تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

«الصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصا بيوم من أيام السنة بين طائفة من اليهود. طبعا كانت هناك أيام أخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب أورشليم وغيرها» (١).

السيد المسيح عليه‌السلام صام أيضا أربعين يوما ، كما يظهر من الإنجيل «ثم صعد يسوع إلى البرية ... فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا» (٢) ويبدو من نصوص «إنجيل لوقا» أن حواريي السيد المسيح صاموا أيضا (٣).

وجاء في قاموس الكتاب المقدس «من هنا كانت حياة الحواريين والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم» (٤).

وقد لا نجد تفصيلات وافية عن طبيعة هذا الصوم المفروض على السابقين في شرائهم ، ولكننا نجد في القرآن الكريم حديثا عن صوم الصمت في ما حدثنا الله به من قصة زكريا قال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [آل عمران : ٤١] وفي ما حدثنا به من قصة مريم عليها‌السلام : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦]. وقد نجد لدى بعض المنتسبين إلى الديانات السابقة من اليهود والنصارى نوعا من الصوم الذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات كاللحوم ونحوها في بعض أيام السنة. وقد يخيّل لبعض الناس أن تشبيه الصوم

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ، ص : ٤٢٨.

(٢) إنجيل متى ، الإصحاح الرابع ، الرقم : ١ ـ ٢.

(٣) إنجيل لوقا ، الإصحاح الخامس ، الرقم : ٣٣ ـ ٣٥.

(٤) قاموس الكتاب المقدس.

٢١

المكتوب علينا بما كتب على الذين من قبلنا يوحي بوحدة الصوم عندنا وعندهم ، ولكن ذلك غير ثابت ، لأن التشبيه يكفي فيه أن يكون واردا لبيان أصل التشريع من دون دخول في تفاصيله.

* * *

الصوم والتقوى

وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) إذ لا بد لكم من القيام به فرضا واجبا ، كعبادة شرعية تتقربون بها إلى الله ، وتحققون فيها الكثير من المنافع الروحية والأخلاقية والجسدية ، (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فلستم أوّل الأمم التي يفرض عليها هذا النوع من الإمساك العملي ، لأن القضية ليست حالة خاصة في ظرف خاص يتصل بكم بشكل خاص ، بل هي حالة عامة في الإنسان كله من حيث علاقة الترك المخصوص لبعض الأشياء في توازن حياته ، كما هي علاقة الفعل الخاص في الجوانب الأخرى منها ، وربما اختلف الصوم في طبيعته ومفرداته بين أمة وأخرى ، ولكن المبدأ واحد.

وقد ختمت الآية بيان الصوم ، بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) للإيحاء بأن التقوى هي غاية للصوم أو نتيجة له ، نظرا لما يثيره في داخل الإنسان من الرقابة الذاتية الداخلية التي تمنعه من ممارسة كثير من الأشياء المعتادة له من شهواته ومطاعمه ومشاربه ، انطلاقا من وعيه التام للإشراف الإلهي عليه في كل صغيرة وكبيرة.

وهذا ما تعبر عنه مفردة «التقوى» بما تمثله من الانضباط أمام ما يريده الله منه وما لا يريده ، وذلك بأن لا يفقده الله حيث يريده ولا يجده حيث

٢٢

ينهاه. وبذلك يكون هذا الصوم الصغير مقدمة للصوم الكبير ، وذلك يتوافق مع ما ورد به الحديث الشريف : «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظّه من قيامه السهر ..»(١) ، فيمن لا يمنعه صومه من الممارسات المحرمة الأخرى في شهر رمضان وفي غيره.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) هناك قولان في المقصود بهذه الأيام :

أحدهما : إنها غير شهر رمضان ، وكانت ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخ ، عن معاذ وعطا وعن ابن عباس وروي ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم عاشوراء ، عن قتادة. ثم قيل : إنه كان تطوعا. وقيل : بل كان واجبا. واتفق هؤلاء على أن ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان.

والآخر : إن المعني بالمعدودات هو شهر رمضان ، عن ابن عباس والحسن واختاره الجبائي وأبو مسلم ، وعليه أكثر المفسرين ، قالوا : أوجب سبحانه الصوم أولا فأجمله ، ولم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر ، ثم بيّن أنها أيام معلومات وأبهم ، ثم بيّنه بقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، قال القاضي : وهذا أولى ، لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى ، ولأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه» (٢).

