تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

والظاهر أن المراد بها الضرر الدنيوي لا الأخروي ، لأنه تابع للتحريم الذي تستوجب مخالفته العقاب في الآخرة. وهذا مما لم يكن معهودا قبل الآية ، ليتحدث الله عنه كشيء وجداني معلوم للناس في ذهنيتهم الشرعية ، لأن الغرض أنهم في موقع السؤال عن التحريم كموقف إسلامي فيه الأمر الذي يجعل الضرر الأخروي نتيجة للآية ، لا تحليلا للمسألة وتقريبا للصورة.

وربما يستفاد ذلك من «مقابلة في قوله تعالى : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، فإن النفع ـ في مفهومه ـ يقابل الضرر ، فهما يتواردان في الأشياء التي يتطلبها الناس لخصائصها الإيجابية أو يكرهونها لخصائصها السلبية ، مما يجعل من ذكر أحدهما في مورد قرينة على إرادة مقابلة في مجال المقارنة بين الخصائص الكامنة في الشيء.

وربما كان المراد من المنافع حالة الفرج النفسي الذي يحدث في حالة السكر عند ما يدخل الإنسان في غيبوبة ذهنية ضبابية ، توحي له بالمرح واللهو والعبث ، بحيث يتخفف من قيوده الاجتماعية التي يفرضها عليه عقله ، فيبتعد بذلك عن ضغط المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية ونحوها ، مما يجعل من الخمر سببا في الهروب من الواقع ، بدلا من أن يكون حلا للمشكلة وتركيزا للواقع. أما في القمار ، فقد تكون المنافع متمثلة في الأرباح التي يحصل عليها المقامر ـ في بعض الحالات ـ بيسر وسهولة ، فلا يتكلف في سبيل الحصول عليها أي جهد أو تعب مما يتكلفه الناس في حركتهم المعاشية في الأسفار البعيدة والأخطار الكثيرة ، بالإضافة إلى ما يستتبع ذلك من الحالة النفسية المرحة في حركة اللعب الذي يؤدّي إلى الربح.

(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فإن الأضرار التي تحدث للحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية في جميع مجالاتها ، في الخمر والميسر ، أكبر من المنافع الحاصلة منهما ، لأن الهروب من الواقع ، ونسيان المشاكل في لحظات السكر ، قد يخدّر الآلام الكامنة في الواقع ، من خلال مشاكل الإنسان الخاصة والعامة ،

٢٢١

ولكنه لا يلغيها ، بل قد تعود ـ بعد الإفاقة منه ـ بقسوة أكبر وألم أعمق. تماما كما يحدث للمريض الذي يصرخ من الألم ثم يهدأ بتناول المخدرات ، ليعود إلى آلامه بإحساس أكثر قسوة عند انتهاء مفعول التخدير. كما أن النتائج السلبية الصحية والعقلية والاجتماعية الناتجة من السكر تدخله في أكثر من مشكلة تتعب حياته ، وتدمرها ، وتؤدي بها إلى الهلاك في بعض الحالات.

وهكذا نجد القمار ، في قضية المنفعة التي يحصل عليها المقامر في الأرباح الطارئة ، فإنها لا بد من أن تلتقي في التجربة الثانية والثالثة وغيرها في اللعب بالخسائر المدمّرة التي تجعل الربح ـ الذي حصل عليه ـ لا معنى له أمام خسارته الجديدة التي قد لا يبقى له معها أي شيء.

وإذا كانت المضار أكبر من المنافع ، فمن الطبيعي أن يحرّمهما الله ، ولا يمكن له أن يحللهما من خلال لطفه بعباده الذي يقرّبهم إلى ما يصلح أمرهم في الحياة ، ويبعدهم عما يفسدها في أوضاعهم العامة والخاصة ، لأن التشريع وسيلة من الوسائل لإدخال الإنسان في ما يحبه الله من الخير وابعاده عما يبغضه من الشر ، ويتصل بالسلامة العقلية والروحية والجسدية للإنسان على الصعيد الفردي والاجتماعي ، فالشريعة هي عناوين المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال الإنسان ، فلا يأمر الله إلا بما فيه صلاح الإنسان ، ولا ينهى إلا عما فيه فساد حياته.

