تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

مما يجعل العمل غير مقرّب لله وغير مقبول عنده ، لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أقبل الإنسان فيها بكل كيانه وروحيته.

* * *

الإحصار في الحج

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

إذا حصل للحاج أو المعتمر مانع يمنعه من إتمام الحج ، فكيف يمكن أن يحل من إحرامه الذي لا يحصل الإحلال منه إلا بالإتمام؟؟ إن الآية تفرض عليه ، مع ملاحظة التفسير في السنة من خلال التحديد للمحل في قوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، أن يرسل هديا إلى مكة إن كان معتمرا ، وإلى منى إن كان حاجا ، ليذبح هناك. فإذا بلغ محله ، أمكنه أن يحلق رأسه ويتحلل من إحرامه. هذا إذا كان المانع هو المرض ، أما إذا كان المانع هو العدو ، فإن بإمكانه أن يذبح الهدي في مكانه كما يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك في الحديبية عند ما منعه المشركون عن العمرة.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

هذا استثناء من النهي عن حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محله ، فإذا كان الإنسان مريضا يتضرر فيه من إبقاء الشعر على الرأس ، أو كان في رأسه بعض الحشرات التي تمثل أذى في رأسه ، فيجوز له أن يحلق على أن يقوم بالصيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين ، أو ذبح شاة. وهو ما عبّر عنه بالنسك كما جاء ذلك في السنة الشريفة.

وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كعب بن عجرة والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم ، فقال له : أتؤذيك هوامك؟

١٠١

فقال : نعم ، فأنزلت هذه الآية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحلق رأسه ، وجعل الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة على ستة مساكين مدّين لكل مسكين ، والنسك شاة (١).

* * *

حج التمتّع

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ).

في هذه الآية إشارة إلى حج التمتع ، الذي يجمع الحج والعمرة في فريضة واحدة ، ولكنه يستمتع بعد الإحلال من العمرة بما كان محرما عليه إلى حين الإحرام بالحج. وإنما سمي بالتمتع بالنظر إلى أن وحدة الفريضة في العملين تجعل الإنسان كما لو كان قد مارس التمتع في أثناء الحج. ويقابله حج القران والإفراد الذي لا تدخل العمرة فيه ، وقد أشارت الآية إلى خصوصية حج التمتع بوجوب ذبح الهدي فيه ، بعيدا عن حالة الإحصار المشار إليها في الفقرة السابقة ، لوجوبه في حالة الأمن كما يشير إليه قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وهذا هو الفارق بين هذا النوع من الحج وبين النوعين الآخرين لعدم وجوب الذبح فيهما كجزء من الفريضة ، وإن كان القرآن يشتمل على سياق الهدي بإشعاره أو تقليده كفصل من فصول الإحرام ، لا كواجب من واجبات الحج. وقد تعرضت الآية إلى حالة العجز عن الهدي في حج التمتع ، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ). فأوجبت صيام عشرة أيام ، موزّعة بين وقت الحج ووقت الرجوع ، و (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

__________________

(١) البحار ، م : ٣٥ ، ج : ٩٦ ، ص : ٣٦٦ ، باب : ٣٠ ، رواية : ٤.

١٠٢

هذا تحديد للمكلف الذي يجب عليه حج التمتع بالنائي عن مكة ، وقد كنى عنه ب (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وقدّر في السنة الشريفة بمن كان بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلا. ويقول صاحب الميزان في استيحاء ذلك : «وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل ، فإن المسافر من البلاد النائية للحج ـ وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاساة التعب ووعثاء الطريق ـ لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة. والإنسان إنما يسكن ويستريح عند أهله ، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام ، فبدّله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والإهلال بالحج من المسجد الحرام ، من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات» (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يذكر صاحب الميزان في التعليق على هذه الفقرة من الآية أن «التشديد البالغ في هذا التذليل ، مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله ، وكذلك كان الأمر ، فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرّعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل ، معروفا عندهم ، معمولا به فيهم ، قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم ، وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي ، فلم يكن تغيير وضعه أمرا هيّنا سهل القبول عندهم ، ولذلك قابلوه بالإنكار. وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات ، ولذلك اضطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يخطبهم ، فبيّن لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء ، وأنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة ، فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير من عقاب الله سبحانه» (٢).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٧٩.