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فليس على المريض صيام في شهر رمضان ، والظاهر ـ من مناسبة الحكم والموضوع ـ أن المراد به المرض الذي يضر به الصوم ، لأن ذلك ما يعتبر عسرا على المكلف ، فلا يشمل الصوم الذي ينفع المريض أو الذي لا يترك أي أثر ضار على صحته. وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة المتعددة في هذا الشأن.

أما السفر ، فقد حدّدت كميته بما ورد في السنة الشريفة التي اختلفت

__________________

(١) البحار ، م : ٣٠ ، ج : ٨٤ ، ص : ٣٣٩ ، باب : ٨١ ، رواية : ١٧.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

٢٣

الروايات بشأنها ، مما أوجب اختلاف المذاهب فيها بين السنة والشيعة ، مما تعرضت له كتب الفقه.

* * *

الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة؟

ولكن هنا بحثا آخر لا بد من الإشارة إليه ، وهو أن الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة؟. فذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، وأبي هريرة ، وعروة بن الزبير (١) إلى أنه عزيمة ، وهو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام (٢) ، وهو الظاهر من الآية الكريمة في قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فإن الظاهر منها هو أن صيام الأيام المعدودات فرض غير المسافر والمريض ، أما هما فان فرضهما هو أيام أخر ، في غير شهر رمضان لأن السياق جرى مجرى العزيمة والفرض وذهب

__________________

(١) روي أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه ، وروى يوسف ابن الحكم قال : سألت ابن عمر عن الصوم في السفر ، فقال : أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك ، ألا تغضب ، فإنها صدقة من الله تصدّق بها عليكم. وروى عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وروي عن ابن عباس أنه قال : الإفطار في السفر عزيمة [مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٤٩٣].

(٢) قال في مجمع البيان : وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر ، وعنه عليه‌السلام قال : لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صليت عليه ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من سافر أفطر وقصر ، إلا أن يكون رجلا سفره إلى صيد أو في معصية الله وروى العياشي بإسناده مرفوعا إلى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لم يكن رسول الله يصوم في السفر تطوعا ولا فريضة حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير ، فدعا رسول الله بإناء فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا ، فقال قوم : قد توجه النهار ، ولو تممنا يومنا هذا فسماهم رسول الله العصاة ، فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله. [مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٤٩٣].

٢٤

أكثر أهل السنة ، إلى أنه رخصة ، وقدّروا في الآية كلمة : فأفطر ، فقالوا ، إن تقديرها فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ... ولكن هذا ضعيف بأن التقدير خلاف الظاهر ولا يصار إليه إلا بدليل ، ولا دليل في الآية عليه ، وبأن هذا التقدير لا يمنع من العزيمة لأن الحديث عن الإفطار لا يعني إلا جوازه في مقابل التحريم ولا يعني ذلك في مقابل الإلزام.

* * *

متى تجب الفدية؟

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) الإطاقة ـ كما ذكره بعضهم ـ صرف تمام الطاقة في الفعل ، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقة (١) والفدية هي البدل المالي عن الصوم. والظاهر من الآية ـ بمقتضى السياق ـ هو حالة الذين يستطيعون الصوم بجهد ومشقة وهم الشيوخ الذين يجدهم الصوم ، فإن مثل هؤلاء لا يكلفون بالصوم ولا يكلفون بالقضاء ، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية. وقد ورد ذلك في تفسير العياشي عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش (٢).

وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الفقرة تدلّ على الرخصة ، على أساس تخيير الله للقادرين بين الصوم وبين الإفطار ودفع الفدية ، ثم نسخت بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). ولكن ذلك مردود بدراسة الآيات التي تدل على وحدة الفرض والسياق ، ولا يحتاج ذلك إلا إلى ذوق سليم وحس مرهف.

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٢ ، ص : ١٢

(٢) انظر : م. ن. ، ج : ٢ ، ص : ٢٨.

