تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

علم الساعة عند الله تعالى

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ، لأنها من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلا الله ، ولا يظهرها إلا هو ، في ما حدّد لها من وقت. (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل وقعها في ما تمثله من مواجهة المسؤولية على مستوى قضية المصير وما تؤدّي إليه من الخوف من غضب الله وسخطه ؛ وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض ـ كما في دعاء كميل ـ أو ثقل علمها عليها باعتبار النتائج الصعبة التي تحدث عند وجودها ، وبهذا يلتقي ثقل علمها بثقل وجودها. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة ، لأننا إذا كنا نجهل موعدها ، فلا بد أن تكون مفاجأة لنا في أي وقت.

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي عالم بها ، فهم يعتقدون أن علاقتك بالله من خلال الرسالة تجعلك في موقع العالم بكل شيء يتصل بالغيب ، لأن الرسول يمثل في وعيهم شخصا غير عادي ، مزوّدا بقوّة خفية يعلم بها كل الأمور ، ويسيطر بها على كل الأشياء ، ولكن الله يوحي إلى رسوله أنه لا يملك أية إمكانيات ذاتية لهذه المعرفة ، فهي من وسائل الغيب التي اختصّ الله بعلمها.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أبعاد القضايا المتصلة بشخصية الرسول وإمكاناتها. (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، لأني لا أملك طاقة ذاتية غير عادية ، فأنا مجرّد إنسان أتحرك من خلال الطاقة الإنسانية الطبيعية في ما يملك الإنسان لنفسه من النفع والضرر بالوسائل التي وهبها الله له ، أو من خلال إرادة الله ومشيئته في ما يوجهه إليه من نفع أو ضرر بوسائل غير عادية ، كما أني لا أعلم الغيب من موقع القدرة الذاتية ، فليس

٣٠١

لدي أسرار تكوينية في وجودي تفتح لي أبواب الغيب ، بل القضية هي أن أنتظر الوحي الذي ينزله الله عليّ ، أو المعرفة التي يلهمني إياها ، لأحصل على معرفة بعض الغيب الذي يريد الله لي أن أعلمه. (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) في الفرص المستقبلية التي قد يحتاج انتهازها إلى إعداد طويل يبدأ من الحاضر ، (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) في ما يحتاج الإنسان فيه إلى القيام ببعض الخطوات الوقائية التي تمنع المرض أو الفقر أو البلاء ، مما يكون سببه بيده واختياره عند معرفته له وعلمه به. ولكني ـ في واقع حياتي العملية ـ أواجه كثيرا من الفرص الضائعة ، أو من المشاكل الجسدية والمادية ، لأني لم أملك المعرفة التي تمكّنني من تلافي ذلك كله ، لأن كل ما أملكه مما يميزني عن الآخرين في مواقع الصفة البشرية هو الرسالة ، التي تسمح بتلقّي الوحي الإلهي بطريقة غير عادية ، ثم إبلاغه بطرق عادية ، (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) في ما أنذرهم به من عقاب الله على أساس عصيان أوامره ونواهيه ، وما أبشرهم به من ثوابه على أساس طاعته في ذلك كله.

* * *

الصورة التي يرسمها القرآن لشخصية النبي

وقد نستوحي من هذه الآية الصورة القرآنية الواضحة للشخصية النبوية ، بكل بساطتها ووضوحها التي أكّد الله ملامحها في أكثر من آية ، بعيدا عن كل الصور الفلسفية اللاهوتية التي أحاطه بها كثيرون ممن حاولوا التعمّق في شخصيّته ، فاستغرقوا في الحديث عن الأسرار والأجواء الخفية الغيبية ، وحولوا النبي إلى شخصية تملك كل القدرات غير العادية ، بحيث لا يميّزه عن صفة الألوهية إلا أن الصفة للإله ذاتية بينما هي في النبي مخلوقة. وقد حاول البعض أن يجعل هذه الصورة للأئمة أو للأولياء ، ونحن نتحفظ في ذلك كله ،