ولعل هذه المسألة ، وهي تغليب الجانب الأقوى على الجانب الأضعف في مسألة التشريع في التحريم والتحليل ، هي الطريقة العقلائية التي يجري عليها العقلاء في قضاياهم السلبية والإيجابية. فإذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة في الفعل ، كان الموقف إيجابيا لحساب المصلحة ، وإذا كانت المفسدة أقوى من المصلحة ، كان الموقف سلبيا لحساب المفسدة. ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنهم يقبحون للإنسان اختيار ما كان ضرره أكبر من نفعه ،

٢٢٢

ويذمونه على ذلك ، ويعتبرونه سفيها ، ولهذا يحجرون على أموال السفيه وعلى تصرفاته العقدية ، لأنه لا يدرك الفاصل بين المضار والنفع ، ولا يتحرك في اتجاه اختيار النفع على الضرر.

وفي ضوء ذلك ، نستفيد من هذه الفقرة ، أن الله ، سبحانه ، أراد بيان التحريم بهذه الطريقة ، انطلاقا من الارتكاز العقلائي الذي يتحرك تلقائيا لتقرير النتيجة من خلال هذه القاعدة بتحريم ما يتمثل فيه ذلك في حركة الواقع أو في خصائصه الذاتية.

* * *

وقفة مع آراء المفسرين في هذه الآية

وقد ذكر بعض المفسرين ، في ما نقله العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ، أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة. فإن قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) لا يدل على أزيد من أن فيه إثما. والإثم الضرر. وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى ، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة ، فترك الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون ، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها. فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ٩٠ ـ ٩٤] إلى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ

٢٢٣

اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٩٠ ـ ٩٤].

وقد ردّه العلّامة الطباطبائي ، «أوّلا : إنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا ، وليس الإثم هو الضرر. ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة ، لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع. وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء : ٤٨] ، وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] ، وقوله تعالى : (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩] ، وقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) [النور : ١١] ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) [النساء: ١١١]. إلى غير ذلك من الآيات.

وأما ثانيا : فإن الآية لم تعلّل الحكم بالضرر ، ولو سلّم ذلك فإنها تعلّل فعلية الضرر على المنفعة ، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد ، اجتهاد في مقابل النص.

وأمّا ثالثا ، فإن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة ، لكنها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحا ، فما عذر من سمع التحريم في آية مكية ، حتى يجتهد في آية مدنية؟! (١).

* * *

ملاحظة على رأي الطباطبائي

ونحن نوافق العلامة الطباطبائي على تأكيده على دلالة الآية على

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٢٢٤

التحريم ، ولكن بطريقة إيحائية بلحاظ الفقرة الأخيرة (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) بالتقريب الذي ذكرناه ، ولكننا لا نوافقه على إنكاره إرادة الضرر من كلمة الإثم ، باعتبار أن مقابلته بالنفع لا يصلح أن يكون قرينة على ذلك ، مع عدم إمكان إرادته من الآيات التي ذكرها. فإننا لا ندعي أن كلمة الإثم مرادفة للضرر ولكنها ـ كما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسير الآية ـ : «حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات» وبذلك فإن مصداقها يختلف حسب اختلاف موارد استعمالاتها ، فقد يراد منها الضرر كما في هذه الآية ، وقد يكون المراد منها المعصية أو الذنب الذي يستحق العقوبة ونحو ذلك. فالمعنى واحد ، ولكن حركته في الموارد متنوعة ، وقد بينا في ما ذكرناه آنفا ، الوجه في حمل الكلمة على معنى الضرر ، كما أننا لا نوافقه في تقدم آية الأعراف تاريخيا على آية البقرة ، بل الظاهر العكس ، كما ذكرناه.

إن الآية توحي بالتحريم ولكنها لا تدل عليه بشكل صريح ، فهي أسلوب تربوي من أساليب إعداد النفس لتقبل التحريم ، بإثارة الأجواء الفكرية الداخلية للانفتاح عليه ، كما لو كان أمرا طبيعيا يختاره الإنسان بنفسه.

* * *

الآية في مستوى القاعدة الفقهية

وقد نستطيع استيحاء هذه الفقرة ، لتكون قاعدة فقهية تقتضي تحريم كل ما كان ضرره أكبر من نفعه ، حتى لو لم يرد فيه نص ، باعتبار أن القضية قد تكون عقلية يحكم العقل بها ، ويدرك وجود الملاك الشرعي للتحريم في مواردها ، لقبح ارتكاب ما يكون ضرره أكثر من نفعه ، لأنه ظلم للنفس على

٢٢٥

مستوى الحالة الفردية ، وقد يكون ظلما للمجتمع بما يحدثه من الأضرار الاجتماعية ، كما أنها عقلائية من خلال السيرة العقلائية الجارية في أمورهم العامة على الخاصة على ترك ما كان ضرره أكثر من نفعه.