٢٥

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ربما كان المقصود منه التطوع بالزيادة على الفدية ، بأن يعطي الزيادة على ما وجب عليه ، كما ورد في بعض الأحاديث أن الأفضل مدان من الطعام. وفسرها صاحب الميزان بإيتاء الصوم عن رضى ورغبة (١) ، لأن كلمة التطوع تعني الاختيار في مقابل الإلزام لتدلّ على الاستحباب ، بل تدلّ على الطوع في مقابل الكره ؛ وذلك بأن يأتي الإنسان به عن رغبة ورضى وقناعة. ولكن هذا خلاف الظاهر لظهور كلمة التطوع في الفعل الذي يأتي به الإنسان من دون إلزام باعتبار أن الإلزام يوحي بالضغط والكره ، بينما الاستحباب لا يوحي إلا بالتوسعة والتخفيف. وأما ما ذكره من أن استعمال الكلمة في الفعل المستحب اصطلاح جديد فهو غير دقيق ، لأن القضية ليست قضية استعمال الكلمة في المعنى ، بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة في ما يفهم من مدلوله الواجب والمستحب.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الظاهر منها ـ بقرينة السياق ـ هو أنها خطاب للذين يجهدهم القضاء ، فتباح لهم الفدية لإعلامهم بأن الفدية ، وإن كانت جائزة ، إلا أن الصوم خير لهم إن كانوا يعلمون لما فيه من النتائج الروحية والعملية وهناك احتمال بأن الفقرة واردة في الحديث عن الصوم ، بأنه خير للناس في ذاته بحسب فلسفة الصوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى الناس ، وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة بعد كل تشريع ، لما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة : ٩] وقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [العنكبوت : ١٦].

وبهذا يبطل قول من قال : إن الصوم كان في بداية التشريع واجبا

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٣.

٢٦

تخييريا ، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية ، ثم نسخ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم فأصبح واجبا عينيا. وهو خلاف الظاهر.

* * *

ما معنى نزول القرآن في شهر رمضان؟

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

في هذا التأكيد القرآني على نزول القرآن في شهر رمضان ، في هذه الاية ، وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدخان والقدر ، إيحاء بأن عظمة هذا الشهر مستمدة من مناسبة نزول القرآن فيه. وقد اختلف الحديث في تحليل نزول القرآن في هذا الشهر ، فهناك من ذكر أن المراد به أول نزوله ، وهناك من ذكر أنه النزول إلى اللوح المحفوظ من البيت المعمور ، وهناك من حاول أن يجعل من مفهوم الكتاب معنى غامضا لا نستطيع إدراكه ، فهو الذي نزل على قلب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ثم نزل عليه تدريجيا. وقد كان السبب في هذا الاختلاف ، ظهور هذه الاية وغيرها في نزوله دفعة ، بينما الاية الكريمة تنص على أنه نزل تدريجا : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢] والاية الأخرى (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦].

كما أنّ هناك وجها آخر لهذا الاختلاف ، وهو أن النزول والبعثة كانا في موعد واحد ، مع أن المعروف أن البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وأن أول ما أنزل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] فكيف يمكن التوفيق بين الاية وبين ذلك؟!

٢٧

والواقع أن الظاهر من القرآن الكريم هو أن إنزاله كان في شهر رمضان ، ولا نجد هناك فرقا بين الآيات التي تتحدث عن إنزال القرآن في ليلة القدر أو في شهر رمضان ، وبين الآيات التي تتحدث عن إنزاله على مكث أو تدريجيا ، ولا نستطيع أن نحمل القرآن على معنى غامض خفي في علم الله ، وذلك لا من جهة أننا نريد أن نفسر القرآن تفسيرا حسيا ماديا كما يفعل الحسيون ، بل من جهة أنه لا دليل على ذلك في ما حاول بعض المفسرين أن يقيم الدليل عليه ، مما لا مجال للخوض في النقاش فيه ، لأننا لا نجد فيه كبير فائدة.

وعلى ضوء ذلك ، فإن هذا الظهور القرآني البيّن يجعلنا لا نثق بالروايات التي توقّت البعثة في رجب أو تعيّن أوّل الآيات النازلة في سورة اقرأ ، ولذلك فإن من الممكن أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال ، كما أن كلمة القرآن تطلق على القليل والكثير بما يشمل السورة والاية والمجموع. والظاهر أن هذا المقدار كاف في الجانب التفسيري من القضية ، لأن الباقي يدخل في باب التخمين والتأويل من غير فائدة تذكر.

* * *

القرآن هدى للناس

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

هذه هي قيمة القرآن وأهميته في حياة الناس ، فهو كتاب هدى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السّلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور. وهو كتاب البينات التي توضح للناس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كل شبهة ، ويفرق بين الحق والباطل. وقد بينا في بداية هذا التفسير أن معنى كون القرآن هدى ، هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها ، فلا مجال للإشكال بأن هناك من لا يهتدي بالقرآن ، لأن الهدى هنا بمعنى الشأنية لا

٢٨

بمعنى الفعلية ، فراجع.