٣٠٢

لأننا نعتقد أن ما يصوره القرآن يمثل الصورة الحقيقية للمفاهيم وللشخصيات بوجهها العام ، بحيث تخضع كل التفاصيل لملامح تلك الصورة ... ولو كان هناك شيء من الأسرار الذاتية الخفيّة ، في ما يدخل في نطاق الخط الفكري للعقيدة ، لبيّنه القرآن في ما يريد لنا اعتقاده ، أو لبيّن الصورة المخالفة أو التي توحي بالمخالفة ... إننا نعتبر القرآن مقياسا لصحة الأحاديث وفسادها ، لأنه الكتاب الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، «وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (١).

وقد نحتاج إلى إثارة فكرة في هذا المجال ، وهي أن علينا في ما لم نكلّف بعلمه أو بالاعتقاد به ـ من تفاصيل شخصية النبي أو الإمام ـ أن لا نفيض كثيرا فيه ، لأنه يتحول إلى نوع من الترف الفكري ، وربما يقودنا إلى بعض الانحرافات أو الخلافات الجدلية التي لا ضرورة لها.

إننا نعتقد أن عظمة النبي تكمن في أنه يجسّد شخصية رسالته في شخصيته أصدق تجسيد ، وبذلك يبلغ الذروة في الكمال ، لأن الرسالة هي قمّة الكمال الإنساني في مستوى قدرة الإنسان على الكمال ، وليس هناك شيء ـ في ما نعلم ـ خارج نطاق الخط الرسالي للحياة وللإنسان.

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ١ ، ص : ٦٩ ، رواية : ٣.

٣٠٣

الآات

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

* * *

٣٠٤

معاني المفردات

(تَغَشَّاها) : التغشية كناية عن الجماع بين الرجل والمرأة.

* * *

الإنسان في تعاطيه مع الله

في هذه الآيات لون من ألوان الحديث عن حالة الإنسان الطبيعية التي تدفعه إلى اللجوء إلى الله في ما يخاف ويرجو ، فيعاهده على الإخلاص له في خط الإيمان والتوحيد ، حتى إذا حصل له ما يرجوه أو دفع عنه ما يحذره ، نسي ذلك كله ، واستغرق في ذاته حيث أطماعه وشهواته ، فأشرك بالله شرك عبادة فيمن كان يطيعهم في معصية الله ... ثم ينطلق الحديث عن الشرك والشركاء في أسلوب تحليليّ يفصّل فيه سخف هذا الاتجاه ، وطريقة تحذيرية يبين فيها نتائجه السلبية على مصير الإنسان في حياته.

(* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) في ما يمثله النوع الإنساني من الزوجية في الوجود في الذكر والأنثى ، (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) فيحسّ معها بالراحة والطمأنينة والهدوء والمتعة ... (فَلَمَّا تَغَشَّاها) وهو كناية عن جماع الرجل للمرأة ، (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) وذلك من خلال بداية النطفة في النموّ ، في ما تمثله من حمل خفيف لا يثقل بدن المرأة ، (فَمَرَّتْ بِهِ) من دون أن يمنعها عن حرية الحركة أو خفّتها ، فكانت تذهب وتجيء وتمارس كل أعمالها بطريقة طبيعية لا ثقل فيها ، (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) وكبر حملها وتحول إلى جنين كامل ينتظر لحظة الولادة ، وبدأت الآلام وبدأ الخوف على النفس وعلى الجنين ، رجعا إلى الله ـ أي الرجل والمرأة ـ في دعاء متوسّل يحمل معنى العهد والميثاق. (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا) ولدا (صالِحاً) سالما من كل عيب