فإذا كان ما يحكم به العقل يحكم به الشرع ، وإذا كانت السيرة العقلائية محترمة لدى الشارع في القضايا العامة التي لا تخضع للتعبد من خلال الخصوصيات الخفية التي لا يدركها الناس ، بل تخضع للمصالح والمفاسد المعروفة لديهم ، وإذا كانت الآية قد أكدت المسألة بحيث يمكن القول بأنها تؤكد حكم العقل وتمضي سيرة العقلاء وبناءهم ، فإن النتيجة لا بد من أن تكون في مستوى القاعدة لا في مستوى الحكم الخاص. وإذا كان البعض يثير احتمال أن الآية واردة على نحو الحكمة لا على نحو العلة ، فإننا نرّد عليه بأن الحكمة النوعية تمثل علة للتشريع العام ، على أساس تحقيق المصالح الكبرى للإنسان وإبعاد المفاسد النوعية المهمّة عن الواقع ، بحيث تنعدم المصالح أو المفاسد الصغيرة أمام ذلك.

وفي ضوء ذلك ، نستطيع استيحاء ما ذكر في حكمة تشريع العدة ، أنه عدم اختلاط المياه في عملية النكاح من حيث التناسل والتوالد ، لأن الزواج بعد الطلاق قد يؤدي إلى الحيرة في إلحاق الولد بالزوج الأول أو الثاني. فإذا كانت هذه الحكمة واردة في التشريع ، فيمكن أن تسري إلى كل ما كان من هذا القبيل.

وربما نستوحي ذلك في مسألة تعليل حرمة الخمر بالإسكار ، فإنها واردة على أساس المسألة النوعية ، من جهة الإسكار الفعلي ، ولذلك قرر الفقهاء بأن «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، كما قرروا حرمة شرب الخمر في الموارد التي يملك الإنسان فيها المناعة من السكر ، لاعتياده عليه بالمستوى الذي لا يؤثر فيه كما في بعض المدمنين ونحو ذلك.

٢٢٦

وعلى هذا ، فيمكن الحكم بتحريم التدخين الذي ثبت علميا بأن ضرره أكثر من نفعه ، بل ربما يكون مما لا نفع فيه ، وقد يتحدث الأطباء الاختصاصيون بأنه ، في المسألة النوعية ، يؤدي إلى التهلكة لعلاقته بالسرطان أو ببعض أمراض الرئة ونحوها بالدرجة التي يغلب فيها الموت ، ويمكن الحكم بتحريم المخدرات كالأفيون والحشيشة والهيرويين ونحوها مما ثبت علميا وحسيا أنها تدمر حياة الإنسان ، لأنها تقود إلى الإدمان الذي يتحول فيه الإنسان في أغلب الحالات إلى إنسان مشلول الفكر والحركة والإنتاج ، وقد نجد أن أضراره من الناحية النفسية والعملية والاجتماعية أكبر من أضرار الخمر بكثير. وهكذا نستطيع ـ بفضل هذه القاعدة ـ أن نحكم بتحريم الكثير من الأشياء والأفعال التي تشتمل على هذه الخصوصية التي قررها القرآن في هذه الآية.

إننا نثير هذه الملاحظة الفقهية للمناقشة العملية ، لما تمثله من نتائج مهمة في الشريعة.

* * *

الاية في خط الدعوة والتربية

وقد نستطيع استيحاء هذا الأسلوب في حركة الدعوة ، بأن نثير أمام الناس إيجابيات القضايا بالإضافة إلى سلبياتها ، سواء كان ذلك في المسائل التي يطرحها الإسلام في مفاهيمه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، أو التي يؤمن بها الآخرون مما لا يؤمن به الإسلام في شريعته. فإن التأكيد على الإيجابيات في جانبنا ، والسلبيات في جانب الآخرين ، يوحي بالتعصب للموقع الذاتي ضد مواقع الآخرين ، بينما يمثل التوازن بين الخطين الاعتدال والموضوعية والعدالة في النظرة إلى مواقع الخلاف ، الأمر الذي يجتذب الناس

٢٢٧

إلى الإسلام ، انطلاقا من أسلوبه العقلائي الموضوعي القائم على احترام عقل الآخر وموقعه وانتمائه بحيث تكون قضية الصراع قضية تجاذب فكري ، وحركة إنسانية في دارسة الأفكار المختلفة ومناقشتها ، والتأكيد على أن الحوار الموضوعي هو الأسلوب المنتج في إيصال الناس إلى مواقع الحق في قناعاتنا الفكرية.