* * *

بين القضاء واليسر

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). هذا تأكيد على الحكم الذي استفدناه من الاية السابقة ولكن بشكل أوضح ، فإن المراد من الشهود الحضور في مقابل السفر. أما المريض والمسافر ، فيجب عليهما الصوم في أيام أخر في غير شهر رمضان ، ولا يجب عليهما في هذا الشهر ، ولا يشرع لهما وقد تقدم الحديث عن موضوع الرخصة والعزيمة في صوم المسافر.

وقد ذكر البعض أن المراد بشهود الشهر رؤية الهلال ، لتكون الاية دالة على أن الصوم مشروط بالرؤية ، كما جاء في الحديث الشريف عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (١). ولكن لا دليل في الاية على ذلك بل ربما كان ذكر السفر في مقابل ذلك دليلا على أن المراد به الحضور في البلد. وقد جاء في رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام أنه قال لما سئل عن هذه ما أبينها لمن عقلها قال : «من شهد رمضان فليصمه ، ومن سافر فيه فليفطر» (٢). وقد روي أيضا ـ كما في مجمع البيان ـ «عن علي وابن عباس ومجاهد وجماعة من المفسرين أنهم قالوا : «من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر ، فعليه أن يصوم الشهر كله» (٣) وهذا دليل على أن المراد به الحضور في البلد.

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) هذا بيان للحكمة في تشريع

__________________

(١) البحار ، م : ١٨ ، ج : ٥٥ ، ص : ٤٣٠ ، باب : ١٣.

(٢) م. ن. ، م : ٣٤ ، ج : ٩٣ ، ص : ٢٠٠ ، باب : ٤٢ ، رواية : ١٥.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٤٩٨.

٢٩

القضاء على المسافر والمريض ، وأن الله أراد من خلال ذلك بناء أمر الإنسان في ما يفعله وفي ما يتركه على أساس التيسير ، لأن الله قد أرسل نبيّه بالشريعة السهلة السمحة. وقد حاول البعض أن يستفيدوا من هذه الفقرة من الاية أن الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة ، ولكن لا دليل لهم في ذلك لأنه يمكن أن يكون اليسر في إسقاط الصوم عنهم ، وإن كان ذلك إلزاميا.

وربما يستفاد من هذه الاية قاعدة فقهية حاكمة على أدلّة الأحكام العامة وهي قاعدة «اليسر» أو «لا حرج» ، فهي دالة على أن الله يريد ـ في كل تشريعاته ـ أن ييسر للناس حياتهم في ما يفعلون وفي ما يتركون ، مما يوحي بأن كل حكم يوقع الناس في العسر فهو غير مجعول في الشريعة ، حتى لو كان الدليل الدال عليه يدلّ على ذلك بإطلاقه وعمومه. وهذا هو الأساس في فتاوى الفقهاء في انتقال الإنسان من حالة في الصلاة إلى حالة أخرى حيث يرفع الإلزام عن الحالة المستلزمة للمشقة والعسر كالقيام بالنسبة إلى الجلوس ، والوضوء بالنسبة إلى التيمم ونحو ذلك.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) في صيام الأيام التي فاتت المكلّف في شهر رمضان ، ليكمل له بذلك الصيام الذي فرضه عليه. (وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلى ما هَداكُمْ) فسّره المفسرون بالتكبيرات التي يكبّرها المصلون في صلاة العيد ، ولعل الظاهر أنها تعليل للتشريع العبادي في الصوم الذي يوحي بالتذلل ، والخضوع ، والانقياد ، والوعي الروحي للربوبية الشاملة والألوهية العظيمة في موقع العظمة والكبرياء ، وعلى هدايته لدينه الذي به يعرف ربه في توحيده ، وقدرته ، وكل مواقع العظمة عنده ، ليحسّ الإنسان بأن الله هو كل شيء في وجوده وفي حركته ، ولا شيء لأيّ مخلوق إلا من خلاله ، فهو الذي يمنحهم القوة والعظمة والغنى والسعة في حياتهم ، ولا يملكون ، في ذواتهم ، نفعا ولا ضرا ... وهذا ما يجعل المؤمن واعيا لمقام ربه ، ومنفتحا على مسئوليته في توحيده في العبادة والطاعة ، فيكبّر الله على ذلك كله ، في روحه وعقله

٣٠

وشعوره ولسانه وعمله.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على ما رزقكم الله من الفرصة في طاعته وفي القيام بما يصلح أمر دينكم ودنياكم ، فإن ذلك من النعم التي تستحق الشكر ، وأي نعمة أفضل من النعمة التي تهيّئ للإنسان سعادة الدارين.

