تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

المسلمون أن تتحدثوا عن دخول الجنة قبل أن تعرفوا الثمن الكبير لها.

(وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من أتباع الرسالات الذين واجهوا الكافرين بكل قوة ، وحاربوا المستكبرين بكل ثبات ، فكانت النتيجة الصعبة أنهم (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) ، وواجهتهم المشاكل الصعبة ، والآلام الحادّة ، والأوضاع القاسية في أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، وأحوالهم العامة والخاصة ، ومواقعهم الصغيرة والكبيرة ... (وَزُلْزِلُوا) ففقدوا الثبات في مواقفهم وأوضاعهم ، بحيث عاشوا الزلزال النفسي الذي ينطلق من حالة نفسية صعبة تثير القلق في الداخل لا شعوريا ، وتصنع الزلزال الشعوري من دون اختيار.

وبدأ اليأس يدب في النفوس ، والخوف يزحف إلى القلوب حتى في مستوى القاعدة والقمة : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أمام هذا الزلزال النفسي الذي لم يتحول إلى زلزال فكري لأن الرسالة في وعي الرسول ، والإيمان في وجدان المؤمنين ، لا يزالان منفتحين على الله ؛ ولكن طول الأمد وقسوة البلاء أطلقا الصرخة التي تستعجل النتائج وتترقب النصر : (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟ في سؤال ابتهالي يتطلع فيه الرسول والمؤمنون إلى الله في عالم الغيب الذي لا يدركون تفاصيله ، ويأتي الجواب في إحساسهم أو في وحي الله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ولكن هناك شروطا موضوعية ، وسننا تاريخية ، وقوانين اجتماعية مما أودعه الله في نظام حركة المجتمعات الإنسانية ... لا بد من توفرها في فعلية النصر الذي بدأت ملامحه تقترب من الواقع كله.

وهكذا ينبغي لكم ـ أيها المسلمون ـ أن تواجهوا الموقف على مستوى الصبر في الواقع الصعب والأمل بنصر الله في المستقبل القريب.

* * *

١٦١

وقفة أمام مفهوم النصر القريب

وقد نحتاج إلى أن نقف بعض الوقفات أمام مفهوم النصر القريب الذي تتحدث عنه الآية ، هل هو النصر الكامل الذي يستقطب كل جوانب الموقف ، أو هو النصر الذي تسمح به الظروف الموضوعية المتوفرة في الساحة ، ولو كان ذلك في مستوى المرحلة؟! قد لا نستطيع استيحاء المعنى الدقيق لذلك من الآية نفسها ، لأننا لا نعرف طبيعة النصر الذي كان ينشده الرسول والمؤمنون ، هل هو نصر الغلبة ليتمثل في هزيمة الكافرين أمام المؤمنين في موقع الصراع بين قوة الكفر وقوة الإيمان ؛ أو هو النصر بإنزال العذاب على الكافرين ليتمثل في زوالهم عن الساحة بواسطة العذاب المتنزل عليهم من الله؟! وربما كان المعنى الثاني هو الأقرب ، لأن ذلك هو شأن الأمم التي كانت تكفر بالله ، وتتحدى رسله ، وتسخر برسالاته ، وتتنكّر لها ، فيرسل الله عليها العذاب في نهاية الأمر ، كما فعله في قوم صالح وهود ولوط وشعيب عليهم‌السلام وغيرهم ، وبذلك يكون النصر قائما على أساس الانتقام من القوم الكافرين. وهناك عدة شواهد على إطلاق كلمة النصر على حالة العذاب الذي ينزله الله على الكافرين انتصارا لمن كذب من الأنبياء. وفي ضوء ذلك ، يكون المراد من قرب النصر ، القرب الزماني الذي طال انتظاره عليهم.

وربما يكون النصر المراد نصر الغلبة ، لما قد توحيه من وجود قوة متحفزة للصراع ، في ما توحيه كلمة : (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ، وفي هذه الحال يمكن أن يكون القرب في النصر خاضعا للجانب المرحلي في نطاق النصر الجزئي ، الذي قد يتمثل في زيادة قوة المؤمنين من خلال الفئات التي تدخل في الإيمان ، أو في هزيمة بعض المواقع القوية للكافرين أمام المؤمنين ، أو في غير ذلك من الموارد. وليس من الضروري أن يكون النصر حاسما كليا ،

١٦٢

لأن الظاهر أن الموقف كان جامدا في مواقعه الأولى في جانب المؤمنين ، حتى انتهى إلى حالة الاستغاثة اليائسة أو القريبة من اليأس ، بحيث كانت القضية هي أن يتحرك الموقف إلى ساحل الأمل. أما حدود ذلك ، فهي الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية في حركة الواقع في ما يتوفر من أدوات النصر من المكان والزمان والأشخاص والأوضاع العامة القادمة من الواقع الإنساني العام ...

