تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

يعيشه في الإحساس بمحبة الله ورعايته له ، بعد الصدمة الشديدة التي واجهها في تجربة طلب الرؤية ، ليزول كل شيء سلبيّ من نفسه ، وليعرف بأن الله لم يغضب عليه في ذلك ، فقد أعلن له استمرار هذا الاصطفاء المميّز عن الناس ، بما حمّله من مسئولية حمل رسالاته وكلامه. (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لله بالإخلاص له في أداء رسالته ، وتحويلها إلى خطّ للفكر وللحياة ، فذلك هو الشكر العملي الإيجابي في موضوع الرسالة ، بالإضافة إلى الشكر الشعوري الذي يتمثل بحالة الامتنان الروحي في الداخل.

* * *

الله ينص على موسى شريعة التوراة

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاجه الناس في أمور معاشهم ومعادهم ، (مَوْعِظَةً) تفتح قلوبهم على الله فيخشعون لعظمته ، وتفتح قلوبهم على الخير فينطلقون إليه. (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) في ما تتحرّك به أحكام الشريعة في تنظيم أمور الحياة العامّة والخاصّة ، بكل مفرداتها وتفصيلاتها لتتحرك الحياة كلها في طريق الله من خلال أوامره ونواهيه ، فلا بد من الدعوة إليها ، وتخطيط الوسائل العملية لتحويلها إلى واقع يتحرك في حياة الناس ، وتوجيه الأفكار نحو الالتزام بمفاهيمها وأهدافها بشكل واقعيّ حاسم ، (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) في ما يحمل الفكر من قوّة ، وما تنطلق به الدعوة والحركة والإرادة من عوامل القوة التي تتحدى بالرسالة ، وتواجه التحديات بقوة الموقف.

وتلك هي الدّعوة المستمرّة لكل الدّعاة إلى الله الحاملين لرسالته ، بأن يأخذوها بقوة ، فيحشدوا كل عناصر القوة الفكرية والروحية والعملية التي

٢٤١

تجعلهم في موقع المواجهة الحاسمة الحازمة التي لا تهزمها عوامل الضعف ، ولا تخفيفها وسائل الرعب والتهويل. (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) ، فليفتشوا عن الأحسن فيها ليأخذوا به ، وسيرون أنّ كل ما فيها يمثل المرتبة العليا في الحسن ؛ فلا تفاضل بين تشريع وتشريع ، أو بين مفهوم ومفهوم ، بل هو التوازن في الجميع ، لأن الله قد راعى الحكمة في كل ذلك في ما يريده من تحقيق الفلاح للإنسان المؤمن في الدنيا ، وفي السعادة التي يحصل عليها في الحياة ، وفي النصر بغلبة الحقّ التي يحققها في مواجهته لأعداء الله. (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) الذين ابتعدوا عن الحق ، كيف يعيشون حياة الشقاء والعناء المنتهية إلى الهزيمة أمام قوة الحق ، في كل المجالات ، لتكون العاقبة لكم أيها المؤمنون.

* * *

٢٤٢

الآيتان

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧)

* * *

معاني المفردات

(يَتَكَبَّرُونَ) : كل من لا يخضع للحقّ فقد تكبّر عليه.

(الرُّشْدِ) : سلوك طريق الحق. وضده الغيّ وهو سلوك طريق الضلال.

(حَبِطَتْ) : الحبوط : سقوط العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل.

