تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

الدَّاعِ إِذا دَعانِ) من كل عمق الإخلاص في قلبه ، وصدق المسألة في لسانه ، وحقيقة الإحساس بالفقر والحاجة في روحه ، وخفقة الإحساس في شعوره ، ورقة الدموع في عينيه ، ورعشة الخشوع في كيانه ... إنه الدعاء الذي ينبع من وجود الذات في إنسانيتها المؤمنة بخالقها ، المنفتحة عليه ، المستغيثة به ، المستجيرة بقدرته ، الراجعة إليه في كل أمورها ، من دون وسيط بل ، هو العبد بين يدي ربه ...

وإذا عاش الإنسان هذا الروح الإلهي في الدعاء ، كانت الإجابة قريبة منه لطفا به ورحمة له. وقد يؤخّر الله الإجابة لمصلحته ، لأن المسألة التي أرادها لم تتوفر عناصر وجودها في هذا الوقت من خلال الظروف الخاصة أو العامة ، أو لم تكن له المصلحة في الإجابة الآن ، وقد لا تتحقق الإجابة أصلا لأن مضمون الدعاء لم يكن مرضيا عند الله لاشتماله على طلب حرام ، أو ترك واجب ، أو مضرة إنسان لا يستحق إيقاع الضرر به ، أو لتعلقه ببعض الأمور التي لا تتناسب مع حركة النظام الكوني أو الاجتماعي العام ، ونحو ذلك ... فإن مسألة الإجابة ليست مطلقة من خلال رغبة الإنسان ومزاجه ، بل من خلال مصلحته ، لأن الاية واردة ـ على الظاهر ـ في التدليل على استجابة الله لدعاء الداعي من حيث المبدأ ، في مقابل عدم الاستجابة له مطلقا ، كما قد يحدث في بعض الناس الذين لا يستجيبون للطلبات المقدمة إليهم تكبرا وترفعا وتجبرا على الطالبين ، لتبين بأن الله يستجيب للداعين دعاءهم من موقع قربه إليهم ، وإلى ما يصلح أمرهم ويحقق لهم غاياتهم ، مع عدم وجود مانع ذاتي في متعلق الدعاء للإنسان أو لغيره من الناس أو للحياة من حوله.

وقد ورد أن من شروط استجابة الدعاء الإقبال على الله بقلبه ، بحيث ينفتح على الله بوعي الكلمة والموقف بين يديه ، فلا يستجيب دعاء اللاهي الغافل الذي يتحوّل الدعاء عنده إلى كلمات لا عمق لها في القلب. فقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن سليمان بن عمرو قال : سمعت أبا

٤١

عبد الله عليه‌السلام يقول : «إن الله عزوجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب (١) ساه (٢) ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة» (٣).

وجاء في بعض الأحاديث أن صاحب اللسان البذيء ، والقلب العاتي الجبار ، والنية غير الصادقة ، لا يستجاب دعاؤه. فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : كان في بني إسرائيل رجل ، فدعا الله أن يرزقه غلاما ثلاث سنين. فلما رأى أن الله لا يجيبه قال : يا رب أبعيد أنا منك فلا تسمعني ، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟! قال : فأتاه آت في منامه فقال : إنك تدعو الله ـ عزوجل ـ منذ ثلاث سنين بلسان بذيء ، وقلب عات غير تقي ، ونية غير صادقة ، فأقلع عن بذائك ، وليتق الله قلبك ، ولتحسن نيتك. فقال : ففعل الرجل ذلك ، ثم دعا الله فولد له غلام (٤).

ولعل لبذاءة اللسان أي ألفاظه ، وقسوة القلب في أحاسيسه ، دور في إبعاد الإنسان عن الله ، بحيث لا يعيش روحية الدعاء في موقفه البعيد عن خط التقوى.

