تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥١

موسى عليه‌السلام يؤكد نبوّته

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) فقد أرسلني الله لأبلغكم وحيه ، وأقودكم إلى هداه ، وأدعوكم إلى السير على نهجه وشريعته (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وإذا كان الله قد اختارني لرسالته ، فمن الطبيعيّ أن أكون في موضع الثقة عنده ، وأن أرتفع إلى مستواها ، فأكون جديرا بالموقف الصادق الذي يجعلني ألتزم بالحق كما أنزله الله ، فلا أقول غيره. (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، فلست مدّعيا يكتفي بالدعوى في تأكيد موقفه ، فلديّ بيّنة على ما أدّعيه ، ولكم أن تفكّروا فيها وتناقشوها ، وإن كنت أعتقد أنها لا تحتاج إلى تفكير لوضوح مضمونها ومدلولها.

* * *

موسى عليه‌السلام يسعى لتحرير بني إسرائيل من قبضة فرعون

(فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، هؤلاء الذين يعيشون الاضطهاد والاستعباد والذلّ والقهر ، فلا يملكون إرادة الحياة بما تفرضه من حركة الاختيار وتقرير المصير ؛ الأمر الذي جعلهم يتبلّدون ويتصاغرون ويستسلمون للأمر الواقع ، دون أدنى تفكير في التغيير ، لاعتقادهم أن الظلم هو القضاء الذي لا يتبدل ، والقدر الذي لا يتغيّر ، على أساس أنه إرادة الله. وقد جاءت رسالة الأنبياء من أجل تحرير الإنسان من هذا الواقع الاستعباديّ الاستضعافيّ ، ليعيش حريته ، ويمارس قوّته ، ويتحوّل من عنصر منفعل بإرادة الآخرين ، إلى عنصر فاعل من خلال إرادته الحرّة القويّة ... وهذا ما أراده موسى عند ما طلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ، ويرفع يده عنهم ويتركهم وشأنهم في ما يتصرفون به

٢٠١

من شؤونهم الحياتية ، وبذلك يستطيع أن يفرّغ سلطان فرعون من قوته الحقيقية ، لأنّ المستضعفين هم القوّة الضاربة بيد المستكبرين ، بما يقدّمونه إليهم من طاقات كبيرة ، فهم المظلومون الذين يستخدمهم الظالمون ، ليكونوا أدوات الظلم ضدّ بعضهم البعض ، وضدّ الآخرين ، وقد تكون مشكلتهم كامنة في هذا الإيحاء المتواصل بمظلوميتهم الذي يعمّق في أنفسهم الشعور بالضعف ، مما يجمّد في داخلهم أية طاقة للحركة في نطاق الثورة والتغيير ، ويركز فيهم فكرة الاستسلام للأمر الواقع ، فكان لا بد من إخراجهم من هذا الجو كله ، وتوعيتهم بأن الطغاة لا يملكون القوّة الذاتية ، لأن قوتهم مستمدّة من قوتهم ـ هم ـ ليتنفسوا هواء الحرية فيعملوا على أن يصيروا أحرارا ، ويتخلصوا من أجواء الاستسلام ، ليفكروا بعملية التغيير.

ولم يكن فعل موسى صادرا في ذلك من عقدة عائلية قوميّة ، بل كان صادرا من فكرة رسالية شاملة. أمّا خصوصيّة هؤلاء ، فقد تكون باعتبارهم الفئة الوحيدة المستضعفة في ذلك البلد ، أو لأن مطالبته بهم ـ وهم قومه تحمل مبررا معقولا في ذهنية المجتمع هناك ، إذ لا بد للإنسان من التفكير بقومه ، وتحمّل مسئوليتهم. أما القوم الآخرون ، فقد يرون أنه لا شأن له بهم ، ولهذا فإنه لا يملك حقا في المطالبة بهم ، وبذلك تدخل هذه المطالبة الخطوة الأولى في الطريق الطويل.