وهو أسلوب تربوي لا بد من تحريكه في خط المنهج التربوي ، الذي يربي الإنسان المسلم على أن لا ينظر إلى الأمور من جانب واحد ، لتكون الحياة دائرة بين الأبيض أو الأسود بشكل مطلق ؛ فلننظر إليها من كل جوانبها ، فهناك الواقع الذي يحمل اللونين معا ، اللذين قد يلتقي أحدهما مع الآخر بدرجة متساوية ، وقد يغلب أحدهما الآخر فيعطي للفعل أو للشيء صورته الغالبة ، الأمر الذي يفرض على الإنسان أن يوازن بين الجوانب ، ليكون اختياره منطلقا من دراسة مقارنة ، فلا يخضع للحالات الانفعالية السريعة ولا للنظرة الارتجالية العابرة ، بل يخضع للعمق الفكري الذي ينفذ إلى جوهر الشيء ولا يقتصر على سطحه ، فيكون اختياره خاضعا للنتيجة الحاسمة في هذه الموازنة بين الأمور.

وهذه الآية توحي بفكرة عامة وهي أنه ليس هناك إيجاب مطلق أو سلب مطلق في الحياة ، لأن كل ما في الكون من موجودات وأفعال هو محدود بحدوده الذاتية والزمانية والمكانية. والله ـ وحده ـ هو المطلق ، لذلك ليس هناك خير لا شر فيه ، ولا شر لا خير فيه. فقد يختزن الخير بعض الشر في ذاته ، وقد يختزن الشر بعض الخير في مورده ، لأن طبيعة الحدود تفرض ذلك ، فتكون خيرية الشيء برجحان جانب الخير فيه كما تكون غلبة الشر برجحان جانب الشر فيه ، ولا قيمة للعنصر المغلوب أو الضعيف هنا في مسألة التشريع.

إن هذه النقطة لا بد من التركيز عليها في ما يواجهه المسلمون من النقد ،

٢٢٨

الذي قد يوجهه الكافرون من إثارة النقاط السلبية في بعض المفاهيم أو التشريعات الإسلامية ، مما قد يجعل الدعاة والمبلغين في موقف حرج شديد الصعوبة ، عند ما يجدون صحة هذا النقد في واقع الإسلام في مفاهيمه وأحكامه ، ولكننا ـ أمام الملاحظة المذكورة ـ نجد أن اعترافنا بوجود السلبيات في التشريع أو في المفهوم الإسلامي ، لا يعني سقوط التشريع أو خطأ المفهوم ، لأن ذلك يمثل واقع الحياة في كل حقائقها الفكرية أو العملية ، ولذلك فإن علينا مواجهة المسألة بالحديث عن الإيجابيات الكامنة في داخل الحقيقة الإسلامية ، مع غلبة هذا الجانب الإيجابي على الجانب السلبي. وبهذا نتفادى الكثير من المآزق الجدلية ومن ضعف الموقف ، لنحوّله إلى مأزق للآخرين وإلى موقع قوة يرتكز على النظرة العلمية الموضوعية للأشياء والمواقف.

* * *

العفو من الإنفاق

(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) : جاء في الدر المنثور في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن ابن عباس : «أن نفرا من الصحابة ، حين أمروا بالنفقة في سبيل الله ، أتوا النبي فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا ، فما ننفق منها؟ فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به»(١).

وسألوه عما ينفقون من أنواع الأطعمة والألبسة والأموال ، فلم يحدد لهم شيئا في الجواب ، لأن تعيين ذلك لا يمثل شيئا في حساب القيمة الأخروية عند

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٦٠٧.

٢٢٩

الله ، ما دامت القضية ترتكز على حل مشكلة الفقير من خلال التكافل الاجتماعي من جهة ، وعلى تربية المؤمن على روح العطاء من جهة أخرى. ولذلك اكتفى بكلمة (الْعَفْوَ) التي تعني الفضل.