(٢) م. ن. ، ج : ٢ ، ص : ٧٩.

١٠٣

أما تعليقنا على ذلك ، فهو أن الأمر بالتقوى ، انطلاقا من العلم بأنه شديد العقاب ، أسلوب قرآني درج عليه القرآن في ما يريد الله أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتشريع ، ليقف الإنسان فيه عند حدود الله من موقع النفس التقية التي تراقب الله وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك ، هنا ، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحج والعمرة من إتمامها ، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن ، وعن الحكم في حج التمتع في حالة التمكن من الهدي والعجز عنه ، فإن ذلك كله مما يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشرعية ، ويكفي ذلك مناسبة.

* * *

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) الأشهر التي يجوز فيها الإحرام للحج ثلاثة : شوال وذو القعدة وذو الحجة ـ في العشر الأول منه ـ (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) فإذا فرض الإنسان فيها على نفسه الحج بالإحرام ، فيجب عليه أن يلتزم بمحرمات الإحرام التي تقف في مقدمتها هذه الثلاثة التي فسّرت في السنّة الشريفة ، (فَلا رَفَثَ) الذي كني به عن الجماع ، (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) الذي فسر بالكذب ، (وَلا فُسُوقَ) الذي فسر بقول : لا والله وبلى والله ، وذلك لأهميتها في المجال التربوي في حياة الإنسان.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) وختمت هذه الآية بالتذكير بأن الأعمال الخيّرة التي يقوم بها الإنسان لا تغيب عن علم الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة ، وذلك من أجل أن يشعر بالحاجة إلى الإخلاص في عمله عند ما يحس بأنه موضع رقابة الله. ومن أجل أن يعينه ذلك على الاستمرار والزيادة ،

١٠٤

لأنه بعين الله الذي يقدّر لكل إنسان جهده وعمله ، لأن الله لا يضيع عمل عامل من الناس من ذكر أو أنثى ، فيدفعه ذلك إلى تحمل الصعوبات والمشاق الكثيرة في سبيل الله طمعا في ثواب الله ورضاه.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فهو الذي يبقى للإنسان من بعد موته فيجده عند الله محضرا ، وقد جاء في قوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] وهو الذي تلتقي فيه الدنيا والآخرة في التقاء العمل الصالح بعواقبه الطيبة ، والمسؤولية بنتائجها الخيرة ، ثم أكد الموضوع بكلمة تحمل الكثير من المعاني الحميمة التي تربط الخالق بالمخلوقين ، لأنها تمثل دعوته الرحيمة في أن يعيشوا الجو الحميم بالحاجة إلى الإحساس بوجود الله وحضوره في وعيهم ، الذي يؤدي إلى الالتزام بخط التقوى عندهم. (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ). وكان هذا النداء انطلاقة رائعة توحي للإنسان بأن كل هذه القضايا هي من وحي العقل الذي لا يدعو إلا إلى ما فيه الخير كل الخير في الدنيا والآخرة ، ليستنفر الإنسان عقله في كل وقت فلا يغيب عنه في أي مجال حتى لا تنهار حياته في لحظات الجنون.

* * *

لا جناح في ابتغاء الفضل بعد إتمام الحج

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن هذه الفقرة واردة لبيان الرخصة للمؤمنين في ممارسة الأعمال التجارية بعد فراغهم من الحج ، لأنهم كانوا يشعرون بالحرج في ذلك ، وربما كانوا يعانون من الشعور بعقدة الذنب في حال ممارستهم لها. وهذا المعنى ظاهر من الآية من خلال التعبير بعبارة :

١٠٥

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) المشعرة بأن هناك إحساسا لديهم بوجود شيء من هذا القبيل ، ولأن التعبير عن السعي في طلب الرزق ، بالابتغاء من فضل الله ، هو من التعابير القرآنية المألوفة كما ورد في قوله تعالى في سورة الجمعة : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة : ١٠]. وربما يكون في هذا التعبير إشارة إلى أن طلب الرزق لا يتنافى مع الأجواء النفسية الروحية التي يحصل عليها من العبادة ، لأنه طلب من فضل الله ، كما أن العبادة انطلاق في آفاق الله. وقد أشرنا في ما تقدم إلى الأحاديث الواردة في اعتبار طلب الحلال عبادة تقرب الإنسان إلى الله ، بل ورد في بعضها أن العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال.

