تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

يظلون في الموقع الصلب ، في ساحات التحدي الصعب ليشهدوا الله على أنهم صدقوا العهد وأكدوا الميثاق بجهادهم وتضحياتهم في سبيله ، ولم تأخذهم فيه لومة لائم.

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فهو الذي يتقبل منهم هذه النفوس المجاهدة التي تستقبل الموت بكل رضى واطمئنان ، انطلاقا من خط الواجب الذي تلتقي فيه الرسالة بالشهادة والشهادة بالنصر ، ويجزل لها الثواب في مستقر رحمته ورضوانه ، وهو الذي يجازيهم الثواب الكثير بالعمل القليل.

وقد يمكن لنا استيحاء الصورة في مجالها المتجسد في صورة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في ما يذكره الرازي في تفسيره ـ في ما نقله عنه صاحب تفسير الكاشف ـ قال : جاء في سبب نزولها ثلاث روايات ، منها أنها «نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام بات على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة خروجه الى الغار ، ويروى أنه لما نام على فراشه ، قام جبريل عليه‌السلام عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة» (١).

وقد جاء في التفاسير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد الهجرة إلى المدينة ، خلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خروجه إلى الغار ، وقد أحاط به المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه ، وقال له : اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي ، فإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك عليّ ، ويروي الثعلبي في تفسيره ـ كما ينقلها البحراني ـ هذه الرواية ثم يقول «فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل : إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ،

__________________

(١) الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٣ ، ١٩٩٠ م : ٣ ، ج: ٥ ، ص : ٢٠٤.

١٢١

فأيكما يؤثر أخاه؟ فكلاكما آثر نفسه على صاحبه : ألا كنتما مثل وليّي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ آخيت بينه وبين محمد نبيي ، فآثره بالحياة على نفسه ، ثم رقد على فراشه ، يقيه بمهجته. اهبطا إلى الأرض جميعا واحفظاه من عدوه.

فهبط جبرائيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرائيل يقول : بخ بخ ، من مثلك يا بن أبي طالب؟ والله يباهي بك الملائكة ، فأنزل الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية (١).

ولم تركز الآية على شخصية علي عليه‌السلام ، بل أطلقت التعبير (وَمِنَ النَّاسِ) لأن القضية هي أن الله يريد للنموذج ـ الفكرة أن ينطلق ليكون عاما في حياة الناس ، وذلك من خلال النموذج الأمثل في مقابل النموذج السيّئ الذي لا يفكر إلا بذاته وشخصه.

إننا نجد في حياة الإمام علي عليه‌السلام حركة الصورة في الحياة في ما يمثله هذا الإمام العظيم من طاقات رائعة في الفكر والتقوى والشجاعة والإبداع ، حيث فجرها بأجمعها في خدمة الإسلام والمسلمين ، بعيدا عن كل مصلحة ذاتية ، حتى قال : «ما ترك الحق لي صديقا» .. ولم يبدد أيّ واحدة منها في الترف أو الفراغ أو خدمة الذات ...

* * *

__________________

(١) البحراني ، هاشم ، البرهان في تفسير القرآن ، دار الهادي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٤ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ١ ، ص : ٢٠٧.

١٢٢

ماذا نستوحي من هذين النموذجين؟

أما ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدة أمور :

١ ـ أن نتعلم كيف نمنح الآخرين الثقة والتأييد والدعم ، من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر ، لأن الكلمات قد تخدع ، والمظاهر قد تغش ، ولكن المواقف التي تتحرك من خلال التجربة المريرة الصعبة لا تنطلق إلا من قاعدة الحق والإخلاص. ويبقى للآيات إيحاؤها العميق الذي يريد أن يعطي الفكرة من خلال عرض الصورتين المتقابلتين ، ليشعر الإنسان بأن للحياة أكثر من وجه وأن ظاهر الصورة قد لا يعبر عن واقعها في كثير من الحالات.

٢ ـ أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع ، من أجل أن نتابع الأول بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة في الحياة ، لتخليص الناس من فساده وبغيه وطغيانه واستكباره ، أما النموذج الثاني فنحاول متابعته بالتأييد والدعم والرعاية من أجل تقويته وتثبيته وتشجيع الإنسان على أن يحتذيه ويقتدي به في كل مواقفه ومنطلقاته ، لإفساح المجال أمام القيم التي يحملها والمواقف التي يمثلها أن تتحرك على الساحة بالخير والإصلاح والمحبة والإنسانية الودية الذكية.

