تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

أن المشكلة قد تكون في حياة المرأة ، لا في حياة الرجل؟

لعل السر في ذلك ، أن العلاقة الزوجية هي مسئولية الرجل في الإدارة والإنفاق ، ولذا جعل الطلاق بيده ، الأمر الذي يجعل قضية الرجوع بيده. لأننا ذكرنا ـ في حديثنا المتقدم ـ أن الطلاق الرجعي يعتبر تجميدا للحياة الزوجية في الحكم ، وليس إلغاء نهائيا ، وقد نستوحي ذلك من اعتبار الرجوع امتدادا للحياة الزوجية ، لا علاقة جديدة. فلو طلقها الزوج بعد الرجوع من دون أن يدخل بها ، لا يكون طلاقه هذا طلاقا قبل الدخول ، بل يكون طلاقا بعد الدخول لأنه استمرار للعلاقة السابقة. ولم يترك القرآن الكريم القضية لمزاج الزوج ونزوته ، بل أراد أن تكون خاضعة لإرادة الإصلاح المشتركة التي ترتكز على أساس القيام بالحقوق والمسؤوليات اللازمة على الطرفين. وعلى أيّ حال ، فإن المشكلة التي تثار في جعل الرجوع بيد الزوج ، هي المشكلة نفسها المثارة في جعل الطلاق بيده ، وبذلك يكون التفسير هو التفسير في ما تعالج به قضية تنظيم العلاقة الزوجية ، والله العالم بحقائق أحكامه.

* * *

٣٠١

الآيات

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠)

* * *

معاني المفردات

(فَإِمْساكٌ) : الإمساك : خلاف الإطلاق.

(بِمَعْرُوفٍ) : أي : على وجه جميل سائغ ، وذلك بالإصلاح وحسن المعاشرة لا على وجه الإضرار. قال تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ

٣٠٢

نَفْسَهُ) [البقرة : ٢٣١] فإن الرد إلى حبال الزوجية للإضرار منكر ، وليس معروفا.

(تَسْرِيحٌ) : مأخوذ من السرح ، وهو الإطلاق. وسرح الماشية في المرعى سرحا : إذا أطلقها. والسرحة : الشجرة المرتفعة لانطلاقها في جهة الطول. والمسرح : المشط لإطلاق الشعر به.

(بِإِحْسانٍ) : بمعروف ، وذلك بأداء حقوقها المالية دون أن يذكرها بعد المفارقة بسوء. والإحسان يطلق على وجهين : الأول : الإنعام على الناس ، والثاني : الإحسان في فعله.

(يَخافا) : معناه : يظنا. وقال أبو عبيدة : معناه : يوقنا. (فَإِنْ خِفْتُمْ) ها هنا بمعنى: أيقنتم.

* * *

مناسبة النزول

جاء في المجمع : «روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن امرأة أتتها فشكت أن زوجها يطلقها ويسترجعها يضارّها بذلك ، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك ، وإن طلقها ألف مرة لم يكن للطلاق عندهم حد. فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فجعل حدّ الطلاق ثلاثا» (١).

«وروي أنه قيل للنبي : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، فأين الثالثة؟ قال : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ). وقوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) فأنزل في ثابت بن قيس بن شماس وزوجته جميلة بنت عبد الله بن أبي ، وكان يحبها وتبغضه ، فقال لها :

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٧٧.

٣٠٣

أتردّين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، وأزيده. قال : لا ، حديقته فقط. فردّت عليه حديقته فقال: يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها. ففعل ، فكان أول خلع في الإسلام» (١).

وأخرج داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال : «كان الرجل يأكل من مال امرأته نحلته ـ عطاءه ـ الذي نحلها وغيره ، لا يرى أن عليه جناحا ، فأنزل الله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً)» (٢).