وفي وصية الإمام علي عليه‌السلام لولده الحسن عليه‌السلام ، كما في نهج البلاغة قال : «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية. وربما أخرت عنك الإجابة ، ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الأمل ، وربما سألت الشيء فلا

__________________

(١) بظهر قلب : المشهور أن الظهر هنا زائد مقحم. وفي الحديث : لا صدقة إلا عن ظهر غنى أي : صادرة عن غني ، فالظهر فيه مقحم كما في ظهر القلب.

(٢) ساه : أي : غافل عن المقصود وعما يتكلم به غير مهتم ، أو غافل عن عظمة الله وجلاله ورحمته ، غير متوجه إليه بسرائره وعزمه وهمته.

(٣) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٤٧٣.

(٤) م. ن. ، ص : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٤٢

تؤتاه ، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله. فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له» (١).

ففي هذه الفقرات من الوصية أن الله ينظر إلى قلب الداعي في حجم القضايا التي يحملها ويتطلع إليها في أعماقه ، مما قد لا يعبر اللفظ عنه ، لأن اللفظ قد لا يدلّ على الافاق الواسعة التي ينفتح عليها القلب ، الأمر الذي يؤكد أن الدعاء في القلب قبل أن يكون في اللسان ، وبمقدار النية قبل أن تكون بمقدار المعنى المدلول عليه باللفظ ، فتكون الاستجابة على قدر النية.

وفي هذه الوصية أن الاستجابة قد لا تكون في دائرة المطلوب لأنها لا تحقق مصلحة للداعي ، أو قد تسبب مفسدة له ، ولكن الله لا يهمل للداعي تطلعاته للخير من خلال ما اعتقده خيرا في دعائه ، بل يختار له في مبدأ الاستجابة ما هو الأفضل والأوسع والأغنى في الدنيا أو في الاخرة. وهذا هو سر الرحمة الإلهية في رعاية الله لعبده الذي يمنحه الخير من خلال دعائه وتضرعه إليه ، حتى لو كان الدعاء في اتجاه آخر ، لأن المسألة هي أن يستجيب له في انفتاح الخير على حياته لا في مفردات الدعاء بذاتها.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) في كل نداءاتي ودعواتي وأوامري ونواهيّ ... التي أردت لهم من خلالها الصلاح في دنياهم وأخراهم ، لتكون حياتهم متوازنة منفتحة على الخير في كل أوضاعهم ، ولتنطلق آخرتهم في خط الاستقامة المنفتح على الله.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) وبربوبيتي الشاملة ، وبتوحيدي في الألوهية والعبادة والطاعة ، لأن ذلك هو الذي يؤكد الصلة بين العبد وربه ، ليعيش الحضور الإلهي في عقله وروحه وحياته ، وليدرك معنى القرب الذي يوحي به الله إليه ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، كتاب / ٣١.

٤٣

ليكون قريبا إلى ربه بالاستجابة له والإيمان به كما أن ربه قريب إليه ، وفي كلا الحالين تعود المنفعة له.

(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) لأنهم إذا استجابوا لله انطلقوا في خط الوعي للحياة في كل قضاياها العامة والخاصة ، ولإنسانيتهم في كل خصائصها الداخلية والخارجية ، وتحركوا نحو الأهداف من موقع الرشد العملي الذي يضع الأمور في مواضعها.

وإذا آمنوا به الإيمان العميق الشامل الذي ينطلق من سكينة العقل وطمأنينة الروح ، فإنه يقف على أرض صلبة ثابتة بعيدة عن الاهتزاز ، ويسير إلى الحياة من خلال انطلاق الوجود من مبدأ الإله الواحد الذي ينطلق الخير منه ، ويقف الحق عنده ، وتنطلق الرحمة منه ، مما يعني الانطلاق في خط الرشد الفكري الذي ينفتح على الله الذي هو الحق ، ليكون الفكر كله حقا لا مجال للباطل معه.