* * *

٣١

الاية

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦)

* * *

الدعاء .. في علاقة العبد بربه

ربّما كانت الأجواء التي عاشت فيها الآيات المتقدمة ، من تقوى الله التي ينطلق فيها الإنسان مع الصوم ، ومن شكر الله على ما أنعم به على الإنسان من نعمة الطاعة والرعاية والتيسير ... ربما كانت هذه الأجواء تحمل الكثير من الإيحاءات الحميمة التي تفتح قلب الإنسان على الله في محاولة للتقرّب إليه ، كوسيلة من وسائل الحصول على لطفه ومحبته ورضاه في كثير مما يهم الإنسان من شؤون حياته في تطلعاتها وأحلامها وآلامها ، وهذا مما يجعل القضية تلح على وجدان الإنسان ، في سؤال عميق عن طبيعة العلاقة التي تشد الخالق إلى مخلوقاته. فكانت هذه الاية تقريرا لروعة الألوهية التي انطلقت عظمتها وقوتها في رحمتها للعباد ، فهي قريبة الى كل آمالهم وآلامهم ومطامحهم ونوازعهم في شتى مجالات حياتهم ، تستمع إليهم في دعواتهم ،

٣٢

وتلبيهم في نداءاتهم ، وتستجيب لهم في مناجاتهم من دون وسيط أو شفيع ، بل هي الكلمات التي تنطلق من القلب لترتفع إلى السماء حيث المحبة والرحمة والعفو والمغفرة.

إنها دعوة الله إلى عبده أن يستجيب له ، فيدعوه لأن في ذلك خلاصا له من كل سوء أو شدة ، وتحررا عن كل عبودية لغير الله عند ما يشعر أن الله هو وليّ حاجته ، فمنه الفرج لكل شدة ، وبه الخلاص من كل سوء ، وهو ـ لا غيره ـ مالك الدنيا والاخرة ، ووليّ الحياة والموت ، وبيده مقاليد الأمور ، وذلك هو سبيله الى الشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار ، حين يشعر بأن حاجاته الصعبة هي في دائرة رحمة القادر على قضائها والعالم بما يصلحه أو يفسده منها ... وهي في الوقت نفسه دعوة إلى الإيمان به ، لأنه الحقيقة الواضحة التي لا يحتاج الإنسان في وعيها ، وفي الإيمان بها ، إلى مزيد من الفكر والتأمل والمعاناة ، بل يلتقي بها في كل شيء يعيش معه ، وفي كل ظاهرة من ظواهر الوجود. وفي الحالين معا ، في الدعاء عند ما ينطلق ، وفي الإيمان عند ما يتحرك الرشد ـ كل الرشد ـ في واقع الحياة وفي حركتها الصاعدة أبدا إلى الله.

* * *

الدعاء عبادة

والدعاء ـ بعد ذلك كله ـ عبادة تهزّ أعماق الإنسان بالشعور بوجود الله وحضوره في كل ملتقى للإنسان في ما يهمه من أمور الحياة ، وفي ما يثيره من شؤون الاخرة. وهي عبادة لا تفرض عليه كلماتها وأجواؤها من خارج ذاته ، من خلال تعليمات مفروضة ، بل هي مشاعره وأفكاره وحاجاته وآلامه وآماله وكلماته المنطلقة من ذاته في أسلوب عفوي محبب في جو حميم يفقد

٣٣

معه الشعور بالفواصل التي تفصله عن الله بما تمثله علاقة العبد بالسيد ، أو علاقة المخلوق بخالقه ، بل هو الجو الذي يحس فيه بالانفتاح والامتداد في أجواء المطلق. وتلك هي السعادة ، كل السعادة ، والروحية الفياضة بالنور والعطر والحياة.

إنها عبادة الإنسان التي تتحرك معها حياته كلها بين يدي الله ، في شعور بالمحبة الذاتية الخالصة التي لا يعرف روعتها إلا المخلصون من عباد الله.

وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدعاء مخ العبادة» (١) ، وعنه أيضا : «الدعاء هو العبادة» (٢).

* * *

ملاحظات بخصوص الدعاء

ربما تثار أمام الدعاء عدة ملاحظات : أولها ما أثاره اليهود حين قالوا : إن الله لما خلق الأشياء وقدّر التقادير تمّ الأمر ، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتّمه من القضاء ، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأن الأمر مفروغ عنه (٣).