٣٠٥

أو تشوية أو نقص في البدن والعقل (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرونك بتوحيد العمل كما يشكرونك بتوحيد العقيدة. واستجاب الله دعاءهما ؛ دعاء كل أب وأم ، لأنّ القضية ليست قضية آدم وحواء أو إنسانين معينين ، بل هي قضية النوع الإنساني كله ، الذي يعيش هذا الجوّ النفسي أمام حالة الخوف وإن لم يعبّر عن ذلك بالكلمات.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) كما طلباه ، وعاشا في أجواء عاطفة الأبوّة والأمومة ، وشغلا عن كل ما أعطياه من عهد وميثاق ، انطلقا إلى حياتهما العادية في مطامعها ولذائذها ونقاط ضعفها ... وكان في الساحة كثيرون ممّن يعطون لأنفسهم دور الآلهة ، وإن لم يطلبوا إعطاءهم الصفة بطريقة رسمية ؛ هؤلاء الذين قد يبتعد فكرهم عن وحي الله ، ويختلف حكمهم عن حكم الله ، وتبتعد شرائعهم عن شريعة الله ، أو مفاهيمهم عن مفاهيم الرسالة ... في أجواء بعيدة عن كل معاني الروحية النابضة بحب الله ، المتحركة في سبيل الحصول على رضاه ... وكانوا يريدون من الناس أن يتّبعوا فكرهم ويتركوا وحي الله ، أو يخضعوا لحكمهم ويتمرّدوا على حكم الله ، أو يسيروا في خط شرائعهم بعيدا عن شريعة الله ، ويحصلوا على رضاهم ويهملوا رضا الله ... فأقبلا من بين الناس على هؤلاء الشركاء وابتعدا عن الله ، (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، لأن كل هؤلاء مخلوقون له مملوكون له ، لا يملكون أي نوع من أنواع الإمكانات الذاتية ...

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)؟! فكيف يمكن أن نعطي المخلوق دور الخالق ، وهو لا يملك أية خصوصية من خصوصيات الخالقية؟! (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) إذا احتاجوا إلى الناصر في حالات الضعف ، (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) إذا واجهتهم حالات العدوان عليهم من قبل الآخرين ... فكيف يتخذهم الناس أولياء ، وما معنى الولاية في هذا المجال؟ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) ، لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الضلال. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ

٣٠٦

أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، لأن النتيجة واحدة في كلتا الحالتين ، فقد أغلقوا أسماعهم وعقولهم عن كل كلمات الخير والهدى والإيمان ، فكيف تتّبعونهم وتطيعونهم في ما تعرفون ضلاله وانحرافه؟!

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، وتطيعونهم في معصيته (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) ، لا يميّزهم عنكم أيّ شيء في القدرة والعلم والشكل ، وغير ذلك من الأمور التي يتميز بها إنسان عن إنسان آخر ، فكيف تقفون أمامهم وقفة الخاضع الذليل الذي يقدّم التنازلات من عقيدته ومسيرته ، ويتحمل النتائج السلبية في ذلك كله في سبيل طاعة مخلوق لا يحمل أيّة صفة مميّزة عنه في قليل أو كثير ، (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) في ما تحتاجونه من حاجات ، وفي ما تريدون دفعه من ضرر أو تجلبونه من نفع ، مما يلجأ فيه الإنسان إلى الله ، فهل يستجيبون لكم في ذلك؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إيمانكم بقدرتهم على ذلك ، في ما أعطيتموهم من دور الإله في الطاعة. إنهم لا يستجيبون لكم لأنهم لا يملكون إمكانيات الإجابة.

ثم ماذا؟ إنكم قد تعبدون أصناما لا تحمل حسا ولا حياة ، ولا تملك أي نوع من أنواع الحركة ، فضلا عن القدرة على أي شيء آخر ... (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها)؟! إنكم قد تصنعون لهم أرجلا ، ولكنكم لا تملكون منحهم القدرة على المشي ، وقد تصنعون لهم أيادي أو أعينا أو آذانا ، ولكن هل تصنعون لهم قوة على البطش والإبصار والسمع؟ (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلون لحظة واحدة ، فإن الله هو الذي ينصرني عليكم وعليهم ، وسيبطل كل كيدكم مهما عملتم في نهاية المطاف. (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) الذي أحمله إليكم وأدعوكم إلى العمل به ، وأجاهد من أجل تطبيقه والدعوة إلى تحويله كخطّ للحياة من أجل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ويرعاهم ، وينصرهم ، ويمنحهم القوة على مواجهة كل تحديات