وإذا كان اعتبار الرشد هدفا من الاستجابة لله والإيمان به ، فإن من الممكن أن نستوحي من ذلك أن الله ـ سبحانه ـ يوجه عباده إلى السير على خط الإيمان بالله ، الذي يجعل العقل يشرق بالنور الإلهي ، ليتأسس التوحيد على قاعدة للفكر تبتعد به عن كل الآلهة المزعومين ، ممن يؤلّهون أنفسهم ، أو يؤلّههم الناس من دون الله ، ليستقيم لهم أن يوحدوا الخط العملي في خط الاستقامة ، وإلى الاستجابة لله في خطوط الإسلام الفكرية والعملية ، حيث يتحول الإنسان من خلال تأثير ذلك في الشخصية إلى إنسان رشيد في عقله وفي حركته وعلاقته بالآخرين ، بحيث يحرّك طاقاته في المواقع التي تمنح الحياة العامة ما تحتاجه منها ، فلا يضيع منها شيء في الفراغ أو في ما لا ينفع الحياة والناس ، سواء كانت الطاقات طاقات الإنسان في داخل ذاته ، أو في الزمن الذي جعله الله مسئولية الإنسان في الانتفاع به في كل مفرداته الصغيرة والكبيرة ، لأنه يمثل عمره في مراحله المتعددة ، أو في القوى المادية التي

٤٤

يملكها الإنسان مما رزقه الله إياه وأعده له وسخّره لخدمة حياته ، فلا يريد الله لها أن تضيع في متاهات اللهو والعبث الذي لا يؤدي إلى أية نتيجة في الحياة.

إن الرشد يمثل الحركة الإنسانية السائرة في النور ، لتصل بالطاقة إلى أهدافها التي خلقت لها في النتائج الكبرى التي تتحقق من خلالها في الحياة والإنسان ، ليكون السفه عبارة عن إهدار تلك الطاقة وتضييعها وإطلاقها في صحراء الفراغ.

* * *

٤٥

الاية

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧)

* * *

معاني المفردات

(الرَّفَثُ) : وأصله كلام متضمن لما يستقبح ذكره كالجماع ودواعيه وجعل كناية عنه.

قال الطباطبائي في تفسيره : وهو من أدب القرآن الكريم ، وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمسّ واللمس والإتيان

٤٦

والقرب ، كلها ألفاظ مستعملة عن طريق التكنية» (١).

ويمكن أن نلاحظ على ذلك ، أن التعبير بهذه الكلمات الكنائية الإيحائية كان منطلقا من استعمالها في كلام العرب للدلالة على هذه المعاني الفاحشة ، تماما كما هو التعبير بالكلمات الصريحة. وقد جاء في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحدث عن الجماع بالكلمات الأكثر وضوحا عند ما تمس الحاجة ، مما يوحي أن مسألة الاستقباح تابعة للعرف الحضاري الذي يختلف بين مرحلة وأخرى ، فإن الفحش في المعنى لا في الكلمة.

(لِباسٌ) : الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان. ولعل هذا التعبير ينطلق من استعارة لطيفة ، فإن كلّا من الزوجين يمنع صاحبه من اتباع الفجور ، فكأن كلّا منهما لباس لصاحبه بحيث يواري به سوأته ، ومنه جعل التقوى لباسا باعتبار أنه يمنع الإنسان من إظهار عيوبه بإبعادها عن حياته. وقد يكون للتعبير وجه آخر.

(تَخْتانُونَ) : تخونون عن قصد واختيار. قال الزمخشري : والاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب ، فيه زيادة وشدة» (٢). أما الراغب فيقول في مفرداته : «والاختيان : مراودة الخيانة ، ولم يقل : تخونون أنفسكم ، لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان. فإن الاختيان تحرّك شهوة الإنسان لتحرّي الخيانة» (٣).

(الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) : بياض النهار ، وأصل الخيط هو الخط الممتد المستقيم.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٤٥.

(٢) الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ١ ، ص : ٣٣٨.

