تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

قول القائل : عسى الله أن ييسر لي امرأة مثلك.

(خِطْبَةِ) : الخطبة : طلب المرأة للتزوج ، من الخطب. والمخاطب والتخاطب : المراجعة في الكلام. والخطبة تختص بالموعظة ، والخطبة بطلب المرأة. وأصل الخطبة : الحالة التي يكون عليها الإنسان إذا خطب ، نحو الجلسة والقعدة.

(أَكْنَنْتُمْ) : أسررتم وأضمرتم في أنفسكم. والإكنان من الكن ، بمعنى الستر ، لكن يختص الإكنان بما يستر في النفس ، والكن بما يستر ببيت أو ثوب وغير ذلك من الأجسام ... ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩].

(وَلا تَعْزِمُوا) : العزم : عقد القلب على أمر تفعله.

(عُقْدَةَ) : العقدة : من العقد وهو الشدّ. والتعبير في الآية وارد على تشبيه عقد النكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر ، بحيث يصيران واحدا بالاتصال. وكأن علاقة الزواج تصيّر الزوجين واحدا متصلا.

* * *

الخطبة بين التعريض والتصريح

في هذه الآية معالجة واقعية للموقف الشرعي أمام المرأة المطلّقة ، التي قد يرغب بعض الناس في الزواج منها ، فربما تظهر هذه الرغبة على فلتات النفس في ما يعبر به الإنسان عن إرادته المستقبلية للخطبة من أجل خلق جو طبيعي للعلاقة على أساس إبعاد الموانع والحواجز التي قد تحدث من خلال رغبة أخرى لشخص آخر ، وربما تبقى هذه الرغبة حديثا مكتوما في النفس ، فليس في القضية أيّ إثم ما دامت في الحدود الشرعية التي تبقي الموقف في

٣٤١

نطاق المشاعر الداخلية أو الرغبة المستقبلية ، بعيدا عن أجواء المواعدة السرية التي قد تفضي إلى أجواء حميمة تؤدي إلى الانحراف.

أما إذا كانت تتمثل في القول المعروف ، فلا جناح على الإنسان فيه. وتبقى القضية في نطاق الإعلان عن مشروع زواج ، أما الزواج نفسه الذي عبّرت عنه الآية الشريفة ب (عُقْدَةَ النِّكاحِ) فلا يجوز للإنسان أن يحققه إلا بعد بلوغ الكتاب أجله ، وهو انتهاء مدة العدة ، لأنه غير مشروع في أثنائها. ويأتي ختام الآية ، ليثير في داخل الإنسان الشعور العميق برقابة الله الخفية ، التي تطلع على ما في النفس فترصده ، وتتابع حركته في ما يحل وما يحرم مما يوجب على الإنسان الحذر من الله بالحذر من عقابه ... ثم يوحي من جديد بأن الله غفور رحيم ، إذا أخطأ العبد وتجاوز حدوده ، ثم رجع إلى الله وتاب عليه ، لأنه لا يترك الإنسان واقعا تحت ضغط الخطيئة ، لتعيش كعقدة متأصلة في نفسه ، بل يريد له ـ دائما ـ أن يتحرر منها بالشعور بزوالها عن حياته بزوالها عن داخل ضميره. وهذا هو الأسلوب القرآني الحكيم الذي لا يريد أن يعقّد الإنسان أمام رغباته الذاتية في ما لا ضرر منه. ولذلك فقد أثار أمام الإنسان أن الله يعلم أنه سيذكرهن ، فلا ينبغي له أن يشعر بالإثم من ذلك. ثم أكد عليه كيف يقف عند حدود الله في ما يعلم أن الله مطّلع عليه ، في موقف يدعوه إلى الالتزام ، ولكنه لا يغلق عليه باب المغفرة على تقدير الخطأ ، والله العالم.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي : لا حرج عليكم أيها الرجال (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) اللاتي تنفصلن عن أزواجهنّ بالطلاق في أوقات العدة ، وذلك بالحديث عن الرغبة بالزواج بهنّ ، من ناحية المبدأ ، بطريقة لا صراحة فيها في الدلالة على الفكرة ، بل على سبيل التعريض الذي لا يحرج الموقف ولا يسيء إلى الجوّ ، وذلك بالحديث عن صفاتها الحسنة التي تجعلها محل رغبة للرجال في اتخاذها زوجة ، أو بالتنديد بقضية طلاق زوجها لها بأن مثلها لا يمكن أن