٣ ـ أن نتمثل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث والنسل ، لنجعل منها أساسا للتعامل السلبي مع كل البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ، لنجابهها في ما نملكه من مواقع المجابهة كما نتمثل المبادئ الإيجابية التي تتلخص في أن يبيع الإنسان نفسه لله ابتغاء مرضاته ، لنؤكد الخط الإيجابي في الحياة السائر على هذا النهج في عملية تقوية وتأييد وتنمية ، مهما كانت الصعوبات التي تتحدانا ، والمشاكل

١٢٣

التي تحتوينا ، فإن ذلك هو الذي يحقق لنا معنى الالتقاء برضى الله في ما يحبه ، والابتعاد عن سخطه في ما يكرهه ؛ حتى نفهم من معنى الحب وعدم الحب ، الجانب العملي الإيجابي والسلبي من خط العمل ، لا الجانب الوجداني الداخلي الذي لا يلتقي إلا بالعاطفة الذاتية الواقعة في خط الانفعال.

* * *

١٢٤

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)

* * *

معاني المفردات

(كَافَّةً) : جميعا ، واشتقاقه في اللغة مما يكف الشيء في آخره. ومن ذلك : كفة القميص لحاشيته ، لأنها تمنعه من أن ينتشر ، وكل شيء جمعته فقد كففته.

١٢٥

(زَلَلْتُمْ) : تنحيتم عن القصد وعدلتم عن الطريق القويم. والزلة في الأصل : استرسال الرجل من غير قصد ، وقيل للذنب من غير قصد : زلة ، تشبيها بزلة الرجل.

(يَنْظُرُونَ) : النظر هنا بمعنى الانتظار. وأصل النظر : الطلب لإدراك الشيء. وإذا استعمل بمعنى الانتظار ، فلأن المنتظر يطلب إدراك ما يتوقع. وإذا كان بالعين فلأن الناظر يطلب الرؤية.

(ظُلَلٍ) : جمع ظلة ، وهي ما يستظل به من الشمس ، وسمي السحاب ظلة لأنه يستظل به.

(الْغَمامِ) : السحاب الأبيض الرقيق ، سمي بذلك لأنه يغمّ أي يستر.

* * *

الدخول في السلم : المعاني والإيحاءات

في هذه الآيات دعوة للمؤمنين بأن يدخلوا في الجو الإيماني الذي يحفظ لهم في الحياة الوحدة التي لا خلاف فيها ، فلا نزاع ولا خصام على أساس من تعاليم الإسلام وتوجيهاته ومفاهيمه وأحكامه. ولكن كيف نستفيد ذلك منها؟! هذا ما نحاول أن نعرضه ونستوحيه بتفصيل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) فإن الإيمان يفرض على صاحبه الالتزام بالخط الإلهي الذي رسمه الله في دينه ، في مناهجه وشرائعه.

وقد انطلقت الكلمات المفسرة في تحديد معنى كلمة (السِّلْمِ) بين ثلاثة اتجاهات ، فقد فسرها الكثيرون بالإسلام ، وفسرها البعض بالصلح أو ترك المنازعة والخلاف ، وفسرها آخرون بالطاعة التي تختزن معنى الاستسلام ، ويقصد بها استسلام الإنسان لربه بطاعته له وانقياده لأوامره ونواهيه ، بحيث

١٢٦

يبتعد عن الاستغراق في ذاته ، باستغراقه بالخضوع لربه. وهذا ما يؤدي إلى السّلام مع نفسه ومع ربه ومع الناس ومع الطبيعة والحياة كلها.

وبذلك اختلف مفهومهم لكلمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، لأنّ التفسير الأوّل لكلمة السلم يخلق مشكلة بيانية ؛ فإذا كانوا مؤمنين ، فكيف يطلب منهم أن يدخلوا في الإسلام؟! فحاول بعضهم أن يفسر (الَّذِينَ آمَنُوا) ، بمن آمن قولا لا عقيدة وهم المنافقون ، وبذلك تكون الدعوة في الآية إلى الالتزام العملي بالإسلام والإيمان به.

وذكر الطبرسي في تفسيره أن المراد به : دوموا في ما دخلتم فيه كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ) (١) [النساء : ١٣٦].

