تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

كيف نفهم القتال من موقع الجهاد؟

ثم انطلقت الفكرة ، لتجعل من قضية القتال ضد الشرك والمشركين قضية تدخل في حساب تهديم الأسس التي يرتكز عليها الفكر في قوته التي يحارب من خلالها الإسلام ، ويضغط بها على حرية المسلمين ليفتنهم عن دينهم ، ويقف على أساسها ضد كل تحرك للإسلام في العالم. إن القضية ليست نزاعا على مستوى الأشخاص أو القبائل أو الفئات المتخاصمة ، لتحل على أساس الهدنة أو إنهاء النزاع في نطاق المعاهدات القائمة على التجميد المؤقّت للمشكلة ، بل هي نزاع على مستوى رسالة الله التي أراد أن تقوم الحياة على قاعدتها الصلبة الممتدة بالحق والعدل ، ولذا فإن وجودها يعتبر نقيض وجود الكفر الذي يعمل على العدوان والبغي والطغيان ... ولذلك فلا بد من قتال الشرك والمشركين ، حتى لا يبقى هناك أساس للضغط الذي يفتن المؤمنين عن دينهم ، وحتى يكون الدين كله لله ، فلا يبقى للشيطان وللطاغوت موطئ قدم في الأرض. (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) من دون أي ضغط أو تهديد أو مصادرة للحرية ، مما يمنع المسلمين عن ممارسة دينهم براحة وطمأنينة.

إن القضية هي قضية مصلحة الإنسان ، فلا بد من الجهاد الشامل بشروطه الإسلامية الشرعية من أجل أن تبقى للإنسان حريته الحقيقة في الحياة القائمة على الحق والعدل ، بعيدا عن أوهام الحرية في ظل سيادة الكفر والظلم والعدوان باسم حرية الفكر والموقف. ومن الواضح أن قضية الجهاد ليست قضية سيطرة سلطة غاشمة تضغط على إرادة الإنسان ، فلا تمنحه الحرية ليناقش أو يحاور أو يسأل من أجل الوصول إلى الحقيقة الإيمانية ، بل هي قضية

٨١

تحديد حرية الكفر وتجميد دوره ، وذلك بإعطاء الإنسان الحرية في الوصول إلى القناعة من خلال الحوار الإيجابي المنفتح في نطاق خاص. فإذا تمرّد كان الحق للحياة الرسالية أن تعبر عن نفسها بفرض سلطتها على الواقع من أجل الإنسان. وقد نعرف ، من خلال دراسة الشروط الشرعية للجهاد ، أنه لا يهدف دوما إلى تغيير عقيدة الإنسان بالقوة ، بل نراه يحافظ على إبقاء الآخرين على عقيدتهم في ما يتصل بالديانات السماوية الأخرى إذا حافظوا على شروط العهد والذمة ، أو في ما يتصل بالفئات الأخرى غير المؤمنة ـ في بعض الحالات ـ في نطاق المعاهدات التي تقتضي مصلحة الإسلام إقامتها معهم. إن القضية هي أن لا تكون هناك فتنة ، وأن يكون الدين كله لله ، بحيث تكون له الكلمة العليا في الأرض ، فلا تبقى هناك كلمة للكفر في موقع السيادة الشاملة. وتلك هي قضية كل فكر ودين يريد أن يجعل الحياة على صورته.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). فسّر الانتهاء في هذه الآية بإيمانهم بالإسلام والابتعاد عن خط الكفر ، فإنهم إذا أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، وذلك في ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن ربي أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإن قالوها اعتصموا مني دماءهم وأموالهم» (١) .. وفي ضوء ذلك ، يعتبر القتال بعد الإسلام مخصوصا بالظالمين الذين يعتدون على الناس ويبغون عليهم بغير الحق.

ويمكن أن تكون الآية واردة في اتجاه آخر ، وهو التأكيد على تحطيم قوة الكفر ، وتركيز سيادة الدين وقوّته من خلال القتال الذي يحقق هذا الهدف ، بالمستوى الذي لا يستطيع المشركون والكافرون معه الممارسة العدوانية على المسلمين ، وذلك إما بالإيمان بعد الكفر ، وإما بالمعاهدات التي تنظم قواعد السّلام القائم على احترام حرية المسلمين في دينهم وفي الدعوة إلى الدين.