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما ننتظره من النصر في مواقعنا المتحركة للعمل الإسلامي ، فقد نشعر في بعض المراحل بالجمود المسيطر على الساحة من خلال الضغوط التي تتوالى على الساحة ، ومن خلال الضعف الذي تخضع له الطاقات الفاعلة ، مما قد يوحي باليأس أو بما يشبه اليأس ... ويتطلع العاملون إلى المستقبل يستشرفون فيه بعض بوادر الأمل ، ويبتهل المبتهلون إلى الله يطلبون منه أن يحقق لهم النصر ، ثم تلوح في الأفق بارقة أمل تجرح حاجز الظلام ، وذلك بانطلاق بعض الخطوات المتقدمة إلى الأمام ، وبانتقال بعض الفئات من جانب الكفر إلى جانب الإيمان ، أو بالحصول على مواقع جديدة في نطاق الزمان والمكان والظروف الخاصة والعامة ... ويجد بعض العاملين أن الموقف لا يزال بعيدا عن النصر ـ وإن حصل على بعض جوانبه ـ ويجد البعض الآخر أن الموقف موقف نصر ، ولكنه النصر المتحرك الذي يأخذ من كل مرحلة قوة جديدة للمرحلة الأخرى. ويرى هذا البعض أن قضية النصر في الدعوة تختلف عن قضية النصر في الموارد الأخرى ، لأن قضية الدعوة تتناول داخل الإنسان في فكره وشعوره ، كما تتناول الجانب الخارجي من حياته ؛ ولذا فإنها قضية متحركة في أكثر من اتجاه تبعا للحركة المتنوعة التي تتمثل في كيان الإنسان ، مما يقتضينا السير في هذا المجال خطوة خطوة ، على النهج الذي سار عليه الأنبياء في دعوتهم وجهادهم ...

وفي ضوء ذلك ، تتحول المواقف المتقدمة إلى انتصارات ، ويتمثل

١٦٣

قرب النصر في قرب انفتاح الطريق على خطوات النصر ولو كان الطريق طويلا. أما قضية النصر في الموارد الأخرى ، فإنها قد تمثل الحسم في ما تتمثل فيه المواقع الذاتية في أرض نستولي عليها ، أو في موقف نتحكم فيه ، أو في شخص نهزمه ، أو في غير ذلك من الأمور التي تتجمد في حدود الزمان والمكان.

ولعل هذا التفكير هو الأقرب في ما تحتاجه حركة العمل الإسلامي الآن ، فإن التخطيط الدقيق يفرض علينا انتظار الهدف البعيد من خلال الوسائل العملية الحاضرة الموجودة في أيدينا الآن والتي نحاول تحريكها من أجل صنع أدوات جديدة للمستقبل في شعور عميق بالانتصارات المتلاحقة في كل مرحلة من مراحل الطريق ، وفي وعي كبير للحاجة إلى التوقف بعض الوقت في بعض المراحل من أجل استجماع قوة مشتتة ، أو تقوية طاقة ضعيفة ، أو انتظار طاقة قادمة ، من دون أي شعور سلبي بالهزيمة النفسية ، حتى في حالة الوقوع تحت ضغط الهزيمة في مرحلة معينة.

إن الإيحاء الدائم بأن أيّة خطوة متقدمة تمثل نصرا جديدا في حجم تلك الخطوة ، يملأ العاملين بالمشاعر الإيجابية القوية المتعاملة مع المستقبل دائما. وذلك هو سبيل الدعوة المتطلعة دائما إلى الله في شعور عميق بالإيمان ، بأن (الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الأعراف : ١٢٨]. وذلك ما نستوحيه من النداء الإلهي : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) بعيدا عما قد يستفيد البعض من القرب الزماني للنصر على مستوى الهدف الكبير ، ومنسجما مع طبيعة العمل من القرب الزماني للنصر على مستوى المرحلة المتحركة في اتجاه هذا الهدف على أسس واقعية موضوعية حاسمة.

وقد يكون من الضروري أن نتوقف طويلا أمام هذه الآية ، لنعرف أنها تريد أن تهزّ حركتنا في اتجاه الصبر الإيماني الإيجابي والصمود القوي أمام صعوبة التحدي ، لتعرفنا بأن علينا أن نصبر كما صبروا ، ونتحرك كما تحركوا ،

١٦٤

ونتطلع إلى الله في وعي بأنه سيمنحنا النصر إن عاجلا أو آجلا من خلال مواقعنا القادمة إلى خط النصر وأنه وليّ النصر ، أوّلا وأخيرا ، فنحصل على الجنة كما حصلوا عليها في أجواء لطفه ورضوانه.