وحاول البعض أن يفسره بأهل الكتاب ، فتكون دعوة إلى دخولهم في الإسلام. ولكننا لا نجد في جو الآية ما يوحي بأي من المعنيين ، بل ربما نلاحظ في استعراضنا للآيات التي استعملت فيها كلمة السلم أن الأقرب إلى الجو هو المعنى الثاني. كما نلاحظ على التفسيرين لكلمة (الَّذِينَ آمَنُوا) ، أن الظاهر من الآية الكريمة : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] هو إرادة الإيمان الذي يطابق فيه القول الفعل ، فكيف نحمل الكلمة على خلاف ذلك؟ أما حملها على أهل الكتاب ، فيتنافى مع المصطلح القرآني الذي جعل كلمة (الَّذِينَ آمَنُوا) مقابلة لأهل الكتاب والمشركين ، كما توحي به الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى) [الحج : ١٧] وفي ضوء ذلك ، لا نجد هناك وجها يبرر إرادة معنى الإسلام من كلمة (السِّلْمِ) ، مما يعني عودة المشكلة البيانية من جديد ، كما أن حمل كلمة الدخول على الدوام في ما دخلتم فيه خلاف الظاهر من دون قرينة.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٣٦.

١٢٧

وفي هذا الجو ، يمكننا أن نؤكّد ثانيا إرادة المعنى الثاني ، لأن ذلك ما نفهمه من كلمة (السِّلْمِ) التي تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جو الصراع والخلاف والقتال ، فكأن الآية تدعو إلى الدخول في أجواء السلم التي تلتقي بالوقوف على الخط الواحد الذي تجتمع عليه الأمة بعيدا عما يفرّقها ويوزّعها أشتاتا متنازعة مختلفة ، تماما كما هو جو الآية الكريمة : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣].

ثم نلاحظ التركيز في أكثر من آية من آيات القرآن على التحدث عن الأمم السابقة التي جاءها العلم ، ولكنها اختلفت في ما بينها فضلّت وأضلّت ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩] وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥] وغيرهما من الآيات التي توحي بالخط القرآني الذي يؤكد على عدم الخلاف بين أبناء الأمة الواحدة في قضايا دينها وحياتها ، ويعمل على أن يجعل من بني إسرائيل النموذج الحي الذي دمرته الفرقة الخاضعة لأهواء التيارات الذاتية والفئوية المدمّرة ؛ وذلك من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع الذي يبني له السلم حياته في سائر جوانبها العامة والخاصة ، وهذا ما يدفعنا إلى استيحاء هذا المعنى من الكلمة في نطاق الجو القرآني العام. فإذا أضفنا إلى ذلك انسجامه مع استعمال كلمة السلم في الآيات القرآنية في هذا المعنى ، أمكننا أن نقترب من الاطمئنان للفكرة ، وذلك كما في قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [الأنفال : ٦١] وقوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٥]. ومن خلال ذلك نستوحي انطلاق الآية في هذا الاتجاه الذي هو الشرط الأساسي لسلامة استمرار الخط الإسلامي في الحياة. فعلى المؤمنين أن يعيشوا في أجواء السلم في علاقاتهم ببعضهم البعض ، في المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، فلا يفسحوا المجال للخصومة

١٢٨

والنزاع أن يحكما حياتهم ، لا سيما الخلافات المذهبية في داخل الدين الواحد ، فإنها تفرق الناس ، وتجعل من كل فئة من الفئات قوة تخاصم الفئة الأخرى ؛ فيؤدي ذلك إلى ضعف الدين ، لأن كل طاقة دينية تضرب طاقة دينية أخرى ، تساهم في النتيجة في إهدار الطاقات الدينية لمصلحة القضايا الشخصية.

ولعل من الطبيعي أن يكون الاتجاه إلى السلم مرتبطا بالانسجام مع المفاهيم الإسلامية التي تحكم حياة الناس ، وذلك من خلال الأساس الفكري الذي يجمعها ويوحّد خطأها ويشعرها بأنها تلتقي عنده. وفي هذا النطاق يمكننا أن نستوحي من الدخول في السلم الالتقاء على خط الإسلام الواحد ، لا كمفهوم من الكلمة ، بل كنتيجة للمفهوم المرتكز على الوفاق ؛ فإن السلم الذي يقوم على المجاملة والعاطفة ، وينطلق من إخفاء العقد الذاتية ، ومن الهروب بعيدا عن المشكلة ، لا يمكن أن يثبت أمام التجربة ، ويصمد أمام الرياح والعواصف.