ولنا ملاحظة ، وهي أن هذه الروايات ، وغيرها مما ورد في تحديد أسباب النزول ، تدل على أن حركة التشريع كانت تنطلق من حاجة الواقع إلى معالجة المشاكل المتحركة فيه ، فيأتي الحكم الشرعي في صعيد الحاجات الإنسانية الصعبة التي يتطلع المسلمون إلى حلها ، ليكون تأثيره أكثر عمقا مما لو كان منطلقا من تشريع ابتدائي. وهذا مما يوحي بأن الإسلام كان واقعيا في تشريعه للإنسان ، من خلال نظرته إلى واقع حياته ، بحيث يجد الإنسان سرّ الحكم الشرعي في معاناته للواقع المعاش في حياته الخاصة والعامة.

وفي ضوء ذلك ، لا بد للاجتهاد الفقهي أن لا ينظر إلى الحكم الشرعي الوارد في النصوص في دائرة التجريد ، بل في دائرة الواقع. فربما نستوحي من ذلك الكثير ، مما يجعل فهم النص أكثر سلامة واستقامة في وعي الشريعة ، لأنها جاءت لخدمة الإنسان ولحل مشاكله ، لا لتعذيبه وتقييد حاجاته بلا معنى.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ ، ص : ٥٧٧.

(٢) الدار المنثور ، ج ١ ، ص ٦٦٧ ـ ٦٦٨.

٣٠٤

حدود الله في تشريع الطلاق

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) هذا تحديد للطلاق الذي يملك فيه الرجل حق الرجوع للمرأة المطلقة من دون حاجة إلى إجراءات جديدة ، ولهذا فرع عليه قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فإن هذا هو الخيار الذي يملكه في وقت العدة.

وقد روى الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» ، عن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه قال : سألت الرضا علي بن موسى عليه‌السلام عن العلّة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال عليه‌السلام : إن الله ـ عزوجل ـ إنما أذن في الطلاق مرتين ، فقال عزوجل : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) يعني في التطليقة الثالثة فلدخوله في ما كره الله عزوجل له من الطلاق الثالث حرّمها عليه ، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، لئلا يوقع الناس الاستخفاف بالطلاق ولا يضاروا النساء (١).

وفي هذا التعبير إيحاء بطبيعة الموقف الذي ينبغي له أن يتخذه في كلتا الحالتين ، فلا يبتعد عن الجو الحميم الذي تقتضيه العلاقة ، ولا يتنكر للكرامة التي تطلبها المرأة ... فإذا كان هناك رجوع وعودة وإمساك ، فينبغي أن يكون بالمعروف في الروحية والدوافع والأسلوب. وإذا كان هناك انفصال وتسريح ، فلا بد من أن يكون بالإحسان في الكلمة والمعاملة والجوّ اللطيف ، حتّى يتمثل كل منهما في نفسه روحيّة الخلق الإسلامي الذي يحب الله للناس أن يتّصفوا به.

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) فليس للرجل أن يستغل

__________________

(١) الصدوق ، من لا يحضره الفقيه ، ج : ٣ ، ص : ٥٠٢ ، باب : ٢ ، رواية : ٤٧٦٤.

٣٠٥

قوّته ، فيغتصب من المرأة حقوقها الشرعية من مهر ونحوه. وهذا دليل على احترام الإسلام لملكية المرأة للمال الذي تملكه ، باعتبار أنها شخصية قانونية شرعية مستقلة. فلها الحرية في التصرف بمالها كما تشاء ، وليس للآخرين أن يأخذوه منها في أية حالة ، حتى زوجها الذي بذل لها المهر في عقد الزواج ، فإنها قد ملكته بذلك وأصبح ملكا لها كبقية أموالها ، فليس له استرجاعه منها بعد الطلاق.

وليس له أن يأخذ منها أي شيء عوضا عن الطلاق بوسيلة غير مشروعة ، (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) فتشعر المرأة بأن لا مجال للعيش مع زوجها على أساس الالتزام بالحكم الشرعي ، ويشعر الرجل بالشعور نفسه بالنظر إلى كراهيتها ونفورها منه. فيمكن لهما في هذه الحال أن يتفقا على أن تتنازل له عن مهرها أو عن شيء آخر ، كتعويض له عما يفقده من هذه العلاقة الزوجية ، مما يدخل في حساب الخسائر المادية والمعنوية ، وذلك في سبيل أن يطلقها طلاقا بائنا ، لا مجال له ـ معه ـ في الرجوع ، بل يكون لها الأمر في ذلك.