* * *

٢٤٣

واقع المستكبرين في الأرض ومصيرهم

وهذه صورة أخرى لبعض النماذج الإنسانية ، من الجاحدين لآيات الله ، السائرين في طريق الضلال ، وهي صورة حيّة متحركة في أكثر من اتجاه ، وفي أكثر من مجتمع ، وقد أراد الله تقديمها إلينا لنستوحي منها كيف تكون الغفلة عن الله وعن آياته سببا في ضلال الإنسان وهلاكه ووصوله إلى الدرك الأسفل من الانحطاط والسقوط ، وفي بعده عن رحمة الله وهدايته.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، فأتركهم ليسيروا على هواهم ، في ما يريدون وما لا يريدون ، فلا أمنحهم لطفا من ألطافي التي أمدّ بها المؤمنين ، عند ما تنحرف بهم الطريق عن غير قصد واختيار ، فأهداهم بذلك إلى الصراط المستقيم ، لأنهم عاشوا الحياة من أجل السير في طريق الهداية. أمّا هؤلاء فإنهم لم يريدوا الاهتداء بما أنزلت إليهم من هدى الوحي والرسالة ، ولم يحركوا طاقاتهم الذاتية في هذا الاتجاه ؛ فحذّرتهم فلم يحذروا ، وخوّفتهم فلم يخافوا ، وأنذرتهم فلم يذعنوا ، فسأتركهم لما اختاروه ، وسأصرفهم عن آياتي من خلال ذلك. (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، فهم يتحرّكون من موقع العقدة الذاتية المرضيّة التي تشعرهم بالاستعلاء والكبرياء ، فتوحي لهم بأنهم أعظم من أن يذعنوا للفكر الذي يأتيهم من خارج ذواتهم ، وأكبر من أن يخضعوا لإنسان ما ـ حتى لو كان نبيّا ـ وتتعاظم عندهم العقدة ، لتمنعهم من الاستسلام لأمر الله والإيمان بآياته ، دون أن يكون لهم أيّ حقّ أو أيّة حجة في ذلك كلّه ، لأنه لا مجال للكبرياء إلا لله ، وكل من هو غيره مخلوق حقير لا يملك امتيازا على غيره إلا بالعلم والتقوى ، وهما الصفتان اللتان توحيان بالتواضع وتمنعان عن التكبّر.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) ، لأن العقدة تمنعهم عن الانطلاق

٢٤٤

في أجواء الإيمان الفكرية أو الروحية من أجل أن يفكّروا ويتعرّفوا السبيل الحق للإيمان. (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) ، لأنهم لا يصدرون في ما يسيرون فيه من طرق ، عن دراسة النتائج الإيجابية والسلبية على مستوى المصير ، في ما يتمثل فيه من رضا الله وسخطه على أساس قضايا الكفر والضلال ، بل يصدرون في ذلك كله عن ملاءمة ذلك لهوى أنفسهم وعدم ملاءمته لها ، من دون فرق بين الرشد والغيّ. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) فضلّوا سواء السبيل. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وسقطت عن الاعتبار ، لأنها لم ترتكز على قاعدة ثابتة من فكر ووعي وإيمان. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وتلك هي العدالة الإلهية في ما يثيب الله أو يعاقب ، وفي ما يعطي أو يمنع ، فلا نجاة إلا بعمل ، ولا هلاك إلا بعمل.

* * *

٢٤٥

الآيات

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤)

* * *

٢٤٦

معاني المفردات

(وَاتَّخَذَ) : الاتخاذ : اجتباء الشيء لأمر من الأمور.

(حُلِيِّهِمْ) ، الحليّ بضم الحاء وتشديد الياء : هو ما اتّخذ للزينة من الذهب أو الفضة.

(خُوارٌ) : صوت الثور.

(سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : وقع البلاء في أيديهم ، أي وجدوه وجدان من يده فيه.

(أَسِفاً) : تأتي أسف بمعنى غضب وحزن.

(تُشْمِتْ) : الشماتة : الفرح بالمصيبة ولا تكون إلا من العدوّ.

(سَيَنالُهُمْ) : النول : اللحوق ، وأصله مدّ اليد إلى الشيء الذي يبلغه.

(سَكَتَ) : أي سكن وهدأ.

(نُسْخَتِها) : ما نسخ وكتب منها.