وهكذا يفهم الإسلام قصة السلم في الواقع ، وذلك في نطاق الوحدة الفكرية والشعورية التي تتحرك نحو الوحدة العملية الواقعية. وربما كان ابتداء الآية بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، إيحاء بذلك ، لأن الإيمان يوحي للمؤمنين بوحدة المنطلق والطريق والهدف ؛ الأمر الذي يربط الوحدة بالجذور العميقة للانتماء ، ويبعدها عن الارتماء في أحضان الكلمات السطحية الغارقة بالضباب ، فيفجر كل الأشياء في الداخل ، لتتحول إلى الهواء الطلق والنور الباهر.

والمراد بكلمة (كَافَّةً) جميعا ، بمعنى أن لا يبتعد أي واحد منهم عن الدخول في هذا العنوان الكبير. وهناك احتمال بأن المقصود به ادخلوا في السلم كله ، أي في جميع شرائع الإسلام ، ولا تتركوا بعضه. ويؤيّد هذا القول ما روي أن قوما من اليهود أسلموا وسألوا النبي أن يبقي عليهم تحريم السبت

١٢٩

وتحريم لحم الإبل ، فأمرهم أن يلتزموا جميع أحكام الإسلام ـ كما جاء في مجمع البيان (١) ـ. ولكن هذا خلاف الظاهر ، كما ذكرناه من استبعاد إرادة الإسلام من كلمة (السِّلْمِ) أولا ، وثانيا لأن كلمة (كَافَّةً) لا تستعمل ، غالبا ، إلا في موقع الكلمة الدالة على الجمع لفظا ومعنى ، مع أن كلمة (السِّلْمِ) ظاهرة في المفرد ، وتقدير كلمة الأحكام خلاف الظاهر.

* * *

خطوات الشيطان تصادر خطوات السّلام

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فإنه يبعد المؤمن عن خط إيمانه بالاستغراق في أجواء اللهو والغفلة ، فيتجمد إيمانه في داخل ذاته بعيدا عن حركة الحياة من حوله ، ليجعل كل الخطوات متحركة في طريقه السائر نحو الضلال والكفر والانحراف ... وذلك بما يثيره في النفس من وساوس الشر ، ونوازع الشك ، وعوامل الانحراف ؛ فيفقده وعي الإيمان ، فيرى الحق باطلا والباطل حقا ، وتضطرب مقاييسه عند ما يختلف لديه ميزان الرؤية للأشياء. ولعل من بين هذه النتائج السلبية لذلك ، هو ما نواجهه من حرب المؤمن للمؤمن باسم الإيمان ، بتسويل الشيطان له بأنه يحارب الانحراف لدى المؤمن ، ولكنه لو دقّق النظر ، لاكتشف أنه يعاديه على أساس مزاجه الشخصي وهواه الذاتي.

وربما كان من مظاهر ذلك ما نواجهه من إثارة الخلافات المذهبية والطائفية بين المسلمين ، بالمستوى الذي يؤدي إلى التخاصم والتنازع في المجالات العامة ، بحجة الدفاع عن الحق ، في ما يوحيه الشيطان للمعتدي ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٣٧.

١٣٠

بينما تكون الساحة مثارا لخطط كافرة جهنمية تتحرك من مواقع الاستعمار تارة ، وقواعد الكفر أخرى ، مما يجعل من إثارة هذا الجو أساسا لتنفيذ كل مخططاته القريبة والبعيدة من دون شعور وانتباه ؛ تماما ككثير من كلمات الحق التي يقصد بها الباطل أو تتحرك في خدمته.

