تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي : فرض الله عليكم القتال في فريضة الجهاد في سبيل الله ، بعد أن منعكم منه مدة من الزمن في مرحلة قاسية كانت مصلحة الدعوة فيها الأخذ بأسباب الصبر ، والدفع بالكلمة الطيبة ، والبعد عن ردّ التحدي بمثله حتى يمتد الإسلام في ساحته ، ويستعد لتركيز قواعده في موقع قوة جديد ، بحيث لا يملك الآخرون إسقاطه بقوتهم ، لأنّه يملك آنذاك قوة الرد في ساحة المجابهة ، (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) من خلال الطبيعة الإنسانية التي لا تنسجم مع كل الأعمال الشاقة أو الخطرة التي قد تؤدي إلى الألم أو الجرح أو الموت. فإن الإنسان مفطور على حب الراحة والحياة ، فيكره ـ بطبيعته ـ كل ما يسلبه ذلك.

وفي ضوء ذلك ، فإن هذه الكراهة الذاتية لا تتنافى مع رغبة المؤمنين بالجهاد طلبا لمرضاة الله ، وطمعا في الحصول على ثوابه ، لأن الإنسان يرغب في الأعمال الشاقة ، أو الأسفار الخطرة ، أو نحو ذلك ، من أجل تحصيل المزيد من المال أو الجاه أو السلطة ، أو القرب من الله تغليبا للمصلحة الراجحة أو الملزمة على المفسدة المرجوحة أو غير الملزمة. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) من خلال بعض المشاكل التي يثيرها في حياتكم كالمخاطرة بالروح في الجهاد ، والمشقة في السفر في التجارة ، والسهر في الليل لطلب العلم ، (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لما يترتب عليه من النتائج الكبيرة المتصلة بالدرجات الرفيعة التي تبلغونها في الأخذ بما تكرهونه. فإن الجهاد يضع المؤمنين بين خيارين كلاهما خير : إما النصر ، الذي يؤدي إلى الكثير من امتداد الإسلام في حركة الإنسان في الحياة وسيطرته على الواقع مما يجعل المسلمين في الموقع الكبير في الناس ، وإما الشهادة التي ترفع درجة المؤمنين عند الله ، فيحصلون ـ من

١٨١

خلال ذلك ـ على رضوانه وعلى جنته.

(وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) لأن النتائج السلبية التي تحصل لكم ، من خلال ذلك ، قد تكون أشد خطورة ، وإيلاما ، مما تأملونه ، أو تحبونه منه ، من النتائج الإيجابية. فإن القعود عن الجهاد ـ انطلاقا من حب الحياة ـ يؤدي إلى سيطرة الكفر على الإسلام ، وخضوع المسلمين للكافرين ، مما يوجب الذل والهوان والسقوط المعنوي والسياسي والأمني والاقتصادي ، والحرمان ـ من جانب آخر ـ من ثواب الله ونعيمه في جنته.

(وَاللهُ يَعْلَمُ) ما يصلحكم ويفسدكم ، مما قد تكون بداياته سيئة ونهاياته حسنة ، أو بالعكس ، لأنه يعلم عمق الأمور وجوهرها. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إلا السطح البارز منها فتقبلون على البداية الحلوة في غفلة عن النهاية المرة ، وتتحركون نحو الأمور من خلال ظواهرها ، ولا تبحثون عن بواطنها ، فتقعون في الشر وأنتم تريدون الخير ، أو تخسرون الخير حيث يخيل إليكم أنه الشر. ولذلك فعليكم أن تنطلقوا إلى ما يأمركم به لأن فيه الخير كله في الدنيا والآخرة ، وأن تبتعدوا عما ينهاكم عنه لأن فيه خسران الدنيا والآخرة.

قال الطبرسي في مجمع البيان : «أجمع المفسرون ـ إلا عطاء ـ أن هذه الآية دالة على وجوب الجهاد وفرضه ، غير أنه فرض على الكفاية حتى أن لو قعد جميع الناس أثموا به ، وإن قام به من في قيامه كفاية وغناء سقط عن الباقين. وقال عطاء : إن ذلك كان واجبا على الصحابة ، ولم يجب على غيرهم ، وقوله شاذ عن الإجماع» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٤٩.

