتصيبنّ باللام ونون التوكيد الثقيلة ، والقراءة المشهورة : لا تصيبن بلا النافية ونون التوكيد الثقيلة. [انظر : مجمع البيان : ج : ٤ ، ص : ٨١٨]. وعلى كل تقدير ، فمآل المعنى واحد كما سنرى في سياق تفسيرنا لهذه الآية المباركة ، لجهة ما تحمله من تحذير للمسلمين من الاستهانة أو الاستخفاف بموضوع الخلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم.

٣٥٨

المأثورة : «لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم ، فلا يستجاب لهم» (١) .. وهذا ما أرادت هذه الفقرة من الآية أن تشير إليه ، فتحذّر المؤمنين من الفتنة التي إذا انطلقت ، فإنها لا تصيب الذين أثاروها وأوقدوا نارها من هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس ، بل تتعداهم إلى غيرهم ، كنتيجة طبيعية لترابط القضايا والمشاكل الاجتماعية ، ووحدة مصير أفراد المجتمع.

* * *

دعوة المسلمين لتذكر نعم الله عليهم

وإذا كان التحذير متوجّها إلى المجتمع ككلّ في مواجهة الفتنة التي يثيرها الظالمون ، فإنه يتوجّه إلى هؤلاء الذين يثيرونها بشكل أكيد ، لأنّ المسؤولية الكبرى هي مسئوليتهم بالذات في ما يتحملونه من النتائج السلبية في الدنيا والآخرة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، فاحذروا أيها المؤمنون عقاب الله. (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) في مكّة أمام قوّة قريش وجبروتها ، (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) في ما يمثّل ضعفكم في العدّة والعدد ، بحيث كنتم عرضة للاختطاف في ما يمثله ذلك من ذلّ ومهانة واستضعاف.

ولكنّ هذا الواقع قد تبدل إلى واقع جديد بعد الهجرة ، فقد أعطاكم الله القوّة من خلال دينه ، وهيّأ لكم الأرض الطيّبة التي استقبلتكم بكل محبّة وإيمان ؛ (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) في ما قدّمه لكم من وسائل النصر ، وأثاره فيكم من روح القوة ... (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من خلال ما وسّعه عليكم من

__________________

(١) البحار ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٤٦٥ ، باب : ٢٤ ، رواية : ٢١.

٣٥٩

رزقه الحلال الطيب من مختلف الأشكال والألوان ، بعد المعاناة الطويلة التي لاقيتموها في مكّة من ضيق العيش ، وجشوبة المأكل. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على ذلك كلّه ، بالسير على هداه ، والعمل على رضاه ، والجهاد في سبيله ، فإنّ ذلك هو التجسيد الحيّ للشكر العملي على نعم الله الوافرة وألطافه الرضيّة ، ورحمته الواسعة.

* * *

٣٦٠