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧٣ ، ص : ٧٩٣ ، باب : ٦٧ ، رواية : ٣٠.

٨٢

وعلى ضوء ذلك ، لا تكون الآية واردة في مجال انتهائهم عن الكفر ، بل عن الظلم والعدوان. وليس معنى ذلك أن الإسلام لا يبرر الجهاد من أجل تحطيم واقع الكفر في الحياة ، بل كل ما نريد أن نقرره هو إمكانية أن يكون للآية معنى غير ما يذكره المفسرون.

* * *

٨٣

الآيتان

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥)

* * *

معاني المفردات

(الشَّهْرُ الْحَرامُ) : هو الذي يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه.

(الْحَرامُ) : هو القبيح الممنوع من فعله ، ويقابله الحلال المطلق المأذون فيه.

(وَالْحُرُماتُ) : جمع حرمة ، وهي ما يجب حفظه ويحرم هتكه.

(قِصاصٌ) : الأخذ للمظلوم من الظالم لظلمه إياه.

(التَّهْلُكَةِ) : التهلكة والهلاك بمعنى واحد ، وقيل : التهلكة : كل ما يصير عاقبته الهلاك ، وأصل الهلاك : الضياع ، وهو مصير الشيء بحيث لا يدرى أين هو.

* * *

٨٤

القتال في الشهر الحرام

كان الحديث في الآية المتقدمة حول القتال في المسجد الحرام الذي كان المسلمون يتحرجون منه ، فأباحه الله لهم دفاعا عن النفس. وفي هذه الآية يتحدث الله عن القتال في الشهر الحرام الذي كان المسلمون لا يجرءون على القتال فيه احتراما لحرمته ، فأباح الله لهم ذلك على أساس المقابلة بالمثل ، في الوقت الذي لا يملك الإنسان فيه أي خيار ، لأن القضية قضية حياة أو موت بالنسبة للأمة وللرسالة. وهذا هو قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ).

وإذا كانت قريش قد انتهكت حرمة هذا الشهر ، فلم يحترموا حق الإنسان فيه بالسلام ، فللمسلمين الحق في أن لا يحترموهم فيه. وعقب على ذلك بقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ، فلكل إنسان الحق في أن يقتص لحرمة ما انتهكه الآخرون منه ، وذلك بانتهاك حرمتهم. وأوضح الفكرة بأن من حق المعتدى عليه أن يرد العدوان بمثله ، فلا يتجاوزه إلى أكثر من ذلك التزاما بخط العدل الذي يتركز على المماثلة في العقاب : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي : عاملوه بالمثل ، جواز لا إلزاما. ولا بد من أن يلاحظ أن ردّ الاعتداء ليس اعتداء ، لأنه من حق المعتدى عليه ، ولكنه سماه باسمه ، لأنه مجازاة اعتداء ، باعتبار أنه مثله في الجنس وفي المقدار ، ولأنه ضرر كما أن ذلك ضرر ، والمماثلة تقتضي عدم تجاوز حجم العدوان وطبيعته.

(وَاتَّقُوا اللهَ) ثم أمر بالتقوى تدليلا على أن الوقوف أمام حدود الله والالتزام بالخط الفاصل بين العدل والظلم يرتكز على أساس التقوى الداخلية ، التي يشعر الإنسان معها بالمسؤولية الدائمة أمام الله في كل مواقفة العامة والخاصة ، في ما له من الحق وما عليه ، فيقف حيث يريد الله منه أن يقف ،

٨٥

ويتحرك حيث يريد الله منه أن يتحرك. فإن الإنسان الذي لا يعيش حس التقوى في نفسه ، قد ينجرف أمام نوازع النفس الذاتية التي توحي بالعصبية والانتقام والتشفي والحقد ، وغير ذلك مما يجعل الإنسان يأخذ أكثر مما له من الحق أو يعطي أقل ما عليه من الحق ... ثم حددت للمؤمنين الموقع الذي يحصلون عليه مع التقوى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ، فإن الله مع المتقين الذين يخشون ربهم بالغيب ويراقبونه في كل صغيرة أو كبيرة في السر والعلانية.