فإن رجعت في ما بذلته في أثناء العدة ، كان لها ذلك وثبت لها الحق في إرجاع ما بذلته ، وكان له ـ في مقابل ذلك ـ أن يرجع بالطلاق. وإن بقيت على البذل ثبت الطلاق واستمر من دون أي مبرر شرعي للرجوع. وهذا ما يسميه الفقهاء «بالطلاق الخلعي» ، للتعبير عنه بصيغة الخلع في مقام الإنشاء الإيقاعي. وفي هذا الحال ، يجوز للرجل أن يأخذ ما بذلته له من دون حرج ، لأنه منطلق من موقع الاتفاق على ذلك ، على أساس التبادل في الخسارة والربح. وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ويلاحظ في هذا التعبير «الافتداء» معنى التعويض عن حريتها التي قيدها الزواج.

وإنما نسب نفي الجناح إليهما ، مع أن الإباحة للزوج لأنه هو الذي يأخذ المال ، باعتبار قيام الأمر بالزوجة من جهة ، لأن لها التخلص منه بدفع الفدية ،

٣٠٦

وبالزوج لأن له الأخذ للمال.

وقد جاء عن الصادق عليه‌السلام : الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة : لا أبر لك قسما ، ولأخرجنّ بغير إذنك ، ولأوطئن فراشك غيرك ، ولا أغتسل لك من جنابة. أو تقول : لا أطيع لك أمرا. فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها وكلّ ما أقدر عليها مما تعطيه من مالها. فإذا تراضيا على ذلك ، على طهر بشهود ، فقد بانت منه بواحدة ، وهو خاطب من الخطاب ، فإن شاءت زوجته نفسها ، وإن شاءت لم تفعل. فإن تزوّجها فهي عنده على اثنتين باقيتين ، وينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المبارأة ، إن رجعت في شيء مما أعطيتني ، فأنا أملك بضعك. وقال : لا خلع ولا مبارأة ولا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين ، والمختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلقها تحل للأول أن يتزوج بها ، وقال : لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المبارأة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها (١). وقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) يعني الطلاق الثالث ، وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) في الطلاق الأول والثاني.

ثم يؤكد القرآن على اعتبار هذا التشريع حدا من حدود الله التي ينبغي للمؤمن أن يقف عندها ولا يتعداها ، لأن ذلك هو معنى الالتزام بخط الإيمان ، فيقف حيث يريد الله منه أن يقف ، ويتحرك حيث يريد الله منه أن يتحرك. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم في ما يتعلق بحياتهم الخاصة ، ولغيرهم في ما يتصل بحياة الآخرين ... وقد جعل الله للظلم عقابه الذي ينال الظالمين وغيرهم في يوم القيامة.

وعلى ضوء هذا ، يمكن للزوج أن يرجع في طلاقه الأول ، فتعود العلاقة الزوجية كما كانت. فإذا طلقها للمرة الثانية أمكنه الرجوع في طلاقه

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، باب : ١١٤ ، رواية : ١.

٣٠٧

الثاني ، وتعود العلاقة من جديد (فَإِنْ طَلَّقَها) للمرة الثالثة ، (فَلا تَحِلُّ لَهُ) بأية وسيلة من رجوع أو عقد جديد ، فقد حرمت عليه بالطلاق الثالث ، فلا مجال للعودة إليه (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ؛ وذلك بالعقد والدخول معا ، لما ورد في الحديث المأثور الذي يقول : «حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها» (١) وهو كناية عن الالتذاذ بالجماع وعدم الاكتفاء بالعقد.

(فَإِنْ طَلَّقَها) من جديد ، أمكنه أن يرجع إليها تماما كما هو الحال في الطلاق الأول. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، ولعل في هذا التقييد إشارة بأن المؤمنين لا يحاولون إعادة التجربة على أساس مزاج شخصي أو شهوة طارئة ، بل ينطلقون في ذلك كله من موقع الدراسة الواعية للموقف ، والاستفادة من تلك التجارب السابقة الفاشلة ، والشعور بضرورة عدم تكرارها إلا إذا أيقنا بإمكانية النجاح في ذلك ، مما يجعل الظن غالبا في إقامتهما لحدود الله من جديد ، لأن اليقين بذلك لا يتحقق في حسابات المستقبل ... (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) في الطلاق والرجوع (يُبَيِّنُها) ويوضحها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيتحملون مسئولية العلم فكرا وعملا في كل ما يريده الله منهم وما لا يريده.