* * *

موسى عليه‌السلام يقدم بيّنة نبوّته لفرعون

ولم يبدر من فرعون أيّ ردّ فعل عنيف ضدّ موسى ، بل فكّر ـ في ما يبدو من جوّ الآية ـ بأن التخلص منه أمر ممكن وفي المتناول ، لاعتقاده بأن موسى لا يملك دور الرسول ، فإنه لا يملك حجة على ما يدّعي ، فإذا طولب بالبينة

٢٠٢

التي لا بد أن تكون في مستوى المعجزة الخارقة للعادة ، تراجع وانهزم وانكمش في موقفه ، فينفضح أمره ، ويتبين زيف دعواه من دون مشاكل. ولهذا فقد بدأ بمطالبته بإظهار الآية الدالّة على صدقه : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

وكان فرعون ينتظر أن يعتذر موسى ويتراجع ، ولكن المفاجأة كانت بانتظاره (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ودبّ الرعب في قلب فرعون ، ولكنه تمالك نفسه. وجاءت المعجزة الثانية (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) مع أن موسى كان أسمر اللون ، فكيف تحولت يده إلى هذا البياض الناصع من غير مرض؟ وعقدت المفاجأة لسان فرعون ، فلم يتكلم بشيء ، وكأنه أحسّ بصدق موسى. وربما عاش بعض التردّد في سر ما رآه ، هل هو معجزة أم سحر؟

وشعر قومه الذين هم جهاز سلطته بهذه الحيرة التي أخذت تأكل قلب فرعون. وربما خافوا أن تتحوّل الحيرة إلى قناعة وإيمان بصدق موسى ، فيميل إليه ، فيفقدون بذلك سلطانهم ، فتدخّلوا ليحسموا الموضوع عنده ، ليؤكدوا أن ما قام به موسى هو سحر ، وأن موسى ليس نبيا ، بل هو ساحر عليم يملك المزيد من القدرة والمعرفة في هذا الفنّ. وكان مثل هذا الاحتمال قريبا إلى أجواء المجتمع هناك ، لأنّ ألاعيب السحر التي تماثل ما قام به موسى في الشكل ، كانت مألوفة لديهم.

* * *

ملأ فرعون يتهمون موسى عليه‌السلام بالسحر

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ). وذلك هو أسلوب الطغاة

٢٠٣

في كل زمان ومكان ، فهم يثيرون في وجه الدعاة إلى الله الكلمات التي تبطل دعواهم ، أو تثير حولها الشك ، من خلال الأفكار السلبيّة المطروحة لديهم. (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) بسحره ، في ما كانوا يعتقدونه من قدرة السحرة على ممارسة كل أساليب الضغط ، وكل وسائل السيطرة ، فيفقدهم سلطانهم ، ويقودهم إلى متاهات الضياع. (فَما ذا تَأْمُرُونَ) هل هذا قول فرعون ، أم قولهم لبعضهم البعض؟ ربما كان الأرجح الأول ، بدليل الآية التالية (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أخرهما ، ولا تنتقم منهما ، حتى يظهر للناس كذبهما ، فلا يتبع قولهما أحد من بعد ذلك ، (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) يحشرون الناس في مكان واحد (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) ليواجهوا السحر بسحر أقوى منه ، فتبطل دعواه ويفتضح أمره.

* * *

٢٠٤

الآيات

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦)

* * *

٢٠٥

معاني المفردات

(وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) : أرهبوهم وخوّفوهم.

(تَلْقَفُ) : تتناول الشيء بحذق وسرعة.

(يَأْفِكُونَ) ؛ الإفك : قلب الشيء عن وجهه في الأصل ، ومنه الإفك الكذب ، لأنه قلب المعنى عن جهة الصواب.

(فَوَقَعَ) : الوقوع في الأصل هو السقوط.

(الْحَقُ) : كون الشيء في موضعه الذي اقتضته الحكمة.