٣٤٢

يستغني عنها الزوج الذي يريد أن يحقق لنفسه السعادة في الحياة الزوجية ، ونحو ذلك من الأساليب التي تتنوّع تبعا للأوضاع وللظروف وللتقاليد الاجتماعية ... ولا حرج عليكم في ذلك (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) وذلك بأن أضمرتم وأسررتم التخطيط لمشروع الزواج بعد العدة ، من خلال الرغبة الدفينة ، فلم تظهروه لأحد ، إذ لا فرق في الرخصة بين إضمار الرغبة في النفس أو التعبير عنها بأسلوب التعريض.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) لأن طبيعة أية حالة نفسية كامنة في الذات تفرض التعبير عنها بطريقة أو بأخرى ، إذا كانت مرتبطة بحياة الإنسان في مستوى الأهمية الكبرى في أوضاعه الخاصة والعامة. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) لأن أجواء الاجتماعات السرية ـ على أساس المواعدة بينها وبينكم ـ قد يفسح المجال لبعض الوساوس الشيطانية التي تطوف في الخيال الغريزي.

فإن التقاء ذكر وأنثى في مثل ظروفهما ، ربما يثير الرغبة الكامنة في النفس لدى الرجل ، والحرمان العميق في جسد المرأة بانفصالها عن الفرصة التي كانت تهيئ لها إشباع غريزتها مع زوجها ، فيؤدي إلى الانحراف والوقوع في المعصية.

وربما كان هذا هو مدلول الحديث الذي رواه أبو بصير ، عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها : أوعدك بيت أبي فلان أوعدك بيت فلان لترفث ويرفث معها (١). فقد لا يكون الحديث المذكور إشارة إلى فعلية ذلك في سلوكهما العملي ، بل ربما كان المقصود منه أداء الجو إلى ذلك.

(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) فلا يتخلل الحديث أي كلام فحش ، بما يتصل بالعملية الجنسية التي قد يتحدث بها بعض الرجال مع بعض النساء ،

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٣٨١ ، باب : ١١٩ ، رواية : ٣٤.

٣٤٣

للتدليل على قدرته على إشباع المرأة بطريقة فريدة أو ما أشبه ذلك ، بل يتحدث معها عن صفاته الذاتية ، وعن احترامه للحياة الزوجية وللمرأة ، وعن أوضاعه المادية التي ترغبها في الارتباط به ... بالمستوى الذي تشعر فيه بأن الحياة معه قد تحقق لها السعادة ، فقد يكون من حقها أن تتعرف طبيعة هذا الرجل الذي يريد أن يتزوجها ، وقد يكون من حقه أن يسألها عن نفسها ، وعن نظرتها إلى الحياة الزوجية ، وعن طبيعة الظروف التي فرضت عليها الطلاق ...

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال : «يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها : يا هذه ما أحب لي ما أسرّك ، ولو قد مضى عدتك لا تفوتي إن شاء الله ، فلا تسبقيني بنفسك» (١).

* * *

بين إباحة التعريض بالخطبة والعودة إلى الزوج الأول

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) فلا بد من البقاء في حالة الانتظار ، التي تفرضها العدة في تشريعها بالامتناع عن الزواج في مدتها حتى تنقضي أيامها. فإذا بلغ الكتاب ـ وهو الفرض الإلهي الإلزامي بالتربص والامتناع عن الزواج ـ الأجل المضروب في العدة ، فلهما أن يتزوجا.

وقد يثأر ـ أمام مدلول هذه الآية ـ سؤال : وهو أن إباحة التعريض بالخطبة لذات العدة قد يبعد الفرصة التي استهدفها التشريع في إيجاد الظروف الملائمة لعودة الزوجين إلى حياتهما الزوجية ، باعتبار أن العدة تمثل فرصة

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٣٨١ ، باب : ١١٩ ، رواية : ٣٧.

٣٤٤

تدبر وتفكير وإعادة النظر في العودة إلى الزواج من جديد ، من خلال السلبيات التي يكتشفانها في تجربة الانفصال. فإذا أفسحنا المجال لإنسان جديد ليغري المرأة بتجربة جديدة ، فقد لا تفكر في العودة إلى زوجها.