وفي هذا إشارة إلى أن أحكام الله ، في ما أحله أو حرمه ، هي الحدود التي يقف الإنسان عندها في حركته في الحياة ، لأن في تجاوزها خطرا على مصيره في الدنيا والآخرة ، لما في ذلك من الوقوع في المفاسد ، ومن خسران المصالح في الدنيا ، باعتبار ارتكاز التشريع عليها في الجانب الإيجابي أو السلبي ، ولما فيه من التعرض لغضب الله الذي يؤدي إلى عقابه في الآخرة. فلا حرية للإنسان في معنى عبوديته لربه أن ينطلق في حياته تبعا لهواه ، وانفعالا بمزاجه الذاتي ، وذلك هو قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦].

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٣٦٠ ، باب : ١١٢ ، روآية : ٦٦.

٣٠٨

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) : قاعدة فقهية

* * *

هل هذه الفقرة التي تكررت في أكثر من آية ، متصلة ببعض الجزئيات في أحكام الطلاق من خلال تأكيد البقاء على الزوجية ، أو الخروج منها بالطلاق أو بانتهاء العدة ، أو هي قاعدة فقهية تحدد الطابع الإسلامي العام للعلاقة الزوجية ، بحيث يدور الأمر بين السلوك الأخلاقي الشرعي في علاقة الزوج بزوجته بحيث يصدق عليه المعاشرة بالمعروف ، و «الإمساك بالمعروف» ، وبين إنهاء الحياة الزوجية ب «التسريح بإحسان» بالطريقة التي لا يتعسّف الزوج فيها على الزوجة بالطلاق ، بحيث لا مجال لتجميد الحياة الزوجية في حالة إساءة الزوج لزوجته ، ومنعها من حقوقها الشرعية كالنفقة والقسم والجماع في حدوده الخاصة ... فإذا امتنع الزوج من تطبيق أحكام الشرع في حقوقها الخاصة ، أنذر بالطلاق من قبل الحاكم الشرعي ، فإذا امتنع عن ذلك ، طلقها الحاكم الشرعي؟

ربما يجد الفقيه نفسه أمام هذه الفقرة في دائرة واحدة ، وذلك في الآيات التالية :

ـ ١ ـ (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

وظاهره أن على المكلف ، إذا طلق في المرة الثانية ، أن يبقي على زوجته بالرجوع إليها في أثناء العدة ، أو ينتظر انتهاء العدة ، أو يطلقها في المرة الثانية على الاحتمالين في تفسير التسريح بإحسان. فلا علاقة لها على الظاهر

٣٠٩

بالحديث عن طابع الحياة الزوجية في علاقة الرجل بامرأته.

ـ ٢ ـ قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

ـ ٣ ـ وقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق : ٢].

وظاهرهما هو أن المطلّقة ، إذا بلغت نهاية العدة فلم يبق منها إلا القليل ، فلا بد لزوجها أن يقف بين أمرين : إما مراجعتها لتستمر حياتهما بالمعروف ، وإما أن يبقى على الطلاق فيفارقها نهائيا بإحسان. وأن عليه أن لا يجعل من رجوعه إليها وإمساكه بها وسيلة إضرار بالزوجة ، من أجل تطوير العدة أو التضييق بالنفقة أو الابتزاز لها ، لتفتدي نفسها منه بما تبذله من مال أو نحوه.

وفي ضوء ذلك ، قد يلاحظ الفقيه أن الآية مختصة بأجواء الرجوع في العدة أو الاستمرار بالطلاق.