(قُلِ الْعَفْوَ). وقد اختلف المفسرون في تطبيق هذه الكلمة على الواقع العملي ، فقال بعضهم : إنه ما فضل عن الأهل والعيال ، أو الفضل عن الغنى. وقال بعضهم : إنه الوسط من غير إسراف ولا إقتار ، وهو المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام. وقال بعضهم : إنه ما فضل عن قوت السنة (١) ، وهو المروي عن الإمام محمد الباقر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تلتقي هذه المعاني حول معنى واحد ، وهو أن لا يترك تأثيره على حاجاته الأساسية مما يتصل بمسؤولياته عن نفسه وعياله على النحو المتعارف.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على حقائق الأشياء مما يتعلق بالتشريع في مسئولياتكم العامة والخاصة ، فتتعرفون حكمة الله في تشريعاته في أقوالكم وأفعالكم ، ليظهر لكم كيف يريد صلاحكم. كما يبين لكم الآيات المنتشرة في الكون في كل مخلوقاته الجامدة والنامية والحية التي تكشف لكم عن عظمة الإبداع وسر الخلقة ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) وتهتدون بالفكر المتحرك الباحث عن كل حقيقة في الأرض وفي السماء وفي الحياة والإنسان ، فتحصلون على الثقافة العلمية التي تنمّي مدارككم وفهمكم وانفتاحكم على حقائق العقيدة والإيمان ، (فِي الدُّنْيا) ليتعرفوا كيف هي الدنيا في نطاق مسئولياتكم من حيث هي دار ممر لا دار مقر ، وساحة عمل لا ساحة لهو وعبث ، ومزرعة للآخرة لا غاية في ذاتها ، لتتحركوا فيها في ما تفعلون وتتركون في هذا الاتجاه لتحقيق تلك الغاية. (وَالْآخِرَةِ) التي هي دار الحيوان والخلود ، فسعادتها هي السعادة وشقاؤها هو الشقاء ، فلا بد لكم من الاستعداد لها لتواجهوا نتائج المسؤولية بين يدي الله.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٥٨.

٢٣٠

وهذا هو الإيحاء الإيماني الدائم ، الذي يوحي به الله للإنسان ، ليكون على وعي دائم لنفسه ولحركته في الحياة في الدنيا والآخرة ، بعيدا عن أية حالة غفلة أو نسيان.

وهناك نقطة ثانية ، لا بد من الانتباه إليها ، وهي أن الدعوة إلى التفكير التي تشمل العمل على أساس الوصول إلى معرفة حكمة التشريع وعلل الأحكام ، توحي بأن الإسلام لا يريد للإنسان أن يبتعد عن السعي للتعرف على المفاهيم الإسلامية والعقائد الإيمانية والأحكام الشرعية ، وذلك كي يصل إلى حقائقها وأسرارها بالفكر العميق ، ليزداد بذلك إيمانا وهدى ، فلا يكلف الإنسان الإنفاق من ضرورياته المعاشية ، بل يكفيه ـ في إطاعة هذا التشريع ـ أن ينفق مما يزيد عن حاجاته الأساسية ، وبذلك كان الإسلام منسجما مع الطبيعة البشرية التي قد لا تستجيب للإيثار دائما ، وإن كانت قد تسير معه في بعض مراحل الحياة. وقد كان ختام الآية دعوة للتفكير في آيات الله التي يبينها للإنسان ، ليفكر فيها فيهتدي بها إلى سواء السبيل.

* * *

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) كيف تكون علاقاتهم معهم ، في ما يفعلونه في أموالهم وتربيتهم ورعايتهم؟ فقد كانوا يمثلون مشكلة أساسية في الضمير الديني للإنسان المسلم ، فقد يتحرّج الكثيرون من التعامل معهم خوفا من الإثم.

فقد جاء في الدر المنثور ، قال ابن عباس : لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى)

٢٣١

[النساء : ١٠] الآيتين ، انطلق كل من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجلس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم (١).