* * *

موسى في مواجهة ضلال قومه

وبينما كان موسى يتابع الوحي مع ربّه ، وينظّم الألواح ليحملها إلى قومه ، كان السامريّ يعمل على خداعهم وإضلالهم ، مستغلا غيبة موسى الذي كان يخافه قومه ، وضعف هارون الذي كان لا يحظى بالاحترام الكبير لديهم ـ في ما يبدو ـ وتفكيرهم الطفوليّ في أن يكون لهم إله ذهبيّ جميل يعبدونه ،

٢٤٧

على الطريقة التي كانت مألوفة في تلك المنطقة ، فجمع منهم الحلي الذهبية ، وعمد إلى صنع عجل متجسّد له خوار ـ بطريقة فنية خاصة ـ ليعطي بذلك للعجل صفة القداسة ، من خلال الصوت غير المألوف الذي ينطلق منه. وقال لهم : هذا إلهكم وإله موسى. وأقبلوا عليه يعبدونه دون أن يستطيع هارون منعهم من ذلك لقلة تأثيره عليهم. هذا ما ذكرته هذه الآيات باختصار مع ردّ فعل موسى ، بالإضافة إلى بعض التفاصيل.

* * *

قوم موسى يتخذون العجل إلها

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) صنما يعبدونه من دون الله ويؤلّهونه في خشوع وابتهال. ولم تدخل الآية في تفصيل القصة ، لأن الغاية من الحديث هنا عن هذه القضايا هي رصد حالات الضلال والانحراف كظاهرة متكرّرة مع كل نبي ، فأشارت إلى القصة ، ثم تابعت الحديث للتعليق عليها ، (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)؟ فكيف يمنحونه صفة الإله ، في الوقت الذي لا يملك فيه أيّة صفة عادية تقرّبه من طبيعة الإنسان العاقل الذي يفكّر ليهدي الآخرين بتفكيره؟ وما معنى أن يكون الشيء إلها؟ هل هو في امتثاله أمامهم بجموده دون أن ينطق أو يعقل أو يتحرك ، ليقفوا بين يديه خاشعين خاضعين لا يملكون إلا الأناشيد والابتهالات في جوّ من الخيال الروحيّ المريض الغارق في بحر الأساطير؟ (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم في ما انحرفوا به عن خط الهدى والإيمان ، وشعروا بالضياع ، وعاشوا الندم بعد أن هدأ كل ذلك الجو الاستعراضي الذي أثاره السامري ، فرجعوا إلى الله من جديد.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) تعبير كنائي عن موقف النادم الذي يشعر

٢٤٨

بالإحباط. (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) وانحرفوا عن الهدى الذي عاشوه مع موسى. (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). ولعل مثل هذه الروح التي انطلقت بهذا الابتهال الخاشع النادم ، توحي بأن القوم كانوا قد وصلوا إلى مرتبة جيّدة من الروح الإيمانية في أعماقهم ، حتى إذا انحرفت بهم الطريق في اتجاه الشيطان ، سارعوا إلى الرجوع إلى الاستقامة في اتجاه الله.

* * *

موسى يرجع غضبان أسفا

هذه هي قصّة هؤلاء ، أمّا موسى فقد أخبره الله بأن السامري أضل قومه (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) حزينا ، في حالة يبتعد فيها النبيّ عن الغضب الذاتي ، والحزن الانفعالي ، فقد غضب لله الذي أشرك هؤلاء بعبادته ، بعد أن أقام عليهم الحجة تلو الحجة ، وحزن للرسالة ، بعد هذا الجهد الضائع الذي بذله من أجل تنميتها في حياة هؤلاء وتعميقها في داخل نفوسهم.

(بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) فتصرفتم هذا التصرف الضال في غيابي ، ولم تنتظروا الانطلاقة الجديدة التي ستتحرك في حياتكم من خلال وحي الله وأمره. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) فلم تصبروا ريثما يأتيكم بالهدى والخير والبركة في شريعته ...