(وَبَطَلَ) ؛ الباطل : الكائن بحيث يؤدّي إلى الهلاك ، وهو نقيض الحق الذي هو كون الشيء بحيث يؤدّي إلى النجاة والغلبة والظفر بالبغية من العدوّ في حال المنازعة.

(صاغِرِينَ) : أذلّاء.

(لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) ؛ الصلب : هو الشدّ على الخشبة وغيرها. وأصله من صلابة الشيء.

(تَنْقِمُ) ؛ النقمة : العقوبة والإنكار.

(أَفْرِغْ) ؛ الإفراغ : صبّ ما في الإناء أجمع حتى يخلو ؛ وهو مشتقّ من الفراغ.

(صَبْراً) ؛ الصبر : حبس النفس عن إظهار الجزع.

* * *

٢٠٦

وجاء السحرة ، فما ذا كان أمرهم؟!

استدعى فرعون السحرة من جميع المناطق ، وجمع الناس ليشهدوا المواجهة الأولى بين سلطته الطاغية وبين رسالة موسى. (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) ووقفوا بين يديه واستمعوا إليه ، فحدثهم عن سحر موسى وأرادهم أن يدخلوا معه معركة التحدي ، فيواجهونه بسحر أقوى. ولكن السحرة كانوا أصحاب مهنة ، لا يقومون بأي عمل إلّا مقابل أجر يأخذونه ، فلا مجال للخدمة المجّانية حتى للحاكمين ، (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ). وقد يوحي لنا منطقهم هذا بأنهم كانوا يملكون موقعا يسمح لهم بالجرأة على هذا الطلب ، لأن من عادة الحكّام مع من لا يملكون موقعا متقدما في المجتمع ، أن يصدروا إليهم الأوامر ليطيعوها بدون اعتراض أو توقف ، بينما نرى أن السحرة كانوا سيرفضون طلب فرعون لو لم يستجب لمطالبهم ، وربما يعود ذلك إلى كون السحرة يمثلون السلطة الدينية للمجتمع ، التي كانت تقارب قوتها قوة السلطة الحاكمة في التأثير على الناس. (قالَ نَعَمْ) ، فستأخذون الأجر العظيم ، (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فسأمنحكم درجة متقدّمة من القرب في المركز والسلطان.

واتّخذوا مراكزهم في الساحة ، في مواجهة موسى. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) ، في أسلوب استعراضيّ يحاول الإيحاء له وللناس بأن القضية لا تمثل عندهم أهمية كبري ، فلا فرق بين أن تكون البداية منه أو تكون منهم ، فسوف لن يخافوا منه ، لأنه أضعف من أن يهزمهم ، وستكون النتيجة واحدة في كلتا الحالتين ، وهي هزيمة موسى. (قالَ أَلْقُوا) بكلّ استهانة واستخفاف بأسلوبهم ، في عملية إيحاء بأنّه يواجه الموقف بثقة

٢٠٧

عظيمة بالنصر لا حدّ لها ، وهي الثقة بالله القادر على أن يبطل كل كيدهم ومكرهم.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) لأن السحر لا يحمل في مدلوله قدرة لتغيير الأشياء ، وتحويلها عن حقيقتها ، والتأثير بها بطريقة فعلية ، بل هو مجرّد تخييل وتمويه ولعب على أعين الناس ، بما يملكونه من دقة وفنّ يأخذ بالعيون ويدعو إلى الدّهشة ويبعث على الخوف ... (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) من خلال ما أظهروه من ألاعيب تحويل العصيّ إلى ثعابين خيّل لموسى وللناس أنها تسعى. (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) فقد كانوا يملكون المقدرة الكبيرة في فنّ السحر. ووقف موسى ينتظر أمر ربّه ، لأنه لا يملك المعرفة بالسحر ليقابلهم سحرا بسحر ، ولا يملك القدرة الذاتية على المعجزة ليبطل السحر بالمعجزة ، وكان يعرف أن الله سينصره ، لأن وقفة التحدي ـ هذه ـ لم تكن وقفته الذاتية التي يربح فيها الجولة كشخص ، أو يخسرها كشخص ، ولكنها كانت وقفة الرسالة التي تريد فرض نفسها على الساحة كقوّة جديدة تملك أن تتحدى جبروت فرعون وطغيانه ، لتمنح الناس القدرة على الاختيار بينها وبين فرعون ، ثم لتعطيهم قوّة حسم الموقف بالوقوف مع موسى من أجل الرسالة ، لأن المسحوقين لا يتحركون بمواجهة القوة الطاغية ، إلا استنادا إلى قوّة جديدة تمنحهم إرادة القوة كما توحي لهم بالهدى والإيمان ...