فكان الجواب تحديدا للخط العام والإطار الشامل لذلك : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) فلا بد من دراسة كل أمورهم في نطاق الإصلاح لدنياهم وآخرتهم ، لأنهم أمانة الله لدى المجتمع ، فعلى أفراده أن يراعوا جانب الصلاح معهم ، كما يراعون ذلك في جانب الأمانة العادية في ما يتعلق بحفظها ورعايتها. وقد تكون القضية أبعد عمقا وتأثيرا في جانب اليتامى ، لأن إصلاح أمر الإنسان الذي لا يملك تدبير شؤونه ورعايتها قد يدخل في تعقيدات كثيرة تحتاج إلى المزيد من الدقة والتأمل والإيمان ، لئلا يفسد الإنسان الأمر من حيث يريد إصلاحه ، أو يفسد الأمر الصالح من حيث لا يريد إفساده.

ثم أكد القضية من جهة أخرى ، فأثار أمامهم موضوع المخالطة لهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) ، وأراد من المسلمين أن يخالطوهم من موقع الشعور بأنهم إخوة في الدين ، كما يخالط الأخ أخاه في النسب من حيث احترامه له ورعايته لأموره ، وحفظه لماله على هدى قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء : ٢]. وأن لا ينظروا إليهم نظرة فوقية إشفاقية من خلال ضعفهم الطبيعي وحاجتهم الملحّة إليهم ، فإن ذلك يثقل على نفوسهم ، ويهدّم معنوياتهم ، ويعقّد حياتهم ، ويعطّل نموهم الطبيعي في الحياة. وربما كانت هذه الفقرة واردة في الإذن لهم في ما كانوا يتحرجون فيه من مخالطتهم في المأكل والملبس والمشرب ونحو

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٦١٢.

٢٣٢

ذلك ، ورخصة لهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام. وعن الحسن وغيره. وهو الوارد والمروي في أخبارنا ـ كما في مجمع البيان (١) ـ.

وتختم الآية الجواب بتعميق الإحساس بقضية الممارسة الواعية لإصلاح أمر اليتامى ، (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ، وذلك بالإيحاء بأن الله يراقب عمل الإنسان في داخل النفس وخارجها ، ويعلم المفسد من المصلح في ما يقومان به من الإفساد والإصلاح ، ويحاسب كلا منهما على ما عمله من خير أو شر.

ثم أكّد عليهم بأن الله يريد للناس من خلال تشريعاته أن يحقق لهم الانسجام والراحة والطمأنينة ، فتلك هي مشيئته في ما يريد للناس من حياة ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لأوقعهم في العنت ، وهو المشقة. وفي ضوء ذلك ، لا بد للإنسان من أن يفهم التشريع في كل ما يحلّله وما يحرّمه من أمور الحياة ، حتى في الأمور التي يشعرون معها بالتعب والمعاناة ، فإن نتائج ذلك لا تبتعد عن مصالحهم الحقيقية.

وكانت خاتمة الآية (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) باعتبار أن عزته توحي بقوة مشيئته ، كما أن حكمته توحي بارتباط التشريع بمصلحة الإنسان.

وقد يستوحي الفقيه من قوله سبحانه : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أن التصرف في أمر اليتيم ، سواء كان متعلقا بماله أو بحياته الخاصة والعامة ، لا بد أن تكون فيه مصلحة له ، لأن ذلك هو الذي يتبادر من قوله : (إِصْلاحٌ لَهُمْ) كما يتبادر ذلك من قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] فلا يكفي في شرعيته أن لا يكون ذلك مفسدة له ، ولا بد من التأمل في ذلك ، وفي

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٥٩.

٢٣٣

كل مورد من موارد الولاية الشرعية المجعولة للإنسان على القاصر الذي لا يملك إدارة شؤون نفسه وتدبير أموره ، فإن القضية تتصل بإصلاح أمره ، وتنمية ماله ، وتوجيه حياته نحو النتائج الجيدة التي تحقق له المصلحة في كل أموره.

* * *

٢٣٤

الآية

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١)

* * *

معاني المفردات

(تَنْكِحُوا) : قال الراغب : أصل النكاح العقد ، ثم أستعير للجماع ، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم أستعير للعقد ، لأن أسماء الجماع كلها كنايات ، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه (١).

والظاهر أن المراد بالعقد هو علاقة الزوجية ، لا العقد اللفظي المعهود

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٢٦.

٢٣٥

كما ذكر في الميزان (١).

(الْمُشْرِكاتِ) : اسم فاعل من الإشراك ، بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه ، وهو ذو مراتب مختلفة من حيث الظهور والخفاء.