* * *

الإنفاق في سبيل الله وحفظ النفس

ثم انطلق القرآن في مجال آخر يتصل بأجواء القتال والجهاد في سبيل الله ، وهو الإنفاق في هذا السبيل ، فإن للجهاد تكاليفه ونفقاته المالية التي يحتاجها المقاتلون في ما يأكلون وما يركبون وما يتسلحون به ضد العدو ، فلا بد من الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس. (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : أنفقوا من أموالكم في الجهاد وطريق الدين ، وكل ما أمر به من الخير وأبواب البر ، فهو سبيل الله ، لأن السبيل هو الطريق ، فسبيل الله هو الطريق إلى الله وإلى رحمته. وعقب ذلك بالنهي عن إلقاء الإنسان نفسه بالتهلكة (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي : بأنفسكم. وجاء التعبير باليد ، باعتبار أنها مظهر القوة للذات. فكأن الإنسان عند ما يلقي بنفسه إلى التهلكة يسقط قوته التي تتمظهر في يديه. وهذا التوجيه يتناول المجالات الفردية أو الجماعية التي يعرّض فيها نفسه للخطر ، من دون أن يكون هناك أيّ تكليف ملزم من الله بالتضحية والاستشهاد ، وذلك بأن يندفع الإنسان في المواقف التي لا يضمن فيها السلامة بنحو معقول على المستوى الفردي ، أو تندفع الجماعة في المواقف الصداميّة مع الأعداء ، من دون إعداد سابق للخطة الحكيمة التي تضمن تحقيق الأهداف الكبيرة ، فإن

٨٦

الانتحار الفردي أو الجماعي محرّم عند الله ، في غير المواقف الشرعية التي تفرض ذلك.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ما يوحي بأن الآية واردة في الانتحار المالي ـ إذا صح التعبير ـ وذلك بأن ينفق الإنسان ما لديه من المال بحيث لا يبقى معه شيء. فقد جاء في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال : لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا وفّق. أليس تعالى يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني المقتصدين» (١).

والظاهر أن الحديث المشار إليه وارد في مورد التطبيق لا التعيين ؛ فإن الآية مطلقة لكل عمل يؤدي إلى التهلكة ، سواء من ناحية الخطر على الحياة ، أو من ناحية الخطر على حاجاتها الطبيعية التي قد تؤدي إلى الخطر على الحياة في نهاية المطاف.

وهناك تفسيران آخران يربطان الإلقاء في التهلكة بالجانب السلبي في حركة الإنسان ؛ الأول : أن يكون ترك الجهاد موجبا للتهلكة ، وذلك في ما روي في الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران ، قال : «كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد ؛ فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله ، يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أيها الناس ، إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه ، قال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٥٣ ، رواية : ٧.

٨٧

إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه ؛ فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه ـ يرد علينا ما قلنا ـ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو» (١).

ونحن نلاحظ أن الآية يمكن أن تنطبق على هذا المورد ، وهو ترك الجهاد ، والاستسلام للدعة والاسترخاء ، والإقبال على إصلاح الأموال كهدف كبير للحياة ... فإن المجتمع عند ما يعيش مثل هذا الجو السلبي أمام قضايا المصير ، فلا بد من أن يقع في التهلكة ، لأن العدو سوف يتغلب على المسلمين ويسيطر على مقدراتهم الاقتصادية والأمنية ، ويحتل أرضهم ، ويهزم جمعهم ، ويحطم قوتهم ، الأمر الذي يؤدي إلى هلاك الأمة سياسيا واقتصاديا وأمنيا. وهذا ما لا يرضاه الله ، ولكن من المستبعد أن تكون الآية دالة على ذلك بخصوصه ، فإن الظاهر منها الربط بين الإنفاق والإلقاء في التهلكة ، ومع الإغضاء عن ذلك ، فإنها تكون مطلقة لكل الموارد الإيجابية والسلبية في الأشياء كلها.