وفي ضوء ذلك ، يمكننا فهم الواقعية الإسلامية في خط التشريع العبادي في امتثال الحج الذي يختلف عن الصلاة والصوم ، بأنه عبادة متحركة في انطلاق الناس من كل مكان في العالم إلى البيت الحرام الذي يؤدون فيه ـ أو قريبا منه ـ مناسك حجهم في أعمال معينة ، وأوقات محدودة لا تتنافى مع القيام بنشاط آخر يتصل بالجانب الاقتصادي الذي قد تتاح فيه للناس هناك أكثر من فرصة لإقامة علاقات تجارية مع بعضهم البعض ، بحيث توفّر عليهم قطع المسافات البعيدة التي قد يضطرون إلى الذهاب إليها في مجال آخر ، كما يمكنهم فيه ممارسة التجارة الفعلية مستفيدين من هذا الموسم العالمي الذي يلتقي فيه الناس من سائر أنحاء العالم ليشتروا ما يحتاجون إليه من الأغذية والألبسة والهدايا التي يأخذونها معهم إلى أهلهم ... وهكذا نجد أن موسم الحج يساهم في إيجاد سوق «إسلامية» منفتحة على النشاط التجاري الفعلي ، والعلاقات الاقتصادية بين رجال الأعمال من مختلف الشعوب الإسلامية التي قد تتحول إلى علاقات سياسية وأمنية وثقافية في تطورها العملي في نهاية المطاف ...

وقد جاء في رواية هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ما

١٠٦

يشير إلى ذلك ، فقد سأله هشام عن الصلة التي من أجلها كلف الله العباد الحج والطواف بالبيت ، فقال عليه‌السلام «.. أمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ، ومصلحتهم من أمر دنياهم ، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد ، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال ، ولتعرف آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعرف أخباره ، ويذكر ولا ينسى ، ولو كان كل قوم [إنما] يتكلمون على بلادهم وما فيها هلكوا ، وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح ، وعميت الأخبار» (١).

وهذا ما يؤكد خط التوازن الإسلامي في وعي مسألة الدنيا في حاجاتها والآخرة في غاياتها. فليس هناك تناقض بينهما ، بل إن السير في خط التشريع الإسلامي يضمن للإنسان الدنيا والآخرة ، فتكون الدنيا مزرعة للآخرة ، وتكون الآخرة غاية تحقق للدنيا طهارتها وصفاءها وحركيتها في طريق الله.

* * *

في عرفات .. والمشعر الحرام

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) من أعمال الحج أن يقف الناس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفة خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء ... إنها وقفة الحياة أمام الله تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها من أجل أن يلهمها الصواب في ما تفكر ، ويهديها الصراط المستقيم ويجعل لها من أمرها يسرا فيكشف عنها آلامها ويحقق لها أحلامها ...

__________________

(١) الحر العاملي ، محمد بن الحسن ، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط : ٦ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٨ ، ص : ٩ باب : ١ ، رواية : ١٨.

١٠٧

وقد نستوحي كل ذلك من ملاحظة أن النسك هنا الوقوف في عرفات ، تماما كما لو أن الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده ، وتتعبه ، وتكلفه الكثير من الخسائر ، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع ... فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفف فيها من متاعبه ، ويراجع فيها حساباته ، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرحلة وما مضى منها ، ليبدأ من موقع التجدد الروحي الذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكل أوضاع الحاضر والمستقبل.

ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمل الخاشع ، والدعاء المنفتح على الله ، والصلاة السابحة في آفاقه ، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة ، ولكن في مكان آخر : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ على مذهب الإمامية ـ وفي ما بين الطلوعين ـ على رأي الآخرين ـ وهي وقفة جديدة في وقت جديد ، يعيش الإنسان فيها ذكر الله الذي هدانا إلى طريق الحق بعد أن كنا من قبله من الضالين (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) ، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة في ما يوحيه للإنسان من معاني الرضى والروح والطمأنينة ، ويبعده عن نوازع الشك والقلق والضياع ، ويوجهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كل دنس أو رجس أو التواء ، والقريبة إلى الحب والخير والسّلام. أو يؤدي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو الله ورضوانه في جنة عرضها السماء والأرض أعدت للمتقين ، مما يضمن له خير الدنيا والآخرة ، وينطلق ليتعرف ـ في مقابل ذلك ـ النتائج السلبية للضلال في داخل النفس وخارجها ، في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الاخرة ... وبذلك يحس بالشكر العميق لنعمة الهدى ، ويعيش الشعور بالامتنان لله الذي وهبه هذه النعمة بأكثر مما يحس به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة.

ولعل في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية

١٠٨

مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضلال وبين حياته في أجواء الهدى ، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعية لا من مواقع الفكر والنظرية فحسب.

* * *

إلغاء النوازع الطبقية

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يقال : إن قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النّاس ، لأنها تشعر بموقعها المميز الذي يختلف عن مواقع الناس من حيث العلو والرفعة والكبرياء ، فكانت لا تقف بعرفات. وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس : «كانت العرب تقف بعرفة ، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة ، فأنزل الله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (١).

لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كل هذه النوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين ، لا سيما في مثل هذا الموقف الذي أراده الله من أجل إلغاء كل الفوارق التي تميزهم عن بعضهم البعض ، ليشعروا بالصفة الواحدة التي تجمعهم أمام الله ، وهي أنهم عباد الله الواحد الأحد ؛ فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ، فلا معنى ـ بعد ذلك ـ لأن يميز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقا من الشعور بالتفوق والكبرياء.

وهناك تفسير آخر للآية : وهو «أن المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر عن الجبائي قال : والآية تدل عليه ، لأنه قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ثم قال : (ثُمَّ أَفِيضُوا) ،

__________________

(١) الطبري ، ابن جرير ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، دار الفكر ، ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م ، ج : ٢ ، ص : ٣٩٩.

١٠٩

فوجب أن يكون إفاضة ثانية ، فدلّ ذلك على أن الإفاضتين واجبتان ، والناس المراد به إبراهيم ، كما أنه في قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] نعيم بن مسعود الأشجعي» (١).

ولعل الوجه الأول أقرب وأظهر ، لأن إرادة شخص واحد من الناس خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلا بدليل. ولا دليل هنا على ذلك ، كما لا دليل فيها على أن هناك إفاضتين ، لأن كلمة الإفاضة من عرفات ذكرت لبيان التشريع. أما الآية الثانية فربما وردت لبيان الطريق الذي يسلكه الحجاج في الإفاضة وهو الطريق العام.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كل ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السلبية البعيدة عن خط الإيمان وروحيته ووعدهم بالمغفرة والرحمة ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لأن الرحمة والمغفرة من صفاته الذاتية التي امتنّ بها على عباده ليدخلهم في رحمته ورضوانه.

* * *

الدعاء بين نموذجين من الناس

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) يقال : إن الناس كانوا إذا قضوا مناسك حجهم ، جلسوا يسمرون ، ويمتد بهم الأمر إلى أن يثيروا أحاديث آبائهم ، فيتذكروا مواقفهم وأوضاعهم وأمجادهم ... وبذلك ينفصلون عن الجو الروحي الذي كانوا يعيشونه من

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٢٨.

١١٠

خلال الحج ، ولكن الله يريد منهم أن لا يجعلوا الحج مجرد موسم أو مناسبة يذكرون فيها اسم الله ، ثم تقف القضية عند هذا الحد فلا يبقى لله أي حضور في نفوسهم أو ألسنتهم ، بل يكون دوره أن يفتح قلوبهم على الله في امتداد روحيّ مستمرّ ، لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد ، حتى يصبح ذكر الله ـ بعد الحج ـ ملحّا بالمستوى الذي لا يدانيه ذكر أي إنسان آخر حتى في مستوى الآباء.