وعلى هدي ذلك ، يمكننا أن نثير الآية في حياتنا ، عند ما نتطلع إلى المسلمين الأولين في صدر الدعوة الإسلامية عند ما (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) في أكثر من موقف ، لا سيما في ما حدثنا عنه القرآن في سورة الأحزاب : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١١ ـ ١٢] ولكنهم انتصروا على كل نقاط الضعف (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] في نهاية المطاف.

قد يكون من الضروري أن نثيرها في حياتنا وإن لم تكن نازلة فيهم ، لأنها توحي بذلك من خلال الفكرة التي تعتبر المناسبة القرآنية في النزول نموذجا للفكرة وليست جامدة في نطاق الزمان والمكان والأشخاص. ولهذا فإنها تجري مجرى الليل والنهار في حركة دائمة واستيعاب شامل.

إن علينا أن نشعر دائما بالحقيقة الإسلامية التالية : وهي أن الإيمان والإسلام يمثلان خطا واحدا يحكم الحياة في بداياتها ونهاياتها على أساس خصوصيات المراحل الواقعة على منازل الطريق ، وأن المؤمنين الآن يمثلون الامتداد للمؤمنين في الماضي ، بما يواجهونه من تحديات وعقبات ومتاعب ، وما يتحملونه من البأساء والضراء ، وما يتجهون إليه من أهداف ، فهم يتألمون في المواقع التي تألّم فيها الأوّلون ، ويجاهدون في المجالات التي جاهدوا فيها ، ويتحملون قسوة الضغوط بالمستوى الذي تحمّله أولئك ، ليظل التاريخ في حركة دائمة يدفع فيها الماضي القضية إلى الحاضر ، ويقودها الحاضر بكل أمانة نحو المستقبل ، في جهاد وإيمان ، وصبر ، ونداء دائم يقاوم كل نوازع الزلزال النفسي في داخل المسيرة : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى

١٦٥

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦] ليجيء الجواب الحاسم من قبل الله ، فيزرع الأمل في النفوس ، ويحيي القوة في المواقف : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

* * *

١٦٦

الآية

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥)

* * *

معاني المفردات

(يَسْئَلُونَكَ) : السؤال : طلب الجواب بصيغة مخصوصة من الكلام.

(يُنْفِقُونَ) : النفقة : إخراج الشيء من الملك ببيع أو هبة أو صلة ونحو ذلك ، وقد غلب في العرف على إخراج ما كان من المال من عين أو ورق.

(فَلِلْوالِدَيْنِ) : الأب والأم ، والجد والجدة وإن علوا.

(وَالْأَقْرَبِينَ) : أرحام المعطي.

(وَالْيَتامى) : اليتيم : كل من لا أب له مع صغره.

١٦٧

(وَابْنِ السَّبِيلِ) : المنقطع به في السفر.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] ، و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧] ، و (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة : ٢٢٠] و (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] ، و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] ، و (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢١٩] ، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم (١).

ونلاحظ في هذه الرواية ، أولا : أن ابن عباس يؤكد على تحديد الأسئلة بالثلاثة عشر سؤالا ، فلم يسألوا عن شيء آخر غيرها ، وهو أمر يثير الغرابة باعتبار أن طبيعة القضايا التي طرحتها الدعوة الإسلامية ونوعية التحديات التي أطلقتها في الواقع ، والمشاكل التي أثارتها ، لا بد من أن تثير علامات استفهام كثيرة تتصل بالعقيدة والتشريع والحرب والسلم ونحو ذلك من الأمور الخاصة والعامة ، هذا بالإضافة إلى أن الآخرين من المشركين واليهود كانوا يثيرون أكثر من مسألة حول أكثر القضايا ، مما ينعكس على تصور المسلمين للإسلام في مفاهيمه ، كما أن الذين يدخلون في الإسلام لا بد من أن يحملوا في ذهنيتهم أكثر من علامة استفهام في الدين الجديد الذي دخلوا فيه.

وثانيا : إن رواية ابن عباس توحي بالذهنية الواقعية الجدية في الأسئلة

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٥٨٦.

١٦٨

التي يثيرونها أمام القضايا التي يجهلون تفاصيلها ، أو تقع مثارا للجدل بين الناس ، فلا يسألون عن الأمور التجريدية التي لا علاقة لها بالعقيدة أو بالعمل ، لأنها لا تنفعهم في حياتهم الدنيوية والأخروية ، بل يسألون عما ينفعهم في ما يعتقدون أو ما يعملون ؛ حتى يكون للأفكار الجديدة في الأجوبة دور فاعل في إغناء التجربة الثقافية التي تبني لهم شخصيتهم الإسلامية الإنسانية ، وتركزها على قاعدة ثابتة من حقائق الدين والحياة.