ولكن قد نلاحظ أن الفقهاء قد حكموا ، تبعا للأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، بأن الرجل إذا امتنع عن النفقة وعن الطلاق ، طلقها الحاكم الشرعي. وربما أوحت بعض هذه الأخبار بأن الأساس في ذلك هو هذه الفقرة : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، فقد جاء أن أبا القاسم الفارسي قال : قلت للرضا عليه‌السلام : جعلت فداك ، إن الله يقول في كتابه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، ما يعني بذلك؟ قال : أما الإمساك بالمعروف فكفّ الأذى وإجباء النفقة ، وأما التسريح بإحسان ، فالطلاق على ما

٣١٠

نزل به الكتاب (١). فإنها توحي بأن الأمر دائر بين الأمرين ، فلا تجميد للوضع السلبي. فلا بد من

التسريح بإحسان إذا لم يكن هناك إمساك بالمعروف. ولا يضر بذلك اقتصار الحديث على كف الأذى وإحياء النفقة ، لأن من الممكن أن يكون ذلك على سبيل المثال ، لأن هناك حقوقا أخرى للمرأة على الزوج كما هي النفقة ، كالقسم في بعض الآراء أو بعض الحالات والجماع في الحدود الشرعية المعينة.

وإذا كان الحديث ضعيف السند ، فإنه لا يخلو من إيحاء بالمضمون في الآية ، مع ملاحظة أننا لا نقتصر في حجية الخبر على خبر الثقة ، بل نضيف إلى ذلك الخبر الموثوق به نوعا ، لأن سيرة العقلاء أو بناءهم هو الأساس في حجيته ، وربما كان ضعف احتمال الكذب ، لعدم وجود أساس لرغبة الناقل في تعمّده هو القرينة الطبيعية على وثاقة الحديث.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن المورد الذي نزلت الآية ، من خلال مناسبته ، لا يخصص الوارد إذا كانت الفقرة تشمل أكثر من ذلك المورد. فإن إيحاء هذه الفقرة يدلّ على أن الله لا يريد للمرأة في علاقتها بالرجل في الزواج أن تسقط تحت تأثير تعسفه ، وأن تتجمد حياتها في دائرة وحشيته. فليس له أن يمسكها ضرارا من دون فرق بين الإمساك بها في مدى الحياة الزوجية الطبيعية ، أو في الرجعة بها بعد طلاق. بل لا بد له ، في حال إصراره على الإساءة أو الإضرار بها ، من أن يطلقها أو يسرّحها بإحسان ، لا سيما إذا دققنا في الآية الكريمة : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، والآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا

__________________

(١) البحار ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٣٦٠ ، باب : ١١٢ ، روآية : ٦٧.

٣١١

النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء : ١٩] فإن الآية الأولى ترفض الإمساك للإضرار ، لأن ذلك يمثل لونا من دون ألوان العدوان عليها. فلا يمكن اختصاص النهي عن الإضرار بها بصورة الإمساك في حالة العدة بالرجعة ، فلا مانع من الإضرار في الحياة الزوجية في أوضاعها العادية التي لا طلاق فيها.

أما الآية الثانية ، فإنها تأمر بالمعاشرة بالمعروف ، وإن بدا للرجل بعض ما يكرهه من زوجته ، لأن الكراهة النفسية قد لا تتفق مع واقع الإنسان الذي نكرهه ، فربما كان له في الجانب الخفي من عناصر شخصيته الكثير مما يحببنا به لو اطلعنا عليه ، مما يعني أن على الزوج معاشرة زوجته بالمعروف حتى في حال كراهته لها.

والسؤال الذي يفرض نفسه علينا : هل هي نصيحة من الله للأزواج ، أو هي برنامج عملي للزواج كطابع عملي له ، من خلال ما يريد الله للزوجة أن تعيشه مع زوجها في زواجها به؟؟ وهل نتصور أن الله يريد للمرأة أن تخضع للمعاشرة بغير المعروف ، بحيث يكون ذلك ضريبة مفروضة عليها من الله ، فلا فرصة لها في التخلص من ذلك ، مهما فعل الزوج ومهما أساء ، ما عدا النفقة ، تماما كما لو كان كل شيء للمرأة أن تحصل على ما يقيم جسدها ويكسو عورتها في بيت زوجها؟.