٣٠٧

الأعداء.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ* وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) لأنهم لا يملكون شيئا من القوة أو الهدى ، بل هم في حاجة إلى الهدى الذي ينقذهم من ضلالهم ، ولكنهم يرفضونه فلا يستمعون إلى من يدعوهم إليه ، (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) وأنت تدعو وتجاهد وتحاور وتتقدم ، ولكنه النظر الزائغ الحائر الذي لا يملك أي نوع من أنواع التركيز ، لأنه لا يملك الثبات في النظرة والموقف ، ولذلك فإنك تراهم يحدقون بك. (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، لأن الإبصار الذي يكتشف الشخص أو الموقع ، لا بد من أن يكون منطلقا من حالة وعي في الداخل ، ليشرق في الروح في رؤية البصيرة ، وليشرق في لمعات العيون في رؤية البصر.

* * *

٣٠٨

الآيات

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

* * *

معاني المفردات

(بِالْعُرْفِ) : بالمعروف ، وهو فعل الخير.

٣٠٩

(يَنْزَغَنَّكَ) : النزغ : فساد ، وإغراء بالشر.

(فَاسْتَعِذْ) : التجأ إلى الله.

(مَسَّهُمْ) : أصابهم.

(طائِفٌ) : ما يدور حول الشيء ويأتيه من جميع نواحيه ، وهو هنا ما يدور على الإنسان من الشيطان يريد اقتناصه.

(اجْتَبَيْتَها) : استخلصتها واصطفيتها.

(بَصائِرُ) : براهين وحجج.

(وَأَنْصِتُوا) : اسكتوا من أجل الاستماع.

(بِالْغُدُوِّ) : جمع غدوة وهي الصباح.

(وَالْآصالِ) : جمع أصيل ، وهو المساء.

(وَخِيفَةً) : حالة الخوف.

* * *

القرآن يوجه المسلمين من خلال الرسول

وفي هذه الآيات ـ التي هي ختام السورة ـ حديث مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حركة رسالته في نطاق دعوته ، وتوجيه للخطّ السليم الذي يحتوي كل سلبيات الآخرين ، ويسيطر على كل نقاط الضعف الذاتي في نفسه ، وانطلاقة مع الله في حركة روحية خاشعة ، ودعاء ذاكر ، وتسبيح خائف ، وسجود خاضع ، مع لفتة إيمانية للناس بأن يعيشوا مع القرآن ، في استماع وإنصات للفكر من أجل الوعي ، وللقلب من أجل الإيمان.

* * *

٣١٠

دراسة الواقع الفكري والنفسي لمجال الدعوة

(خُذِ الْعَفْوَ) كخطّ عمليّ للتعامل مع الناس في أجواء الدعوة ، في ما يواجهه من حالات التشنّج والتمرد ، لأن المسألة لدى الرسول أو الداعية ليست مسألة مزاج يبحث عن منفذ للتنفيس ، ولكنها مسألة دعوة تفتش عن مدخل إلى فكر الآخرين للحصول على قناعاتهم ، مما يخلق بعض التعقيد في مواقفهم ، وبعض السلبيات الذاتية في ردود فعلهم ، فلا بد من اتباع الأسلوب الذي يتحرّك بالتوازن في عرض الفكرة ، وبالتسامح في مواجهة ردود الفعل ، وبالتّسهيل والتيسير في إعطاء المسؤوليات ... ولا يكلّفهم من أمرهم عسرا.