وقد عبّروا عن هذه الفكرة في الدعاء بأسلوب الاستدلال ، فقالوا ـ في ما نقل عنهم ـ «إن الحاجة المدعوّ لها إما أن تكون مقضيّة مقدّرة أولا ، وهي على الأول واجبة ، وإن لم تكن كذلك فهي ممتنعة. وعلى أي حال لا معنى لتأثير الدعاء. والجواب عن ذلك أن التقدير الإلهي للأشياء لا يعني تحقق

__________________

(١) البحار ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٤١٦ ، باب : ١٦ ، رواية : ٣٧.

(٢) م. ن ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٤١٦ ، باب : ١٦ ، رواية : ٣٧.

(٣) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٣٣.

٣٤

الشيء بشكل مطلق من دون سبب أو علّة ، بل يعني أن الله قدّر لها الوجود بأسبابها المادية والمعنوية ، فلا منافاة بين تقدير وجودها وتوقفها على حصول الأسباب ، وقد يكون الدعاء سببا معنويا للوجود بالإضافة إلى الأسباب المادية الأخرى التي يرتبط بها ارتباطا عفويا ؛ فإذا لم يصدر الدعاء من العبد لم يوجد شيئا ـ حسب التقدير الإلهي ـ لأن سببه المعنوي لم يوجد ، وهذا ما قد تشير إليه الأحاديث المتضافرة عن أهل البيت عليهم‌السلام : «من القدر الدعاء» (١) ، لأن الله جعل له دورا في مسألة التقدير. وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، في رواية ميسر بن عبد العزيز عنه ، كما ورد في الكافي ، «قال : قال لي : يا ميسر : ادع ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه ، إن عند الله عزوجل منزلة لا تنال إلا بمسألة ، ولو أن عبدا سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئا ، فسل تعط. يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه» (٢).

وقد جاء في بعض الأحاديث عن الدعاء أنه يرد القضاء وقد أبرم إبراما ، كما جاء في رواية بسطام الزيّات عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : «إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء وقد أبرم إبراما» (٣).

وروى أبو همام إسماعيل بن همام عن الرضا عليه‌السلام قال : قال علي بن الحسين عليه‌السلام : إن الدعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة. إن الدعاء يرد البلاء وقد أبرم إبراما (٤).

وربما يفسّر هذا الحديث وما قبله بأن الأسباب المادية التي تفرض وجود البلاء وتهيّئ الظروف لحركة القضاء ، قد تكون متوفرة في الواقع الذي يحيط بالإنسان في دائرة الظروف الموضوعية المتصلة بعلاقة المسبب بالسبب ، فيأتي

__________________

(١) البحار ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٤١٦ ، باب : ١٦ ، رواية : ٣٧.

(٢) الكليني ، الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٣) م. ن. ، ج : ٢ ، ص : ٤٤٠.

(٤) م. ن. ، ج : ٢ ، ص : ٤٤٠.

٣٥

الدعاء ليعطل ذلك في درجة الفعلية بعد أن تكون الشأنية الذاتية مقتضية له ، لتكون المسألة أن الله جعلها أسبابا لو لا الدعاء ، حيث يأخذ الدعاء دور المانع عن تأثير المقتضي في المقتضى.

وقد يشير إلى ذلك الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام الذي رواه إسحاق بن عمار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن الله ليدفع بالدعاء الأمر الذي علمه أن يدعى له فيستجيب ، ولو لا ما وفق العبد من ذلك الدعاء لأصابه منه ما يجثه (١) من جديد (٢) الأرض»(٣).

ويؤكد ذلك الحديث المروي عن أبي ولاد قال : قال أبو الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام : عليكم بالدعاء فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يرد البلاء. وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه ، فإذا دعي الله ـ عزوجل ـ وسئل ، صرف البلاء صرفه (٤).

ثاني هذه الملاحظات : إن الدعاء وسيلة من وسائل التحذير الذاتي ، الذي يدفع الإنسان إلى الكسل والتواكل والابتعاد عن الأخذ بالأسباب الطبيعة في الأشياء ، وعن الانفتاح على حركة الحياة من أجل تنميتها وتقويتها وتطويرها ، ويبتعد بالإنسان عن عالم الحس إلى عالم الغيب ، ليكون غيبيا في وعيه للحياة بالإضافة إلى كونه غيبيا في ما وراءها.

ونجيب عن ذلك بأن دراسة الأحاديث الواردة في الحث على الدعاء توحي بأنه ليس بديلا عن الأخذ بالأسباب الطبيعية المقدورة للإنسان في الوصول إلى أهدافه وحاجاته ، لأن مورده هو الحالات التي لا يملك فيها

__________________

(١) يجثه : يقتلعه وينتزعه ، وكناية عن الإهلاك.