(وَلَأَمَةٌ) : الأمة : المملوكة التي تقابل الحرة ، وقيل : المرأة لأنها أمة الله.

(أَعْجَبَتْكُمْ) : راقت لكم ، وعظمت بعيونكم لجمالها أو مالها أو حسبها. والعجب والتعجّب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ، ولذلك قيل : إذا عرف السبب بطل العجب.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مناسبة النزول ـ كما في مجمع البيان ـ أنها «نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان قويا شجاعا ، فدعته امرأة يقال لها عناق إلى نفسها ، فأبى وكانت خلة (٢) في الجاهلية ، فقالت : هل لك أن تتزوج بي؟ فقال : حتى أستأذن رسول الله. فلما رجع ، استاذن في التزوج بها ، فنزلت الآية» (٣).

* * *

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٥٢٦.

(٢) الظاهر سقوط الضمير من اللفظة ، والصواب : خلّته.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٦٠.

٢٣٦

الزواج بين الرغبة العاطفية والمصلحة الواقعية

في هذه الآية تأكيد على الأساس التشريعي للحكم بحرمة تزويج المشركات للمؤمنين وحرمة تزويج المؤمنات للمشركين. وهو التباين في النظرة بين المؤمنين وبين المشركين ، مما يوجب التباين في السلوك وفي الهدف ، فينعكس على الحياة الزوجية التي يجب أن تخضع للمودة والرحمة القائمة على وحدة التصور ، ووحدة الشعور بالهدف. فالمؤمنون يسيرون في اتجاه دعوة الله إلى الجنة ، التي تقتضي نمطا في السلوك وفي التفكير يختلف مع النمط في السلوك والتفكير الذي تقتضيه دعوة المشركين إلى النار. فكيف يمكن أن يتحقق الإخلاص للحياة الزوجية مع الالتزامات الروحية والفكرية والحياتية التي تفرضها العقيدة؟.

وقد يجدر بنا أن نفهم من الآية الكريمة ، أنها لم تجعل النهي عن الزواج ـ هنا ـ على أساس التعسف ، كما ربما يتوهمه بعض الناس ، حيث جعل الحكم ثابتا حتى لو كان على خلاف رغبة الناس وإعجابهم ، بل حاولت أن تقود الإنسان إلى الموازنة بين الرغبة العاطفية وبين المصلحة الواقعية للعقيدة والحياة ، لينتهي ـ بالنتيجة ـ إلى الاقتناع بأن الرغبة لا تمثل شيئا كبيرا بإزاء قضية المصير للإنسان في الدنيا والآخرة.

* * *

من هم المشركون في الآية؟

والظاهر أن المراد بالمشركين ، هم الذين يشركون بالله بشكل مباشر ، فلا يشمل الذين يتّصفون به بشكل غير مباشر ، كما يذكر عن أهل الكتاب الذين

٢٣٧

يقولون بربوبية عيسى ، أو أن الله ثالث ثلاثة ، ولكن بطريقة لا تتنافى مع التوحيد في زعمهم ، فإن المصطلح القرآني جرى على التفريق بين المشركين وأهل الكتاب في ما فصّل من أحكام ، وما أطلقه من لفظ ، فقد ورد في قوله تعالى ، في سورة البيّنة : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البيّنة : ١] وقوله تعالى ، في سورة البقرة : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة : ١٠٥] فإن العطف يدل على المغايرة بين الفريقين. وفي ضوء ذلك ، لا تدل الآية على حرمة التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب ، فلا بد من التماس دليل ذلك في غير القرآن ، في ما أجمع عليه المسلمون من حرمة زواج المسلمة بغير المسلم من كتابي وغيره ، وما اختلفوا فيه من زواج المسلم بالكتابية بين محلّل ومحرّم.

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة ، وهي قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٥].

وقد تبين فساد هذا القول مما ذكرناه في تحديد المراد من لفظ المشركين في القرآن وعدم شمولها لأهل الكتاب ، فلا تكون هناك علاقة بين الآيتين في مدلوليهما ، لأن آية البقرة واردة في حرمة نكاح المشركات اللاتي يشركن بالله غيره بشكل مباشر ، بينما كانت آية المائدة واردة في حلية نكاح الكتابيات دون غيرهن.