١٨٢

الإيحاءات والدروس

أولا : لا بد للعاملين في سبيل الله من استيحاء هذه الآية في غير هذا الجانب من قضايا التشريع أو العمل في سبيل الله ، مما قد يثير احتجاج البعض ، واستنكار البعض الآخر ، أو يدفعهم إلى التمرد وعدم الانضباط ، وذلك بأن تنطلق التربية الإيمانية على أساس الإحساس بضرورة التحرك من واقع التجربة ، وحركة العقيدة ، ليستوحيهما الإنسان في كل أموره العملية قبل أن يندفع في اتخاذ المواقف السلبية والإيجابية. وبذلك تتأكد الشخصية الإسلامية في مواقعها الصلبة الواعية ، فلا تهتز أمام حالات الانفعال ، ولا تسقط تحت تأثير ردود الفعل الطارئة السريعة ، ولا تندفع في طريق لا تعرف نهاياته وأبعاده ؛ بل تقف أمام الأشياء وقفة تأمل وتفكير ـ من دون فرق بين حالات التحدي أو حالات الاسترخاء ـ لتدرس كل شيء من مواقعه الذاتية بكل تجرد وموضوعية ، فلا يمكن للأعداء أن يقودوها إلى معركة لم تحدد مسارها ومنطلقاتها وأوقاتها ، ولا يمكن للأصدقاء أن يدفعوها في طريق لا تعرف كيف تتعامل معه في خطواته البطيئة والسريعة ، بل تقف وسطا بين الخطوط لتختار الخط الذي يناسبها من خلال دراسة موضوعية واعية مبنية على العلم والإيمان.

ثانيا : إن الإسلام يواجه الواقع في تشريعاته ، فهو يعترف بالواقع الصعب والتجربة المرّة ، ولكنه يوحي للإنسان بالأسرار العميقة ، والأرباح الكبيرة ، والنهايات السعيدة التي تكمن في القضية التي يعالجها التشريع ، بحيث تحقق للإنسان رغباته المادية أو المعنوية التي يتجاوز ـ من خلال الانفتاح عليها ـ كل الصعوبات والمرارات ، فيرحب بها بدلا من أن يتعقد منها.

ثالثا : أن تتحرك حسابات الخير والشر لدى الإنسان على أساس النظرة

١٨٣

الواسعة العميقة لما عند الله ، مما يدركه العقل بالتأمّل أو يكشفه الوحي ، لتكون الموازين لدى الإنسان المؤمن منطلقة من موازين السماء ، فلا تستغرق في خصوصيات موازين الأرض.

رابعا : الاطمئنان إلى حكمة التشريع الإلهي من خلال الحقيقة الإيمانية ، وهي أن الله هو الذي يعلم خفايا الأمور وبواطنها ونهاياتها ، فلا بد من الثقة بالتشريع بأنه يختزن الخير كله للإنسان بعيدا عن المشاعر والانفعالات الذاتية التي يثيرها في النفس سلبا أو إيجابا ، فلا يرفض الحكم الشرعي لعدم انسجامه مع رغباته ، لأن عنصر الرغبة لا يتصل بالعمق من المصالح والمفاسد ، بل يتصل بالجانب السطحي من حياة الإنسان.

* * *

١٨٤

الآيتان

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨)

* * *

معاني المفردات

(وَصَدٌّ) : الصد : يقال : صد عن الشيء : إذا أعرض وعدل عنه ، وصد غيره : إذا عدل به عنه ومنعه.

(حَبِطَتْ) : الحبط ـ في الأصل ـ : فساد يلحق الماشية في بطونها

١٨٥

لأكل الحباط. وهو ضرب من الكلأ. يقال : حبطت الإبل تحبط حبطا ، إذا أصابها ذلك. ثم سمّي الهلاك حبطا. والمراد بها ، في الآية ، بطلان العمل وفساده في الدنيا والآخرة ، فلا قيمة له ولا ثواب عليه.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل جماعة من المسلمين في بداية عهد الهجرة ، قبل موقعة بدر ، ليعرضوا لبعض قوافل قريش كوسيلة من وسائل الضغط عليهم ، في عملية عرض للقوّة الجديدة لإضعاف قريش اقتصاديا وعسكريا ، في مجتمع يتعامل أفراده ويتحركون من خلال موازين القوى المطروحة في الساحة ، فيتحالفون ويخضعون للأقوى ، ويتخاذلون أمام دعوة الأضعف ، فكانت هذه السرية الأولى بقيادة عبد الله بن جحش ، وأمر القوم بالسير معه من دون أن يعرّفهم مهمة القافلة ، بل قال لهم : ائتمروا بأمره عند ما تصلون إلى مكان معين. فلما اصطدموا بالقافلة ، طلب منهم القتال ، فاستعد بعضهم له تنفيذا للأمر ، وامتنع البعض الآخر تقديسا للشهر الحرام الذي كان قد دخل آنذاك ، ووقع القتال بينهم وبين القافلة ، فقتل نفر من هؤلاء ونفر من أولئك.