(٣) مفردات الراغب ، ص : ١٦٢.

٤٧

(الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) : سواد الليل.

(تُبَاشِرُوهُنَ) : المباشرة الإفضاء بالبشرتين من خلال إلصاق البشرة ـ وهي ظاهر الجلد ـ بالبشرة. وكنّي به عن الاتصال الجنسي.

(حُدُودُ) : الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر ، يقال : سميت أحكام الله وشرائعه حدودا لمنعها عن التخطي إلى ما وراءها.

* * *

مناسبة النزول

وقد جاء في رواية علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبد الله ـ جعفر الصادق عليه‌السلام ـ قال : «كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان ، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقال له مطعم بن جبير ، أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكّله بفم الشّعب يوم أحد في خمسين من الرماة ، وفارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلا ، فقتل على باب الشّعب ، وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا وكان صائما ، فأبطأت عليه أهله بالطعام ، فنام قبل أن يفطر. فلما انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة ، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه ، فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرقّ له. وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان ، فأنزل الله هذه الاية ، فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٠٣.

٤٨

الصوم وحدود العلاقات الجنسية في شهر رمضان

في هذه الاية تحديد للأوقات التي تحرم فيها العلاقة الجنسية على الصائمين. فقد ورد في بعض الأحاديث أنها كانت محرمة عليهم في الليل والنهار ، وكان هذا التحريم حرجا عليهم حتى أن بعض الشباب كانوا يمارسونها سرا في الليل ، فيجدون في أنفسهم الشعور المهين بالخيانة. فجاء هذا التحليل في هذه الاية ليرفع ذلك عنهم ، في ما يأتي ، ويتوب عليهم ويعفو عنهم في ما مضى.

وربما كان في جو الاية ـ كما ورد في أسباب النزول ـ ما يوحي بالتشجيع على هذه الممارسة ، من أجل أن يفرّغ الصائمون أنفسهم من كل المشاعر الشهوانية التي تثقل وجدانهم ، فتشغلهم عن روحانية الصوم وأسلوبه العملي في التربية على التقوى ، لأن الله لا يريد للتقوى أن تتحرك في حياة الإنسان على أساس منهج القسر والضغط والشدة ، الذي لا يترك مجالا للإنسان ليتنفس أو ينفتح أو يواجه الموقف من موقع الطبيعة البشرية ، بل أرادها أن تنطلق على أساس الإرادة المرتكزة على الانفتاح على الشهوات من بعض الجهات ، لتنغلق عنها في الأخرى التي حرمها الله ، فيكون الالتزام بخط التحريم قريبا إلى طبيعة الإنسان في حركته في صعيد الواقع.

وفي ضوء هذا ، كان الصوم في النهار أسلوبا واقعيا عمليا ، لأنه لا يشل الحاجة الغريزية في الإنسان تماما ، بل يترك لها المجال لتشبع جوعها في الليل. وبهذا جاءت الفقرة القرآنية في قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) للإيحاء بشدة العلاقة التي تربط الرجل والمرأة ببعضهما البعض ، مما يوجب قلة الصبر عن الامتناع والاجتناب عن الحاجة الجنسية لأحدهما تجاه الاخر. وقد كنى عن الجماع بالرفث ، لأن الرفث هو الإفصاح بما يجب أن

٤٩

يكنى عنه ، ولا يخلو الجماع من ذلك ، كما في الكشاف (١).

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : تنقصونها حظها من اللذة بامتناعكم عن الجماع في الليل ، وخيانة النفس تكون في ظلمها بمنعها عما ترتاح إليه ، أو تكون بمعنى ممارسة المعصية تمردا على التحريم الذي كان مفروضا في ليالي الشهر بالإضافة إلى نهاراته ، فلا تؤدون الأمانة الإلهية بالامتناع عن الجماع ، (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) تخفيفا لما اشتد عليكم ، بإباحته لكم أو بالغفران لكم (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) بالليل لتحصلوا على حاجتكم الجنسية من دون تحريم ولا حرج. والأمر هنا بمعنى الإباحة لا الوجوب ، لأنه وارد بعد التحريم مما يكون قرينة على أن المراد به رفع التحريم ، لا الوجوب.