أما التفسير الثاني ، فيرى أن «الإنفاق بشكل عام يؤدي إلى نجاة أفراد المجتمع من الهلاك ، وبالعكس ، حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع ، تنشأ أكثرية محرومة بائسة ، ولن يلبث هذا المجتمع حتى يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ، ويتضح من ذلك ارتباط الإنفاق بإبعاد التهلكة» (٢).

ونلاحظ على هذا الوجه ما لاحظناه على الوجه الأول ، مع ملاحظة بعده عن السياق العام للآية ، وهو حالة الجهاد ، مما يبعد معه إرادة الخصوصية

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٥٠٠.

(٢) الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، مؤسسة البعثة ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٩٠ م ، ج : ٢ ، ص : ٢٤ ـ ٢٥.

٨٨

السلبية ، ولكن علاقة ترك الإنفاق بالإلقاء في التهلكة يمكن أن يكون مصداقا للخط العام الشامل لجميع موارده.

* * *

مع صاحب مجمع البيان في دلالة الآية

هذا وقد اعتبر صاحب المجمع ، بعد أن عرض لأكثر من وجه يضع الآية في دائرة خصوصية معينة ، أن الأولى حمل الآية على جميع الوجوه ولا تنافي فيها. وفي هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف ، لأن في ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة. وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية ، وفعله أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفين ، وفعله الحسن عليه‌السلام مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره وخاف على نفسه وشيعته.

فإن عورضنا بأن الحسين عليه‌السلام قاتل وحده ، فالجواب أن فعله يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والآخر : أنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا كما فعل بابن عمه مسلم ، فكان القتل مع عز النفس والجهاد أهون عليه (١).

ونلاحظ على هذا المنهج في معالجة المسألة في مفهوم الإلقاء في التهلكة ، أن القضية في الصلح وعدمه ، سواء أكان ذلك في صلح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عام الحديبية ، أم في طريقة الإمام عليّ عليه‌السلام في مواجهة الموقف

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٥١٦.

٨٩

بصفين ، أم في صلح الإمام الحسن عليه‌السلام ، فهذا التوجه لم يكن منطلقا من هذا المبدأ الذي تقرره الآية ، بل من خلال مراعاة المصلحة الإسلامية العليا التي تفرض ذلك ، كالاستعداد لفتح مكة من خلال التخطيط النبوي الذي كان يفرض تبريد الجو. أما موقف الإمام علي عليه‌السلام من التحكيم ، فقد كان منطلقا من النتائج السلبية في انقسام جيشه ووصول معاوية إلى غايته في السلم بما لم يستطعه في الحرب انتظارا لفرصة أخرى لم تأت من خلال الظروف الطارئة. أما صلح الإمام الحسنعليه‌السلام ، فقد كان من أجل الإبقاء على المعارضة للتخطيط للمستقبل الذي يكشف طبيعة الحكم الأموي من خلال حركة معاوية في بيعته ليزيد وتجربة يزيد ومن بعده.

إننا نلاحظ أن المسألة لم تكن من باب الخوف على النفس أو على الجيش من الهلاك ، بل كانت من أجل النتائج السلبية الطارئة للحرب على مستوى القضايا الكبرى.

وإذا أردنا أن نتحرك مع المبدأ العام في انطلاقه في تشريع الصلح مع الكفار ، فإن المسألة لا بد من أن تخضع لدراسة الجانب السياسي على مستوى الحاضر والمستقبل بالإضافة إلى الجانب الأمني ، ولا يمكن الاقتصار على الجانب الأمني ، لأن المسألة الجهادية تتحرك من أجل دفع المجاهدين إلى التضحية بأنفسهم في سبيل الله. وربما كانت طبيعة الظروف العسكرية توحي بأن السلامة غير محتملة للكثيرين من أفراد الجيش ، بحيث كان المطلوب منهم أن يلقوا بأنفسهم إلى الموت ، لينالوا شرف الشهادة والقتل في سبيل الله.