ولما رجعوا إلى المدينة ، خطّأهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدخول في القتال في الأشهر الحرم ، لأنه كان خطأ حقيقيا ، لأنهم لم يكونوا واعين لطبيعة الأمر التي تفرض عليهم أن لا يتجاوزوا جوانب التحريم الأخرى ، فلم يكن من المفروض عليهم أن يتأخروا إلى الشهر الحرام.

وكانت هذه الحادثة فرصة ذهبية لقريش للتشهير بالمسلمين في الأوساط

١٨٦

العربية من جهة انتهاكهم لقدس من أقداس الأوضاع المحترمة لديهم ، كما أنها أو جدت بلبلة في أوساط المسلمين لأن الإسلام لم يعترض على تحريم القتال في الأشهر الحرام الذي كان سائدا في المجتمع العربي ، بل أقرّه انطلاقا من اعتباره شريعة دينية مستمدّة من الشرائع السابقة ككثير من العادات العربية الدينية التي كانت من بقايا رسالة إبراهيم عليه‌السلام ، الذي كانوا يعظمونه ويحترمونه ، لا سيما قريش التي كانت ترى نفسها من ذريته.

وكان لا بد للمسلمين من أن يفهموا طبيعة الحدود التي تجاوزها هذا الفريق منهم ، ويعرفوا ما إذا كان هذا التصرف بداية لإلغاء هذا التشريع ، أو أنه يمثل تغليبا لجهة غالبة على جهة أقلّ منها مصلحة. وكان لا بد للإسلام من أن يجيب عن هذه التساؤلات ليوضح الحقيقة للمسلمين من أجل تركيز إيمانهم ، وليقف ضد حملة التشهير بالإسلام التي قادتها قريش ضده ، فكان هذا السؤال الذي أفسح القرآن المجال له في آياته (١).

* * *

القتال في الشهر الحرام

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ). فقد انطلق السؤال عن الشهر الحرام من جهة شريعة القتال فيه ، هل هو محرم كما كان أو أنه حلال في تشريع جديد؟! وكان الجواب : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) إنه أمر كبير في ما يمثله من انتهاك حرمة من حرمات الله ، التي أراد أن تحفظ وتصان لما يترتب عليها من المصالح العامة للأمة من خلال الحاجة إلى فترة سلام تستريح فيها من الخلافات ، وتعيش من خلالها تجربة الأمن والطمأنينة. ويضيف القرآن إلى

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل حول مناسبة النزول ، انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٥١ ، والدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٦٠٠ ـ ٦٠٥ ، وأسباب النزول ، ص : ٣٦ ـ ٣٨.

١٨٧

ذلك : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وربما كان ذلك إشارة إلى بعض أشهر الحج التي كان يريد للناس أن يمارسوا شعائر الحج فيها ، من أجل الرجوع إليه في هذه العبادة التي تفتح قلوبهم على معنى الخير وإرادته ، وإلى شهر رجب الذي أراد الله للناس أن يعتمروا فيه فيرجع إليه المذنب ، ويلجأ إليه الخائف في طريق التوبة والإيمان. فكأن الله يحب للناس أن يحافظوا على حرية الوصول إلى المسجد الحرام من أجل تحقيق المعاني الروحية والاجتماعية التي تحصل لهم من خلال الحج والعمرة ، وبذلك يكون القتال صدا عن سبيل الله وكفرا به وبالمسجد الحرام في ما يقتضيه من الانحراف عن خط الله. وقد يعبر الله عن الانحراف العملي بالكفر حيث إن الإيمان الذي لا يتمثل في العمل يعتبر بمنزلة الكفر ، كما جاء في قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] وبهذا المعنى جاءت الأحاديث التي تسمى تارك الصلاة كافرا.