إن السؤال يفرض نفسه ، وإن القرآن يجيب عن ذلك بأن للمرأة الحق بأن تعيش مع زوجها بمعروف وسلام ، أو أن تفارقه بإحسان وسلام. وفي ضوء ذلك ، فإن للمرأة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا منعها أيّ حق من حقوقها الشرعية في النفقة والمضاجعة بالمبيت معها ، والجنس الكامل في وقته. فإذا لم يستجب لذلك ، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي الذي جعل الله له الولاية على طلاقها.

٣١٢

إنها أفكار نثيرها ، في نطاق استنطاق الآيات الكريمة ، ليدور هناك التفكير حولها ، لا سيما إذا عرفنا أن الإجماع لم يقم ضدها ، لأن هناك من العلماء من يوافق على هذا الرأي.

* * *

لماذا التحجير في حدود الطلاق؟

ويبقى أمامنا سؤال يفرض نفسه :

لما ذا هذا التحجير على الإنسان في حدود الطلاق ، والوقوف به عند حد الثلاث ، فإذا تجاوزه ، فلا مجال لإعادة الزواج إلا على أساس زواجها بإنسان آخر ، الأمر الذي يعقّد القضية ، انطلاقا من أن الإنسان الذي يرغب في العيش مع زوجته ، لا يرضى بأن تعقد علاقة ، ولو شرعية ، مع إنسان آخر في امتداد علاقته بها؟ ..

والجواب عن ذلك : إن الله عند ما أحلّ الطلاق من خلال الأسباب الشخصية والاجتماعية المترتبة على ذلك ، أراد أن ينزل بالزواج إلى المستوى الطبيعي في العلاقات الإنسانية الواقعية ، فلا يجعله غارقا في أجواء القداسة المثالية ، فأباح للزوجين أن ينفصلا عند ما يريان المصلحة في ذلك ، وجعل للزوج الحق في إيقاع الطلاق تبعا لما جعله الله له من حق القوامة والإشراف على البيت الزوجي ... ولكنه لا يريد أن يجعل الحياة الزوجية تهتز أمام الرياح ، فتتلاعب بها الخلافات اليومية بالمستوى الذي يجعل لكل يوم طلاقا أو لكل شهد طلاقا ؛ مما يجعل من العلاقة مأساة وكارثة لهما وعبثا بحياتهما ، بدلا من أن تكون خيرا وبركة وسعادة .. فأراد أن يحدد الموضوع بالحد الذي تعاف النفس معه العودة إلى الحياة الزوجية إن كان لهما رغبة في ذلك

٣١٣

ليفكر الإنسان تفكيرا عميقا في الموضوع في المرة الثالثة ، إذا لم يكن قد وقف طويلا أمام الطلاق في المرة الأولى أو الثانية ... ولتكون القضية في الثالثة بمثابة الصدمة القوية التي تجعله يعيد النظر في كل حساباته المستقبلية ، لتكون العودة بعد الزواج الجديد بالآخر مرتكزة على قاعدة ثابتة من التأمل والتفكير والمعاناة والمسؤولية ... وفي ذلك درس عملي للإنسان في طريقة ممارسته للعلاقة الزوجية بوعي وبإنسانية.

* * *

٣١٤

الآية

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١)

* * *

معاني المفردات

(أَجَلَهُنَ) : الأجل : آخر المدة وعاقبة الأمور.

(بِمَعْرُوفٍ) : المعروف : في الآية : الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع ، للمعرفة بصحته ، خلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع ، لاستحالة المعرفة بصحته ، فما يجوز المعرفة بصحته معروف ، وما لا يجوز المعرفة بصحته منكر ، كما في المجمع (١).

(ضِراراً) : بقصد الإضرار بهن.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٨١.

٣١٥

(هُزُواً) : أي : مهزوءا بها بالإعراض عنها والتهاون في الحفاظ عليها ، أي : يتعامل معها تعامل الهزء والسخرية ، لا تعامل الشيء الجدي الذي يملك الاحترام والرعاية.

* * *

مناسبة النزول

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها ... يفعل ذلك ، يضارها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية (١).