أما قضية الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقد انطلقت من موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أمة جده ، مما يجعل من حركته جهادا في سبيل الله يتجاوز النصر فيه الجانب المادي إلى الجانب المعنوي ، ولينطلق في مدى المستقبل في تأثيراته لعدم وجود أية فرصة للنصر في الحاضر. وهذا ما نستوحيه من كلماته التي قال في بعضها على ما روي عنه :

٩٠

«إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» (١).

«ألا إن الداعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين السلّة والذلة ، وهيهات ما آخذ الدنية ، أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حمية ونفوس أبية ، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام» (٢).

فلم تكن المسألة لديه دائرة في نطاق احتمالات السلامة ، لأن الظروف كلها لا توحي بأي احتمال لذلك أمام رفض الاستسلام لما يفرضونه عليه ، كما أنها لم تكن اعتقادا بأنهم سيقتلونه على كل حال ، حتى لو استسلم إليهم ، بل كانت المسألة هي التحرك من موقع العناوين الإسلامية الكبرى التي تتحرك في خط التضحية والشهادة في الواقع الذي يحيط به والذي قد يفرض الصدمة الروحية الجهادية التي تهز أعماق المسلمين في الاتجاه الذي يضع الثورة في المستقبل.

إن هذا المبدأ الذي تقرره هذه الآية ينطلق في دائرة الحالات الفردية التي يتحرك فيها الإنسان في حياته الخاصة لأهدافه الذاتية ، ولا يقترب من العناوين الكبرى القائمة على أساس الخطر كالجهاد الذي لا ينفصل عن تعريض النفس للتهلكة على المستوى الفردي ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا العامة في الظروف المشابهة لحركة الإمام الحسين عليه‌السلام التي تواجه السلطة الحاكمة من موقع الشخصية التي يعتقد الناس قيادتها الشرعية ، كما هي كذلك على أساس طبيعة الأمور ، مما يجعل التكليف الشرعي يتحرك في دائرة الخطر في نطاق الظروف الموضوعية.

ولذلك فلا بد من دراسة المسؤوليات الشرعية الكبرى في قضايا الحرية

__________________

(١) البحار ، م : ١٤ ، ج : ٤٤ ، ص : ٦٣٧ ، باب : ٣٧ ، رواية : ٢.

(٢) م. ن. ، م : ١٥ ، ج : ٤٥ ، ص : ٩ ، باب : ٣٧.

٩١

أمام المحتل ، والعدالة أمام الظالم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الأوضاع الاجتماعية والسياسية المنحرفة التي يتمثل فيها الخطر على الواقع العام ، ودراسة الموازنة بين النتائج الإيجابية في مواجهة الأخطار بما يؤدي إلى الخطر على الفرد أو المجموع من الناحية الذاتية والمالية وما إلى ذلك ، وبين النتائج السلبية من جهة التضحيات بالنفس والمال والعرض ، فذلك هو الذي يحدد للفرد أو المجتمع أو الأمة مجابهة الأخطار أو عدمها.

* * *

بين التهلكة وصراع الاستكبار

وقد أدّى فقدان الدراسة المقارنة بين الإيجابيات والسلبيات إلى إيجاد حالة من الضعف أو الانهيار النفسي أو الهزيمة العملية أمام القوى الظالمة أو المحتلة في الداخل والخارج ، تحت تأثير عنوان الإلقاء للنفس في التهلكة بالدرجة التي سقطت فيها عناوين الجهاد ، والحرية ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، حتى استطاع الكفر والاستكبار العالمي السيطرة على البلاد الإسلامية كلها.

وهناك مسألة لا بد من الإشارة إليها في هذا السياق لكثرة الجدل حولها من خلال تطبيق هذه الآية عليها ، وهي العمليات الاستشهادية التي قام بها بعض المجاهدين في عصرنا الحاضر في مواجهتهم للصهيونية وللاستكبار العالمي ، حيث يقوم أحد المجاهدين بتفجير نفسه من خلال ربط جسده بحزام من المتفجرات أو الانطلاق بسيارة مملوءة بالقنابل المتفجرة ، فيفجر نفسه بمركز من مراكز العدو أو بمجموعة من جنوده ، فقد أخذ بعض الفقهاء أو المتفقهين يصدر الفتاوى بحرمة هذا العمل ، لأنه انتحار وإلقاء للنفس بالتهلكة.