وجاء في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حبان ، قال : «إن عمرا بن الجموح سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) الآية. فهذا مواضع نفقة أموالكم» (١).

ونلاحظ أن الرواية ضعيفة ـ كما جاء في تفسير الميزان ـ وأنها لا تنطبق على الآية ، حيث لم يوضع فيها إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه (٢).

وقد جاء في الدر المنثور أيضا ، الرواية عن ابن جرير ؛ وابن المنذر عن ابن جريج قال : «سأل المؤمنون رسول الله أين يضعون أموالهم؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) الآية فذلك النفقة في التطوّع ، والزكاة سوى ذلك كله» (٣).

ونظيرها ، كما جاء في الميزان ، ما رواه عن السدي ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة ، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها ، فنسختها الزكاة» (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٥٨٥.

(٢) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٦٦.

(٣) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٥٨٥.

(٤) م. ن. ، ج : ١ ، ص : ٥٨٥.

١٦٩

ولكن هذا الاتجاه في الروايتين يوحي بوجود منافاة بين آية الصدقة وهذه الآية وآية الزكاة حتى تكون آية الزكاة ناسخة لها ، أو شيئا آخر يختلف عنها ، بينما نجد أن المسألة تمثّل تنوعا يكتفي فيه الإنفاق بالصدقة والزكاة معا في مسألة العطاء الإنساني كقيمة أخلاقية في وحي الله.

وفي ضوء ذلك كله ، نجد في هذه النماذج المتعددة في تحديد المناسبة التي نزلت هذه الآية فيها ، تأكيدا على أن أسباب النزول كانت تمثل لونا من ألوان الاجتهاد الذاتي ، الذي يستوحيه هذا الراوي أو ذاك ليحوله إلى رواية عن الواقع القرآني في زمن الدعوة ، مما يجعلنا لا نجد في الكثير من روايات أسباب النزول منطلقا للفهم القرآني في الاستيحاء والتفسير.

* * *

السؤال باب للمعرفة والعمل

كان المسلمون يسألون النبي عن بعض القضايا التي تشغل تفكيرهم في تفاصيل بعض الواجبات أو المحرمات ، وكانت ـ في غالبها ـ كما ينقل عن ابن عباس ـ خفيفة لا تعقيد فيها ، عملية لا ترف فيها ولا تكلف ، انطلاقا من شعورهم بأن دور السؤال هو أن يحل للإنسان مشكلة يواجهها في حياته العقيدية أو العملية. فإذا لم تكن هناك مشكلة مطروحة في ساحة اهتماماته الطبيعية ، فلا معنى لأن يبادر بالسؤال الذي يتحول إلى تكلف لا فائدة فيه ، وعبث لا معنى له ، وإضاعة لوقت السائل والمسؤول في ما لا جدوى منه ...

وهكذا نفهم الدور المطلوب للسؤال في الإسلام ، أن يكون نافذة فكرية تطل على ما ينبغي للإنسان معرفته من شؤون الكون والحياة في ما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة. وهذا ما نستوحيه من الحديث القرآني عن الأسئلة التي لا يريد

١٧٠

الله للإنسان أن يخوض فيها لأنها لا تتصل بالمعرفة المرتبطة بالمسؤولية ، فلا تضيف للإنسان جديدا في حياته كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٢ ـ ٤٥]. فقد أغلق القرآن باب السؤال عن توقيت يوم القيامة ، لأنه لا يعود بفائدة عقيدية أو عملية ، لأن من واجب الإنسان الاستعداد لها بعيدا عن أي توقيت معين من خلال مسئوليته أمام الله ، كما أن مهمة النبي هي الحديث عما يحدث فيها لا عن وقتها الذي قد لا يكون محيطا بعلمه ، كما توحي به بعض الآيات التي تقول : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٨٧] ونلاحظ ذلك في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة : ١٠١]

وفي بعض الأحاديث التي تقول : «سل تفقها ولا تسل تعنتا» (١). وفي الجانب المقابل ، نجد أمامنا قول الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣].

وهكذا نستوحي الدور الإسلامي للسؤال الذي يجب أن يكون نافذة للمعرفة المتصلة بالعقيدة والعمل والحياة.