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الظاهر منه الولد باعتباره الغاية من العمل الجنسي غالبا ، بالإضافة إلى قضاء الشهوة ، أو للتشجيع على التناسل واعتباره غاية مطلوبة لذلك.

وهناك احتمال آخر وهو أن المراد : اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه بكتابه ، فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) فقد أباح الله لكم ذلك في الليل ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) أي : يظهر ويتميز لكم على التحقيق في وضوح الرؤية ، (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ما يمتد معه من غبش الليل ، كما في الكشاف (٢) (مِنَ الْفَجْرِ) الذي يبدأ طلوعه بالبياض ، الذي يبدو في الأفق.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) هذا تحديد لنهاية موعد الصيام ، وعدم تشريع صوم الوصال الذي يصل به الصائم ليله بنهاره بنية واحدة. (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ

__________________

(١) انظر : تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

(٢) انظر : م. ن. ، ج : ١ ، ص : ٣٣٩.

٥٠

وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) هذا استثناء من جواز الجماع والمباشرة في ليل الصوم ، فإنه لا يجوز للإنسان المعتكف في المسجد أن يمارس ذلك ، سواء كان ذلك في شهر رمضان أو في غيره. والاعتكاف عبادة خاصة ، يحبس الإنسان فيها نفسه في المسجد للعبادة ، فلا يخرج إلا لضرورة. ومن شروطها الصوم ، والاستمرار فيها ثلاثة أيام. وأحكامها مذكورة في كتب الفقه.

* * *

لا تقربوا حدود الله

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) إن في هذه الاية إشارة إلى أن المحرمات هي حدود الله التي يجب أن يقف الناس عندها فلا يقربوها بممارستها والإقبال عليها ، وربما كان المقصود بحدود الله هي شرائعه في ما أحل وفي ما حرّم ، فتكون الاية كناية عن الوقوف عند الحاجز بين الحلال والحرام ، لئلا يصل الإنسان إلى الانتهاك للمحرمات كما ورد في بعض الكلمات المأثورة : «المحرمات حمى الله ، فمن حام حول الحمى أو شك أن يرتع فيه».

وربما كان التعبير بكلمة : (فَلا تَقْرَبُوها) بدلا من «ولا تتعدّوها» للإيحاء بعدم الاكتفاء بتركها بل بالابتعاد عنها. قال الزمخشري في الكشاف : «فإن قلت : كيف قيل : (فَلا تَقْرَبُوها) مع قوله : (فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ)؟! قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيّز الحق ، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيّز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيّزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعدا عن الطرف فضلا عن أن يتخطّاه» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٤٠.

٥١

ولا بد للإنسان من أن يعي جيدا كيف يثير الله أمامه حدوده التي لا يريد له أن يتجاوزها ويتمرد عليها ، من أجل أن يفهمها ويعرف كيف ينفذ إرادة الله في ما يرضيه وما يسخطه ، ليكون ذلك باعثا له على الالتزام والانضباط وبناء شخصيته على الأسس الشرعية التي تعطيه صفة التقوى في كل مجالات حياته الخاصة والعامة. وهذا ما يجب أن نتوفر عليه في مجالات التوجيه والتربية في بناء الشخصية الإسلامية ، وذلك بالتأكيد على الجانب الشرعي في قضايا الإنسان الصغيرة والكبيرة معرفة وتطبيقا ، لأن الاكتفاء بالمفاهيم العامة يجعل الإنسان غارقا في الضباب ، بعيدا عن الحدود الفاصلة بين الحق والباطل ، والكفر والإسلام.