وفي ضوء ذلك ، كان التأكيد الدائم من الله في آياته على مراعاة الدقة في التعامل مع الشيطان في كل خطواته ، لأنه يسلك أخفى الطرق وأدق الوسائل في النفاذ إلى وعي الإنسان وفكره ، بحيث يتركه ضائعا بين طريق الحق والباطل لتشابه المعالم والملامح بين الطريقين. وهذا ما نجده في بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) [الإسراء : ٥٣]. فقد كان التأكيد على القول الأحسن منطلقا من استغلال الشيطان لكل الثغرات الموجودة في جو الكلمة غير المدروسة ومدلولها وحروفها ، مما يمكن أن يثير بعض المشاعر والأحاسيس الذاتية المعقدة التي يمكن أن يتفاداها الإنسان بلباقة ، باستعمال كلمة أخرى تؤدي الفكرة نفسها بعيدا عن كثير من السلبيات بأسلوب أفضل وجوّ أحسن.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فهو لا يريد لكم الخير في وساوسه وتسويلاته وتزيينه ، بل يريد لكم الشر من خلال استغلال نقاط الضعف الكامنة في شخصياتكم ، ليستثير غرائزها في اتجاه الانحراف ، وأحلامها في الخطوط البعيدة عن الواقع ، سواء كان ذلك من الناحية الفكرية ، أم من الناحية العلمية ، فيصوّر لكم الباطل بصورة الحق لتتبعوه ، ويصور الحق بصورة الباطل لتتركوه ، لأنه يحسن تجميل الصورة القبيحة ببعض وسائله ، كما يتقن تقبيح الصورة الجميلة ببعض ألاعيبه. وهذا هو العنوان القرآني العام في كل حديث له عن الشيطان ، كما في هذه الآية.

١٣١

وربما كان التعبير ب (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يختزن في مضمونه الإيحاء ـ ولو من بعيد ـ بالتدريجية في طريقة الشيطان في أساليبه الخداعة المغرية ، بحيث يتحرك مع الإنسان خطوة خطوة ، ليؤدي به إلى الهلاك في نهاية المطاف ، إذ إن الإنسان إذا استغفر في الاندفاع في الطريق بالخطوة الأولى ، فإنها تجتذب الخطوة الثانية والثالثة إلى نهاية الطريق ، مما يفرض على الإنسان أن يعي الخطة الشيطانية منذ البداية عند ما يبدأ حركته في الطريق ، فإن الوعي في نقطة الانطلاق هو الذي يحمي الإنسان من نقطة النهاية ، لأن الوعي في الحركة الأولى يجتذب وعي الحركة في آخر الطريق.

وفي آية أخرى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦]. فقد نجد في هذا التركيز على العداوة إشارة إلى طبيعة الحاجز النفسي الذي يجب أن يعيشه الإنسان في كيانه ضد كل إيحاءات الشيطان ، ليثير من خلاله الريبة والشك وعدم الثقة ، من موقع العداوة المتأصلة ، ليفكر طويلا قبل أن يستسلم لأية كلمة أو فكرة أو حركة مهما كانت ظاهرة الصدق والبساطة والإيمان ، ليكتشف طبيعة الزيف أو الإخلاص في داخلها تبعا لوعي الفكر وذكاء الشعور ، ليرفض أو يؤيد من موقع المعاناة والتأمل العميقين.

وجاءت هذه الفقرة في هذه الآية (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لتوجه الإنسان إلى دراسة الطريق جيدا في كل خطواته ، لا سيما إذا كان الجو جو الدعوة إلى السّلام ؛ فإن الشّيطان يعرف كيف يسخّر الخطوات الساذجة لتسير في الاتجاه الذي يريده ، من أجل تخريب خطوات السّلام وإضاعتها في مهب الرياح الذاتية والحزبية والعصبية وغير ذلك من الأمور التي تفرق الناس وتشتتهم شيعا وأحزابا بمختلف الأسماء والألوان والأشكال ، كما ألمحنا إليه في بداية الحديث ، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نحدد الخط الفاصل بين أهداف الشيطان وأهداف الرحمن ، لنكتشف طبيعة الخطوات من خلال اكتشاف طبيعة

١٣٢

الأهداف ـ وقد تحدثنا بعض الحديث عن هذه الفقرة في ما تقدم من أحاديث هذا التفسير في آية سابقة ـ.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) فليس الزلل ، عند انسجامكم في خطوات الشيطان ، ناشئا من جهل أو عدم وضوح في الرؤية ؛ فقد قامت الحجة عليكم من الله في ما أقامه أمامكم من بيّنات ودلائل ، بما منحكم من عقول ، وربما أرسله إليكم من رسالات. وبذلك كان الخطاب إليهم بأن عليهم مواجهة الحقيقة الحاسمة ، وهي (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يستطيعون الانتقاص من عزته مهما عملوا وانحرفوا ، (حَكِيمٌ) لم يترك الأمور لتسير في أجواء العبث والفوضى ؛ بل جعل لكل شيء ـ ثوابا كان أو عقابا ـ حدا لا يتجاوزه في ما يفعل أو يدع.