٩٢

ولكننا لا نرى فرقا بينه وبين اقتحام المجاهد ساحة الحرب الجهادية مع علمه أو غلبة ظنه بالقتل ، إلا في أن القتل هناك بيد العدو ، وفي هذه القضية بيده ؛ ولكن هذا الفرق ليس بفارق من حيث الحكم الشرعي ، ما دامت خطة الجهاد تفرض ذلك من خلال حاجة المعركة للوصول إلى النتائج الإيجابية على مستوى المرحلة في خط الاستراتيجية والهدف النهائي الكبير. وما ذا يقول هؤلاء في حاجة الحرب إلى اقتحام المجاهدين للأرض المزروعة بالألغام التي تتفجر بالأشخاص الذين يمرون عليها؟ فإنه قد يجوز لهم أو يجب عليهم القيام بذلك إذا توقف النصر عليه.

وربما كانت مشكلة هؤلاء أنهم لا يؤمنون بالجهاد من حيث المبدأ في هذه المرحلة من عمر الإسلام ، ويرون أن التكليف الشرعي يفرض عليهم القعود والانتظار إلى ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام ، ليبرروا لأنفسهم الابتعاد عن ساحة المعركة ، وليثيروا النكير على المجاهدين في كل ساحات الصراع.

* * *

الإحسان ... شريعة أخلاقية

(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهذه شريعة أخلاقية قرآنية يؤكد عليها القرآن في أكثر من آية ، وهي شريعة الإحسان في كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في علاقاته مع الآخرين في حالة السلم وفي حالة الحرب. وقد جاء في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠]. أما قيمة الإحسان فتتمثل في السلوك العملي الذي ينفتح فيه الإنسان على الجانب الخيّر في الحياة ، وهو العطاء السمح الذي ينساب من روح الإنسان وشعوره

٩٣

الحيّ ، فيدفعه إلى أن يحترم مشاعر الآخرين وظروفهم ، فلا يثير معهم القضايا الصعبة من موقع صعوبتها ؛ بل يحاول أن ينفتح معهم على جانب السهولة في الحياة ، من جهة ، في ما يأخذه من الحق الذي له ، وينطلق مع خط العفو والتسامح من جهة أخرى. وبذلك يتحرك الإحسان كخط أخلاقي إسلامي من مواقع الإرادة الطوعية الطبية في الإنسان ، فيخفف من شدة العدل وقسوته ، ليعيش الإنسان بين العدل والإحسان في الأجواء التي تبعث الطراوة حتى في أشد المواقف صعوبة وقساوة ، انسجاما مع التركيب الداخلي للإنسان في شخصيته الباحثة أبدا عن العدل والرحمة في مواقع الحياة.

وكما هو الحال في الآية الأخرى ، عند ما أراد الله أن يرغّب في التقوى بأن الله مع المتقين ، كانت هذه الآية ترغيبا في الإحسان من موقع أن ذلك يحقق للإنسان محبة الله ، فإن الله يحب المحسنين.

* * *

٩٤

الآيات

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي

٩٥

الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣)

* * *

معاني المفردات

(أُحْصِرْتُمْ) : الإحصار : المنع. يقال للرجل الذي قد منع منه الخوف أو المرض عن التصرف قد أحصر فهو محصر. ويقال للرجل الذي حبس : قد حصر فهو محصور.

(الْهَدْيِ) : في أصل الهدي قولان : أحدهما : إنه من الهدية. يقال : أهديت الهدية إهداء ، وأهديت الهدي إلى بيت الله إهداء ، فعلى هذا إنما يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله ، والآخر : أنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد.

فسمي هديا ، لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد.

(تَحْلِقُوا) : الحلق : إزالة شعر الرأس للتحلل.

(أَذىً) : الأذى : كل ما تأذيت به. وأصله الضرر بالشيء.

(نُسُكٍ) : النسك : جمع نسيكة وهي الذبيحة ، والنسك : العبادة. ومنه رجل ناسك ، أي : عابد.