* * *

(الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)

ثم تدخل الآية في عملية مقارنة بين ما حدث من القتال في الشهر الحرام ، وبين ما قامت به قريش من إخراج أهل المسجد الحرام منه وفتنتهم عن دين الله بكل ما يملكون من وسائل الضغط والتهديد : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) فإن ما قام به المسلمون على سبيل الخطأ كان اعتداء على حرمة زمن ما ، بينما كانت قريش تعتدي على حرمة المؤمنين وتخرجهم من مكة التي هي بلدهم بمختلف وسائل الضغط الجسدي والمعنوي الموجهة إليهم ،

١٨٨

وتحارب الله في دينه فتفتن المؤمنين عنه ، وتمنعهم من السير في طريق الله. ثم تتحدث الآية عن خطورة ما تقوم به قريش ، وتعتبر أنه أكبر من القتل الذي قام به المسلمون في الشهر الحرام : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ، لأن ذلك يمثل الاعتداء على حرية الدين الذي يريد الله أن تحفظ وتحترم ، وعلى حرية الإنسان في السير في خط الله دون ضغط ، وبذلك يكون اعتداء على الحياة في ما يمثله الدين من حماية لها ورفع لمستواها ، فلا يقاس به القتال في الشهر الحرام الذي لم ينطلق من جانب ذاتي ، بل انطلق من محاولة لحماية المسيرة التي بدأها الإسلام في مكة ، ووقفت قريش حاجزا بينها وبين الامتداد ، فكان القتال ردا للعدوان بشكل غير مباشر وليس عدوانا ابتدائيا.

ثم تتوجه الآية إلى المسلمين لتعرفهم طبيعة الصراع الذي يدور بينهم وبين قريش ، فليس هو صراعا تفرضه الخلافات الطارئة التي تحدث بين الناس في المجتمع العربي ، على طريقة الخلافات العشائرية الخاضعة لمصالح خاصة ، ليكون لها فترة معينة وتسوية خاصة ، بل هو صراع على العقيدة التوحيدية التي تمثل خطأ ممتدا في الحياة ، يختلف اختلافا كبيرا عن عقيدة الشرك التي تمثل خطأ مباينا لا مجال للالتقاء به في أية مرحلة من مراحل الطريق ، ولذا كان الموقف حاسما لا يخضع لأنصاف الحلول.

وهذا ما فهمته قريش من واقع هذا الصراع ، وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون في ما يستقبلون من قضايا الصراع ، فإن قريشا ، وكل قوى الشرك والكفر ، لن تهدأ ولن تستريح إلا بعد أن يتم القضاء على الإسلام بالقضاء على المسلمين أو على العقيدة في داخلهم ، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا). وبذلك كان القتال مفروضا على المسلمين ، وكانت الساحة مفتوحة على مستوى الزمان والمكان ، فلا خيار لهم في التوقف ، بل لا بد لهم من أن يتحركوا على كل المحاور والاتجاهات والأوقات ، وإن أدى ذلك إلى اختراق حرمة الشهر

١٨٩

أو المكان ، لأن حرية الدين في التحرك وفي حماية نفسه لا تحتمل المساومة والاسترخاء والوقوف عند أي حاجز من الحواجز المطروحة في الطريق في غير هذا المجال.

* * *

الارتداد يحبط الأعمال

ثم تتوجه الآية إلى المسلمين الذين قد يستسلمون للضعف أمام الضغط الهائل الذي تمثله قوى الشرك ، فيرتدون عن دينهم ، فتعرفهم خطورة الارتداد في حساب المصير ، تبعا لأهمية الإيمان بالله في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فتقرر الآية ـ في هذا الجو ـ أن الإنسان الذي يموت كافرا في خط الارتداد يسقط من حساب الله في كل المجالات ، لأن قيمة أي عمل من أعمال الإنسان تتحدد بالانطلاق به من خلال الإيمان بالله ، فلا قيمة لأي عمل لا ينطلق من تلك القاعدة. ولذا فإن الارتداد يحبط أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة ، ويؤدي به إلى الخلود في النار. وعلى ضوء ذلك ، كان الإسلام يلغي كل الأعمال السيئة المتقدمة عليه ، كما ورد «أن الإسلام يجبّ ما قبله» (١) ، وكان الكفر يلغي كل الأعمال الصالحة المتقدمة عليه ، لأن الإسلام يتعامل مع الأعمال من موقع القاعدة التي ينطلق منها العمل لا من موقع العمل نفسه ، لأن القاعدة الفكرية هي التي تعطي العمل معناه الإيجابي أو السلبي في خط الاستقامة والانحراف. وفي هذا الإطار ، يحدد القرآن الموقف للاتجاه المعاكس لخط الكفر والارتداد ، وهو خط

__________________

(١) راجع : البحار ، م : ٨ ، ج : ٢١ ، ص : ٨٠ ، باب : ٢٦ ، رواية : ٨.