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) من يده في حالة انفعالية ، ثم وجّه كلامه إلى أخيه هارون ، باعتباره خليفته الذي أراد أن يصلح أمرهم ، ويقف ضد كل عوامل الفساد التي تنحرف بهم عن مسيرتهم في خط الإيمان.

(وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) في تعبير صارخ عن الحالة النفسية التي كان

٢٤٩

يعيشها موسى إزاء ما حدث ، وربّما تحدّث الكثيرون عن مبدأ العصمة في شخصيته كنبيّ ، وعن التساؤل الإيمانيّ في مدى انسجام هذا التصرف الغاضب مع هذا المبدأ ، ولكننا لا نجد تنافيا بينهما إذا أردنا أخذ القضية ببساطة بعيدا عن التعقيد والتكلف ، فموسى بشر يغضب كما يغضب البشر ، ولكن الفرق بينه وبينهم ، أن لغضبه ضوابط ، فلا يتصرف بما لا يرضي الله ، ولا يغضب إلا لما يرضاه الله. وقد غضب على قومه لله ، وعلى أخيه هارون للغرض نفسه.

لقد اعتبر أخاه مسئولا عما حدث بسبب تساهله معهم ، وعدم ضغطة عليهم ومنعهم من ذلك ، فقد كان تقديره ، أنه إذا رفع درجة الضغط ، يمكن أن يساهم ذلك في منع ما حدث ـ مما لم يقم به هارون ـ فكان موسى منسجما مع نفسه ، ومع دوره وصفته في ما اتخذه من إجراء مع هارون ، ولكن هارون كان له رأي آخر ، فقد وقف ضدّهم ، وواجههم بكل وسائل الضغط التي يملكها ، ولكنهم كانوا لا يهابونه كما يهابون موسى صاحب الشخصية القوية التي واجه بها فرعون بكل طاغوتيته. وكانوا يرون في فرعون القدرة التي لا حدّ لها في ما كان يتميز به من قوّة بدنية وروحية وقيادية ... أما هارون ، فقد كان ـ في ما يبدو ـ في الظلّ مجرد تابع لموسى ، فلم يظهر له دور إلا في المواجهة الأولى مع فرعون. فاستضعفه القوم بالرغم من مركزه كخليفة لموسى ونائب له. (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) ، فلم أفعل ما أحاسب عليه ، لأن الظروف كانت أقوى من قدرتي ، فقاومت حتى لم يعد هناك مجال للمقاومة ، وجابهت حتى كدت أقتل ، فإذا تصرفت معي بهذه الطريقة ، فإن ذلك سوف يكون دافعا لشماتة الأعداء بي ، لأنني قاومتهم وجابهتهم ، وها هم يرونني أمامك واقفا وقفة المذنب دون ذنب ، فلا تفعل بي ذلك ، (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لأني قمت بما اعتقدت أنه مسئوليتي دون تقصير.

وشعر موسى بالحرج ، وسكن غضبه ، فرجع إلى الله يستغفره لنفسه

٢٥٠

ولأخيه ، لا لذنب ارتكباه ، ولكن للجوّ الذي ابتعد فيه القوم عن الله ، من خلال الفكرة التي كانت تلح عليهما. إنها وقفة الإنسان الذي يحس بالذنب أمام الله من خلال تطلّعاته الروحيّة في تجربته ، وتجربة الناس معه ، فاذا لم يتحقّق له ذلك ، كان له مع النفس حساب كبير ، يفتش فيه عن احتمالات التقصير ـ دونما تقصير ـ لمجرّد الإخلاص لله والتعبير عن محبته. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) ما يمكن أن يكون منّا من تقصير في المقدّمات ، (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