(تَمَتَّعَ) : التمتع : أصله الالتذاذ والاستمتاع ، ومتعة الحج هي أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحل ، ويتمتع بالإحلال بأن يفعل ما يفعله المحل ، ثم يحرم

٩٦

بالحج من غير رجوع إلى الميقات ، فهو إحلال بين إحرامين.

(رَفَثَ) : الرفث : أصله في اللغة الإفحاش في النطق. وقيل : الرفث بالفرج : الجماع ، وباللسان : المواعدة للجماع.

(فُسُوقَ) : الفسوق : الخروج على الطاعة.

(جِدالَ) : الجدال في اللغة ، والمجادلة ، والمنازعة ، والمشاجرة ، والمخاصمة نظائر ، وقيل : إن المراد به ـ هنا ـ قول : لا والله وبلى والله. وقيل : المراد اللجاج.

(الزَّادِ) : الطعام الذي يتخذ للسفر. وكل من انتقل بخير من عمل أو كسب فقد تزود.

(الْأَلْبابِ) : اللبّ : العقل سمي بذلك لأنه أفضل ما في الإنسان ، وأفضل كل شيء لبّه.

(جُناحٌ) : الجناح : الحرج في الدين ، وهو الميل عن الطريق المستقيم.

(تَبْتَغُوا) : الابتغاء : الطلب.

(أَفَضْتُمْ) : الإفاضة : مأخوذة من فيض الإناء عن امتلائه ، فمعنى أفضتم : دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماع وكثرة. ويقال : أفاض القوم في الحديث : إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.

(عَرَفاتٍ) : اسم للبقعة المعروفة بحدودها ، ويوم عرفة يوم الوقوف بها. وهي على بعد أربعة فراسخ من مكة.

(الْمَشْعَرِ) : المزدلفة ، سمّيت مشعرا لأنه معلم للحج والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من أعمال الحج ، وهو على بعد فرسخين

٩٧

ونصف تقريبا من مكة.

(وَاسْتَغْفِرُوا) : الاستغفار : طلب المغفرة ، والمغفرة : التغطية للذنب. وهو كناية عن العفو عنه وزواله.

(مِنْ خَلاقٍ) : الخلاق : النصيب من الخير. وأصله التقدير ، وهو النصيب من الخير على وجه الاستحقاق.

(وَقِنا) : الوقاء : أصله الحجز بين الشيئين. والوقاء الحاجز الذي يسلم به من الضرر.

(نَصِيبٌ) : النصيب : الحظ ، وحدّه الجزء الذي يختص به البعض من خير أو شر.

(كَسَبُوا) : الكسب : الفعل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر.

(سَرِيعُ) : السريع من العمل : القصير المدة.

(مَعْدُوداتٍ) : تستعمل كثيرا في اللغة للشيء القليل ، وكل عدد قلّ أو كثر فهو معدود ، ولكن معدودات أدلّ على القلّة لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء.

(تُحْشَرُونَ) : الحشر : جمع القوم من كل ناحية إلى مكان. والمحشر : المكان الذي يحشرون فيه.

* * *

جولة في أفاق الحج

في هذه الآيات يبدأ القرآن جولة في بعض أحكام الحج ، وهو فريضة فرضها الله على عباده منذ رسالة إبراهيم عليه‌السلام ، وقد كان معروفا بين أهل

٩٨

الجاهلية ، وأقرّه الإسلام وزاد فيه بعض المناسك. والحج ـ لغة ـ هو القصد ، ويقصد به هنا القصد إلى النسك المخصوص. أما العمرة فهي زيارة البيت الحرام على نحو خاص.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) لا بد للإنسان من إتمام الحج والعمرة إذا بدأهما بالإحرام لهما ، وذلك بالإتيان بكل الواجبات التي تدخل في نطاق تكوين الفرض في الحالات الاختيارية أو الاضطرارية. وإذا كانت الآية تؤكد على أن يكون هذا الإتمام لله ، فمعنى ذلك أنهما من العبادات التي لا بد من أن يقصد بها وجه الله ، فيشعر الإنسان معها بالحاجة إلى القرب من الله من خلال ما يؤديه من الأعمال التي تتضمن في داخلها أقوالا أو أفعالا أو أفكارا يتعبد فيها الإنسان إلى ربه ...