* * *

المنحرفون ... ماذا ينتظرون ليستقيموا؟

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ). ماذا ينتظر هؤلاء المنحرفون الذين زلت بهم القدم ليستقيموا؟! فقد جاءتهم البيّنات التي تشير إلى خط الاستقامة مما يحقق لهم القناعة لو أرادوها ، فما ذا يريدون؟ هل ينتظرون العذاب ، الذي جاء ذكره هنا على سبيل الكناية ، لأن العذاب كان ينزل على الأمم السابقة من خلال النار التي تنزل عليهم من السماء ، أو من خلال العواصف والصواعق التي تتمثل فيها كل ألوان العذاب؟

أما التعبير بإتيان الله ، فقد يكون المراد منه إتيان أمره وإرادته ، أو إتيانه بلحاظ وجوده الحاضر في الكون ، باعتبار أنه المظهر لوجوده ، لأن كل الوجود

١٣٣

منبثق منه ومنطلق عنه. أما الملائكة ، فهم الذين يحملون العذاب عند ما يصدرون به عن أمر الله. هل ينظرون إلا أن يأتيهم العذاب؟! فإذا كانت هذه هي رغبتهم وتفكيرهم ، فهل يعرفون النتيجة؟ هل يعتقدون أن إتيان الله والملائكة في ظلل من الغمام ـ كما يتصورون ـ يترك مجالا للانتظار وللمراجعة؟ هل يعرفون أن معنى حدوث ذلك هو وصول الأمر إلى درجة الحسم النهائي الذي لا رجعة فيه؟.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ منه ، وهو المحاسبة وإنزال أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، وقيل : معناه وجب العذاب ، أي : عذاب الاستئصال ، وهذا في الدنيا ، كما في مجمع البيان (١).

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) في الثواب أو في العقاب ، كما كانت الأمور كلها إليه في الابتداء ، لأنه المهيمن على الأمر كله في الدنيا والآخرة.

وقد نستوحي من هذه الفقرات المثيرة في الآية ، أن القرآن يريد أن يثير أجواء الخوف في داخلهم من خلال هذا التساؤل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ).

جاء في تفسير الكشاف : «فإن قلت : لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت : لأن الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ؛ لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغمّ ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير؟! ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث. ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب الله قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)» (٢) [الزمر : ٤٧].

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٣٩.

(٢) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٥٣.

١٣٤

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فإن كل هذه المفاهيم توحي بالهول ، بما يثيره التأكيد على عزة الله واستبدال إتيان إرادة الله بإتيانه بالذات ، مما يعمق الشعور بعظمة الموقف ودقته. وهذا من الأساليب المتعارفة في القرآن في كل ما يستعمله من أساليب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه في موضعه ، كما في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] فكأن القرية بكل أحجارها وأشخاصها ومعالمها تعيش الحقيقة المتمثلة فيها ، حتى كأنه في مواقع السؤال تماما كأي مظهر عاقل من مظاهر الكون ، وكأن القيامة تلتقي بالله والملك الذين يقفون صفوفا بين يديه. فإن هذا الإيحاء بحضور الله بنفسه يوحي بالهول فوق الهول والرهبة فوق الرهبة ، بما لا يمكن أن يستوحيه الإنسان من خلال تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية بالأسلوب العادي البسيط. وإذا حدث مثل هذا الإحساس العميق بالرعب في نفسه ، كان الانضباط العملي منسجما مع المستقبل الحيّ الذي يريده الله للإنسان بعيدا عن كل انحراف والتواء وتمرّد.

وقد تشير الآية إلى سنّة من سنن الله التاريخية في المجتمعات والأمم التي تعيش التمزق الداخلي ، والتمرّد العملي ، والانحراف عن خط الله ، فإن الله ـ بمقتضى سنته في عباده ـ ينزل العذاب عليهم ، مما يعني أن هؤلاء القوم الذين يريدون تمزيق الأمة ، ويرفضون الدخول في السلم ، سوف يصيبهم العذاب كما أصاب الآخرين.

وقد ذكر بعض المفسرين أن الاستفهام هنا إنكاري ، فإن الآية تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول معقبة على الآيات السابقة : أليست كل هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصدّ الإنسان عن الانزلاق وإنقاذه من براثن عدوه المبين «الشيطان»؟.