وأخرج الطبري عن السدّي قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت ابن يسار ، طلّق امرأته ، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة ، راجعها ، ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت له تسعة أشهر مضارة يضارها ، فأنزل الله تعالى ذكره : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٢).

وقوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً). أخرج ابن أبي عمر في مسنده ، وابن مردويه عن أبي الدرداء ، قال : كان الرجل يطلق ، ثم يقول : لعبت ويعتق ، ثم يقول : لعبت. فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طلق أو أعتق ، فقال : لعبت ، فليس قوله بشيء ، يقع عليه ويلزمه» (٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : الطلاق

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج : ٢ ، ص : ٦٥٢.

(٢) م. ن ، ج : ٢ ، ص : ٦٥٣.

(٣) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٦٨٣.

٣١٦

والنكاح والرجعة» (١).

* * *

إمساك الضرر ظلم للنفس واستهزاء بآيات الله

في هذه الآية نداء للأزواج الذين يستغلون الحق في الرجوع في العدة ، كوسيلة من وسائل الإضرار بالزوجة ... فهو لا يريد أن يرجع إليها ليساكنها ويعاشرها بالمعروف ، كما يعيش الزوج مع زوجته بالطريقة الإنسانية السمحة ، بل يحاول أن يضارّها ليجعلها في ما يشبه السجن من الحياة الزوجية المضغوطة بضغوط العدوان والحقد ، وليمنعها من أن تجد لنفسها السبيل في حياة جديدة ، في تجربة أخرى مع زوج آخر ... وهكذا يتصرف لينفّس عما يحمله في داخله من عوامل الحقد. إن الله يخاطب من يفعل ذلك ، بأنه ممن ظلم نفسه بمعصيته ربه ، لأن في ذلك إثما وانحرافا عن خط الله ، واستهزاء بآيات الله من ناحية عملية ، وإن لم يكن كذلك من ناحية شكلية. فإنه لا فرق بين من لا يحترم آيات الله بالكلمة ، وبين من لا يحترمها بالعمل.

ثم يذكرهم الله بنعمته عليهم في ما أولاهم إياه من ضروب النعم ، ويثير أمامهم التفكير الواعي في ما أنزله الله عليهم ـ بواسطة أنبيائه ـ من الكتاب الذي يهدي الإنسان السبيل إلى النور ويبعده عن الظلمة ، ومن الحكمة التي تخلق للإنسان الرؤية الواضحة والفهم المستقيم والوقوف عند العلامات الثابتة للأشياء ... ففي ذلك كله الموعظة ، كل الموعظة ، التي تدعو إلى التقوى ، وتدفع إلى النجاة ، وتبعث على الشعور العميق بالرقابة الشاملة الواعية من قبل الله الذي لا بد للعباد من أن يعلموا بأنه عليم بكل شيء ، فهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وقد يكون في هذا التأكيد في

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٦٨٤.

٣١٧

ترديد الكلمات التي تعبر عن ضرورة الالتزام من الوجه الإيجابي والسلبي ، والدعوة إلى التجاوب مع موعظة الله للإنسان في ذلك كله ، والدعوة إلى التقوى واستشعار أثر النعمة في نفسه وفي ما أنزله الله عليه ... قد يكون في هذا التأكيد إشارة إلى أن مثل هذه الأمور التي تدخل في النوازع النفسية المعقّدة التي تلتقي بالقيم المنحطّة للإنسان ، قد تحتاج إلى جهد كبير في أساليب المعالجة والإصلاح لقوة تأثيرها على النفس الإنسانية بالمستوى الكبير.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : وصلن إلى نهايته ، فلم يبق منه إلا القليل الذي انتهى ، وخرجت المرأة من العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وذلك بالرجوع إليهن من أجل العودة إلى الرابطة الزوجية ، بعد هذه الفقرة التي كانت فترة تأمل ودرس للإيجابيات والسلبيات واكتشاف الخطأ في الطلاق ، لتكون العودة منطلقة من القناعة في ضرورة الدخول في تجربة جديدة مع الزوجة ، فيعاشرها بالمعروف الذي يعبر عن الأخلاق الحسنة ، والرعاية الطيبة ، والعاطفة الحميمة ، والرحمة الكريمة ، والمودة الروحية ... (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وأطلقوا لها حريتها ، التي تتحرك من خلالها في حياتها بعيدا عن قيود الزواج ومسئولياته ، ولتعود كما كانت قبل الزواج إنسانة حرة في نفسها أو أمام الآخرين. وليكن ذلك بالأسلوب الإنساني الذي يمثل الإحسان في المعاملة ، الذي يجعل للطلاق ذكرى طيبة ، كما يحدث ذلك في مشروع الزواج.