* * *

٥٢

الاية

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨)

* * *

معاني المفردات

(تَأْكُلُوا) : الأكل : كناية عن الأخذ والاستيلاء ، أو مطلق التصرف مجازا.

(بِالْباطِلِ) : الباطل : هو الذاهب الزائل يقال : بطل إذا ذهب ، وقيل : الباطل هو ما تعلق بالشيء على خلاف ما هو به خبرا كان أو اعتقادا أو ظنا أو تخيّلا. وربما كان إطلاق الكلمة على هذا باعتبار أن ما كان على خلاف الحق والواقع لا ثبات له في مضمونه ، فهو في معرض الزوال من النفس إذا انكشف الأمر على حقيقته.

(وَتُدْلُوا) : الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء ، والمراد به هنا الإلقاء بالمال إلى الحكام رشوة للحصول على الحكم. وربما كان وجه

٥٣

المناسبة بين معنى الكلمة وبين المقام ـ وهو إعطاء المال إلى الحكام ـ هو استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء في البئر بالنسبة إلى من يريده ، كما يقول صاحب الميزان (١). وقال الطبرسي في مجمع البيان : «وفي تشبيه الخصومة بإرسال الدلو في البئر وجهان :

أحدهما : أنه تعلق بسبب الحكم ، كتعلق الدلو بالسبب وهو الحبل.

الثاني : أنه يمضي فيه من غير تثبيت ، كمضي الدلو في الإرسال من غير تثبيت (٢).

(فَرِيقاً) : الفريق هو القطعة المعزولة من الشيء ، سواء كانت من الناس أم من غيرهم.

(بِالْإِثْمِ) : الإثم : الفعل الذي يستحق به الذم ، كالظلم والتعدي عن الحق ، كما في شهادة الزور واليمين الكاذبة ونحوهما.

* * *

(لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)

جاء في الكافي عن الصادق عليه‌السلام في الاية : كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عزوجل عن ذلك (٣).

وفي الكافي عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (جعفر الصادق عليه‌السلام) قول الله ـ عزوجل ـ في كتابه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ)؟ فقال : يا أبا بصير إن الله ـ عزوجل ـ قد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ص : ٥٣.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٠٦.

(٣) الكافي ، ج : ٥ ، ص : ١٢٢ ، رواية : ١.

٥٤

علم أن في الأمة حكاما يجورون. إلّا أنه لم يعن حكام أهل العدل ، ولكنه عنى حكام الجور. يا أبا محمد أنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له ، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) [النساء : ٦٠] (١).

وفي المجمع قال : روي عن أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام : «يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال» (٢).

وهذا المنهج في التفسير جاء وفق الأسلوب الذي اتبعه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في التفسير بالمصداق للإشارة إلى المفردات التي ينطبق عليها العنوان العام ، من دون تخصيص الاية بهذا المورد أو ذاك. وهذا ما نلاحظه في هذه الروايات التي فسرت الباطل بالقمار تارة واليمين الكاذبة أخرى ، كما استوحت الرواية الثانية من الاية قضية التحاكم إلى حكام الجور والامتناع عن التحاكم إلى حكام العدل ، لأن أولئك قد يحكمون بغير الحق بالرشوة التي قد يطلبها الحاكم ويقدمها المرتشي إليه.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي : لا يتملك أيّ واحد منكم المال الذي لا يستحقه ، وذلك من خلال الوسائل غير الشرعية التي لا يرضها الشرع ولا يقبلها العقلاء ، سواء كان ذلك بالغصب والظلم أو القمار ونحوه ، فإن مسألة الحق في المال خاضعة لأسباب معينة جرى عليها العقلاء في الواقع الاجتماعي والاقتصادي في المعاملات العامة والخاصة ، وأمضاها الشارع أو لم يردع عنها ، مما يجعل الوسائل الأخرى تقع في حيّز الباطل الذي يحرم أكل

__________________

(١) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٤١١ ، رواية : ٣.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٠٦.