هل ينتظرون أن يأتي الله إليهم مع الملائكة في وسط غمام ذي ظل ليطرح عليهم دلائل أوضح ، أو ليواجهوا الغيب في رؤية حسّية تمنحهم وضوح

١٣٥

الرؤية ، وهذا محال : ولكن المسألة لو كانت كذلك ـ أي في استحالة مجيء الله ـ لما كان هناك وجه لذكر الملائكة ، فإنه لا استحالة في إتيانهم ، لأنهم أجسام تروح وتجيء ، كما أنه لا معنى لكلمة : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) إلا أن يكون المراد به كما قال.

وإن افترضنا بالفرض المحال تحقق هذا الأمر ، فما الحاجة إليه ، بينما قضي كل شيء ولم يترك أي شيء؟! وهذا خلاف الظاهر ، لأنه يقتضي فرضا جديدا ، بينما ظهور الآية يدل على وحدة الموضوع والسياق ؛ والله العالم.

* * *

سل بني إسرائيل

قد يكون الحديث عن المستقبل في واقع هؤلاء الذين يتحدث الله عنهم بالزلل والانحراف ، غير كاف في إبعادهم عن ضلالهم ، فربما يكون للحديث عن الماضي ـ كتجربة حيّة للآخرين من موقع التجربة نفسها التي يعيشها هؤلاء ـ بعض الأثر. فقد كان تاريخ بني إسرائيل ماثلا أمام الناس في كل ما واجههم من قضايا الكفر والإيمان مع أنبيائهم ، وفي كل ما فعلوه ضد مسيرة النبوّة في تاريخهم القلق الدامي ؛ فلعل هذه الآية أرادت أن تطلب من هؤلاء الناس ، بأسلوب الطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجلسوا إلى بقاياهم ويسألوهم ، هل كان هناك نقص في البيّنات التي أنزلها الله عليهم؟! وليس المراد به الاستفهام ، بل المقصود هو تقرير الحقيقة من خلاله ، فإن الله قد أرسل إليهم رسلا كثيرين بالحجج الواضحة ، فكذبوا واستكبروا وواجهوا عقاب الله.

١٣٦

ثم تعطي الآية الإيحاء بأن البينة التي توضح للإنسان طريق الحق ، هي من نعم الله التي أنعمها على الإنسان ، وأراد منه أن ينسجم معها ، ويستجيب لها ، ولا يبدلها بالضلال في القول والعمل ، فإنه إذا بدّل الحق الذي توحي به الحجة بالباطل الذي لا حجة عليه ، فعليه أن ينتظر عقاب الله ، فلا يستسلم للاسترخاء بالشعور برحمة الله ، فإن الله شديد العقاب في موضع النكال والنقمة ، كما هو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة. وربما تكون الإشارة إلى بني إسرائيل وتاريخهم المتمرد ، لونا من ألوان الحديث عن خطوات الشيطان في إضلاله وفي إغوائه.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) هؤلاء الذين يمثلون نموذجا من الأمم التي تعيش التمزق الروحي والاجتماعي والضلال الديني ، (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) من البيّنات التي توضح لهم الحقيقة وتقودهم إلى الإيمان؟! وتلك هي النعمة التي ينبغي لهم أن يشكروها ، وينفتحوا على الله من خلالها ، فلا يكفروها. (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) في الإيمان (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) في وحي الله وفي حركة الرسل ؛ (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدنيا من خلال السنّة التاريخية التي تربط النتيجة بالمقدمات. فالكفر بنعمة الإيمان يجتذب النتائج السلبية على واقع الإنسان ، لأنه يبتعد به عن الخط المستقيم الذي يؤدي إلى الخير والسعادة والاطمئنان ، وذلك من خلال ما أودعه الله في الحياة الإنسانية من سننه التاريخية التي لا بد للناس من أن يأخذوا بها ليتعرفوا من منهج الحياة في ما يقبلون عليه من خير أو شرّ. وهو شديد العقاب في الآخرة جزاء على كفرهم بالحق لما جاءهم ، وانحرافهم عما يفرضه عليهم في سلوكهم في أنفسهم وفي واقع الناس ومع الله.