* * *

عصا موسى عليه‌السلام تلقف إفك السحرة

وجاء أمر الله ، وتمّت كلمته (* وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها في استجابة خاشعة لأمر الله ، وثقة بالنتيجة الإيجابية المنتصرة الحاسمة ، (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) وتتناول كل هذه العصيّ التي أرادوا أن يصرفوا وجوه

٢٠٨

الناس بسحرها عن الحق ، ويقودوهم إلى الباطل. ولم يشعر الناس إلا بالعصا وهي تتحول إلى ثعبان عظيم ، يوحي بالحقيقة المرعبة المتحدية الكامنة في عينيه ، وفي حركته الهجومية على كل تلك الدمى الفارغة من أشكال الثعابين ... (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأن ما جاء به موسى هو الحق ؛ أما السحر فإنه الباطل الذي ينهزم بسهولة ، لأنه لا يمثّل شيئا من القوّة الحقيقية للأشياء. وكانت الغلبة للرسالة في موقف موسى ، بينما وقف فرعون في موقف المهزوم من خلال هزيمة السحرة.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) ، وتحطّم كل ذلك الجبروت وتحوّل إلى كيان ذليل صاغر أمام الحقيقة القوية الصارخة ، ووقف السحرة في موقف التأمّل والتفكير. ولم يطل بهم الموقف كثيرا ، فما كان منهم إلا أن آمنوا بموسى عند ما ألقى عصاه ، ووجدوا أن ذلك ليس في مستوى السحر بل هو شيء فوق ذلك كله ، مما لم يألفوه ولم يعرفوه في كلّ ما شاهدوه وعرفوه من أساليب السحر ، فعرفوا أن ذلك كله من الله سبحانه لا من موسى ، وهذا ما جعل دعوته في مستوى دعوات الأنبياء الذين يتميزون بقدرات غير عاديّة ، في ما يقومون به من معاجز ، وما يقدمونه من آيات ، فانفتحوا على الإيمان بكل قوّة وابتهال وخشوع.

* * *

السحرة يستجيبون لدعوة موسى عليه‌السلام

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وأعلنوا إيمانهم بطريقة لا تقبل الشكّ ، وأكّدوا ذلك بالانتماء إلى خط الرسالة التي يحملها موسى وهرون ، في ما تعنيه كلمة (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) من معاني الارتباط بالله من خلالهما باعتبار دعوتهما إليه.

٢٠٩

وهال هذا الأمر فرعون وأسقط في يده ، واعتبرها مؤامرة مدبّرة في الخفاء ضدّه ، ورفض أن يصدّق أن القضية قضية إيمان صادق ينبعث من الحجة الواضحة والبرهان القويّ ، تماما ككثير من الطغاة الذين لا يريدون أن يعترفوا بالاستجابات الشعبيّة لقوى التغيير ، من حيث خروجها من واقع الإحساس العميق بالحاجة إلى التغيير ، والخروج من واقع الظلم والطغيان ، فيندفعون إلى التفتيش عن أسباب ظاهرة التمرد عليهم وعلى حكمهم ، في مؤامرات شخصية يحرّكها أعداؤهم. (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) إنه ينكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم ، كأنّ عمليّة الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني ، كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة ... وتلك هي عقليّة الطغاة وسيرتهم في كل زمان ومكان ، عند ما يريدون امتلاك عقول الناس وأفكارهم ، فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار ، ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدة. فالتفكير ممنوع ، والإيمان محرّم بدون الإذن الرسميّ من قبل السلطة التي تملك العقول ـ كما يخيل لها ـ كما تملك الأجسام والأعمال.