ونقف ـ في هذا المجال ـ على نموذجين من الناس ؛ أحدهما : الذي يصدق عليه قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) النموذج الذي إذا ذكر الله وأراد أن يدعوه في موقفه هذا ، لم يذكر إلا حياته الدنيا ، وشهواته فيها ، ومطامعه ، ومطامحه ... من دون أن يفكر في الآخرة من قريب أو من بعيد. فهو يطلب من الله أن يؤتيه الدنيا ويقف عندها جامد الإحساس ، جائع الأحلام ، ظامئ المشاعر ... ولا نصيب لهذا في الآخرة لأنها ليست واردة في حسابه على كل حال ، ولذلك فإن الله لا يحسب حسابه في ثوابه ورضوانه.

ثانيهما : هو مصداق قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) النموذج الذي يتمسك بالخط الإسلامي المتوازن الذي يجمع بين الدنيا والآخرة ، فهو يعتبر الدنيا حقلا من حقول العمل التي أراد الله للإنسان أن يعيش فيها حياة طيبة ، يمارس فيها الطيبات ويقبل فيها على ما أحله الله له من شهوات وملذات ؛ ولهذا فهو يطلب من الله أن يؤتيه في الدنيا حسنة ، ثم يرى أن الآخرة هي نهاية المطاف ، فهي دار المصير الذي يجد فيه كل إنسان دار خلوده في الجنة أو في النار ، ولذلك فهو يطلب من الله أن يؤتيه فيها حسنة. ومثل هذا النموذج قريب إلى الله ، (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) ولذلك فإن له نصيبا مما كسبه من عمله الصالح في الدنيا ، فيجد أمامه الجزاء الكبير في دنياه وآخرته. والله سريع الحساب ،

١١١

يعلم ما يستحقه عباده نتيجة أعمالهم ، فيعطي كلّا منهم الجزاء العادل في جانب الخير أو في جانب الشر.

* * *

الجانب التربوي في الدعاء

وفي هذا الجو الذي تثيره الآيتان ، نستوحي الجانب التربوي في الدعاء ، حيث ينبغي أن يعيش الإنسان فيه كل قضاياه الملحة التي يعيشها في فكره ووجدانه وحياته ، بحيث يكون الدعاء صورة حية لكل منطلقاته في الحياة ، فيلتفت إلى شؤون الآخرة كما يلتفت إلى شؤون الدنيا ، ليطلع الله على قلبه فيجد فيه صدق التوجه إلى الإسلام في أمور حياته من خلال وعيه لكل الجوانب التي تحكم شؤون الحياة ؛ فيطلبها منه كما يطلب الإنسان الأشياء الضرورية التي لا غنى له عنها. وفي ضوء ذلك يزداد إحساسه بالآخرة كما لو كانت حاجة مهمة من حاجاته الذاتية ، بحيث يتفجر الشعور بها في دعاء خاشع متضرع بين يدي الله.

وهذا ما نجده في الأدعية القرآنية ، وأدعية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام ، ولا سيما أدعية الإمام زين العابدين عليه‌السلام في الصحيفة السجادية وفي غيرها ... فإنها جامعة لمطالب الدنيا والآخرة في جو واحد ، كتدليل على وحدة الانطلاقة فيهما معا. والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* * *

١١٢

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ، الظاهر أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق من ذي الحجة ، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر منه ، وهي التي فرض فيها المبيت في منى ، (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، بأن ينفر في اليوم الثاني عشر ، (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، كما لا مانع من البقاء إلى اليوم الثالث عشر. وليس في الآية ما يدل على شرط البقاء أو شرط التخيير ، أما كلمة (لِمَنِ اتَّقى) فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام في هذه الآية : قال : «يرجع مغفورا له لا ذنب له» (١) ، وفي حديث آخر عن الباقر عليه‌السلام : (لِمَنِ اتَّقى) منهم الصيد ، واتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرّم الله عليه في إحرامه» (٢) ، وبذلك يكون هذا التخصيص بمن اتقى بلحاظ حالة المغفرة المستفادة من سياق الكلام.