ويمكن الرد على ذلك ، بأن هذه الفرصة الجديدة المطروحة أمام الزوجة قد تجعلها في الوضع الطبيعي المميز ، الذي تدخل فيه في مقارنة بين الزوج القديم والزوج المنتظر ، فلا تسقط في حصار ظروفها الصعبة التي قد تفرض عليها العودة إلى زوجها الأول ، لأنها تفقد الخيارات الأخرى. فإذا جاء الخيار الجديد ، أعطاها الحرية في دراسة المسألة بدقة وانفتاح ومقارنة بين سلبيات العودة وإيجابياتها ، من خلال المقارنة بين سلبيات الأول وإيجابياته. لأن قصة العودة ليست مستحبة أو مرغوبة بقول مطلق ، بل هي مطلوبة في نطاق النتائج الإيجابية التي يمكن اكتشافها في مدة العدة من قبل الزوجين. فإذا كان الأمر بالعكس ، فعليهما الاستمرار في الانفصال حتى لا يواجها تجربة جديدة فاشلة.

* * *

الحذر من الله العليم الخبير

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من الدوافع التي تدفعكم إلى خطبة هذه المرأة ، من استغلال ظروفها الصعبة ، أو الرغبة في الحصول على أموالها ـ إذا كانت غنية ـ أو إبعاد الزوج السابق عن العودة إليها بفعل العداوة بينهما ، أو للإضرار به أو بها ، أو الوصول إلى بعض الغايات السيئة في الواقع الاجتماعي الذي قد يسيء إليها أو إلى أحدهما ... أو غير ذلك من الدوافع الخيرة الطيبة المنطلقة من الرغبة فيها من خلال القناعة بصلاحيتها لإسعاده ، وبقدرته على إسعادها وتخليصها من تعسف زوجها الأول ، أو التقرب إلى الله بذلك بلحاظ وجود بعض عناوين القربى في الموضوع. فلا بد لكم من أن

٣٤٥

تفحصوا ما في أنفسكم من خير أو شر أمام الله ، الذي يعلم كل شيء (فَاحْذَرُوهُ) في كل خطواتكم ، ولا تأمنوا مكره ، ولا تستهينوا بعقابه ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فهو الذي يغفر لكم إذا أخطأتم في هذا وغيره ، وتراجعتم عن الخطأ قبل أن يتحول إلى جريمة في حق الآخرين من الأبرياء ، وهو الذي يحلم عنكم ، حتى كأنه لا ذنب لكم في كل ما تتحركون فيه.

* * *

٣٤٦

الآية

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦)

* * *

معاني المفردات

(تَمَسُّوهُنَ) : أي : تجامعوهن. والمس : كناية عن الاتصال الجنسي بهن.

(وَمَتِّعُوهُنَ) : أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به في حاجاتهن كبديل عن المهر.

(الْمُوسِعِ) : الذي يكون في سعة لغناه.

(الْمُقْتِرِ) : الذي يكون في ضيق لفقره.

٣٤٧

(قَدَرُهُ) : مقداره الذي يطيقه هو الذي يختص به.

* * *

وقوع الطلاق قبل المس

ربما يتبادر إلى الوهم أن الطلاق لا يكون قبل الدخول ، على أساس أن الزواج لا يكون كاملا بدون الدخول. وقد يظنّ أنه لا يتحقق في صورة إغفال ذكر المهر في العقد ، فنزلت هذه الآية لتدل على أن ذلك لا علاقة له بالعلاقة الزوجية التي تتحقق بالعقد. أما الدخول فإنه من نتائجها لا من مقوّماتها. وأما المهر ، فهو تابع للشرط ، ولا علاقة له بصحة العقد ، فقد يصح العقد الخالي منه وهذا ما يؤكد على أن الجانب المالي لا يعتبر أساسا في الزواج ، بل هو رمز محبة ومودّة ، وعطيّة لا تخضع لطبيعة المعاوضة ... ولكن الله أراد للإنسان أن لا ينهي العلاقة بالطلاق من دون أن يقدم لها إمتاعا ماليا بالمستوى المعروف بين الناس بحسب حالة من الإقتار أو اليسار ، كنوع من أنواع التعويض المعنوي. وهو أمر واجب ينطلق من موقع الحق الذي أراده الله منطلقا من روح الإحسان الذي يتحرك فيه الطلاق ، وبهذا لا يتنافى جانب الإحسان مع جانب الوجوب. وهذا مختص بالطلاق قبل الدخول ... أما إذا كان هناك دخول من دون فرض فريضة ، فإن الحكم هو دفع مهر المثل كما ذكره الفقهاء.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) لأن العقد بين الزوجين هو الذي يحقق العلاقة الزوجية بينهما ، من خلال مدلوله الذي يجعل أحدهما مرتبطا بالآخر من خلال التراضي بينهما ، وليس للدخول وعدمه تأثير فيه ، إيجابا أو سلبا ، فإن الدخول متفرع على شرعية العقد وليس قيدا في