فليطلب ذلك من مظانه في الكتب الفقهية التي عالجت هذه المسائل بتفصيل. وتبقى لنا هذه الآية لتركز الخط الإيماني ، الذي تقوم عليه العلاقات

٢٣٨

الزوجية ، من أجل أن تكون أساسا لبناء بيت إسلامي يقوم على المحبة والمودة المرتبطة بالله في أجواء الإيمان والإسلام.

* * *

(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) فإن الله لا يريد للمسلمين الزواج من النساء اللاتي يعبدن الأصنام ويعتبرنها شركاء لله في حق العبودية ، لأن العلاقة الزوجية قائمة على الاتحاد الروحي ، والانسجام الفكري بين الزوجين ، بالإضافة إلى الاتحاد الجسدي. وهل يمكن قيام اتحاد بين الفكر التوحيدي والفكر الإشراكي ، أو حصول انسجام بين قيم الوحدانية وقيم الوثنية؟!. فإذا تبدل الشرك بالإيمان وانفتحت قلوبهن على الله وعلى دينه ، فلا بأس عليهم من الزواج بهنّ ، من خلال الانسجام الفكري المنفتح على اللقاء الروحي في الحياة المشتركة بينهم.

(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) المشركة بالصفات المتنوعة التي تجذب اهتمام الرجل وإعجابه ، كالمال ، والذكاء ، والجمال ، والحسب ، والموقع الاجتماعي ، والشرف العائلي ، لأن الإيمان يتميز على ذلك كله ، لأنه ينفذ إلى عمق الوجدان الإنساني في تصوراته وتطلعاته ومشاعره وأفكاره وعاداته وتقاليده وروحيته ، مما يترك تأثيره على العمق الداخلي للشخصية الإنسانية ، بحيث ينفتح العقل على العقل ، والروح على الروح ، والقلب على القلب ، والحياة على الحياة ، فتتداخل الشخصيتان ، لتؤلفا شخصية واحدة متنوعة الخصوصيات.

إن القيمة الإيمانية بكل عناصرها وامتداداتها وروحياتها ، هي الأساس في ثبات الحياة الزوجية بين المؤمنين والمؤمنات. وقد جاء في الحديث

٢٣٩

النبوي الشريف ، أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأمره في النكاح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، انكح وعليك بذوات الدين تربت يداك (١).

(وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) لأن المؤمنة لا ترتاح لدين المشرك في شركه ، ولا تأمن على دينها معه ، ولا تجد في الزواج به السكينة والطمأنينة الروحية والفكرية ... (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) المشرك في صفاته الجسدية ، والمالية ، والاجتماعية ، للأسباب ذاتها التي ذكرناها في الفقرة السابقة. وقد جاء في الحديث الشريف : «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه وإن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (٢).

وللأسرة والأولاد الدور الكبير في علاقة الإنسان بالسلامة الروحية في الدائرة الزوجية الإيمانية. إن الزوج المؤمن يمنعه إيمانه من الإساءة إلى زوجته ، كما أن الزوجة المؤمنة يمنعها إيمانها من خيانة زوجها ، لأن الإيمان يمثل الالتزام العميق بالقيمة الأخلاقية والمسؤولية الشرعية ، بينما لا يملك المشرك أو المشركة مثل هذه القيمة في أخلاقيات الشرك ، لأن الوثنية تغرق صاحبها في المنفعة المادية التي تتحرك بالإنسان هنا وهناك من دون ضوابط ، الأمر الذي يجعل العلاقة الزوجية في حالة اهتزاز دائم ، حيث تخضع المسألة للأخلاقيات الفردية الطارئة لدى هذا الإنسان أو هذه الإنسانة ، وذلك أن الزوج المشرك أو الزوجة المشركة قد يتميزان ببعض الأخلاقيات الذاتية بمحض الصدقة للحالة الطارئة بعيدا عن العمق الروحي.

إن العلاقة الزوجية هي علاقة من الداخل قبل أن تكون من الخارج. وقد أقامها القرآن على المودة والرحمة ، فلا بد لها من قاعدة في الروح تنتج هذين العنصرين الروحيين اللذين يحميان الحياة الزوجية من الاهتزاز والانهيار ،

__________________

(١) التهذيب ج : ٧ ، ص : ٤٠١ ، باب : ٣٤ ، رواية : ٩.

(٢) البحار ، م : ٣١ ، ج : ٨٨ ، ص : ٦٠٤ ، باب : ١١٩ ، رواية : ١٨.

٢٤٠