(وَاتَّقُوا اللهَ) وعادت الآية من جديد للدعوة إلى التقوى بقول مطلق في جميع أعمال الإنسان في حال الحج وغيره ، والتأكيد على ذلك بالإعلام بالحقيقة الإيمانية ، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

فإن الخلق كلهم يحشرون إلى الله ، ليواجهوا جزاء أعمالهم من خير أو شر. فإن استثارة هذه الحقيقة في وعي الإنسان يعتبر عاملا كبيرا في تنمية روح التقوى في نفسه وحياته.

ولعلّ البقاء في منى هذه الأيام أو الليالي بعد انتهاء أعمال الحج يعتبر انطلاقة روحية تأملية ، يعيش فيها الإنسان حضور الله في نفسه بما يثيره من ذكر ، وبما يهجس فيه من فكر ، وبما يعيشه من تأملات ، وذلك في عملية مراجعة لحسابات أعماله في الماضي والحاضر في طريق تنمية أعمال

__________________

(١) البحار ، م : ٣٥ ، ج : ٩٦ ، ص : ٤٥٥ ، باب : ٥٥ ، رواية : ٤.

(٢) م. ن. ، م : ٣٥ ، ج : ٩٦ ، ص : ٤٥٥ ، باب : ٥٥ ، رواية : ٣.

١١٣

المستقبل ، وليحصل له من خلال ذلك النتائج الروحية والعملية من خلال أفعال الحج عند ما يستحضرها في نفسه في عملية تقويم تفصيلية يدرك فيها طبيعة هذه الأفعال في ما أخلص فيه ، وما أتمّه منها وما قصّر فيه ، ليرجع من حجه واثقا بالنتائج الكبيرة على مستوى الإيمان في الدنيا والآخرة ، ونعم أجر العاملين.

* * *

١١٤

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢٠٧)

* * *

معاني المفردات

(أَلَدُّ) : شديد عنيد في خصومته وجدله ، واللدد : شدة الخصومة. يقال : رجل ألد وقوم لدّ ، والألد : الخصيم الشديد التأبي وجمعه لدّ. قال الراغب : وأصل الألدّ الشديد اللّدد ، أي: صفحة العنق ، وذلك إذا لم يمكن صرفه عما يريده (١).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٤٦٩.

١١٥

(الْخِصامِ) : المخاصمة ، يقال : خاصمته وخصمته مخاصمة وخصاما. قال الزمخشري : وإضافة الألدّ بمعنى في ، كقولهم : ثبت الغدر ، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة ، وقيل : الخصام : جمع خصم كصعب وصعاب ، بمعنى : وهو أشدّ الخصوم خصومة (١). وقال الراغب : أصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر ، أي جانبه (٢).

(الْحَرْثَ) : إلقاء البذر في الأرض وتهيؤها للزرع ، ويطلق على نفس الزرع قائما كان أو حصيدا ، ويطلق على النساء تشبيها : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٢٣]. وأصل الحرث: الكسب والجمع.

(وَالنَّسْلَ) : الأولاد ، قال الراغب : النسل : الولد لكونه ناسلا عن أبيه (٣) ، وأصل النسل : الانفصال عن الشيء أو الخروج.

(الْعِزَّةُ) : القوة التي يمتنع بها عن الذلة ، وقيل في معنى (الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) قولان : أحدهما : حملته العزة والحمية الجاهلية على فعل الإثم ودعته إليها ، كما يقال : أخذته بكذا أي ألزمته. والثاني : أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه.

(الْمِهادُ) : الوطاء من كل شيء. وكل شيء وطئته فقد مهدته. والأرض مهاد لأجل توطئته للنوم والقيام.

(يَشْرِي) : يبيع ، أخذ الثمن ، ودفع المثمن ، قال الراغب : لفظ البيع

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٥٢.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ١٥٠.