* * *

فرعون يصر على كفره ويتوعد السحرة

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). وهذه محاولة لتخفيف وقع الصدمة على نفسه ، وحراجة الموقف فيها ، لأنّ ما حدث يشكّل نقطة ضعف في سلطانه ، باعتبار أن المتمرّدين من أتباعه المقرّبين ، فيحاول أن يصوّر لنفسه وللآخرين أن القضية ـ منذ البداية ـ لم تكن تمرّدا عميقا يصدر عن قناعة بالدعوة الجديدة ، أو رفضا للسلطة القديمة بكل ما تمثله من أفكار ، بل كانت مؤامرة مدبرة بين موسى وبين هؤلاء السحرة ،

٢١٠

باعتبار أنه أستاذهم الكبير الذي علمهم السحر ـ كما في آيات أخرى ـ فأرادهم أن يقوموا بهذه التمثيلية ، لإظهاره في موقف المنتصر في مقابل فرعون الذي يقف في موقف المهزوم. فبدأ عملية التهديد والوعيد (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ). وبدأت عملية حرب الأعصاب بالتهديد بالعذاب وقطع الأيدي والأرجل والصلب ليتراجعوا ، فلم يتراجعوا ، وواجهوه بالإيمان القويّ الصامد الذي لا يتزلزل ، ولا ينهار ، ولا يتراجع أمام كل أساليب التهويل والتهديد ، وكان الموقف من أسمى المواقف التي تجسد الثبات على العقيدة أمام قوى الكفر والطغيان حتى الموت.

* * *

السحرة التائبون يسألون الله الصبر

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ماذا تريد أن تفعل؟ هل هناك أكثر من الموت؟ وماذا في الموت ، وماذا بعده؟ إننا سننقلب إلى ربنا وسنرجع إليه ، وسنجد عنده كل رحمة ومغفرة ورضوان ، وسيدخلنا الله جنّته حيث السعادة كلّ السعادة ، والرضا كل الرضا ، وبذلك فإن التهديد لا يمكن أن يمثل أيّ ضغط نفسيّ أو ماديّ لحساب التراجع ، فنحن لن نتراجع أبدا ، لأننا لا نشعر بالسقوط أمام ذلك كله. (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا). وماذا فعلنا حتى تواجهنا بهذه المواجهة القاسية؟ ولماذا تنقم علينا؟ هل هناك شيء سوى أننا آمنا بآيات ربنا عند ما جاءتنا بالحقيقة الواضحة الناصعة؟! وهل الإذعان للحقّ الواضح الصريح جريمة يستحقّ الإنسان العقاب عليها؟! أيّ معنى لذلك كله ، سوى أن الطغاة يخافون من حركة الإيمان في أفكار الناس ، قبل أن يخافوا من حركته في حياتهم؟! لأنهم يعرفون جيدا ما معنى الصدق في الإيمان ، وكيف يتحول إلى صدق في الموقف أمام كل تحديات الحياة

٢١١

وأوضاعها السلبيّة.

وعادوا بعد ذلك إلى الله في روح خاشعة مبتهلة في دعاء حارّ عميق ، ليعينهم على مواجهة الموقف بالصلابة الإيمانيّة القوية التي لا تتزعزع ولا تتزلزل ولا تنهار ، حذرا من أن تسيطر عليهم بعض نوازع النفس الأمّارة بالسوء ، التي تمنّيهم السلامة ، وتحذّرهم من الهلاك ، فتدفعهم إلى تقديم التنازلات من غير أساس : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) ، واملأ به قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وخطواتنا ، لئلا نستسلم لنقاط الضعف الكامنة في أعماقنا. (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) حتى لا نضعف في حالة شدّة ، ولا نهتزّ في موقف زلزال ، بل تبقى لنا قوّة الإيمان حيّة نابضة حتى نلاقيك في إسلام القلب والوجه واليد واللسان.