ولعل القيمة الكبرى للعبادات الإسلامية ، أنها لا تمثل مجرد حالة وجدانية ذاتية غارقة في ضباب المحبّة وغيبوبة الخشوع ، ليبقى الإنسان بعيدا عن حركة الحياة عند ما يقف بين يدي الله ، بل هي تعبير عن الخط الإسلامي العملي في علاقة العبد بربّه ، حيث يلتقي الجانب الروحي بالحياة في أوسع مجالاتها وأرحب آفاقها ، ليتصور معها حياته التي تضج فيها الحركة ، فنجد في الصلاة الكلمات التي تمثلها سورة الفاتحة بالإضافة إلى السورة الأخرى التي يختارها المصلي تبعا لحاجته الروحية والفكرية ، فنلتقي بالتصور الإسلامي لله في صفاته المتصلة بحركة الحياة في مخلوقاته من التربية والرعاية والرحمة ، وبطبيعة العلاقة التي تشد الإنسان إلى الله ، وبالتوجه إليه في مجال الصراع الذي تزدحم فيه التيارات الضالة والجاحدة في مقابل الخط المستقيم ... وهكذا تتحرك الصلاة في كيان الإنسان ، فتتحرك الأفكار والتصورات الإسلامية في وجدانه ليستقيم له من خلالها الوعي الروحي والفكري والعملي في كلمات وأفعال يتحرك فيها المضمون في روح نابضة بالحياة.

فإذا التقينا بالحج ، فإننا نلتقي بالعبادة الزاخرة بأكثر من معنى ، فهي

٩٩

تلتقي بالصلاة في أجواء الطواف والسعي ، والوقوف بعرفات والمزدلفة ، والمبيت بمنى ، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التأمل وأصفى مشاعره ، وأرفع درجاته. أما الإحرام ، فإنه يمثل الالتقاء بالصوم حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطوعي الاختياري بكثير من الأشياء التي تتصل بشهواته وعاداته وأخلاقه ، فتمثل مرحلة تدريبية صعبة يتعلم فيها الصبر والخشونة واحترام مشاعر الآخرين ، واحترام كل شيء محترم حوله حتى الحيوان والنبات. إلى جانب دقّة الملاحظة عند ما يراقب كل حركة من حركاته حتى سقوط الشعر وحكّ البدن والنظر في المرآة. أما رمي الجمار ، فإنه يمثل الرمز العملي للصراع مع الشيطان ، في ما تمثله الجمرات من رمز.

وهكذا يتحرك الإنسان من عمل إلى عمل ليحقق لنفسه البناء الروحي والفكري والعملي في أجواء العبادة التي يعيش في داخلها اللقاء بالله. وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة ، بل هي ـ على العكس من ذلك ـ تدفعه دفعا إليها بكل قوة من موقع الروحية التي تعطي المادة معناها دون أن تفقدها صفاتها المادية.

وقد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرعه من أشكالها ، بل يمتد بها حتى يجعل كل عمل محبوب لله عبادة إذا قام به الإنسان لوجه الله. وقد كثرت الأحاديث التي ترى في طلب العلم ، وفي العمل في سبيل العيال ، وفي العفاف وقضاء حاجة المؤمن ، وتفريج كربته ، عبادة يكسب الإنسان بها رضى الله كأي عبادة من العبادات المعروفة.

وفي ضوء ذلك كله ، نجد في كلمة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) إيحاء بالإتمام من الناحية الروحية التي يعيش الإنسان فيها أجواء الحج ، بالمستوى الذي يرتفع فيه إلى الآفاق العالية التي تمثلها هذه الفريضة ، ويتحرك معها بأخلاقية إسلامية كاملة ، فلا يكتفي بالشكل ويبتعد عن المضمون ، لأنه يمثل ـ في هذه الحالة ـ الإتمام الشكلي إلى جانب النقص الواقعي المضموني ،

١٠٠