(٣) م. ن. ، ص : ٥١٢.

١١٦

والشراء يستعمل كلّ واحد منهما في موضع الآخر (١).

* * *

مع نموذجين من الناس في مواقف الحياة

في هذه الآيات صورة معبرة عن نموذجين من الناس ، لا يخلوا منهما زمان ولا مكان أمام مواقف الحق والعدل والإيمان ، فهناك النموذج المنافق الذي يحاول أن يستغل طيبة الناس وبساطتهم وصدقهم حيث يوحي إليهم بأن الذي يعايشونه طيّب وصادق ونظيف ، فيستسلمون لكلماته الحلوة ، وأساليبه الناعمة ، ومواثيقه المؤكدة التي يحاول من خلالها أن يوحي للناس بأنه يحمل في قلبه كل النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للناس حياتهم وتوجهها إلى الطريق الحق والسعادة الكبيرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في دلالته على إخلاصه وأمانته وتخطيطه للعمل الصالح الذي يتصل بحياة الناس في قضاياهم العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية ، (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) بالأيمان المغلظة والتأكيدات الحاسمة ، ليخضع الناس له من باب قداسة الشهادة وعظمة الميثاق.

ويكمل القرآن الصورة من جانبها الآخر عند ما ينفذ بنا إلى حياته الداخلية : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي : شديد الجدال والعداوة للمسلمين وللحق. ذلك هو واقعه في منطلقاته الفكرية والروحية الذي لن يتعرف الناس عليه إلا من خلال التجربة المرة التي تظهر كل ما يحمله من المعاني السيئة الشريرة التي تختبئ خلف قناع الوجه الذي يمثل الصدق والوداعة ، أو الكلمة التي تمثل

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢٦٧.

١١٧

الحق والبراءة ، ليتوصل من خلال ذلك إلى ما يريده من جاه ومال وشهوة ، حتى إذا استقام له الأمر ، وانفصل عن جو التمثيل ، انطلق بعيدا عن كل ما كان يقوله ويؤكده ويظهر به ، ليتحرك في الأجواء الحاقدة الطاغية الباغية التي يهلك فيها الحرث والنسل.

(وَإِذا تَوَلَّى) ووصل إلى الموقع القيادي الذي يطمح إليه من أجل الحصول على النتائج المعنوية والمادية لحساباته الخاصة ، واكتسب ثقة الناس به وتأييدهم له ، فأصبح رمزا دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا يشار إليه بالبنان ، ويجري الناس من خلفه تابعين له ، (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) بما يثيره في المجتمع من المشاكل والمنازعات والوسائل المدمّرة التي تحطم كل ما في الحياة من ثروة ، ومن بشر ... وينطلق في المجالات التي تفسد واقع الناس الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ، ويمتد في طغيانه بعيدا عن رضا الله ومحبته.

وقد اختلف المفسرون في كلمة (وَإِذا تَوَلَّى) فقال بعضهم : إنها الإعراض والإدبار في مقابل إقباله على الناس بكلامه المعسول ، وقال بعضهم : إنها الولاية ، أي : إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، كما يقول صاحب الكشاف (١). ولعله الأقرب ، لأن تلك الصفات توحي بالسلطة الكبيرة التي تمكنه من ذلك ، وتبرر له الاستعلاء على الوعظ والنقد والأمر بالتقوى ... والله العالم بأسرار آياته.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) فإنه سبحانه يريد للحياة أن تعيش في أجواء الخير والصلاح التي تنمي خيراتها ، وتطور مجتمعاتها ، وترتفع فيها بالإنسان إلى الدرجات العلى في عقله وروحه وحركته. ولذلك أرسل رسله بالرسالات

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٥٢.