(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) وهو المعروف في القول والعمل الذي يعرفه الناس بفطرتهم ولا يستنكرونه بطبيعتهم ، من خلال إدراكهم لارتباطه بمصالحهم ومنافعهم وتنمية أفكارهم وأرواحهم وأجسادهم. وهذا هو الخط الواضح الذي يشمل كل مفردات الشريعة الإسلامية في أخلاقياتها وأحكامها ، في ما تدعو إليه من الارتفاع بإنسانية الإنسان إلى المدى البعيد في الآفاق الواسعة. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الذين لا يتحركون في الحياة من مواقع الوعي للمسؤولية ، ولهذا فإنهم لا ينطلقون للأخذ بأسباب المعرفة ، ليعرفوا من خلال قضايا الخطأ والصواب جوّ المصلحة والمفسدة في ما يفعلون ويتركون ، مما يؤدي بهم إلى أن يواجهوا الرسالات بأساليب السباب والسخرية والتشويه والتهويل ، بعيدا عن أيّ منطق للحوار أو قاعدة للتفكير ...

فلا بدّ للداعية من دراسة كل هذا الواقع الفكري والنفسي لهؤلاء في عملية التخطيط لمواجهته بالحكمة الواعية ، التي تفرض الإعراض عنهم في أكثر الحالات ، لأن الخضوع لأساليب ردود الفعل يؤدي إلى أن يتحول الموقف إلى ساحة للسباب وللكلمات القاسية ، ويثير العصبية في نفوسهم

٣١١

للباطل ، ويحجب الرؤية عنهم من خلال أجواء الانفعال التي تثير الضباب في الأفكار والمشاعر ، ويبعد المواقع عن الحصول على مكاسب إيجابية في مصلحة الرسالة ، بينما يؤدّي التعالي عن هذه الأساليب إلى إبعاد الساحة عن أجواء الحقد والبغضاء ، ويفسح المجال لفترة من الهدوء النفسي الذي يبعث على التفكير ، وبالتالي إلى الحوار ، عند ما تهدأ الضجة ، ويستعيد هؤلاء بعض عقولهم في مواقع الصراع.

* * *

الاستعاذة بالله تعالى في مواجهة الشيطان

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) قد يثير الشيطان في داخل الإنسان بعض المشاعر السلبية ، وقد يخلق حالة من التوتر النفسي الذي يبعث على الغضب في التصرف ، ويدفع إلى الممارسة الانفعالية على أساس الثأر لكرامة الذات ، أو لما يخيّل إليه أنه كرامة الرسالة ، وهذا هو النزغ الشيطاني في ما يوحي به معناه من الدخول في أمر لأجل إفساده ، أو الإغراء ، أو الوسوسة ... (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) الذي يعيذ الإنسان من وسوسته ويبعث في روحه الشعور بالسكينة الروحية التي تحوّل الأجواء الداخلية إلى ساحة للمحبة والسلام ليعود له وضوح الرؤية للأشياء. (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يستجيب لك دعاءك في ما يعلمه من الموقف الصعب الذي تواجهه من أهل السفاهة والجهالة. وقد لا تكون الآية موجّهة إلى الرسول في حالته الخاصة ، على أساس وضع سلبيّ معيّن في ما عاشه في تجربته ، بل هي موجّهة لكل الدعاة من خلاله في التخطيط لحركة الدعوة في حالات التحدي ، لمواجهة كل الأوضاع المتشنجة.

* * *

٣١٢

التقوى تبطل إغواءات الشيطان

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) وهذه حقيقة إنسانية إيمانية في حركة النفس في الموقف الداخلي والخارجي ، فإن التقوى لا تمنع الأفكار السلبية الانفعالية من الطواف حول المشاعر والمواقف لتفسدها ولتوجهها إلى الاتجاهات الخاطئة ، لأن ذلك هو شأن الطبيعة الإنسانية التي تتأثر بكل الأوضاع المحيطة بها ، في ما تتحرك به غرائزها في حركة ذاتية عفوية ، ولكن دور التقوى هو أن يمنع استقرار تلك الأفكار في داخل النفس ، أو تحويلها إلى موقف عمليّ منحرف ، ولهذا فإنها تقف أمام كل تلك الأفكار والتهاويل والمشاعر الشيطانية التي تطوف بالإنسان ، لتجد زاوية تختبئ فيها ، من أجل إتمام عملية الإغواء والإضلال ، فتعمل على طردها بإعادة الوعي الإنساني إلى الله ، في ما يمثله ذلك من انفتاح على كل آفاق الخير والصلاح ، وذلك عند ما يتذكر الإنسان ربّه ، فتزول الغشاوة الشيطانية عن بصره وبصيرته ، فيبصر درب الحق من جديد.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ). أما المشركون الذين انطلقوا مع الشياطين في علاقة مودّة وأخوّة وعبادة ، فإنّ إخوانهم يشجعونهم على الغيّ والضلال بما يمدونهم به من أسبابهما ولا يكفّون عن ذلك. وهذا هو الفرق بين المؤمنين الذين يرعاهم الله فينقذهم من الضلال كلما طاف بهم طائف من الشيطان ، وبين المشركين الذين تتولاهم الشياطين في عملية إغواء وإضلال.