وكان النبي يستجيب لكل ما يوجه إليه من أسئلة ، فلم يكن ليضيق في الردّ عن أي سؤال مما يريد المسلمون معرفته ، لأنه يشعر أن مهمته الأساسية هي أن يعلم الناس الكتاب والحكمة في ما يجهلونه من شؤونهما المتصلة بحياتهم. ولكنه كان دقيقا في الإجابة من موقع رسالته ، فيختار الجواب الذي يتناسب مع حاجاتهم ، وإن كان بعيدا عن النص الحرفي للسؤال ، لأن دوره هو دور الموجّه للسائل ؛ فيوحي له ـ من خلال الجواب ـ بما ينبغي له أن يسأل

__________________

(١) البحار ، م : ١٨ ، ج : ٥٤ ، ص : ١٣ ، باب : ١.

١٧١

عنه ، لا بما يحب أن يعرفه. وهذا ما نستشعره من الجواب النبوي الذي علمه الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه أجاب عمن يلزمهم الإنفاق عليهم من الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ، بدلا من الجواب عما سألوا عنه مما يلزمهم الإنفاق منه من أنواع الطعام ، فقد نلاحظ أنه مر بها مرورا خاطفا ، ولم يتوقف عند التفاصيل ، فقد يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء إليهم بأن نوع الطعام الذي يقدم ليس مشكلة تبحث عن حل ، باعتبار أنه لا يقدم ولا يؤخر شيئا في هذا المجال ما دام خيرا ونافعا ، بل القضية هي نوعية الناس الذين يتصدق عليهم ، من حيث علاقاتهم القريبة به التي تجعل من صلته لهم صلة رحم ، ومن حيث حاجتهم التي تجعل من صلتهم إنفاقا في حل المشكلة الاجتماعية ؛ فإذا خلا الأمر عن هذين النحوين ، أصبح شيئا لا معنى له أو لا منفعة له. ولذا كان التركيز الكبير على ذلك باعتبار أنه هو الخير ، لأن كون الإنفاق خيرا لا يتصل بطبيعة المال الذي ينفقه ، بل يتصل بطبيعة الحالة أو المشكلة التي عالجها ، والإنسان الذي أعانه ..

ثم انطلقت الآية في أسلوب تشجيعي للخير القائم على الإنفاق في موارده التي يحبها الله ، لتقرر الحقيقة الإلهية في قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٧٣] ، الأمر الذي يوحي إلينا بالاندفاع في هذا الاتجاه ، لأنه لا يضيع عند الله الذي يعلم ما نعمل بكل دوافعه ونتائجه الخيّرة.

* * *

من هو الأولى بالإنفاق؟

(يَسْئَلُونَكَ) يا محمد في حركة المعرفة التفصيلية في وجدان المسلمين الذين اتبعوك وتابعوا معك الوحي الإلهي في العقيدة والشريعة والحياة ، وواجهوا ـ من خلال ذلك ـ أكثر من علامة استفهام حول هذا

١٧٢

الموضوع ، أو هذه القضية ، أو ذاك الواقع ، ليحصلوا على الطمأنينة الفكرية الوجدانية أمام الأسئلة الكثيرة عندهم ، (ما ذا يُنْفِقُونَ) من أنواع الأموال التي يملكونها في حياتهم من ألوان الطعام والشراب والألبسة والنقود وغيرها؟ هل هناك شيء معين يلتزمونه في إنفاقاتهم؟ وهل هناك فريضة محددة في نوعية خاصة منها؟ لأنهم يريدون أن تكون التزاماتهم العملية ـ حتى في العطاء ـ خاضعة لتعليماتك الرسالية التي تمتد إلى كل شؤون الإنسان في الواقع. (قُلْ) لهم ـ يا محمد ـ جوابا عن هذا السؤال الذي لا يختزن في داخله أية أهمية في المفهوم الإنساني لقضية العطاء ، إنه من الطبيعي أن ينفق الناس مما لديهم من الأموال التي تمثل حاجات الناس المتنوعة ، ليكون الإنفاق على كل شخص بما يحتاجه في حياته الخاصة بالطريقة المألوفة في هذا السلوك الإنساني الذي يتصل بالآخرين ، إلا أنّ الأهمية لتحديد الناس الذين نعطيهم من خلال تحديد الأولويات في الإنفاق ، لأننا لا نملك الإنفاق على كل الناس ، فهناك الناس الذين لا يجدون أيّة فرصة للحياة الكريمة وتأمين ما يحتاجونه من الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها ، لأن أبواب الحياة أغلقت عليهم ، ولأن الطرق التي يتحركون عليها إلى حاجاتهم سدّت في وجوههم ؛ وهكذا عاشوا في حصار الظروف القاسية الخانقة التي منعتهم من أن يتنفسوا الهواء الطلق الذي يكفل لهم استمرار الحياة فالسؤال ينبغي أن يكون عمن هو الأولى بالإنفاق بين الناس ، ولذلك كانت الحكمة الإلهية توحي إليك بالجواب عن السؤال الذي ينبغي لهم أن يسألوه ، لا عما سألوه.

(ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) من المال الذي تملكه وتعطيه ، ليتحول إلى خير للناس لأنه يلبّي لهم حاجاتهم ، ويحقق لهم مشتهياتهم ، ويبلغ بهم أهدافهم من أي نوع من هذه الأنواع التي تمثل حاجة الناس باعتبار أن الخير هو عنوان العطاء في دلالاته الروحية المنفتحة على إنسانيته القيّمة في خط التكافل الاجتماعي لرعاية الحالات الصعبة أو المتصلة بالعاطفة الإنسانية.

١٧٣

وهذا ما تؤكده الفقرة التالية في الآية حيث الدعوة إليه كعنوان لا بد للناس من أن يحركوه في قضية الإنفاق ، ف (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) اللذين هما سر حياة الإنسان في وجوده الحيّ ، مما يفرض عليه الاهتمام بهما ورعايتهما في شيخوختهما ومرضهما وتعبهما ، والإحسان إليهما في كل أوضاعهما في الحياة كبادرة عرفان الجميل لما قاما به ، على هدى ما جاء في قوله تعالى ، في إثارة ذكريات الطفولة الأولى في وجدان الإنسان في شبابه عند ما يتذكر ذلك كله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء : ٢٣].

(وَالْأَقْرَبِينَ) من أرحامكم الذين يتصل نسبكم بنسبهم ، وتجري في عروقكم دماؤهم ، أو تجري دماؤكم في عروقهم ؛ هؤلاء الذين يمثلون المجتمع الأول الذي ترتبطون به من الداخل في حركة الوجود ، مما يجعل منه الخلية الاجتماعية الأولى التي تمنحكم الكثير من عناصر شخصيتكم وملامحها الداخلية والخارجية ، وهذا ما أكد الله فيه شريعته في اعتبار صلة الرحم قيمة أخلاقية إيجابية ، وقطيعة الرحم قيمة سلبية ، لأن ذلك يوثق الرابطة الاجتماعية الإنسانية الأقرب في الواقع الإنساني بما يؤهّل المجتمع لتوثيق الروابط الأخرى.

(وَالْيَتامى) الذّين فقدوا الآباء في طفولتهم ، فلا يجدون الإنسان الذي يرعاهم ويحضنهم ويمنحهم الحب والحنان ، ويضمهم إلى صدره ، ويفتح لهم روحه ، فيشبع جوعهم ويروي ظمأهم ويكسو عريهم ، بما يجعل من الإنفاق عليهم تحصينا للمجتمع من ضياع الفئة الضعيفة فيه في متاهات الحياة ، لتستند إلى قوة المجتمع في مسئوليته المجتمعية بعد أن فقدت قوة الأب أو الأم ، فيمنحها الثقة بالذات وبالحياة.

(وَالْمَساكِينِ) الذين ضاقت بهم سبل الحياة ، فلم يحصلوا على العيش

١٧٤

الكريم من خلال الظروف القاسية التي مرّت بهم ، والضغوط الصعبة التي أطبقت عليهم ، والأوضاع المعقدة المتحركة في داخل حياتهم ، الأمر الذي يجعل من الإنفاق عليهم إيجاد حالة من التوازن الاجتماعي وتحقيق نوع من التكافل الإنساني بما يحقّق للمجتمع الظروف الطبيعية في سلامته واستقامته وقوته ، بدلا من الاهتزاز الواقعي الناشئ من اختلال الأوضاع الاقتصادية للناس بين إنسان يموت من التخمة وآخر يموت من الجوع.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) الذي انقطع به الطريق ، فلم يكن معه مال يستخدمه لقضاء حاجات السفر ، ولم تكن له فرصة في الحصول عليه بأية طريقة ؛ الأمر الذي يفرض على الواقع الإسلامي أن يجد له حلا في إدخاله في دائرة الكفالة الاجتماعية في الحياة العامة.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) مما يمثله فعل الخير من انفتاح الإنسان في حياته على تفجير طاقاته في اتجاه حل مشكلة إنسان هنا وقضاء حاجته هناك ، ورفع مستواه المادي والمعنوي ، وتهيئة الظروف الملائمة لإيجاد واقع الخير والعدل للإنسان ... (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء مما يقوم به عباده في السر والعلانية.