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ، أي قصد الإضرار بهن من أجل ابتزازهن ماليا أو الضغط عليهن عاطفيا ، لمنعهن من الارتباط بعد الطلاق بشخص آخر ، أو لتحويل الزواج إلى سجن دائم ، أو غير ذلك مما ينطلق من موقع العقدة الذاتية العدوانية ... (لِتَعْتَدُوا) لأن ذلك يمثل الاعتداء على حرية المرأة وكرامتها وإنسانيتها ... وهذا مما لا يرضاه الله للإنسان ، فلم يسلّط الإنسان على الإنسان إلّا بالحقّ.

٣١٨

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، لأنه يدفع بها إلى الكثير من التعقيدات التي قد تعقد له حياته. فإن الكثير من الحالات التي يوجه فيها الإنسان الضرر للآخرين ، قد تنقلب لتؤدي إلى الإضرار به ، على طريقة «من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه» ، ولأنه يعرضها لغضب الله. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) في الابتعاد عن روحها ومضمونها الإنساني ، وحركتها في تحقيق السّلام للحياة الزوجية ، لتحولوها إلى وسائل للإضرار بالآخرين ، باستغلال الأشكال القانونية التي تمنحهم الشرعية لما يريدون الوصول إليه ، كما لو كان الوضع طبيعيا جدّيا ، لا مجال فيه لأية مسئولية سلبية ضدهم ، تماما كما لو كانوا في مقام الاستهزاء ، وذلك بالإيحاء بأنهم منسجمون مع شريعة الله ، في الوقت الذي يسقطون كل مضمونها الروحي وبعدها الإنساني.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) الذي يمثل الإسلام في الخط الفطري والبعد التطبيقي ، فيؤدي بالإنسان إلى الارتفاع إلى المستوى الأعلى في روحيته ، وإنسانيته ، وفي سعادته في توفير الاستقرار في حياته الفردية والاجتماعية في داخل الحياة الزوجية أو الحياة العامة ، وتحقيق الخير والرفاه والسّلام له ... (يَعِظُكُمْ بِهِ) في الالتزام بأوامره ونواهيه ووصاياه ونصائحه ومناهجه في كل قضاياكم العامة أو الخاصة.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو العالم بالغيب ، المطّلع على السرائر ، الذي يعرف ما تخفي الصدور ، مما قد يفكر فيه الإنسان بالطريقة التي يختلف فيه الباطن عن الظاهر ، فيكون ظاهره الأخذ بأسباب الشريعة وباطنه الإضرار بالمرأة ـ الزوجة. فليكن لكم الحس الإيماني ، الذي تلتفتون فيه إلى حضور الله معكم ورقابته عليكم ، لتتوازنوا في خطواتكم في الدنيا ، ولتربحوا جنة الله في الآخرة.

* * *

٣١٩

الآية

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢)

* * *

معاني المفردات

(تَعْضُلُوهُنَ) : تمنعوهنّ ظلما وقسرا. وهو مأخوذ من العضلة ، وهي كل لحم صلب في عصب. وعضلته : شددته بالعضلة ، مثل عصبته : شددته بالعصب. ويستعمل في كل منع شديد ، ومن هنا قيل : داء عضال للمرض الذي يصعب برؤه. وعضل المرأة يعضلها عضلا ، إذا منعها من التزويج ظلما.

(أَزْكى) : أصلح وأنمى وأحرى أن يجعلكم أزكياء. وأصل الزكاة : النمو الحاصل عن بركة الله تعالى ، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية.

(وَأَطْهَرُ) : أطهر للقلوب والنفوس ، وأسلم للأخلاق. والطهارة

٣٢٠