٣٤٨

الشرعية ، كما أن المهر لا علاقة له بصحته ، كما في المعاوضات المالية التي لا تصح إلا مع ذكر العوض ، فلا يصح البيع بلا ثمن ، والإجارة بدون أجرة ... فإن الزواج يمثل ارتباطا بين شخصين من خلال إرادتهما الحرة القائمة على التراضي ، بحيث يعطي كل منهما الآخر من نفسه ، في مقابل ما يعطيه الآخر من نفسه في نطاق الدائرة التي يملك فيها أحدهما الآخر من خلال الحقوق المفروضة بالعقد أو بالشرط ، فلا علاقة للمال في الموضوع ، ولذلك عبر الله عن المهر بأنه «نحلة» ، وهي العطية من دون مقابل في قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤]. وإذا كان قد عبّر عنه في بعض الآيات بالأجر ، فإنها واردة على سبيل المجاز أو المسامحة ، من حيث إيحاء الجانب الشكلي بذلك عند ما يذكر في المهر أو يتحقق الاستمتاع بالمرأة.

وفي ضوء ذلك ، لا مانع من الطلاق حتى في حالة عدم المواقعة وعدم فرض المهر ، لأنه يتضمن فسخ العقد الذي شرع العلاقة في الواقع ، (وَمَتِّعُوهُنَ) أي : أعطوهن من مالكم ما يفتح قلوبهن ، ويوحي إليهن بالمحبة ، تماما كما هي الهدية التي يقدّمها الإنسان للإنسان تدليلا على اهتمامه به ، فلا يشعرن بأن هذه العلاقة التي بدأت من موقع الإخلاص للأشخاص الذين ارتبطن بهم ، ولذلك لم يشترط المهر في العقد ، فأقدمن على زواج لا مهر فيه ، سوف تنتهي من دون أن يقدم لهن هؤلاء الرجال أي شيء يوحي بعرفان الجميل ، ولو كان ذلك بشكل رمزي.

وهكذا أراد الله لهذه العلاقة أن تنتهي بمبادرة إنسانية ، يقدمها الزوج لزوجته بعد الطلاق كهدية يمتعها بها روحيا وماديا ، بحسب الحجم المادي للزوج ، (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) فيعطي بالكمية التي تتناسب مع إمكاناته المادية الجيّدة ، (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) ، فتكون المتعة رمزية في دلالتها على الاهتمام بها تبعا لحاله ، (حَقًّا) مفروضا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الذين عاشوا

٣٤٩

الإحسان في حياتهم ، فهم يتحركون من موقع الإحسان الذي يتقربون به إلى الله في علاقتهم بعباده بما الزمهم الله به أو استحبه لهم من ذلك كله.

* * *

٣٥٠

الآية

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

* * *

معاني المفردات

(الْفَضْلَ) : التفضل والإحسان. والفضل : هو الزيادة كالفضول ، غير أن الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد ، والفضول هو الزيادة غير المحمودة.