١٩٠

المؤمنين الذين عاشوا الإيمان بالله في موقف الهجرة والجهاد في سبيل الله ، وتحركوا من القاعدة الصلبة التي تحرك خطواتهم في الحياة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) فهم يرجون رحمة الله التي لا تنال الكافرين البعيدين عن أجواء الإيمان. فإذا أخطأ هؤلاء المؤمنون في بعض ممارساتهم وكلماتهم ، فإنهم يرجون ـ في عمق إيمانهم ـ أن يرحمهم‌الله ، ويغفر لهم ذنوبهم ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، انطلاقا من إيمانهم بالحقيقة الإلهية (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

* * *

تفسير الميزان وحبط الأعمال

هناك عدة أحاديث تثيرها كلمة : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في مقام الجدال :

١ ـ تناول صاحب الميزان المسألة في تفسير قوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فقال : «الذي ذكره تعالى من أثر الحبط : بطلان الأعمال في الدنيا والاخرة معا. فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة ، فإن الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة ، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] ، وخسران سعي الكافر ، وخاصة من ارتد إلى الكفر بعد الإيمان ، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه ؛ فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت ، وهو الله سبحانه ، يبتهج به عند النعمة ، ويتسلّى به عند المصيبة ، ويرجع إليه عند الحاجة. قال تعالى : (أَوَ

١٩١

مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام : ١٢٢] ، تبين الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونورا في أفعاله وليس للكافر ، ومثله قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه : ١٢٤ ـ ١٢٥]. حيث يبين أن معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة ، وبالمقابل معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] فظهر مما قربناه أن المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة ، لا خصوص الأعمال العبادية والأفعال القربية ، التي عملها المرتد وأتى بها حال الإيمان ؛ مضافا إلى أن الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي ولا فعل قربي لهم ، كالكفار والمنافقين ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٧ ـ ٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [آل عمران : ٢١ ـ ٢٢] إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصل الآية ـ كسائر آيات الحبط ـ هو أن الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثر في سعادة الحياة ، كما أن الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثر بها أثرها في السعادة ، فإن آمن الإنسان بعد الكفر ، حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة ، وإن ارتد بعد الإيمان ماتت أعماله جميعا وحبطت ، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية ، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الرّدّة وإن مات على الرّدّة ختم له الحبط وكتب

١٩٢

الشقاء» (١).

ونلاحظ على هذا التحليل الدقيق ، أن ما ذكره في تفسير الإحباط في الدنيا والآخرة ببطلان تأثير الأعمال ، مع الكفر أو الارتداد في سعادة الإنسان في الدارين صحيح ، ولكن تفسيره السعادة في الدنيا بالحياة الروحية التي يعيش الإنسان المؤمن فيها النور في أفعاله ، دون الكافر الذي يفقدها لفقدان صلته بالله الذي يدخل البهجة إلى قلبه ، والسلوة عند حزنه ، والاكتفاء عند حاجته ليس دقيقا. فإن ذلك قد يحقق للإنسان الشعور بالسعادة والطمأنينة من حيث تأثير الإيمان في ذلك ، كما هو مدلول الآيات التي استشهد بها ، ولكن الظاهر من الأعمال ، في هذه الآية ، الأعمال التي يستحق بها الإنسان العناية من الله بما يمنحه من الثواب عليها ، أو يدفع بها عنه شرا ، أو يجلب له خيرا ، فإن الله يعطي عباده المؤمنين النتائج الإيجابية في أعمالهم الخيرة وإن لم يتقربوا بها إليه ، بل كانت جارية على حسب الخط الإيماني الذي تتحرك فيه حياته من خلال انتمائه إلى رسالات الله.