* * *

تساؤلات حول فكرة العصمة

وتبقى حول فكرة العصمة بعض التساؤلات ، كيف يخطئ هارون في تقدير الموقف وهو نبيّ؟ أو كيف يخطئ موسى في تقدير موقف هارون وهو النبيّ العظيم؟ وكيف يتصرف معه هذا التصرف؟ ولكننا قد لا نجد مثل هذه الأمور ضارّة بمستوى العصمة ، لأننا لا نفهم المبدأ بالطريقة الغيبيّة التي تمنع عن الإنسان مثل هذه الأخطاء في تقدير الأمور ، بل كل ما هناك أنه لا يعصي الله في ما يعتقد أنه معصية ، أما أنه لا يتصرف تصرفا خاطئا يعتقد أنه صحيح مشروع ، فهذا ما لا نجد دليلا عليه ، بل ربما نلاحظ في هذا المجال أن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء ونقاط ضعفهم ، يؤكد القول بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري من حيث الخطأ في تقدير الأمور ؛ والله العالم بأسرار خلقه.

* * *

٢٥١

غضب الله على الضالين وتوبته على التائبين

أما هؤلاء الذين عبدوا العجل ، فهم على قسمين : أولئك الذين انحرفوا ثم تراجعوا وساروا من جديد في خط الاستقامة والإيمان ، وأولئك الذين استمروا على خط الضلال. (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في ما أراده الله من ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، من خلال الظروف التي تحيط بهم ، ومن خلال النفسية الوضيعة التي تجعلهم يواجهون الحياة من موقع صغائرها لا من موقع الأهداف العليا. وبذلك فهم يسقطون أنفسهم تحت أقدام الأقوياء والأغنياء ، ليحصلوا على بعض الشهوات والامتيازات الذاتية ، فيعيشون الذل في الموقف ، والانسحاق في النفسية والروحية أمام الآخرين.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) الذين افتروا على الله الكذب ، فجعلوا له شريكا من غير حجّة ولا برهان. وربما نستفيد من هذه الآية ، استحقاق العذاب لهؤلاء من خلال اتخاذهم العجل إذا استمروا في هذا الاتجاه ، أما الذين تراجعوا فلا عقاب لهم ، لأنهم بدّلوا الموقف ، وابتعدوا عن الافتراء ... وقد نستوحي ذلك من الآية التالية.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فقد جعل الله على نفسه قبول التوبة ممن تاب إليه بإخلاص. وقد سبقت رحمته غضبه ، تماما كما تاب على المشركين الذين تمردوا على الرسالة وحاربوها ، ثم أخلصوا لله الإيمان ، وساروا في الخط المستقيم ، وجاهدوا في سبيله.

* * *

٢٥٢

موسى يأخذ ألواح شريعته مجددا

وأغلق الستار على هذا المشهد. (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) بعد أن ألقاها من يده .. (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ليبدأ الجولة الجديدة في الدعوة إلى الله ، لإنقاذ الضالّين من متاهات الضياع والضلال ، بالهدى الذي أوحى به الله إليه في التوراة ، ولينشر الرحمة الإلهية التي تحوّلت إلى منهج كامل للحياة في الفكر والعاطفة والعمل ، وإلى حركة إيمانية واعية في نطاق الحق والعدل والجهاد ... وهكذا بدأت التجربة الجديدة ، لتتحرك في المواقف العامة للمبادئ ، فتدخل في أجواء التفاصيل في ما تتضمنه الشريعة الإلهية من تفاصيل الفكرة والموقف ، فيتحرك بها الذين يخافون الله من موقع إيمانهم به ، فيطبقون تعاليمه في حياتهم للحصول على ثوابه ، وللنجاة من عقابه.

* * *

٢٥٣

الآيات

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨)

* * *

٢٥٤

معاني المفردات

(وَاخْتارَ) : آثر وأراد ما هو خير.

(فِتْنَتُكَ) ؛ الفتنة : العذاب ، وقيل : الكشف والاختبار.

(هُدْنا إِلَيْكَ) : تبنا إليك.