* * *

لهنّ نصف ما فرضتم

إذا كان الطلاق قبل الدخول ، وكان العقد مشتملا على المهر ، فإن

٣٥١

الحكم الشرعي أن ينتصف بالطلاق ، فيجب عليه أن يدفع لها نصف المهر إلا إذا أسقطت المرأة حقها بالإبراء أو الهبة أو غيرهما ، أو عفا وليّ العقد ، من الأب أو الجد ، أو من فوّضت إليه المرأة أمرها في هذا الموضوع بشكل مطلق ... وقد اعتبر البعض الزوج داخلا فيمن بيده عقدة النكاح ، باعتبار أنه يملك أمره بالإبقاء أو بالإنهاء ، وبذلك تكون الآية متضمنة لعدم رجوع الزوج عليها بالنصف في حال قبضها للكل إذا عفا عن حقه. وهذا أمر محتمل ، ولكن الظاهر أنه في مقام الحديث عن حق الزوجة في ما يجب على الزوج دفعه لها بلحاظ حالة الطلاق. وقد عقّب الله على ذلك بالتشجيع على أخذ المبادرة بالعفو ، باعتبار أنه أقرب للتقوى. وربما يدل عليه من روحية العطاء من جهة ، ومن روح التقرب إلى الله من جهة أخرى ، ومن إبعاده الموقف عن طبيعة الخلاف والمشاحنة التي تستدعيها حالة استيفاء الحق وإقراره وإعطائه. ثم يدعو الأزواج إلى عدم نسيان الفضل في ما بينهم عند إنهاء العلاقة ، لتبقى لهم علاقة الصداقة والفضل إذا انقطعت علاقة الزواج. وذكّرهم بعد ذلك بأن الله بصير مطلع على كل ما يعملونه ، أو يقومون به من حسنات تقرب إليه في علاقاتهم مع بعضهم ، أو سيئات تبعد عنه ، لأنه العالم بكل الأمور.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) بحيث كان الطلاق قبل الاتصال الجنسي ، (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) فكان العقد مبنيا على المهر ، (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) من المهر ، باعتبار أن الزواج لم يكن من ناحية واقعية عملية كاملا ، فلم يحدث هناك أي استمتاع للرجل بزوجته بإزاء ما قدّمه من المهر ، كما أن لها الحق عليه من خلال ما ملكته نفسها بالعقد ، فكان التنصيف جمعا بين الحقين ، فلا يشعر أي واحد منهما بالغبن. وهذا هو حق المرأة الذي يجب على الرجل أن يدفعه إليها بعد الطلاق لأنها استحقته بالعقد ، لكن الطلاق كان بمنزلة الفسخ بالنسبة إلى النصف.

* * *

٣٥٢

العفو تقوى وانتصار على الذات

(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي : المطلقات ، بحيث تسامح الرجل بما تستحقه عليه بشكل مباشر ، (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الّذي يملك الولاية بالذات من خلال التشريع كالأب أو الجد ، أو الذي يملكه من خلال تولية المرأة أمر العقد إليه ، كالوكيل المفوض ـ سواء أكان قريبا أم بعيدا ـ فإن له أن يعفو عن الزوج إذا رأي ذلك مصلحة للمولى عليه ، أو كان التفويض شاملا لذلك.

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فإن الله يريد للإنسان أن ينتصر على حب المال في نفسه ، وأن يتنازل عن حقه من خلال إرادة القرب من الله ، وأن لا يرتبط بالأمور من خلال الحسابات المادية التي تضع المال في مقابل المال ، والمصلحة في مواجهة المصلحة. لأن ذلك قد يحقق للإنسان الدقة في حساباته في شؤون حياته ، ولكنه لا يحقق له السموّ الروحي الذي يتعالى فيه على الذات ، فيبقى مشدودا إلى النوازع الذاتية والوساوس الشيطانية والهواجس المرضية ، مما يبعده عن دائرة التوازن في نطاق المادة والروح.

ولذلك كان العفو عن الآخر وسيلة من وسائل تحصيل القوة ضد الذين يريدون إثارته في انفعالاته من أجل إيقاعه في الخطأ والخطيئة ، فيملك من خلال ذلك نفسه ، فلا يستطيع الآخرون إبعاده عن الخط المستقيم.

إن أيّ انتصار على الذات في جانب ما يمنح الإنسان قوة في الانتصار عليها في الجوانب الأخرى ، ولذلك يتحوّل العفو ليكون حركة تدريبية في تجربة الإنسان على تجاوز نفسه إلى الانفتاح على مواقع رضى الله ، مما يقرّبه من الانضباط الواعي في آفاق التقوى التي تمثل الثبات على المبدأ والإصرار

٣٥٣

على البقاء في الخط. وهكذا نجد أن العفو هو السلوك العملي ، المنطلق من عمق روحي في داخل الشخصية التي تتعالى عن الأخذ بالحق لنفسها ، مما يجعلها أكثر قدرة على التعالي عما ليس لها بحق ، وعلى الانضباط في ما يلزمها من الحق لله وللناس.