* * *

٣١٣

النبي لا يتبع إلا ما يوحى إليه

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) مما يقترحونه عليك من معجزات وآيات على سبيل التعنّت والتعجيز ، (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) وجئت بها ، إذ كان يخيل إليهم أن النبي يملك القدرات الغيبيّة التي يستطيع من خلالها أن يغير وضع العالم من حوله بطريقة المعجزة. (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) لأن النبي لا يملك قدرة المعجزة ، بل هي خاضعة لقدرة الله الذي قد يشاء إيجادها في حالات معيّنة ، أمّا دور النبي فهو اتباع ما يوحي به إليه الله من رسالته في عملية دعوة واتباع.

* * *

كتاب الله بصائر فكرية وروحية للإنسان

(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). إنه الوحي الذي أنزله الله في قرآنه ؛ إنّ آياته تمثّل الوسائل الفكرية والروحية التي يبصر الناس من خلالها آفاق الخير والنجاح والسعادة ، وتفتح لهم سبل الهدى التي تنتهي بهم إلى النهايات الرضية عند الله ، وتفيض عليهم من رحمته ما يملأ قلوبهم بالسكينة وأرواحهم بالتفاؤل والإشراق والأمل ، وذلك كله عند ما يعيش هؤلاء الناس فكر الإيمان وروحه وحركته وفاعليته ، فيبصرون به ويهتدون بهداه ، ويتقبّلون رحمة الله من خلاله.

* * *

الإنصات والاستماع لقراءة القرآن

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) لتعيشوا مع آياته أجواء الروح

٣١٤

وآفاق الحقّ ، ولتأخذوا منه المنهج السليم لحركة الإنسان في الحياة ، ولتنفتحوا فيه على كل خير وبركة ، ولتلتزموا بأحكامه في حلاله وحرامه ، ولتحملوا مفاهيمه العامة كقاعدة منفتحة على الجانب المشرق من حقائق الحياة ، ولتتحرك خطواتكم في الطرق المستقيمة التي يشير إليها فكره النيّر ومنهجه السليم ... (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لأن في ذلك كله الرحمة كل الرحمة ، التي لا تتمثل في القرآن كعاطفة وانفعال ، بل تتحول إلى منهج للفكر وللحياة. وهذا هو التوجيه الإلهي الذي يريد للمؤمنين أن يجعلوا من القرآن كتابهم الذي يقرءونه قراءة وعي ، ويستمعون له استماع تأمّل ، وينصتون له إنصات خشوع وتفكير ، ليتحرك في كل آفاق حياتهم ، فيكون فكره هو الفكر الذي يحملونه لتتميز به شخصيتهم الفكرية عن كل فكر آخر ، وتكون شريعته هي شريعتهم ، ليرفضوا به أية شريعة أخرى من صنع الإنسان ، وتكون وسائله وأهدافه هي وسائلهم وأهدافهم في خطواتهم العملية في الحياة ... ولا يريد لهم أن يكون كتابا للبركة أو للحفظ أو للتفاؤل والاستخارة أو غير ذلك من الأمور التي تبتعد به عن جوّه الرسالي الذي أراده الله هدى للناس.