(إِصْرَهُمْ) ؛ الإصر : الثقل الذي يمنع حامله من الحركة.

(وَالْأَغْلالَ) : القيود. وتوضع في يدي الأسير أو عنقه.

(وَعَزَّرُوهُ) : قال الزجّاج : اختلف أهل اللغة في معنى قوله :

(وَعَزَّرُوهُ) ، وفي قولهم : عزرت فلانا أعزره عزرا ، فقيل : معناه رددته ، وقيل معناه : أعنته ، وقيل معناه : لمته ، ويقال : عزّرته بالتشديد : نصرته (١). وقيل : التعزير هو الإعانة والتوقير.

* * *

موسى يختار سبعين رجلا لميقات الله

ويستمر الحديث عن قوم موسى ؛ فقد اختار موسى سبعين رجلا ليكونوا معه في الموعد الذي ضربه الله له. ولم تفصّل السورة المسألة حول طبيعة هذا الموعد ؛ هل هو الموعد الذي ذهب إليه موسى ليكلّم الله ويعود إلى قومه بالتوراة ، أم أنّ هناك موعدا آخر لمناسبة أخرى؟ لقد اختلف المفسرون في تحديد ذلك ، انطلاقا من شواهد قرآنية تعرّضت لما يقترب من هذه القصة ، وفصّلت بعض التفصيل أسباب العذاب الذي أوقعه الله عليهم ، حيث أرادوا أن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٧٤٨.

٢٥٥

يروا الله جهرة ... ورأى بعضهم أنّ هذا ما جعل موسى يطلب من الله أن يمكّنه من النظر إليه استجابة لطلبهم منه ذلك ، فإذا استجاب الله ذلك فسيرونه معه ، لأنهم كانوا حاضرين هناك. وحاول البعض مناقشة بعض تفاصيل ذلك ، وحملها بعض على المحامل الأخرى البعيدة لبعض الأحاديث الواردة في هذا المجال ، ولكنّنا لا نجد كبير فائدة من الدخول في مثل هذه التفاصيل ، لأن القرآن أجمل القصة لابتعاد خصوصياتها عما يريده من أغراض ، وهو تأكيد العقاب الإلهي لمن تمرّد وانحرف ، وتقرير الفكرة التي تربط الحاضر بالماضي في قضايا الإيمان والانحراف.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) التي أنزلها الله بهم ، فماتوا بها أو أغمي عليهم عند ما أخذتهم الصاعقة ، كنتيجة لبعض مواقفهم أو طلباتهم أو أقوالهم (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) فقد عقلت لسانه المفاجأة ، وأخذته الدهشة ، وعاش في جوّ ضاغط من الحيرة ، وربما فكر بالطريقة التي يواجه قومه بها بنبإ هلاك سبعين رجلا منهم دفعة واحدة ، فقد يثير ذلك الكثير من حالة البلبلة والارتباك في المجتمع هناك ، ولم يجد لديه إلا أن يرفع الأمر إلى الله ليعبر عن هذه الحيرة وهذا الخوف ، وعن التمني الحائر لو أن الله أهلكه معهم قبل هذه التجربة الصعبة ... ولكنه يرجع إلى روحية الابتهال والخشوع لله والتوسل الصادق إليه (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)؟! فنحن لا نتحمل مسئوليتهم ، لأننا لم نشاركهم أعمالهم وأقوالهم ، ولم نرض بها من قريب أو بعيد (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ).