٥٥

المال والاستيلاء عليه من جهته ، (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) أي : تلقوا بها إلى القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس لإصدار الأحكام فيها ، وذلك قد يكون برشوة الحاكم الجائر المنحرف للحكم بالباطل ، وقد يكون بتقديم القضايا للمحاكم من خلال الحجة الباطلة ، والبينة الكاذبة ، والضغط القاسي ، واليمين الكاذبة ، للوصول إلى أخذ المال من غير حق بفعل الأساليب غير المشروعة. وقد روى المفسرون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال للخصمين : «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن (١) بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا ، فإنما أقضي له قطعة من نار. فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي ، فقال : اذهبا فتوخيا ، ثم أسهما (٢) ، ثم ليحلّل كل واحد منكما صاحبه» (٣).

وربما كان الظاهر من سياق الاية ـ على ما يخطر بالبال ـ أن المشكلة تتصل بالإدلاء بالأموال إلى الحكام ، بحيث تكون المسألة اتفاقا بين الاكل والحاكم للحكم بالباطل بواسطة الرشوة ونحوها ، لأن الاية تدل على الإدلاء بالأموال إلى الحاكم بمعنى تقريبها منه وجعلها في تصرفه ، ليحكم بها على مزاجه من خلال ما يقدم اليه منها من الحصة أو الرشوة. وهذا هو المستفاد من رواية الإمام الصادق عليه‌السلام الثانية التي ذكرناها في صدر تفسير الاية. وفي ضوء هذا لا مجال للاستدلال بالحديث المروي عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على عنوان الاية ، والله العالم.

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) من خلال الوسائل غير المشروعة

__________________

(١) ألحن : أفطن وأعرف وأقدر عليها من صاحبه.

(٢) أسهما : اقترعا أي : اقصدا الحق في القسمة وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من النصيب.

(٣) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٤٠.

٥٦

في الاستيلاء عليه ، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) واقع الحال الذي يوحي إليكم بأنكم على الباطل من دون أية شبهة ، مما يجعل جريمتكم أكبر لأن ارتكاب الحرام مع العلم أكثر خطورة وأعظم قبحا من ارتكابه مع الشك.

* * *

بين الملكية الفردية وأكل الحرام

وهذا تشريع جديد ، يضاف إلى التشريعات الإسلامية التي يراد من خلالها تنظيم الواقع الاجتماعي للمسلمين ، ولكنه تشريع يتعلق بالعلاقات المالية بينهم ، فإن الإسلام يقرّ الملكية الفردية التي تقتضي اختصاص كل فرد بحصته من المال الذي أعده الله وخلقه للإنسان ، ولكنه نظم له طريقة الاختصاص والتملك بطرق شرعية خاصة ، فأحل له ذلك بأسباب وحرم عليه بأسباب أخرى ، واعتبر كل سبب لا يقره الشرع باطلا لا يحقق ملكا ولا يبيح تصرفا ، ونهى الإنسان عن كل علاقة باطلة بكل ما تستتبعه من أوضاع وتكاليف ، وكنّى عن ذلك بالأكل باعتبار أن الأكل يمثل أولى الحاجات الطبيعية التي يقبل عليها الإنسان في وجوده لحفظ حياته. وربما كان التعبير ب (أَمْوالَكُمْ) إشارة إلى أن المال للجماعة ، ولكن الله جعل لكل فرد منه حصة خاصة يتصرف فيه بما يريد مما لا يسيء إلى مصلحة الآخرين ، الأمر الذي يؤكد الصفة العامة للمال من موقع تأكيده على الصفة الخاصة على أساس أن لكل منهما وظيفة ودورا لا يتعداه ولا يسيء في حركته العملية للآخر.