* * *

١٧٥

الآية

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦)

* * *

معاني المفردات

(كُرْهٌ) : الكره بالضم : المشقة التي تنال الإنسان من ذاته ، والكره بالفتح : المشقة التي تحمل عليه من الخارج. وقيل : الكره : الكراهة ، والكره : المشقة. وقد يكره الإنسان ما لا يشق عليه ، وقد يشق عليه ما لا يكرهه. وقيل : الكره والكره آفتان مثل : الضّعف والضّعف.

وقد جاءت في القرآن الكريم كلمة الكره في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء : ١٩] وقوله تعالى : (ثُمَّ

١٧٦

اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] والمراد بالكلمة ، كما هو ظاهر ، الإجبار.

(خَيْرٌ) : نقيض الشر ، وهو النفع الحسن.

(شَرٌّ) : الشّر : الضرر القبيح.

* * *

لماذا لم يشرع القتال في بدء الدعوة؟

لم يكن القتال مفروضا على المسلمين ، أو مأذونا فيه لهم في صدر الدعوة الإسلامية في مكة ، فكانت وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين الذين يضطهدون ويعذبون ، تتلخص بالصبر ، والهجرة ، والتحمل ، والتضحية ... بل قد تصل إلى الإذن لهم بأن يقولوا ما يراد منهم أن يقولوه من كلمات الكفر تحت ضغط التعذيب والإكراه ، كما حدث لعمّار الذي نزلت فيه هذه الآية : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النحل : ١٠٦] بعد أن قال كلمة الكفر أمام حالة العذاب الصعبة.

ويمكن التوقف عند احتمالات أربعة حالت دون تشريع القتال في هذه المرحلة :

الأول : ربما كان ذلك خاضعا للمرحلة الأولى التي أراد الله لدينه أن ينطلق منها في حياة الناس ، فقد يبدو من الضروري أن يعيش المؤمنون الأولون المعاناة الداخلية والخارجية في ما يتعرضون له من ضغوط نفسية وحياتية من قبل المشركين. وقد يساهم ذلك في خلق جوّ من التساؤل والاهتمام والتطلع والتعاطف لدى الناس الآخرين من خلال المؤثرات المتنوعة

١٧٧

التي تحكم حالة السلم في الدعوة.

الثاني : قد يكون الدخول في صراع عنيف مع قريش أمرا غير عملي من خلال حسابات توازن القوى ؛ باعتبار أن الدعوة الجديدة انطلقت من المركز الخاضع لسيطرة قريش ، مما يجعل من العسير أو المستحيل الدخول في صراع القوة معها.

الثالث : حاجة الدعوة إلى الأجواء التي تسمح بالكلمة الهادئة التي لا تضيع في صخب القتال والسلاح لتترك تأثيرها الإيجابي في داخل النفوس ، ولو من خلال المواقف السلبية ضدها. فإن أية دعوة تحتاج إلى فترة من الهدوء الذي يحملها إلى الأسماع والأفكار ، بعيدا عن أية عناصر أخرى ضاغطة ، لأن عظمة الدعوة الإسلامية أنها جاءت لتخاطب العقول فتفرض عليها قناعاتها بالحجة والحوار بدلا من القوة والضغط. وذلك ما يفرض أن تعمل على تهيئة الوسائل العملية التي تكفل ذلك كله.

ولعلّ هذه النقطة هي التي فرضت هذا الأسلوب السلمي الصابر المهاجر في أجواء مكة ، باعتبارها المكان الأمثل الذي يمكن فيه للدعوة أن تصل إلى كل قلب وإلى كل أذن ، لأنها عاصمة الجزيرة العربية الثقافية والدينية ، مما يجعلها مركزا للتجمع في المواسم الثقافية والدينية كموسم عكاظ والحج ، أو في المواسم التجارية عقيب رحلة الشتاء والصيف ، الأمر الذي لا بد فيه للدعوة من أن تحافظ على وجودها في مكة أطول مدة ممكنة لاستغلال ذلك في تحقيق الهدف الكبير ، بحيث نستطيع الوصول إلى بعض الأجواء العربية التي لا يمكن أن تصل إليها لو لا ذلك.

الرابع : لعلّ هدف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منع المؤمنين في مكة من الدخول في صراع مسلّح مع قريش ، هو إعطاء المؤمنين الذين يدخلون في الدين ـ وهم ضعفاء ـ الفرصة للحصول على القوة بطريقة تدريجية خالية من الفروض

١٧٨

الصعبة الضاغطة على إرادتهم وحيلتهم ، لئلا يشعروا بالحرج في البداية بالتكليف في القتال ، وبذلك يستطيعون أن يتعمّقوا أكثر في إيمانهم ، ويسيروا في مدارج النمو في العقيدة والعمل بأسلوب واقعي متحرك يوحي لهم بالامتداد والحركة في جوّ من الفكر الهادىء والخطوات الهادئة الواقعية.