* * *

ذكر الله تضرّعا وخيفة

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) في إحساس خاشع بعظمته وبقدرته ، وفي إيحاء روحيّ بالتضرع إليه في ما يرجوه الإنسان وما يخافه ، وبالتذلّل له في شعور عميق بالخوف منه ومن عقابه ، لتعيش النفس مع الله في كل نبضاتها وخفقاتها وأفكارها ومشاعرها ، حتى يكون الله هو كل شيء فيها. فإذا تحوّل ذلك إلى ذكر ، فإنه يكون ذكرا خافتا من خشية الله. (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) في ما يشبه الهمس الذي يعبّر عن النبضة والخفقة والإحساس

٣١٥

والإيحاء ، كما لو كان حديث النفس الذي قد يقترب من حركة الكلمة في الشفاه ، ولكنه يبتعد عن الصوت القويّ في الحناجر (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ليكون ذكر الله هو البداية التي يبدأ الإنسان بها يومه ، وليكون النهاية التي يختم بها ذلك اليوم ، فذلك هو الذي يجدد لك اليقظة الروحية الإيمانية في روحك وفكرك وضميرك ، (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) الذين يعيشون الغفلة ، فلا يشعرون بشيء من حولهم ، وينسون الله في كل ما يحيط بهم.

* * *

حال الملائكة مع الله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) في ما يبتهلون إليه في الدعاء ، وفي الذكر والصلاة ، وفي كل أساليب الخضوع والخشوع ، (وَيُسَبِّحُونَهُ) في إحساس منهم بالعظمة الإلهية. (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) في تعبير عن العبودية الخالصة بكل معانيها وبكل أحاسيسها ، في ما يمثّله السجود من الاستسلام الكلي لله ، ومن الانسحاق أمامه ، في روحية الإيمان وصفاء الروح.

* * *

٣١٦

سورة الأنفال

مدنيّة

وآياتها خمس وسبعون

٣١٧
٣١٨

سبب التسمية

سميت السورة ب «الأنفال» لورود هذه الكلمة في بدايتها ، كمحور لسؤال وجّهه المسلمون إلى الرسول حولها لاختلاف آرائهم في شأنها.

والأنفال ـ في اللغة ـ هي الزيادة على الشيء ، ومنه سميت الصلوات غير الواجبة نوافل ، باعتبارها زيادة على الفريضة.

وقد اختلفت كلمات المفسّرين في المراد من الكلمة ، فذكر بعضهم أنها غنائم معركة بدر ، وذكر بعض آخر أنها كل ما كان من فتح لم يقاتل عليه ، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، كبطون الأودية ، ورؤوس الجبال ، والأرض الموات ونحوها ... وربما أطلقها البعض على مطلق غنائم الحرب ، على أساس أننا لا نفهم أيّة خصوصية لمعركة بدر.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور عن عبادة بن الصامت قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهدت معه بدرا ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصيب العدوّ منه غرّة ، حتى إذا كان الليل ،

٣١٩

الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحقّ بها منّا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لستم بأحق بها منّا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخفنا أن يصيب العدو منه غرّة واشتغلنا به ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فقسّمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين» (١).

وجاء في الكافي بإسناده عن العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ، قال : «الأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال ، وله ـ يعني للوالي ـ رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها ، وله صوافي الملوك : ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب ، لأن الغصب كله مردود ، وهو وارث من لا وارث له يعول من لا حيلة له» (٢).

* * *

ربما كان جوّ السورة يوحي بأن المقصود بالكلمة هو الغنائم ، لأنها هي التي كانت موضع الخلاف الذي صار أساسا للتنازع. أما الرواية الواردة عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ، فقد لا تكون تفسيرا للكلمة من خلال مورد الآية ، بل قد تكون تعميما للكلمة لغير هذا المورد ، من خلال التقاء الحكم في الجميع على قاعدة واحدة.

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٤ ، ص : ٥.

(٢) الكافي ، ج : ١ ، ص : ٥٣٩ ، رواية : ٤.

٣٢٠