ولا بد لنا في هذا المجال من مواجهة كل علاقاتنا المالية بالوعي الشرعي الذي يميز بين الحق والباطل فيها ، في ما أباحه الله وما حرمه منها ، وذلك في ما يستحدثه الناس من التشريعات المالية في توزيع المال من جهة ، وفي أخذه من أصحابه من جهة أخرى ، كما نراه في تشريعات التأميم في

٥٧

الأوضاع الثورية التي قد تتفجر بها التطورات السياسية ، وفي ما ينحرف به السلوك في مجالات التطبيق الفردي والجماعي ، فإن على المسلم أن لا يندفع مع التيارات المتحركة في الساحة بعيدا عن حكم الله ، انطلاقا من الحالات الانفعالية في الثورة على الظلم والظالمين ، فإن تحطيم الظلم لا يمكن أن يحصل بظلم جديد آخر ، بل لا بد من أن ينطلق من موقع العدل المتمثل بالتشريع الإسلامي.

وقد تعرضت الاية ، في حركة التطبيق العملي لهذا الخط ، إلى ما يتعارف بين الناس من بذل الأموال لحكام الجور على طريق الرشوة ، من أجل أن يحكموا لهم بالباطل في ما يتنازعون فيه من قضايا الأموال والحقوق ، وما يقدمونه ضد بعضهم البعض من دعاوى باطلة ، فإن الاية تشجب هذا السلوك وتنبّه الناس إلى أن لا يقدموا أموالهم إلى الحكام على سبيل الرشوة ، من أجل أن يأكلوا فريقا من أموال الناس بالطرق غير الشرعية التي لا يكسب الإنسان منها إلا الإثم والعذاب عند الله ، الذي يعلمونه حقا في ما أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله.

وفي الاية لفتة موحية إلى الحكام بطريق غير مباشر ، في أن يمتنعوا عن أخذ ذلك ، باعتبار ما فيه من تزييف للحق بالباطل ومن الحكم بالمال إلى غير مستحقه ، مما يؤدي بهم إلى عذاب الله من جهة وإلى ضمان المال من جهة أخرى. وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تفيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال «لعن الله الراشي والمرتشي والماشي بينهما» (١) بالرشوة ، وفي بعضها أن الرشوة كفر بالله العظيم ، وفي بعضها أنها شرك.

وقد يكون من بين الموارد التي تشملها هذه الاية ـ ولو بالإيحاء ـ ما يتعارف عليه بعض الناس من توكيل بعض المحامين ، ليدافعوا عن الدعاوي

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٤٣٦ ، باب : ٣ ، رواية : ١١.

٥٨

الباطلة ، وليجدوا لهم مخرجا من القانون يمكنهم من خلاله ربح الدعوى على الإنسان البريء أو المظلوم ، وقد يكون من بينها ما يلجأ إليه بعض الناس من الرجوع إلى القانون الوضعي المدني ، الذي يحلل للناس بعض ما حرمه الله ، كما في القوانين التي تساوي بين الذكر والأنثى في الميراث ، وذلك للحصول على الحصة التي لا يحلها الشرع من المال ، فإن ذلك أكل للمال بالباطل من جهة ، وإدلاء بالمال إلى الحكام ولو بالواسطة من جهة أخرى ، في ما يتعلق بالمحامين الذين يحرم عليهم أخذ الأجرة على ذلك كما يحرم على الآخرين دفعها إليهم ، لأن ذلك باطل بباطل.

* * *

٥٩

الاية

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩)

* * *

معاني المفردات

(الْأَهِلَّةِ) : جمع هلال ، وهو القمر ، يبدو دقيقا في ليلتين أو ثلاث من أول كل شهر ، ثم يزيد حتى يمتلئ نورا. ثم يعود كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة كالشمس.

(مَواقِيتُ) : جمع ميقات ، وهو مقدار من الزمن جعل علما لما يقدّر من العمل.

(الْبِرُّ) : النفع الحسن.

(ظُهُورِها) : الظهر : الصفحة المقابلة للوجه.

٦٠