ولذلك ، فإن المقصود من حبط الأعمال بالكفر وبالارتداد هو بطلان تأثيره في العطاء الإلهي في الدنيا والآخرة ، هذا العطاء الذي يجريه الله لعباده جزاء للأعمال الصالحة بشرط الإيمان ، لأن الإيمان هو الأساس في استحقاق الثواب على العمل. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) [الأنبياء : ٩٤]. وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] فإن الظاهر من الآيتين ، أن العمل الصالح في دائرة الإيمان ، هو الذي يمنح الإنسان حقّ الأجر الذي يمنحه الله له في الدنيا والآخرة ، وهو الذي يمنع من كفران سعيه

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٧١ ـ ١٧٢.

١٩٣

الذي يلتقي مع معنى الحبط والبطلان.

وفي ضوء ذلك ، يكون الحبط كناية عن أن هذه الأعمال ـ مع الكفر ـ صارت بمنزلة العدم ، لأن الإيمان هو الذي يعطي العمل قيمته ونتائجه الإيجابية. فليست السعادة التي يتطلبها الإنسان شيئا يعيشه في حياته الداخلية من موقع الثقة التي يفرضها الإيمان ، بل هو شيء يحصل عليه من خلال عطاء الله له ، لأن الله يعطي الثواب في الدنيا كما في الآخرة ، وسينزل العذاب في الدنيا كما ينزله في الآخرة. وهذا هو جوّ الآية ، والله العالم.

* * *

هل الأعمال يبطل بعضها بعضا؟

٢ ـ هناك خلاف فكري بين المؤمنين : هل أن الأعمال يبطل بعضها بعضا بحيث تبطل الحسنة السيئة ، أو السيئة الحسنة ، أو يبقى كل واحد منهما على حاله في قضية الجزاء؟

فهناك قائل ببطلان الإحباط.

أولا : لأنه ظلم مستحيل على الله سبحانه. وهذا ما ذكره نصير الدّين الطوسي في تجريد الاعتقاد ، قال : إن الإحباط نوع من الظلم ، فلو أن شخصا قلّت حسناته وكثرت ذنوبه ، فسيكون الإحباط بالنسبة إليه أن يصبح شخصا لم يعمل حسنة قط ، وهذا ظلم بحقه.

وثانيا : الآيات الدالة على أن الإنسان يجزى بعمله مطلقا ، سواء لحقه شيء مضاد له أو لم يلحقه كما في قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]. وقوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ٢٠١] وظاهر هذه الآية أن الأعمال تبقى على حالها في نتائجها الإيجابية والسلبية حتى تأتيهم التوبة من الله سبحانه.

١٩٤

وثالثا : إنه لا موجب للإحباط بعد انطلاق كل منهما من موقعه الداخلي في النفس الإنسانية ، مما يفرض أن يأخذ كل واحد منهما دوره في واقع الإنسان من خلال عدم ارتباط أحدهما بالآخر ، أو غلبته عليه. فلا وجه لإلغاء أحدهما الآخر. وهذا هو المنهج العقلائي الذي جرى عليه العقلاء بفطرتهم التي خلقها الله فيهم في الجزاء على الحسنة بشكل مستقل كما لو لم تكن هناك سيئة ، والجزاء على السيئة بشكل مستقل ، كما لو لم تكن هناك حسنة ، وذلك من خلال السيئات والحسنات التي لا تحمل مدلولا مميزا ، بحيث يلغي الأساس للآخر كله ، أما في العمل الذي يقطع العلاقة بين الإنسان وربه كالكفر والارتداد ، فإنه يقطع المسألة من جذورها التي لا تبقي للحسنة أية قابلية للبقاء في حساب الأعمال.

وهناك قائل بأن الأعمال تبقى على حالها في آثارها العامة والخاصة ، ولكن الحسنة قد تكفر السيئة ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال : ٢٩] ، وقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء : ٣١] وقوله تعالى في تبديل السيئة بالحسنة : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٧٠]. وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) [هود : ١١٤]. وهذا أمر قريب إلى المنهج الإسلامي الذي يلتقي بالعفو والمغفرة والتوبة التي قد تكون كلامية ، وقد تكون عملية بتبديل الخط العملي من السلب إلى الإيجاب.