إنه الموقف الرائع والنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورة للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان ، وبين قوى الحق والإيمان ...

أمّا نحن ، فنشعر بالحاجة الكبيرة إلى أن نتمثّل هذا الموقف ، في ما نواجهه من تهاويل الطغاة وتهديداتهم وحجرهم على حرية الفكر الإسلامي الذي لا يريدون لأصحابه أن يتحركوا فيه إلا بمقدار صالح للاستغلال ، حيث يتحول إلى واجهة تحمي ما خلفها من انحرافات وأخطاء لما تضفيه عليه من قداسة الحق وحصانة الإيمان.

* * *

٢١٢

الآيات

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٢٩)

* * *

معاني المفردات

(أَتَذَرُ) : أتدع ، أتترك.

* * *

موسى في حوارة مع قومه بعد تهديد فرعون

وبدأ عرش فرعون يهتزّ أمام هذه الصدمة العنيفة ، واستطاع موسى أن

٢١٣

يستوعب قومه في أجواء عاطفيّة تثير الأمل في نفوسهم ، وتوحي بالإيمان بأفكارهم. وربما بدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء ، وربما رأى قوم فرعون بعضا من هذا الالتفاف العاطفي الجديد ، وربما سمعوا عنه شيئا من جواسيسهم ، إن لم يكونوا قد رأوه ، وأخذوا يفكرون ماذا يفعلون بهذا التطور المخيف ، وكيف يواجهونه ليقضوا عليه في بداياته الأولى؟ وكان هناك حديث بينهم وبين فرعون لإثارة ضدّ موسى وقومه ، وقد لا يكون بحاجة إلى مثل هذه الإثارة ، لأن صدمته العنيفة كانت كفيلة باستثارته على المدى الطويل.

* * *

منطق الطغاة من الحاكمين

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ)؟ وذلك هو منطق الطغاة من الحاكمين في ما يثيرونه من قضايا الإصلاح والإفساد ، فينظرون إلى كل عمل يدعم حكمهم أو نظامهم ، ويهيّئ له سبل الاستقرار والاستمرار ، على أنه من أعمال البناء والإصلاح ، وينظرون إلى أيّ عمل ينقضه ويعمل على تغييره ، ويساهم في إثارة الأجواء ضده ، ويتحرك باتجاه زلزلة قواعده وهزّ أركانه ، على أنه من أعمال الهدم والإفساد ... وفي ضوء هذا ، كان هؤلاء القوم يعتبرون الدّعوة إلى توحيد الله ، ونبذ الشرك ، ومحاربة الطغيان ، والقضاء على الظلم ، وغير ذلك من المفاهيم الرسالية التي يدعو إليها موسى ، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه ، إفسادا في الأرض ، لأنه إطلاق من أجل التغيير الذي لا يبقى معه أحد من أصحاب الامتيازات الزائفة الظالمة ، ولا يذر أيّ إله في الأرض غير الله ، سواء كان فرعون ، أو ما كان يعبده من آلهة وأصنام. وهذا ما أراد قومه أن ينذروه به. (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) في وحدة موحشة قاتلة ، ليس معك أحد من هؤلاء الذين كانوا

٢١٤

يتّبعونك ، ويتعبدون لك ولآلهتك.

وجاء المنطق الفرعوني الذي هو منطق الطغاة ، (قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة وحمل السلاح ، لأن الذكور هم وقود الحرب عادة ، (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) فنبقيهنّ كإماء وخدم. وماذا تغني النساء شيئا لموسى ولأخيه؟ ولن يبقى هناك أحد في هذا الاتجاه ، ولن يبقى إلا نحن ، نحن الأقوياء الحاكمون. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) فنحن نملك القوة القاهرة من السلاح والمال والملك والرجال ، فأين يكون هؤلاء المستضعفون ، وكيف يمكنهم أن يثبتوا أمام كلّ هذه القوة ، وكل هذا الجبروت؟!