* * *

(لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) في علاقاتكم ببعضكم وفي معاملاتكم الدائرة بينكم ، ليكون الحق هو الحد الفاصل مما تأخذون به أو تتركونه ، لتستوفوا الحق الذي لكم بكل دقة وشمولية بعيدا عن القيم الروحية والأخلاقية التي تمثل حركة العلاقات الإنسانية في خط الخير والمحبة والانفتاح ، فتنسوا الأوضاع الحميمة التي عشتموها في ما استلفتموه من الصلة بينكم ، وتهملوا الفضل الذي قدمه بعضكم لبعض من عمق الخير في النفس ، والمحبة في القلب.

وعلى ضوء ذلك ، فليكن العنصر الإنساني هو الذي يحدد لكم علاقاتكم التي تستقبلونها في الحقوق التي يملكها بعضكم على البعض الآخر ، من دون أن تؤثر السلبيات التي فصلت بينكم على ذلك ، وليكن الفضل القائم على روحية العطاء ، المنفتح على الذكريات الطيبة في الماضي ، هو العنوان لما تأخذونه أو تتركونه ، ولتنفصلوا على وفاق لا يتعقد من الفراق.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) مما تقدمونه من أعمالكم في اتجاه مسئولياتكم (بَصِيرٌ) لأنه العليم بكل شيء من شؤون خلقه ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

٣٥٤

وجاء في المجمع أنه «روي عن سعيد بن المسيب ، أن هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية الأولى ، وقال أبو القاسم البلخي : وهذا ليس بصحيح ، لأن الآية تضمنت حكم من لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا إذا طلقها ، وهذه تضمنت حكم التي فرض لها المهر ولم يدخل بها إذا طلقها ، وأحد الحكمين غير الآخر» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٩٨.

٣٥٥

الآية

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨)

* * *

معاني المفردات

(حافِظُوا) : الحفظ : خلاف النسيان. وأحفظه : أغضبه ، لأنه حفظ عليه ما يكرهه. ومنه الحفيظة : الحمية. والحفاظ : المحافظة.

(الْوُسْطى) : تأنيث الأوسط ، وهو الشيء بين الشيئين على جهة الاعتدال. والمراد ـ هنا ـ الوسطى بين الصلوات.

(قانِتِينَ) : القنوت : الدوام على أمر واحد ، وقيل : أصله الطاعة. وقيل : أصله الدعاء حال القيام. وقال علي بن عيسى : والأول أحسن لحسن تصرفه في الباب ، لأن المداوم على الطاعة قانت ، وكذلك المداوم في صلاته على السكوت إلا عن الذكر المشروع ، وكذلك المداوم على الدعاء. ويقال : فلان يقنت عليه ، أي : يدعو عليه دائما.

٣٥٦

مناسبة النزول

أخرج أحمد والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والبيهقي ، وابن جرير الطبري ، عن زيد بن ثابت «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، فنزلت : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)» (١). وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر. وأخرج أحمد ، والنسائي ، وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وتجارتهم ، فأنزل الله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لينتهين رجال أو لأحرقنّ بيوتهم» (٢). وفي روايته ـ كما في المجمع ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد هممت أن أحرق على قوم ـ لا يشهدون الصلاة ـ بيوتهم» (٣).

ونلاحظ تعليقا على هذه الرواية ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤكد على حضور صلاة الجماعة ، حتى في الحالات التي يكون الحضور فيها ثقيلا على المصلين لشدة الحر أو لانشغالهم عنها بأعمالهم وتجاراتهم ، بحيث يتمثل هذا التأكيد في تهديد المتخلفين بإحراق بيوتهم عليهم.

* * *

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٧٢٠.

(٢) م. ن. ، ج : ١ ، ص : ٧٢٠.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٩٩.

٣٥٧

صلاة الجماعة وأثرها في حياة المسلمين

ونستفيد من ذلك قيمة صلاة الجماعة في الإسلام وأثرها في حياة المسلمين ، فإن الإسلام يعطي أهمية للجانب الاجتماعي في الواقع الإسلامي ، ليتشاوروا بينهم في كل أمورهم ، وليتعاونوا على البر والتقوى ، وليتحركوا في خط الجهاد في سبيل الله ، فذلك ما يمنحهم صفة «المجتمع الإسلامي» في مرحلة ، و «الأمة الإسلامية» في مرحلة أخرى.