وذهب صاحب البحار العلامة المجلسي في بحار الأنوار إلى ثبوت سقوط الثواب بكفر يستمر إلى نهاية العمر ، وسقوط العقاب بإيمان يستمر حتى الموت. والأخبار كثيرة بشأن هبوط كثير من الطاعات عن طريق كثير من

١٩٥

المعاصي ، وغفران كثير من المعاصي عن طريق كثير من الطاعات. وذلك كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢] وكما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٢ ـ ٣٣]. فإن المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة. كما جاء في تفسير الميزان (١).

وقد جاء عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (٢).

ولكن يمكن مناقشة بعض هذه الشواهد. أما الآية التي تتحدث عن رفع الصوت فوق صوت النبي ، فليست واردة في مقام بيان فعلية إحباط هذا السلوك لأعمالهم السابقة ، بل هي واردة ـ والله العالم ـ في التحذير من فعل الإساءة إلى النبي بعدم احترامه في درجة نبوته ، من خلال الاستهانة به وبأمره ونهيه ، فيقودهم ذلك إلى الابتعاد عن خط الإيمان بطريقة تلقائية لا شعورية في ما يجر بعض الأوضاع السلبية بعضا آخر ، وتؤدي بالتالي إلى لون معين من الانحراف في اتجاه آخر. ولعل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) ، إشارة إلى ذلك من خلال الوصول إلى الكفر وما يشبه الكفر من دون شعور.

أما آية المشاقة ، فإن الظاهر من المشاقة مع الرسول ، هو ما يحصل من

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٧٦.

(٢) البحار ، م : ٢٥ ، ج : ٧٠ ، ص : ٣٥٧ ، باب : ١٣١ ، رواية : ٢٦.

١٩٦

الكافرين في مواجهتهم للنبي من خلال معطيات الكفر والصد عن سبيل الله ـ ولذلك ذكر هذه المشاقة في سياق صفات الكافرين ـ وذلك بإعلان الحرب عليه ، والابتعاد عن دينه ، والمخالفة له في العقيدة والشريعة والاستهزاء. وأما الفقرة التي تليها فإنها تتحدث عن ضرورة الانسجام مع خط الإيمان بإطاعة الله ورسوله ، وعدم الانحراف عن هذا المنهج الإيماني الذي قد يؤدي إلى بطلان الأعمال من خلال انهيار القاعدة الأساسية للأعمال ؛ والله العالم.

أمّا الحديث عن الحسد في أكله للحسنات ، فقد يكون ناشئا من الروحية التي تتمثل في الحاسد الذي قد ينطلق إلى القيام بكثير من الأعمال الباغية التي قد تطغى على حياة الإنسان ، بحيث لا تكون هناك أية قيمة لما قام به من الأعمال الصالحة أمام ما يقع فيه من الأعمال السيئة ، حتى كأنها لا شيء ، وذلك بأسلوب الكناية أو المبالغة. وهكذا لا نجد في مثل هذه الشواهد دليلا على ما ذكره من إبطال بعض السيئات للحسنات ، وربما كان السبب في بعض هذه التفاسير التعامل مع النص بحرفيته ، لا بإيحاءاته وأساليبه البلاغية القائمة على الكناية تارة وعلى المبالغة أخرى ، والله العالم.

* * *

بين الردة والموت كافرا

٣ ـ لا شك أن المسلمين متفقون على أن الردة تحبط العمل وتفسده ، ولكن هل يحدث ذلك بمجرد الردة ، فلا قيمة للعمل حتى لو آمن بعد ذلك ، أو أنه مشروط بالموت كافرا؟ ذهب الشافعي إلى أن إحباط الردة للعمل مشروط بالموت كافرا ، وذلك من خلال الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فلا إحباط للعمل إذا تبدل الكفر قبل الموت بحيث مات مؤمنا.

١٩٧

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى الرأي الأول ، فتكون الردة محبطة للعمل ولو رجع صاحبها إلى الإسلام ، وذلك من خلال قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥] وقوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٥] فقد علق فيها الحبوط بمجرد الشرك. وإذا كان الخطاب الأول للنبي ، فإن المقصود به أمته لاستحالة ذلك عليه. وناقشوا الاستدلال بالآية بأنها واردة في بيان حكمين : الحبوط والدخول في النار ، فلا تكون دليلا على شرطية ذلك للحبوط في ذاته ، وقد رد الشافعي على الاستدلال بآية الشرك بأنها واردة في باب التغليظ على النبي كما غلظ على نسائه في قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب : ٣٠].