* * *

موسى عليه‌السلام يحث قومه على الصبر والثبات

وربما ترك مثل هذا التهديد أثره السلبي في نفوس قوم موسى ، الذين كانوا في موقع التجربة الأولى ، فلم يتصلّب إيمانهم بعد ، ولم تقو عزيمتهم ، بل كانوا يهتزون أمام كل وعيد ، فوقف موسى ليشدّ من عزمهم ، وليقوي إيمانهم بالله ، وليبعث فيهم روح الصبر والثبات ، وليفتح لهم نوافذ الأمل وأبواب الرجاء ... (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) ، فإن الوصول إلى الغايات التي يسعى إليها الإنسان يمر بأكثر من مرحلة ؛ ولكل مرحلة مشاكلها وتحدياتها وآلامها ، فلا بد من الصبر من أجل مواجهة ذلك كله ، من أجل عدم الوقوع في قبضة الانفعال الذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره ، ويقوده في النهاية إلى الهاوية ، فلا تتجمّدوا أمام المرحلة الحاضرة ، لتعتبروها خاتمة المطاف ، بل حاولوا التطلع إلى ما قبل هؤلاء الذين يحكمون هذه المرحلة ويسيطرون عليها ، فهم لم يكونوا شيئا في الوجود ، ولا في السلطة ، بل كان هناك قوم آخرون أورثهم الله الأرض طبقا لسننه في الكون ، ومضوا كما مضى

٢١٥

الذين من قبلهم ، وجاءت بهؤلاء إلى السلطة ظروف موضوعية هيّأت لهم وراثة الأرض ، وسيزولون كما زال غيرهم ـ إن آجلا أو عاجلا ـ ويبقى الأمر كله لله ... (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) تبعا لتطور مراحل التاريخ التي تنقل الحكم من جيل إلى آخر ، ومن فئة إلى أخرى ، فقد ينتصر الظالمون في معركة ، وقد ينهزم المستضعفون في أخرى ... وهكذا تتحرك سنة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها ، ولكنّها مجرد مراحل تبدأ وتنتهي دون عمق وامتداد.

* * *

العاقبة للمتقين

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يجسّدون إرادة الله في إصلاح أمر الحياة في الحكم والشريعة والعقيدة ، على قاعدة صلبة تؤكد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثابتة ، وأوضاعه المستقيمة الهادفة ، وتتحرك التقوى في داخله لتستوعب ذلك كله في خطّة حكيمة ممتدة ، يحكم مراحلها الوعي والصدق والأمانة والإخلاص ... وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا على السير في خط التقوى في حياتهم ، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة التي تتحمل الصعاب والمشاق والتحديات بروح قويّة صابرة ، لأن مسألة حكم الأرض ، في مواجهة التيار الكافر الضاغط ، ليست مسألة كلمات تقال ، وليست انفعالا يتشنّج ويصرخ ، أو عبادة تبتهل وتخشع ، ولكنها المواقف التي تفكّر وتتقدّم وتصبر وتواجه التحديات بروح العزيمة والقوة ، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائما عن لطف الله وروحه ورضوانه في كل خطوة من خطوات الطريق.