وقد تكون صلاة الجماعة من أقوى المناسبات التي تحقق هذا الهدف ، وتؤكد هذا العنوان ، وتقوي هذه الروح ، لأنها تجسد الاجتماع بين المسلمين أمام الله في الأجواء الروحية ، التي توحي بها الصلاة التي أراد الله لها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأن تكون معراج المؤمن ـ بروحه ـ إلى الله ، وبذلك يتحسس المسلمون الجانب الاجتماعي في دينهم من خلال الله في مضمون صلاتهم ، كما يتمثلون في نظام الإمامة في الصلاة والمأمومين فيها معنى القيادة التي لا بد للمسلمين من أن يطيعوها ، فيتحركون عند ما تتحرك ويقفون عند ما تقف ، كما تتمثل القيادة معنى أتباعها لتحفظ لهم أوضاعهم ، فلا يطيل الإمام صلاته رحمة بالمأمومين.

وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يحافظوا عليه في جميع صلواتهم ، لأنه هو الذي يمثل الإيحاء اليومي الدائم بالمعنى العميق للرابطة الاجتماعية بينهم ، ويدفعهم إلى الاستفادة من هذه المناسبة العفوية العبادية للتشاور في أمورهم ، وللتعاون في ما بينهم ، في ما يتصل بقضاياهم العامة أو الخاصة ، وليستمعوا إلى الإمام الواعي للإسلام وللواقع بما يحدثهم عن مشاكل الواقع الإسلامي وأخطاره ، ليكون لهم وعي المسؤولية في ذلك. وربما كان هذا هو السر في زيادة ثواب صلاة الجماعة على صلاة الفرادى ، حتى ورد في بعض الأحاديث :

٣٥٨

أنها إذا زاد المصلون فيها على العشرة ، لا يحصي ثوابها إلا الله.

* * *

المحافظة على الصلاة

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) إن في الآية دعوة إلى المحافظة على الصلاة بشكل عام ، وذلك بالقيام بأدائها في أوقاتها. وأكد الله على (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) للدلالة على أهميتها في حساب القرب إلى الله والدخول في رحمته. واختلف في تعيينها بين المفسرين ، فقيل : إنها صلاة الظهر باعتبار أنها في وسط النهار كما أنها واقعة بين صلاتين في النهار ، وهما الصبح والعصر ، كما هو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في ما رووه عن صلاة رسول الله (١) ، ورواه جماعة عن زيد بن ثابت كما عن تفسير الدر المنثور (٢). وقيل : إنها صلاة الصبح لتوسطها بين الليل والنهار ، أو بين صلاتين من النهار وصلاتين من الليل. وقيل : إنها صلاة العصر ، للسبب نفسه في صلاة الصبح. وقيل : إنها صلاة المغرب. كما قيل : إنها صلاة العشاء ... وقيل: إن الله أخفاها كما أخفى ليلة القدر ، ليهتم الناس بها. وربما ذكر أنها الجمعة (٣) ... والخلاف يرجع إلى الخلاف في الروايات ، أو في الاجتهاد في تطبيق المعنى اللغوي على المناسبات الواقعية للتسمية.

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) القنوت في اللغة هو الدعاء ، أو مطلق العبادة في حال القيام. وربما يطلق على مطلق الطاعة. وقد روي عن الإمامين

__________________

(١) انظر : الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٧٢١ ، ومجمع البيان ، ج : ٢٠ ، ص : ٥٩٩.

(٢) انظر : الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٧٢٠.

(٣) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٩٩ ـ ٦٠٠.

٣٥٩

الباقر والصادق عليهما‌السلام ، أن المراد به ـ هنا ـ الدعاء في الصلاة حال القيام (١).

وهي دعوة للمؤمنين بأن يكون قيامهم ، في حياتهم ، لله لا لغيره ، لتكون حياتهم في كل منطلقاتها ومعطياتها لله سبحانه ، بحيث يتحركون في خط الله ولأجله في كل أعمالهم وأقوالهم ، وأن يداوموا على الطاعة في صلاتهم وفي دعائهم وفي كل مواقع الطاعة ، في كل قضايا الحياة التي يتعلق بها حكم لله من حرام أو واجب.

وجاء عن زيد بن أسلم قال : كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلوة ، يكلم الرجل منا صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام (٢).

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٢٩ ، ج : ٨٢ ، ص : ٥٨٤ ، باب : ٥٤.

(٢) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٧٣٠.

٣٦٠