(٢) جديد الأرض : وجهها.

(٣) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٤٧٠ ، رواية : ٩.

(٤) م. ن. ، ج : ٢ ، ص : ٤٧٠ ، رواية : ٨.

٣٦

الوسائل الطبيعية لتحقيق غاياته. وهذا ما جاءت به الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق مما رواه الوليد بن صبيح عنه ، كما في الكافي ، قال : «صحبته بين مكة والمدينة ، فجاءه سائل فأمر أن يعطى ، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى ، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى ، ثم جاء الرابع فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يشبعك الله. ثم التفت إلينا فقال : أما إن عندنا ما نعطيه ولكن أخشى أن نكون أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة : رجل أعطاه الله مالا فأنفقه في غير حقه ، ثم قال : اللهم ارزقني فلا يستجاب له ، ورجل يدعو على امرأته أن يريحه منها ، وقد جعل الله عزوجل أمرها إليه ، ورجل يدعو على جاره ، وقد جعل الله له السبيل إلى أن يتحوّل عن جواره ويبيع داره» (١).

وفي رواية أخرى عنه مما رواه عنه جعفر بن إبراهيم قال : «أربعة لا تستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالطلب ، ورجل كان له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك ، ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالاقتصاد ، ألم آمرك بالإصلاح. ثم قال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] ورجل كان له مال فأدان بغير بينة ، فيقال له : ألم آمرك بالشهادة» (٢). وجاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «لتأمرن بالمعروف ، ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم ، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» (٣).

فإننا نلاحظ في الحديثين الأولين تأكيدا على عدم استجابة الدعاء ممن يملك الوصول إلى غايته وتحقيق مراده بالوسائل الموجودة عنده ، ولكنه

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٥١٠.

(٢) م. ن. ج : ٢ ، ص : ٥١١.

(٣) البحار ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٤٦٥ ، باب : ٢٤ ، رواية : ٢١.

٣٧

يهملها ويلجأ إلى الدعاء ، الأمر الذي يدل على أن الدعاء يمثل الوسيلة التي يلجأ إليها الإنسان حيث لا وسيلة لديه ، لأن الله لا يريد للإنسان أن يجعل من إيمانه بربه سبيلا للابتعاد عن سنن الله في الحياة ، التي جعلها أساسا للعلاقة بين الأسباب والمسببات في الواقع الإنساني في شؤونه وحاجاته وأوضاعه الاختيارية ... وهذا ما يمثله معنى التوكل في توكل الإنسان على الله ، بعد استنفاد كافة الوسائل التي تحقق له غرضه ، فلا يسقط أمام حالة العجز بل يترك أمره إلى الله الرحمن الرحيم القادر على كل شيء والذي يحب عباده المتوكلين عليه. كما أن الحديث الثالث يؤكد أن التخلص من الأشرار يفرض القيام بمواجهتهم بالوسائل الموجودة ثم الدعاء ، لا إهمال الواقع الفاسد ثم الدعاء.

ومع هذه الملاحظة ، فكيف يمكن أن يدّعى أحد أن الدعاء يجعل الإنسان غيبيا في حياته العملية ، حتى في موارد قدرته على الارتباط بعالم الحسّ ، ويعزله عن حركة النشاط الطبيعي في الواقع الذي يتحمل مسئوليته؟

ثالث هذه الملاحظات : إن الدعاء يتنافى مع رضى الإنسان بقضاء الله وقدره ، لأنه لا يصبر على الواقع الذي يعيش في داخله مما قدّره الله له.

وهذه شبهة لا معنى لها ، لأن الدعاء ـ كما ذكرنا ـ جزء من الوسائل التي أراد الله للإنسان أن يأخذها في استكمال نظام الحياة التي جعل الله فيها لكل شيء قدرا في عناصره المادية والمعنوية. وكما أن الله لا يريد للإنسان أن يصبر على البلاء الذي يقدر على دفعه عن نفسه بالوسائل المادية ، فإنه لا يريد له أن يبتعد عن الرجوع إليه بالأخذ بالوسائل الروحية ، ومنها الدعاء في دفعه ، مما يعني أنه يحقق إرادة الله في ذلك لأنه جعل قضاءه وقدره مربوطين بمسألة الدعاء سلبا أو إيجابا.