* * *

٢٥٦

من هم السفهاء الذين عناهم موسى عليه‌السلام؟

ولكن من هم السفهاء الذين عناهم موسى بقوله ، هل هم هؤلاء السبعون ، أم أنّ هناك أناسا آخرين؟ وهل كان موسى في موقف الحديث عن هلاك هؤلاء بما فعله السفهاء من غيرهم أو بما فعلوه هم ، أم كان في موقف الخوف من هلاك مستقبليّ للمجتمع ، كنتيجة لانحراف سفهاء بعض الأفراد فيه؟ هناك أكثر من احتمال ، ولكن الظاهر أنه كان في موقف طلب الرحمة من هلاك محتمل من خلال انحراف المنحرفين هناك ، والرجاء بأن لا ينزل عقابه عليهم جميعا لانحراف بعض الأفراد من السفهاء على طريقة : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ..) [الأنفال : ٢٥] (أَنْتَ وَلِيُّنا) وراعينا وناصرنا في جميع أمورنا ، فإذا صدر منا الذنب فإننا نرجو المغفرة منك ، وإذا عشنا الخطأ فإننا نتطلع إلى الرحمة لأنك وليّ ذلك كله.

* * *

موسى عليه‌السلام يسأل الله المغفرة

(فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) فنحن نلجأ إليك ولا نلجأ إلى غيرك ، ونتحرك في اتجاه الإخلاص إليك في العمل ليكون لنا بذلك النجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة ... وتلك هي حسنة الدنيا ، وحسنة الآخرة (* وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي رجعنا إليك وأنبنا بقلوبنا وأرواحنا وخطواتنا العملية ...

وتلك هي التطلعات الروحية التي عبّر بها موسى عن تطلعات كل مؤمن يعيش خوف الله ، فكيف أجابه الله؟ (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) تبعا للحكمة التي تفرض العذاب على من يستحقه حيث لا مجال لمغفرة أو رحمة.

٢٥٧

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ففي كل مظهر من مظاهر الوجود ، مظهر للرحمة التي أفاضها على الحياة فتحوّلت إلى حركة واسعة تنتج الخير والبركة لكل شيء ، وفي كل نعمة من نعم الحياة على الناس في ما يأكلون ويشربون ويلبسون ويستمتعون ويتقلّبون في رزقه ... منطلق للرحمة لمن يؤمن به ويطيعه ، ولمن لا يؤمن به ويعصيه. وغدا إذا وقف الناس بين يديه ، من المذنبين المسيئين والمطيعين والمحسنين ، فسيجدون رحمته بانتظارهم ، فيغفر لهؤلاء ما قدموا من خطايا ، ويرفع درجة أولئك لما قدّموا من حسنات. وستتحرك رحمته في كل اتجاه ، لتمنح الناس من رضوانه ومغفرته ما يوحي لهم بأن رحمته سبقت غضبه.

ولكنّ هناك من لا يستحقّ الرحمة من الله ، لأنه قطع على نفسه كل طرق الإمداد ، وأغلق عن حياته كل منافذ المغفرة ، لأنه أساء كما لم يسئ أحد ، فكفر بالله وأشرك به ما لم ينزل به سلطانا ، ولهذا فقد أخذ الله على نفسه أن لا يغفر لمن أشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ولن يشاء المغفرة إلا لمن كان في قلبه نبض من رحمة ، وحركة من محبة ، وانطلاقة من إيمان ... أمّا القلوب السوداء بالقسوة ، الجامدة بالحقد ، المختنقة بالكفر ، فلن تنال المغفرة ، لأنها لم تنفتح على الله في شيء ، فكيف يمكن أن تأمل بانفتاح الله عليها بالرحمة؟!

* * *

المتقون هم الذين يتبعون النبي الأمي

(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ويعيشون الخوف من الله ، كمنهج للسير في خط الفكر والعمل في الحياة ، فيمنعهم ذلك من التمرد عليه بمعصيته ، ويدفعهم إلى الانقياد له بطاعته ، وذلك في ما تمثله التقوى من التزام روحيّ