* * *

٢١٦

انهزاميّة قوم موسى عليه‌السلام

ولم يكن قوم موسى قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الذي يفهم معنى المرحلة في خطّ الهدف ، ومعنى الصبر في الوصول إلى الغاية ، ومعنى التوكل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوة ، فكانوا يتألمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى ، ويرون أن الحال لم يتغير ، فقد كانوا يعيشون الآلام من قبل موسى ، وها هي الآلام تمتد بهم معه ، فما ذا انتفعوا به؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة والواقع هو الواقع. (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) إنه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوة في الداخل من أجل تنمية روح التحدي في الواقع ، فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف البعيدة للحياة ، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات في ما تختزنه من هموم وآلام. إنهم يعيشون في جوّ الإحساس دون التفكير في مضمون المشكلة ، إذ يجب أن يعرفوا أن هناك فرقا بين الإيذاء الذي يتعرض له الإنسان وهو لا يحمل قضيّة ، فيزيده الأذى شعورا بالانسحاق ، لأنه يحجز إحساسه بالألم الذي لحق به في اللحظة الحاضرة ، وبين الإيذاء الذي يتعرض له وهو يحمل قضية ويتحرك من أجل رسالة ، فيزيده الأذى شعورا بالقوّة ، لأنه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه في عمليّة إيمان بالقضية الكبيرة التي لا بدّ لها أن تستمر لتحل المشكلة من جذورها بعيدا عن كلّ عوامل التخدير ...

* * *

موسى يزرع الأمل في قلوب قومه

ولهذا ، فإن مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعملية التهدئة ، بل ينطلق دائما في

٢١٧

أجواء التثوير ، لأنّ المسألة ليست مسألة ذات تريد أن تستريح ، بل هي مسألة أمّة تريد أن تتحرّر وتتقدم ، ومسألة واقع يريد أن يتغير ، وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح على الله في أوقات الشدّة ، وفي الثقة بوعده في حالات الضيق ، فذلك هو الذي يجدّد في الإنسان روح القوة ، ويبعث في روحه معنى الأمل ... (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة ، فقد أعدّ الله للطغاة مصيرا لا يستطيعون الهروب منه ، ولكنّ لكلّ شيء وقتا لا يتعداه تبعا لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته ، فليكن أملنا بالله كبيرا ، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظروف التي تتحقق فيها إرادته بالنصر.

(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض ، والله لا يخلف وعده ، ولكنّ قضية الاستخلاف في الأرض ليست امتيازا لأحد ، بل هي المسؤولية الواعية من أجل تغيير الواقع على الأسس الإيمانية التي تصلح أمر البلاد والعباد ، بعيدا عن الأسس الاستكبارية الكافرة التي تفسد الحياة كلها بخطط الكفر والضلال ، ولهذا فإن المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار ، لما تحملون من عقيدة ، ولما تعيشونه من مفاهيم ، ولما تتحركون به من خطط وأهداف ، ليعرف الصادقون من الكاذبين ، والمخلصون من المنافقين ... (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) في ما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة ... وتلك هي قصة الحكم في المفهوم الديني للإنسان ؛ إنها قصة التغيير ، وتحويل المسيرة من خطّ الظلم إلى خطّ العدل ، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان ، وليست عملية تبديل أسماء وتغيير واجهات ، لنبرّر الظلم باسم العدل ، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.

* * *

٢١٨

الآيات

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧)

* * *

٢١٩

معاني المفردات

(أَخَذْنا) : الأخذ هو التناول باليد ، والمراد به هنا الابتلاء.

(بِالسِّنِينَ) : السنون جمع سنة ، وهي القحط والجدب ، وكان أصله سنة القحط ، ثم قيل السنة إشارة إليها ، ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط والجدب (١).

(يَطَّيَّرُوا) : يتشاءموا.

(طائِرُهُمْ) : نصيبهم الذي قدّر لهم.

(الطُّوفانَ) : السّيل الذي يعمّ بتغريقه الأرض.

(وَالْقُمَّلَ) : كبار القردان.

(الرِّجْزُ) : أصله الانحراف عن الحق ، وقد أريد به العذاب هنا باعتبار أنه مسبّب عنه ، من

إطلاق السبب على المسبب.

(يَنْكُثُونَ) : ينقضون العهد.

(الْيَمِ) : البحر.

(غافِلِينَ) ؛ الغفلة : حال تعتري النفس تنافي الفطنة واليقظة.

(يَعْرِشُونَ) : يبنون.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٨ ، ص : ٢٣١.

٢٢٠