* * *

١٣٧

الفوقية الزائفة والفوقية الحقيقية

في موقف المؤمنين والكافرين في هذه الحياة ظاهرة بارزة ، وهي طغيان الكافرين واستسلامهم للحياة الدنيا بما زيّن لهم من شهواتها ورغباتها وطيباتها ، (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) بالمستوى الذي يشعرون معه أنهم يملكون الأمر كله فيها ، وبذلك تمتلئ قلوبهم بالكبر والشعور بالفوقية تجاه غيرهم من الذين يعيشونه الحياة من خلال قيمها ومبادئها وارتباطها بالله ... (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ويتحول هذا الشعور إلى سخرية من المؤمنين في ما يفعلون وما يقولون وما يواجهونه من تضحيات لحساب إيمانهم ، وفي ما يقدمونه من جهد كبير في سبيل الله لا يريدون به جزاء ولا شكورا ، فيخيل إليهم أن ذلك كله مظهر سذاجة وغفلة ، لأنهم لا يفهمون معنى التضحية في سبيل الله ، لأنهم لا يعرفون معنى ثواب الله.

وربما يحدث من خلال ذلك حالة ضعف نفسية لدى المؤمنين لما يواجهونه من واقع الفوقية والدونية بين الكافرين وبينهم ؛ فيوحي الله إليهم أن قضية الدونية والفوقية ليست شيئا مهما في ما تمثله قيم الحياة ، لأنّ ذلك عرض زائل لا بقاء له ، فلا يوجب ارتفاع الإنسان فيه رفعة حقيقية ، ولا اتضاعه ضعة حقيقية ، بل المهم كله هو الرفعة في الدار الآخرة التي يمنحها الله للمؤمنين ، لأنها من الله ، وما كان منه ، فهو الخير كله والمجد كله. وعلى هذا الأساس ، (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن الله عند ما يجعل المؤمنين فوق الكافرين يوم القيامة ، فإنه يجعل لهم كل القيمة الكبرى التي يرتفعون بها إلى أعلى الدرجات ، فلا يضعف المؤمنون ولا يستسلمون للشعور أمام الاضطهاد ،

١٣٨

بل ينبغي لهم أن يفكروا بما أعد الله لهم من ثواب وعقاب ، فإن (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، لأن الأمر بيده في ما يعطي أو يمنع ، وهو وليّ المؤمنين.

جاء في تفسير الميزان حمل كلمة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) على الأعم من الكافرين بالكفر الاصطلاحي ، وهو الكفر بالله ، أو الكفر المطلق ، في مقابل الإيمان المطلق بحيث يعدّ الانحراف عن كل حقيقة من الحقائق الدينية من تفاصيل العقيدة ، أو تغيير أية نعمة دينية ، كفرا ، وذلك من جهة ظهور كلمة «الكفر» بالستر الذي يعم المعنيين ؛ ولذلك اعتبر من مصاديق هذه الآية المؤمنين بالله الذين زينت لهم الحياة الدنيا فدعتهم إلى اتباع هوى النفس وشهواتها ، وأنستهم كل حق وحقيقة ، فلا يريد الإنسان إلا نيلها ، من جاه ومقام ومال وزينة ، فلا يلبث دون أن يستخدم كل شيء لأجلها وفي سبيلها ، ومن ذلك الدين ، فيأخذ الدين ، وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعيّنات ، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء وما يلائم سؤددهم ورئاستهم ، وتقرب التبعة والمقلدة المرؤوسين ، وما يجلب به تماثل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم ، وكما شاهدناه في بني إسرائيل من قبل (١).

ونلاحظ على ذلك ، أن الكلمة قد تكون ظاهرة في الستر بحسب المعنى اللغوي ، ولكنها ظاهرة في السياق القرآني ، كما هي في الاستعمالات العرفية ، بالكفر المصطلح ، ولا سيما في الآيات التي يذكر فيها (الَّذِينَ آمَنُوا) في مقابل (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ فإنها واضحة الدلالة على الكفر الذي يقابل الإيمان من ناحية المبدأ. وإذا كانت بعض آيات القرآن ظاهرة في ما يشمل الكفر ببعض الحقائق الدينية أو الانحراف العملي عنها ، فإنها جاءت ، ـ والله العالم ـ على سبيل المجاز ، لتنزيل الكفر بالحقيقة الدينية الخاصة أو الانحراف السلوكي عنها ،

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١١٢.

١٣٩

منزلة الكفر بالمبدأ ؛ لأن من آمن بشيء ، فلا بد من أن يؤمن بكل تفاصيله ويلتزم بكل التزاماته ... وهذا مما يحتاج إلى قرينة تدل عليه بشكل خاص أو من خلال السياق العام ، وهي غير موجودة في هذه الآية ، إن لم يكن الظهور على خلافها.

* * *

١٤٠