وهذا هو الرد على من قال ـ في الاعتراض على الدعاء ـ : بأنه تدخل في شؤون الله ، والله يفعل ما يريد مما ينسجم مع مصالحنا ، فلما ذا نطلب منه

٣٨

ونتضرع إليه؟! إذ إن الله يريد الأشياء بأسبابها ويحرك مصالحنا في اتجاه هذه الأسباب المادية والروحية ، ونحن نطلب منه لأنه أراد منا ذلك.

* * *

إجابة الله دعاء عباده

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) في قلق المعرفة وحيرة الفكر ، انطلاقا من عالم الغيب الذي لا يملكون السبيل إليه بطريقة حسية ، ومن علوّ الألوهية وسموّها وارتفاعها في آفاق العظمة التي لا يدركون كنهها وحقيقتها ، ولا يعرفون الوسيلة التي ينطلق فيها الإنسان إلى ربه ، والعلاقة التي تربطه به في حاجاته التي يتطلبها ، وفي مشاعره التي يحس بها ، وفي تطلعاته التي يهفو إليها ، ولا يدرون كيف يتحدثون معه ، ويصلون إليه ، وهو البعيد عنهم بعد السماء عن الأرض في الغموض الكثيف الذي يلف السماء في مفهومها الطبيعي في أفكارهم ، الأمر الذي يخيل إليهم أنه لا مجال لأية صلة بينهم وبينه ، لأنها تنطلق من مواقع القرب المكاني الذي لا دور له هنا ، والمعنوي الذي لا مجال له بين العبد في حقارة موقعه وبين الرب الذي هو في العلو الأعلى الذي ليس فوقه شيء.

ولكن الله ، الذي يعلم عمق أسرار عباده ، ودقّة أحاسيسهم ، وضبابية الغيب في تصوراتهم ، وقلق المعرفة في دائرة الحيرة في علامات الاستفهام الكامنة في ذواتهم ، أراد أن يستبق السؤال ـ في حال صدوره منهم ـ بالجواب عن السؤال المتحرك في وجدانهم الخفي. وهذا هو الفرق بين أسلوب السؤال هنا ، وأسلوب السؤال في الأسئلة التي يقدمها الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مما حدثنا الله عنه بعنوان (يَسْئَلُونَكَ) لأن هذا السؤال كان في الأعماق ، وفي همسات النفس ، وهواجس الفكر بحيث يمثل علامة استفهام جنينية ، فهو

٣٩

الحالة الشأنية في السؤال. بينما ما ورد في القرآن من أسئلة الناس كان يمثل الفعلية التي تبحث عن معرفة كل ما يدور في الذهن ، مما يجهله الناس ويتطلبون معرفته.

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) لأني لست وجودا محصورا في المكان لتكون المسافات هي التي تفصلني عنهم ، بل هو الوجود الكلي في القدرة والإحاطة والشمول ، فلا يغيب عنه شيء ، فهو العالي في علوّه في الوقت الذي هو الداني في دنوّه ، فلا شيء أقرب إلى عباده منه. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال : ٢٤].

إنه الحاضر الذي لا يملك أحد معنى حضوره في وجود الإنسان لأنه سرّ وجوده ، ولهذا كان قربه إليه من خلال ارتباط ذاته به ، فهو الذي يمنحها الوجود في كل آن من جهة فقره المطلق إليه.

وإذا كانت المسألة بهذا المستوى من معنى قرب الله إلى عبده ، فإن على عباده أن يتعاملوا معه من موقع هذا القرب ، ليتحدثوا معه حديث القريب إلى القريب ، سرّا وجهرا ، في همسة الروح ، وتمتمة الشفاه ، وانفتاح القلب ... ليجدوا فيه المعنى الروحي للقرب من عمق رحمته ، ليتحسسوا وجوده في وجودهم ، فلا يشعروا بالانفصال عنه ، وليعيشوا لهفة الفقر في غناه ، وصرخة الحرمان إلى عطائه لتكون حاجاتهم بين يديه ، فهو الذي يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين ، ويسمع الأنين والشكوى ، ويعلم السرّ وأخفى ، ويسمع ووساوس الصدور.

وهكذا خاطب الله كل واحد منهم بالأمل الحي ، الأخضر ، المنفتح على النتائج الإيجابية لكل طلباتهم ، باعتبار أنهم عباده الذين خلقهم ، وأفاض عليهم من نعمه ، وتكفل بتدبيرهم في حياتهم كلها ، وقرّبهم إليه. (أُجِيبُ دَعْوَةَ

٤٠