١١٨

المتنوعة التي تخطط للحياة الإنسانية ، لتسير في الاتجاه الصحيح الذي ينسجم مع عناصر الحياة المودعة في شخصية الإنسان ، وفي حركة السنن الكونية في الحياة. وربما كان هذا ما استوحى منه الإمام الصادق عليه‌السلام ـ في ما روي عنه ـ أن المراد بالحرث هنا الدين ، وبالنسل الإنسان ؛ باعتبار أن الله زرع الدين في نظام الإنسان في الحياة ، تماما كما هو الزرع في نظام الأرض ؛ الأمر الذي جعل من هذا النموذج الذي يتولى المسؤوليات العامة في المجتمع ، مشكلة للناس في منع انطلاقة الدين في خط الاستقامة الذي يؤدي إلى الصلاح ، وذلك هو هلاك الحرث الاجتماعي في نظام الحياة ، على سبيل الاستيحاء لا على سبيل المعنى. والله العالم.

وقد تكون كلمة (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) واردة على نحو الكناية ، لأن الطغاة المنافقين الذين يتولون أمور الأمة يعملون على إبادة حضارتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية ، بحيث لا تبقى هناك أية قوة لأي وجود ، ولا أية ثروة لأية جماعة ؛ فكأنه يهلك الحرث والنسل ، لأنه يهلك الواقع السليم كله. وهذه عبارة تتكرر في الأساليب الأدبية في مقام التعبير عن الإنسان الذي يخرب الواقع كله.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) ووقف أمامه الناصحون والناقدون لينصحوه ، ويبيّنوا له خطأ السبيل التي يسير فيها ، وليعظوه ، ويوجهوه إلى خط التّقوى الذي يدفعه إلى مراقبة الله في كل شؤون الحكم والحياة (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) ، فتمسك به والتزمه اعتزازا به ، فلم يستمع للنصائح ، ولم يأخذ بالمواعظ ؛ بل امتد في طغيانه واستعلى واستكبر في عملية إيحاء كاذب بأنه فوق مستوى النقد والشبهات ، فهو الذي يعطي للآخرين برنامج العمل ويحدد لهم مسيرة الحياة ، فلا يجوز لأحد أن يحدد له برنامجه ومسيرة حكمه.

وتختم الآية الصورة بالمصير الذي ينتظر مثل هذا الإنسان (فَحَسْبُهُ

١١٩

جَهَنَّمُ) يعذب فيها أشد العذاب ، (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) الذي مهّده لنفسه بعمله وجريمته.

تلك هي صورة هذا النموذج الذي يتمثل بشخصية المنافق الذي يتحرك في حقول الدين والسياسة والاجتماع في كل زمان ومكان ، هذا الذي يبيع نفسه للشيطان في كل ما يمثله من التواء وانحراف وإغراء وإغواء ، من أجل أن يؤدي بنا إلى الانهيار والدمار من حيث لا نشعر ولا نريد.

وهناك صورة أخرى لنموذج جديد مشرق في داخل الحياة وخارجها ، تتمثل بالإنسان الذي شرى نفسه لله من أجل الحصول على رضاه (١).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) الأمر الذي يجعله يشعر أنه لا يملك نفسه ولا يرى لها حريّة مطلقة بعيدا عن إرادة الله وطاعته.

ولذلك فهو يعيش الإحساس العميق بأن عليه أن يبذل كل طاقاته الفكرية والروحية والجسدية في سبيل الله ، فلا مجال للترف الفكري في الأجواء التي تتحرك فيها التحديات الفكرية ضد الفكر الحق ، ولا موقع للخيال أمام حاجة الواقع إلى التعامل مع الظروف الموضوعية المطروحة في الساحة ، ولا وقت للفراغ في المجالات التي يشعر فيها الإنسان والحياة. وهكذا تنطلق حياته لتتحرك من موقع الحق المتحرك في أكثر من اتجاه ضد خطوات الباطل التي تطلق التحدي في أكثر من مجال.

إنه نموذج الرساليين الذين يعيشون رسالتهم في كل مظهر لحركة الحياة من حولهم ، ويعيشون حياتهم من أجل رسالتهم في الخط المستقيم ؛ فلا ينحرفون أمام كل محاولات الإغراء ولا يستسلمون لكل عوامل الضغط ؛ بل

__________________

(١) الشراء هنا بمعنى البيع كما في قوله تعالى : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف : ٢٠] أي : باعوه.

١٢٠