وهكذا استطاع الإسلام أن يركز قواعده بخلق جيل من الدعاة الذين عاشوا المعاناة بأعمق معانيها وأرحب مجالاتها وأشد ظروفها ، فانطلقوا مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، ليركزوا قواعد المجتمع الإسلامي الجديد. وبدأت المرحلة الجديدة للإسلام في عملية التقدم إلى الأمام من خلال صنع القوة الذاتية التي تواجه التحدي بمثله ، وتخترق الحواجز الموضوعة أمامها في الطريق من أجل أن تمنعها من التقدم. وكان القتال شريعة هذه المرحلة.

وبدأت الصعوبات النفسية تقف أمام هذه الشريعة في نفوس بعض المسلمين الذين استراحوا ـ أو هكذا توحي الآية ـ للدعوة المسالمة التي تتلقى الضربات دون أن ترد عليها ، فإن الجهد الذي كانوا يلاقونه من خلال الاضطهاد لم يكن ليعرضهم للخطر الكبير الذي يتعرضون له من خلال القتال ، بل كل ما هناك أنه يثير فيهم حالات نفسية صعبة ضاغطة كانوا يتحملونها بصبر وإيمان ، مع الاحتفاظ بخط السلامة الوديع في الحياة. وقد يبدو أنهم تأففوا من هذه الفريضة الصعبة ، أو اعترضوا ، أو حاولوا التخلص منها ، كما توحيه كلمة كما (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، لأنه كان يعني السير إلى الموت باختيار ، كما يعني الاستمرار فيه مدى استمرار التحديات الكافرة المشركة.

وكانت طريقة الإسلام أن يدفع المسلمين إلى الممارسة العملية من خلال القناعة الفكرية والاستجابة الروحية ، بالإضافة إلى الاستسلام الإيماني الذي تفرضه العقيدة الإسلامية المرتكزة على التسليم لله في كل الأمور ، فكانت هذه الآية من أجل تقرير الحقيقة الواقعية في ما يحبه الإنسان مما لا يكون فيه كبير مصلحة له ، أو في ما يكرهه الإنسان مما لا يكون فيه أية مضرة له ، الأمر

١٧٩

الذي يوحي للإنسان بأن الحالات النفسية الانفعالية لا يمكن أن تكون مقياسا للحركة السلبية أو الإيجابية في الحياة ، لأن الانفعال منطلق من السطح لا من العمق ، باعتباره يمثل حالة ردّ فعل لصدمة طارئة ، أو نزوة سريعة ، أو عاطفة ساذجة فلا بد من التعمق في دراسة القضايا والمواقف والأشياء ، من أجل النفاذ إلى واقعها لمعرفة طبيعة المصالح والمفاسد الواقعية الكامنة فيه ، لينتهي إلى النتيجة الحاسمة التي تبعده عن الاستسلام لانفعالاته السريعة.

وقد يستطيع الإنسان اكتشاف ذلك من دراسة تاريخ حياته الشخصي في ما واجهه من حوادث الانفعال ، وما اكتشفه من خطأ الاعتماد عليها في ظهور السلبيات في ما إذا كان الانفعال يتجه إلى الإيجابية ، أو ظهور الإيجابيات في ما إذا كان يتجه إلى السلبية. فليست الكراهة مؤشرا لضد الحق في ما يكرهه ، وليست المحبة مؤشرا للحق في ما يحبه. إنه شيء يكتشفه الإنسان من خلال تجاربه الشخصية. فإذا تحرك في خط الإيمان فإنه يكتشف ، من خلال النافذة التي تطل به على الحقيقة الإيمانية ، أن الله يعلم حقائق الأشياء ، ويعلم ما يضر الإنسان وما ينفعه منها ، ويعرف كيف يشرّع للإنسان ما ينسجم مع مصلحته على أساس الحكمة والرحمة. أما الإنسان فهو لا يعلم إلا القليل القليل منها ، ولذلك نراه يتمرد ، ويشك ، وينفعل. ومن خلال ذلك ، انطلق القرآن في معالجة الموقف من ناحية فكرية ترتكز على التجربة ، ومن ناحية إيمانية ترتكز على العقيدة. فطريقة القرآن ، في حلوله لمشاكل الإنسان الداخلية ، تتمثل في قيادته إلى القناعة من خلال الواقع والإيمان.

ويبقى أن الآية توحي بأن هناك سؤالا مكبوتا يتحرك في الداخل بعد تشريع القتال ، أو سؤالا مطروحا بطريقة مليئة بالمرونة والاستيحاء ، فكانت الآية جوابا عن ذلك كله.

* * *

١٨٠