٢٥٨

وعمليّ بالله. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) في ما تمثّله الزكاة من حركة الرحمة في حياة الإنسان ، بما توحي به من روحية العطاء ، وحيويّة المحبّة ، وفاعلية الإيمان ... (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) في ما يثيره الإيمان بآيات الله من انفتاح للعقل على الآفاق الرحبة للمعرفة ، وإذعان منه بالحقيقة الواضحة في أجواء الله ، فإنّ الله يحب العقل المنفتح ، والروح المؤمنة التقية المذعنة للحق.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) فينفتحون على ما تقدّمه إليهم التوراة والإنجيل من دلائل وبراهين على صدق نبوّته ورسالته ، فيؤمنون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله ... (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الأمر الذي يحقّق الانضباط لحركة المجتمع في علاقاته ومعاملاته وتصرفاته العامة ، بحيث يكون الطابع العام للمجتمع هو الرقابة على بعضه البعض في تأكيد الخطّ المستقيم في جميع الاتجاهات ، وذلك بطريقة عفوية إيمانية ، لا تكلّف فيها ولا ارتباك. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) في ما يريد تحقيقه للإنسان في حياته من الاستمتاع بطيباتها في ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه ويتلذّذون به ، ومن الابتعاد عن خبائثها التي تسيء إلى أجسادهم وأذواقهم وأرواحهم ، لأنّ الله لم يمنح الإنسان الحرية في الإساءة إلى نفسه ، ولذلك حرّم عليه ما يؤدي إلى ذلك. (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الذي يثقل عليهم في حياتهم وأوضاعهم من تشريعات سابقة أو لاحقة ، (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) في ما كان يقيّدهم به في شرائعهم من الأشياء الشاقة. ويمثلون لذلك باشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وغير ذلك من الأمور التي قيل إنها كانت من التشريعات الصعبة في التوراة ...

* * *

٢٥٩

الخطوط العامة التي تميز الشريعة الإسلامية

وهذه الخطوط العامة هي ما يميّز الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي تتحرك في حياة الناس في نقاط ثلاث :

النقطة الأولى ؛ هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. فليس هناك عمل يأمر به الإسلام ، إلا وهو خاضع لعنوان المعروف ، ويعني ما يعرفه الناس في وجدانهم لانسجامه مع المبادئ الخيّرة والقيم الروحية ، وارتكازه على قاعدة المصلحة الإنسانية ، أو ما لو عرف الناس أساسه التشريعي لأصبح قريبا ممّا يعرفونه أو يألفونه في ما يرتبط بحياتهم المستقبلية ... وليس هناك عمل ينهى عنه الإسلام إلّا وهو خاضع لعنوان المنكر الذي هو ما ينكره الناس في فطرتهم الإنسانية لنتائجه السلبية على حياتهم ، ولارتكازه على قاعدة المفسدة والمضرة التي تسيء إلى حركة التوازن في الحياة. وربما كان لهاتين الكلمتين «المعروف» و«المنكر» بعض الإيحاء بأن التشريع ينسجم مع الخطّ الوجداني للفطرة الإنسانية السليمة التي لا تعرف ولا تألف إلّا الخير ، ولا تنكر أو ترفض إلّا الشرّ ، فإذا عرفت الشر ، وأنكرت الخير ، فإن ذلك يعني الانحراف عن الاستقامة في الفكر والوجدان والشعور.

النقطة الثانية ؛ تحليل الطيّبات وتحريم الخبائث ، فليس في ما أحلّه الله إلا الطيّب الذي يرتاح إليه الذوق الإنساني ، في ما يتذوّقه الناس من الأشياء الطيّبة ، أو الذي يلتقي بالمنفعة لحياتهم في أرواحهم وأجسادهم ، وليس في ما حرّمه الله إلا الخبيث الذي تعافه النفس ، ويستقذره الذوق ، وترفضه الفطرة ... وإذا كان الناس يستطيبون بعض المحرّمات أو يعافون بعض المحللات ، فلأنهم كانوا لا ينظرون إلا إلى الجانب السطحي من تلك الأشياء ، ولا يتطلّعون إلى أعماقها ليكتشفوا الجانب الخبيث في عناصرها

٢٦٠