وتظهر ثمرة الخلاف في من حج ثم ارتد ثم أسلم. فقال مالك وأبو حنيفة : عليه الحج لأن ردته أحبطت حجه. وقال الشافعي : لا حج ، لأن حجه قد سبق. والردة ليست محبطة إلا إذا مات على كفره.

ونحن نلاحظ أن الآيات التي تحدثت عن الشرك كانت تتحدث عن المبدأ كعنوان للإحباط ، بقطع النظر عن التفاصيل ، أو ربما يستفاد منها أن يكون مشركا في مقابل المؤمن بما يوحي بالاستمرار ، أما آية : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) فهي متعرضة للحبط ، أما الخلود في النار فهو حكم آخر وليست المسألة على أساس القيد والمقيّد ؛ والله العالم.

وقد نستفيد احتفاظ الإنسان بعمله الصالح حتى لو أعقبته السيئة من قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ

١٩٨

بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) [آل عمران : ١٩٥] فإن في إبطال العمل بفعل عمل سلبيّ آخر إضاعة للعمل من خلال إبطال نتائجه الدنيوية والأخروية.

* * *

نظرة الإسلام إلى المرتد في قبول توبته

٤ ـ ما هي نظرة الإسلام إلى المرتد في قبول توبته من حيث المبدأ ، من خلال هذه الآية وغيرها؟.

إن هذه الآية توحي بأن العذاب الموعود به والحبط المذكور فيها يرتكزان على الارتداد المستمر إلى الموت ، أي الارتداد الذي لا توبة بعده ، وهذه هو ظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فإن تعليق النتائج السلبية على الموت كافرا يوحي بأنه لو تاب قبل موته ، فمات وهو مؤمن ، فلا حبط لعمله ولا خلود في النار. وهذا المضمون يلتقي ، من ناحية إيحائية ، مع قبول التوبة في الدنيا ، بمعنى دخوله من جديد في دائرة رحمة الله ورضوانه كجزء من المجتمع الإسلامي.

وجاء في سورة آل عمران قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) [آل عمران : ٨٦ ـ ٩٠].

١٩٩

فإن هذه الآيات تشير إلى المؤمنين الذين كفروا بعد إيمانهم ، وازدادوا كفرا بحيث امتد كفرهم إلى نهاية حياتهم ، وتتحدث عن عذابهم الذي ينتظرهم في الآخرة ، وعن عدم قبول توبتهم لعدم جديتهم فيها ، أو في إيمانهم بالآخرة ، بمعنى عدم حصولهم على نتائج التوبة ظاهرا ، وتستثني آية (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٠] فتتحدث عن غفران الله لهم ورحمته ، وهذا دليل على قبول توبتهم. وإذا كانت الروايات تختلف بين رواية تحملها على أهل الكتاب ، ورواية تحملها على المرتدين من المسلمين ؛ فإن الظاهر منها هو الإطلاق الذي يشمل حالة الارتداد بعد الكفر.

وربما كان مبدأ قبول توبة المرتد ، من ناحية إيحائية ، واضحا في الآية التالية وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [آل عمران : ٩١] حيث مضمونها يلتقي بمضمون آية البقرة في اعتبار العذاب الأخروي ، الذي ينطلق من واقع الإنسان في الدنيا ، مشروطا بالموت كافرا ، الأمر الذي يوحي بأن هناك فرصة للتوبة. وإذا كانت هناك فرصة للتوبة ، فهناك فرصة للاستتابة من قبل الحاكم الشرعي ، لأنه لا معنى لتشريع المبدأ من دون أن يأخذ طريقه في حياة الناس.

وقد جاء في سورة النساء قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) [النساء : ١٣٧] وفي هذا إيحاء بأن المشكلة في مصير هؤلاء هو إصرار هم على الكفر في الدنيا حتى الموت ، فإذا رجعوا عن الكفر وآمنوا من جديد ، فلا مشكلة لهم عند الله في الدنيا والآخرة. ولا فرق في ذلك بين المرتد الفطري الذي ولد على فطرة الإسلام من أبوين مسلمين ، والمرتد الملّي الذي كان كافرا ثم أسلم ثم كفر ، فإن الآيات ـ بأجمعها ـ توحي بقبول التوبة منهم من قبل المجتمع الإسلامي

٢٠٠